الفضيلُ بن عياض
هو: الفُضَيل بن عياضِ بن مسعودِ بن بِشْرٍ التميميُّ اليربوعيُّ الخرساني، أبو عليٍّ (المُجاور بحرَم الله)، وقد اختلف العلماءُ في أصل الفضيل بن عياض، فبينما يذهب السلميُّ إلى أنه تميميٌّ، يربوعي، خرساني من ناحية مَرْو[11] (ويؤيِّده الإمام أبو الفرَج جمالُ الدين عبدالرحمن بن الجوزي)[12]، وأنه أحدُ بني يربوع، لكن أبا عليٍّ وُلِد بخرسان بكورة أبيورد، وقَدِم الكوفة وهو كبيرٌ، فسمع بها الحديث، ثم تعبَّد، وانتقل إلى مكَّة، فمات بها، يذهب القشيريُّ إلى أنه (خرساني من نايحة مَرْو)[13].
ويَرى عبدُالله بن محمَّد بن الحارث أنَّ الفضيل بن عياض (بخاريُّ الأصل)، ويحسم الأمرَ ابنُه أبو عُبيدةَ بن الفُضَيل بن عياض، فيقول: "أبي، فُضَيل بن عياض بن مسعود بن بشرٍ، يُكْنَى بأبي عليٍّ، من بني تميم، من بني يربوع من أنفسهم، وُلِد بسمرقند، ونشأ بأبيورد، والأصل من الكوفة"، وكذلك يذهب إلى هذا خادِمُه إبراهيم بن الأشعث[14]، وأوَدُّ أن أصل من هذا إلى أنَّ الرجل كان عربيًّا، ولكنَّه عاش باكورةَ حياته في خراسان.
توبة الفضيل:
يقول القشيريُّ: كان الفضيل شاطرًا، يقطع الطريق بين أبيورد وسخس، وكان سببُ توبته أنَّه عشق جاريةً، فبينما يرتقي الجدرانَ إليها، سمع تاليًا يَتْلو: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الحديد: 16]، فقال: يا ربِّ، قد آن، فرجَع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها رفقةٌ - أيْ: جماعة - فقال بعضهم: نرتحل، وقال قومٌ: "حتَّى نُصْبِح؛ فإنَّ فضيلاً على الطريق يقطع علينا"، فتاب الفضيل، وأمَّنَهم، وجاور الحرَم حتَّى مات[15].
هذه القصَّة ذكرها كثيرون من مؤرِّخي الصُّوفية عن سبب تزهُّد الفضيل بن عياض، وقد كتبَها الحريفيش بعد ذلك في صورةٍ أكثر من هذا، على لسان الفضيل نفسه، وأطلق على لسانه أيضًا إشعارًا يلوم نفسه على تأخُّرها[16]، وهذه قصة أسطوريَّة، لا أساس لها من الصحَّة، ذكر ذلك الدكتور علي سامي النشار في كتابه الرائع "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام".
ولقد تنبَّه الدكتور كامل الشيبِي في براعةٍ نادرة إلى أسطورة قصَّة توبته، فيرى أنَّها هي التي تفضح أصلَه، وهي أسطورةٌ من جنس القصص التي تُروى عن توبة الخراسانيِّين التي بعدها يبدأ زهدهم.
ولكن الصحيح - وهو ما تميل إليه النَّفس - أنَّ الفضيل بن عياض نشأ في بيت علمٍ وتَقْوى، فحفظ القرآنَ الكريم، وتعلَّم الحديث، ثم قام على عادة المُحَدِّثين بالرِّحلة، أو كان لا بدَّ أن يرحل إلى الكوفة موطن أجداده، فذهب إليها (وهو كبير) وسمع الحديث بها، وبهذا حقَّق تقاليد خرسان: الحديث، الرحلة، وانتهى الأمر إلى التعبُّد والتزهُّد، ولقد فعلَ هذا الكثيرُ من قَبْلُ مِن زُهَّاد الإسلام، وانتقل إلى الحرم، وجاورَ هناك، ولم يكن أهلُ الكوفة يفعلون هذا[17].
