الحمد لله الذي زين قلوب أوليائه بأنوار الوفاق، وسقى أسرار أحبائه شرابًا لذيذ المذاق، وألزم قلوب الخائفين الوجَل والإشفاق، فلا يعلم الإنسان في أي الدواوين كتب ولا في أيِّ الفريقين يساق، فإن سامح فبفضله، وإن عاقب فبعدلِه، ولا اعتراض على الملك الخلاق.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، إلهٌ عزَّ مَن اعتز به فلا يضام، وذلَّ مَن تكبر عن أمره ولقي الآثام.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، خاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، المخصوص بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، الذي جُمع فيه الأنبياء تحت لوائه.
هو الملك شمس الدولة توران شاه بن أيوب بن شاذي بن مروان الملقب فخر الدين، وهو أخو السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، قال عنه ابن خلكان: "وتوران- بضم التاء المثناة من فوقها وسكون الواو وبعدها راء ثم بعد الألف نون- وهو لفظ أعجمي، وشاه- بالشين المعجمة- هو الملك باللغة العجمية، ومعناه ملك المشرق”. كان توران شاه أكبر سنًّا من أخيه صلاح الدين، ولذا فقد كان صلاح الدين يفخر به ويثني عليه ويفضله على نفسه في كل شيء.
وحينما بلغ السلطان صلاح الدين رحمه الله أن رجلاً يسمى "عبد النبي بن مهدي”، قد خرج في اليمن وادعى أن ملكه سينتشر في الأرض كلها، وكان وقتها قد سيطر على أغلب اليمن وحصونها وخطب لنفسه، وكان السلطان وقتها قد أصبح قويًا وتثبتت أركان ملكه ودولته، ولذا فإنه قام بتجهيز أخيه توران شاه بجيش اختاره بنفسه، ومن ثم خرج توران شاه بالجيش من مصر متجهًا إلى اليمن في رجب سنة 569 هـ، ففتح الله عليه يديه أرض اليمن، وقتل الخارجي الذي عاث في الأرض فسادًا، وتملك معظمها، وأعطى وأغنى خلقًا كثيرًا، وكان كريمًا في عطائه، ثم إنه عاد من اليمن والسلطان صلاح الدين على حصار حلب، فوصل إلى دمشق في ذي الحجة سنة 571 هـ، ولما رجع السلطان من الحصار وتوجه إلى الديار المصرية استخلفه على دمشق، فأقام بها مدة ثم انتقل إلى مصر بعد ذلك.
وهناك قصة طريفة يذكرها ابن خلكان عن معاناة توران شاه في اليمن، وعن المدة التي قضاها هناك والتي تبلغ العامين، حيث يقول: "لما تمهدت بلاد اليمن لشمس الدولة "يعني توران شاه”، واستقامت له أمورها، كره المقام بها لكونه تربية بلاد الشام "أي تربى فيها ونشأ بها”، وهي كثيرة الخير، واليمن بلاد مجدبة من ذلك كله، فكتب إلى أخيه صلاح الدين يستقبل منها ويسأله الإذن له في العود إلى الشام، ويشكو حاله وما يقاسيه من عدم المرافق التي يحتاج إليها، فأرسل إليه صلاح الدين رسولاً مضمون رسالته أن يرغبه في الإقامة وأنها كثيرة الأحوال ومملكة كبيرة، فلما سمع الرسالة قال لمتولي خزانته "أي القائم عليها”: أحضر لنا ألف دينار، فأحضرها، فقال لأستاذ داره "المسؤول عن أمره الخاص” والرسول حاضر عنده: أرسل هذا الكيس إلى السوق يشترون لنا بما فيه قطعة ثلج، فقال أستاذ الدار: يا مولانا، هذه بلاد اليمن من أين يكون فيها ثلج؟ فقال: دعهم يشترون بها طبق مشمش، فقال: من أين يوجد هذا النوع ههنا؟ فجعل يعدد عليه جميع أنواع فواكه دمشق، وأستاذ الدار يظهر التعجب من كلامه، وكلما قال له عن نوع يقول له: يا مولانا من أين يوجد هذا ههنا؟ فلما استوفى الكلام إلى آخره قال للرسول: ليت شعري ماذا أصنع بهذه الأموال إذا لم أنتفع بها هنا؟ فإن المال لا يؤكل بعينه، بل الفائدة فيه أن يتوصل به الإنسان إلى بلوغ أغراضه. فعاد الرسول إلى صلاح الدين وأخبره بما جرى، فأذن له في المجيء”.
وعندما كان صلاح الدين في اليمن استناب عنه في "زبيد” سيف الدولة أبا الميمون المبارك بين منقذ، وقد ذكر ابن شداد في سيرة صلاح الدين أن توران شاه توفي يوم الخميس مستهل صفر، وقال في موضع آخر من السيرة أيضًا: الخامس من صفر سنة 576 هـ، بثغر الإسكندرية، وقد نقلته أخته ست الشام بنت أيوب إلى دمشق ودفنته في مدرستها التي أنشأتها بظاهر دمشق، فهناك قبره وقبرها وقبر ولدها حسام الدين عمر بن لاجين وقبر زوجها ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص، وكانت قد تزوجته بعد لاجين، فرحمهم الله أجمعين.
المرجع: وفيات الأعيان، ابن خلكان.