أما قصة توبته، فهي أسطورةٌ لا سند لها من صحيح القول، وهكذا مؤرِّخو التصوُّف في الإسلام، يصنعون (دراما) معيَّنةً للزَّاهد وللمتصوِّف المشهور، يفتعلون فيها انحرافًا عن مجرى الحياة العاديَّة للبشر؛ لكي يُعْلو من قدرِه، ويرفعوه عن مستوى الناس العاديِّين.
الدنيا عند الفضيل:
لقد طلَّق الفضيلُ الدنيا، وجعَلَها خلف ظهرِه، وأقبلَ على العبادة، وقد حزن أشدَّ الحزن لَمَّا أبصر العلماء يتَزاحمون على أبواب الملوك، فرآهم يومًا وقد وقفوا على باب هارون الرَّشيد، وأخضَعوا له هاماتهم فقال لهم: "ما لكم وللملوك؟ ما أعظم مِنَّتَهم عليكم! قد تركوا لكم طريق الآخرة، فاركبوا طريق الآخرة، ولكن لا ترضون؛ تبيعونهم بالدُّنيا، ثم تُزاحمونهم على الدُّنيا، ما ينبغي لعالِم أن يفعل هذا"[18].
وقال الفضيلُ بن عياض: المؤمن في الدُّنيا مهمومٌ حزين، هَمُّه مرمة جهازِه، ومن كان في الدُّنيا كذلك، فلا همَّ له إلا التزوُّد بما ينفعُه عند العودة إلى وطنه، فلا يُنافس أهل البلد الَّذي هو غريبٌ بينهم في عزِّهم، ولا يجزع من الذُّل عندهم.
كما قيل:
كَمْ مَنْزِلٍ لِلمَرْءِ يَأْلَفُهُ الفَتَى وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ
وقال ابن القيس:
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّها مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ تَرَى نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الغَرِيبَ إِذَا نَأَى وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهْوَ مُغْرَمُ
وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِي لَهَا أَضْحَتِ الأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ
قال الفضيلُ لرجلٍ: كم أتَتْ عليك؟ قال: سِتُّون سنَةً، قال: فأنت منذ ستِّين سنة تسير إلى ربِّك، يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسيرَه؛ تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون؟ فمن عرف أنَّه لله بعد، وأنَّه إليه راجع، فلْيَعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فلْيَعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليُعِدَّ للسؤال جوابًا، فقال الرجل: فما الحِيلةُ؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تُحْسِن فيما بقي يُغْفَر لك ما مضى وما بقي.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
وَإِنَّ امْرَأً قَدْ سَارَ سِتِّينَ حَجَّةً إِلَى مَنْهَلٍ مِنْ وِرْدِهِ لَقَرِيبُ
وقال غيره:
وَمَا هَذَهِ الأَيَّامُ إِلاَّ مَرَاحِلٌ يَحُثُّ بِهَا دَاعٍ إِلَى الْمَوْتِ قَاصِدُ
وَأَعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأَمَّلْتَ إِنَّهَا مَنَازِلُ تُطْوَى وَالْمُسَافِرُ قَاعِدُ
وقال:
فيَا وَيْحَ نَفْسٍ مِنْ نَهَارٍ يَقُودُهَا إِلَى عَسْكَرِ الْمَوْتَى وَلَيْلٍ يَزُورُهَا
ويقول الفضيلُ عن الدُّنيا: "لو أن الدُّنيا بحذافيرها عُرِضت عليَّ حلالاً، لا أُحاسَب بها في الآخرة لكُنت أتقذَّرها كما يتقذَّر أحدُكم الجيفةَ إذا مرَّ بها؛ أن تُصِيب ثوبَه".
بل تَمنَّى الفضيل بن عياض - رضي الله عنه - أنْ لم يكن قد خُلِق، فيقول: "والله لأَنْ أَكُون هذا التُّرابَ أو هذا الحائطَ، أحبُّ إلَيَّ من أن أكون في مسلخِ أفضلِ أهل الأرض اليوم، وما يسرُّني أنْ أعرف الموت حقَّ معرفته، إذًا لطاش عقلي".
ولا شكَّ أن الدُّنيا لا تُذَمُّ لذاتها، وكيف يُذمُّ ما منَّ الله به على عباده، وما هو ضرورةٌ في بقاء الآدميِّ، وسببٌ في إعانته على تحصيل العلم والعبادة؛ مِن مطعمٍ ومَشْرب، وملبس، ومَسجد يصلِّي فيه، وإنَّما المذموم من هذه الدُّنيا أخْذُ الشيء من غير حِلِّه، أو تناولُه على وجه المُسْرِف الآخِذِ ما زاد عن مقدار الحاجة، ويَصْرف النَّفس فيه بمقتضى دعوتها، لا بإذن الشَّرع، فالعاقلُ يجعلها مطيَّةً للآخرة، فيُنفِقها في سبيل الله، بل يَنبغي للعاقل أن يَغتنم أوقاته في الدُّنيا؛ إمَّا بسببٍ يُثْمِر راحةً في الدنيا، أو يثمر نعيمًا وحمدًا في الآخرة، وهذا ما يتمنَّاه كلُّ مسلم، والموفَّق مَن وفَّقَه الله تعالى.
أَيَا بْنَ آدَمَ لاَ تَغْرُرْكَ عَافِيَةٌ عَلَيْكَ شَامِلَةٌ فَالعُمْرُ مَعْدُودُ
مَا أَنْتَ إِلاَّ كَزَرْعٍ عِنْدَ خُضْرَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الآفَاتِ مَقْصُودُ
فَإِنْ سَلِمْتَ مِنَ الآفَاتِ أَجْمَعِهَا فَأَنْتَ عِنْدَ كَمَالِ الأَمْرِ مَحْصُودُ
وقال الشاعر:
تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا بِسَاعَتِكَ الَّتِي ظَفِرْتَ بِهَا مَا لَمْ تَعُقْكَ العَوَائِقُ
فَلاَ يَوْمُكَ الْمَاضِي عَلَيْكَ بِعَائِدٍ وَلاَ يَوْمُكَ الآتِي بِهِ أَنْتَ وَاثِقُ
زهد الفضيل بن عياض:
حدَّد الفضيل بن عياض الزُّهدَ في الدنيا بأنه هو "القَناعة" فيقول: "لا يَسْلمُ قلبك حتَّى لا تُبالي من كلِّ الدنيا"؛ أيْ: لا يسلم قلبُك من كلِّ ما في الدنيا، فلا يأبه بك أحَد؛ فالزُّهد إذًا هو القناعة، "وهو الغِنَى الحقُّ"، ولا يصل الإنسان إلى الإيمان حتى يزهد في الدُّنيا؛ أيْ: حتَّى يَقْنَع بما في يده، ويحمد الله تعالى عليه؛ يقول الشاعر:
هِيَ القَنَاعَةُ فَالْزَمْهَا تَكُنْ مَلِكًا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلاَّ رَاحَةُ البَدَنِ
ويقول غيره:
أَكْرِمْ يَدَيْكَ عَنِ السُّؤَالِ فَإِنَّمَا قَذَرُ الْحَيَاةِ أَقَلُّ مِنْ أَنْ تَسْأَلاَ
وَلَقَدْ أَضُمُّ إِلَيَّ فَضْلَ قَنَاعَتِي وَأَبِيتُ مُشْتَمِلاً بِهَا مُتَزَمِّلاَ
وَأَرَى الغُدُوَّ عَلَى الْخَصَاصَةِ شَارَةً تَصِفُ الفَتَى فَتَخَالُنِي مُتَحَوِّلاَ
وَإِذَا الفَتَى أَفْنَى اللَّيَالِيَ حَسْرَةً وَأَمَانِيًا أَفْنَيْتهُنَّ تَوَكُّلاَ
وقال الإمام الشافعيُّ:
إِذَا مَا كُنْتَ ذَا قَلْبٍ قَنُوعِ فَأَنْتَ وَمَالِكُ الدُّنْيَا سَوَاءُ
ومِمَّا يدلُّ على زهد الفضيل بن عياض:
بُعده عن الوُلاة والسَّلاطين، وزُهده فيما عندهم؛ عن الفَضْل بن الرَّبيع قال: حجَّ أميرُ المؤمنين الرشيد، فأتاني، فخرجتُ مسرِعًا، فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلتَ إلَيَّ أتيتُك، فقال: ويحك! قد حاك في نفسي شيءٌ، فانظر لي رجلاً أسأله، فقلتُ: ها هنا الفضيل بن عياض، قال: امضِ بنا إليه، فأتيناه، فإذا هو قائمٌ يصلِّي، يتلو آيةً من القرآن، يردِّدها، فقال: اقرَع الباب، فقرعتُ الباب، فقال: مَن هذا؟ فقلت: أجِبْ أمير المؤمنين، فقال: ما لِي ولأمير المؤمنين؟ فقلتُ: سبحان الله! أما عليك طاعة؟ فأجاب - رضي الله عنه -: "ليس للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه"، فنَزل، ففتَح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة، فأطفأ المِصباح، ثم التجأ إلى زاويةٍ من زوايا البيت، فدخَلْنا نَجول عليه بأيدينا، فسبقَتْ كفُّ هارون قبلي، فقال: يا لَها من كفٍّ ما ألينَها - إن نجت غدًا من عذاب الله عزَّ وجلَّ - فقلتُ في نفسي (أي: الفضل بن الربيع): لَيُكلِّمنه الليلة بكلامٍ نقي من قلبٍ تقي، فقال له: خُذ لما جئناك له؛ رحِمَك الله (أيْ: مالاً) فقال: إنَّ عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - لما وَلِي الخلافة دعا سالِمَ بن عبدالله، ومحمَّدَ بن كعبٍ القرظيَّ، ورجاءَ بن حيوة، فقال لهم: "إنِّي قد ابتُلِيت بهذا البلاء، فأشيروا علي"، فعدَّ الخلافة بلاء، وعدَدْتَها أنت وأصحابُك نعمة.
فقال سالم بن عبدالله لعمر:
إن أردتَ النجاة غدًا من عذاب الله صُمْ عن الدُّنيا، ولْيكن إفطارك من الموت، وقال له محمد بن كعبٍ القرظي: إن أردتَ النجاة من عذاب الله، فليكن كبيرُ المسلمين عندَك أبًا، وأوسَطُهم أخًا، وأصغَرُهم عندك ولدًا، فقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله - عزَّ وجلَّ - فأحِبَّ للمسلمين ما تحبُّ لنفسك، واكْرَه لهم تكره لنفسك، ثم مُت إذا شئت.
وإنِّي أقول لك: إنِّي أخاف عليك - أشدَّ الخوف - يومًا تزِلُّ فيه الأقدام، فهل معك - رحِمَك الله - مَن يشير عليك بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاء شديدًا حتى غشي عليه، فقال له (أي: الفضل بن الربيع): ارْفُق بأمير المؤمنين: فقال: يا ابن الربيع، تَقتله أنت وأصحابك، وأَرفق به أنا، ثُمَّ أفاق، فقال له: زِدني رحمك الله.
فقال: يا أمير المؤمنين، بلَغَني أنَّ عاملاً لعمر بن عبدالعزيز شكا إليه، فكتب إليه عمر: يا أخي، اذكر طولَ سهَرِ أهل النَّار في النار مع خلود الأبد، وإيَّاك أن ينصرف بك من عند الله، فيكون آخر العهد وانقطاع الرَّجاء، قال: فلمَّا قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبدالعزيز، فقال له: ما أقدَمك؟ قال: خلعتَ قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية أبدًا حتَّى ألقى الله - عزَّ وجلَّ.
قال: فبكى هارون بكاء شديدًا، ثم قال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ العبَّاس عمَّ المصطفى - عليه الصَّلاة والسَّلام - جاء إلى النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، أمِّرني على إمارة، فقال له النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعتَ أن لا تكون أميرًا فافعل))، فبكى هارون بكاء شديدًا، وقال له: زدني رحمك الله.
فقال: يا حسَنَ الوجه، أنت الَّذي يسألك الله - عزَّ وجلَّ - عن هذا الخَلْق يوم القيامة، فإن استطعتَ أن تقي هذا الوجهَ من النار فافعل، وإيَّاك أن تُصبح وتمسي، وفي قلبك غشٌّ لأحد من رعيَّتك؛ فإن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن أصبح لهم غاشًّا لم يَرِحْ رائحة الجنة)).
فبكى هارون وقال له: عليك دَيْن؟ قال الفضيل بن عياض: نعَم، دَين لربِّي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألَني، والويل لي إن ناقشَني، والويل لي إن لم أُلْهَم حُجَّتي، قال: إنَّما أعني دَينَ العباد، قال: إنَّ ربي لم يأمرُني بهذا، أمر ربِّي أن أُوَحِّده وأُطيع أمره، فقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58].
فقال له: هذه ألف دينار، خُذها، فأنفقها على عيالك، وتقوَّ بها على عبادتك، فقال: سبحان الله! أنا أدلُّك على طريق النَّجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلَّمك الله ووفَّقك، ثم صمَت، فلم يُكلِّمنا، فخرجنا من عنده، فلمَّا صِرْنا على الباب، قال هارون: أبا عبَّاس، إذا دلَلتَني على رجل فدُلَّني على مثل هذا، هذا سيِّد المسلمين.
فدخلَت عليه امرأةٌ من نسائه، فقالت: يا فُضيل، قد ترى ما نحن فيه من ضيقِ الحال، فلو قبلتَ هذا فتفرِّجنا به، فقال لها: مثَلي ومثَلُكم كمثَلِ قومٍ كان لهم بعيرٌ يأكلون من كسبِه، فلمَّا كبر نحَروه، فأكلوا لحمه.
فلمَّا سمع هارون هذا الكلام، قال: ندخل؛ فعسى أن يَقبل المال، فلمَّا علم الفضيلُ بقدوم هارون مرَّة أخرى، خرج، فجلس في السطح على باب الغرفة، فجاء هارون، فجلس إلى جنبه، فجعل يكلِّمه، فلا يجيبه، فبينا نحن كذلك، إذْ خرَجَت جاريةٌ سوداء، فقالت: يا هذا، قد أتعبتَ الشيخ منذ الليلة، فانصرِف رحمك الله، فانصرَف.
انظر أخي القارئ الكريم، قد بلغ الزُّهد بالفُضَيل بن عياض هذا المبلغَ، قال تعالى: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾ [النساء: 77].
وصدق الشَّاعر حيث يقول:
اعْلَمْ بِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ مُنْفَرِدُ وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْحَقِّ أَفْرَادُ
لاَ يَطْلُبُونَ وَلاَ تَطْلُبْ مَسَاعِيَهُمْ فَهُمْ عَلَى مَهَلٍ يَمْشُونَ قُصَّادُ
وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا لَهُ قَصَدُوا فَجلُّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ رَقَّادُ
وكان الفضيل يعلم أنَّ مَن طلب الدنيا أضرَّ بالآخرة، ومن طلب الآخرة أضرَّ بالدنيا، فآثرَ الآخرة وأضرَّ بحياته في دار الدُّنيا الفانية، وكان - رحمه الله - يعلم أنَّ رزقه سيأتيه.
ما دام قد كُتب له:
لِلنَّاسِ حِرْصٌ عَلَى الدُّنْيَا وَتَدْبِيرُ وَفِي مُرَادِ الْهَوَى عَقْلٌ وَتَشْمِيرُ
وَإِنْ أَتَوْا طَاعَةً للهِ رَبِّهِمُ فَالعَقْلُ مِنْهُمْ عَنِ الطَّاعَاتِ مَأْسُورُ
لِأَجْلِ هَذَا وَذَاكَ الْحِرْصِ قَدْ مَزَجَتْ صَفَاءُ عَيْشَاتِهَا هَمٌّ وَتَكْدِيرُ
لَمْ يُرْزَقُوهَا بِعَقْلٍ عِنْدَمَا قُسِمَتْ لَكِنَّهُمْ رُزِقُوهَا بِالْمَقَادِيرِ
لَوْ كَانَ عَنْ قُوَّةٍ أَوْ عَنْ مُغَالَبَةٍ طَارَ البُزَاتُ بِأَقْوَاتِ العَصَافِيرِ
وقال - رحمه الله -: "جعلَ الله الشرَّ كلَّه في بيت، وجعل مفتاحه حبَّ الدُّنيا، وجعل الخير كلَّه في بيت، وجعل مفاتِحَه الزُّهد في الدنيا"[19].
علمه بالحديث:
كان الفضيل بن عياض من المُحدِّثين الثِّقات، يقول الإمام الناقد شمسُ الدين الذهبيُّ: "شيخ الحرَم، وأحد الأثبات، مُجمَعٌ على ثقته وجلالِه".
بل لم يَكتفِ الإمام الذهبيُّ بذلك؛ فقد هاجمَ مَن جرَّح الفضيلَ بن عياض، وهو قطبة بن العلاء: "ولا عبرة بما رواه أحمدُ بن أبي خيثمة قال: سمعت قطبة بن العلاء يقول: تركتُ حديثَ فضيل ين عياض؛ لأنَّه روى أحاديث أزرى فيها على عثمانَ بنِ عفان - رضي الله عنه"؛ يقول الذهبيُّ ناقدًا: "فمَن قطبة؟ وما قطبةُ حتَّى يجرِّح، وهو هالك؟!".
روى الفضيلُ - رحمه الله - ما سمع، فكان ماذا؟ فالفضيل مِن مشايخ الإسلام والسلام[20]، كان الفضيل بن عياض إذًا "شيخ الحرم"، والإمام العدل الثِّقة الثَّبَت، كيف لا وقد روى عن أئمَّةٍ أعلام، عَقم الزَّمان أن يجود بمثلهم، فقد روى الفضيلُ عن سليمان بن مِهْران الأعمش، ومنصورِ بن المعتمِر، وعطاء بن السائب وحصين بن عبدالرحمن، ومسلمٍ الأعور، وأبَان بن أبي عياش، وغيرهم كثير.
ولكنَّه مع علمه بالحديث، وحفظه له؛ كان - رحمه الله - شديدَ الهيبة للحديث إذا حدَّث، وكان يَثْقل عليه الحديثُ جدًّا، وكان إذا طُلِب منه الحديث، يقول: "لو طلبتَ منِّي الدنانير، كان أيسرَ عليَّ"، فقال له رجل: لو حدثتَني بأحاديث فوائد ليست عندي، كان أحبَّ إليَّ مِن أن تهب لي عددَها دنانير، فقال: "إنَّك مفتون، أمَا والله لو عَمِلتَ بما سمعت، لكان لك في ذلك شغلٌ عمَّا لم تسمع".
وكان يقول لأصحاب الحديث وهو المحدِّث الثِّقة: "لِم تُكرهوني على أمرٍ تعلمون أنِّي كارهٌ له، لو أنِّي أعلم إذا دفعتُ ردائي هذا لكم، ذهبتم عنِّي، لدفعتُه إليكم".
هذا يدلُّ أبلغ دلالة على خوف الفضيل من الوقوع في الكذب على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل بلغ خوفُه أن كان يَنهى أصحابه عبدالله بن المبارك، وسيفان بن عيينة عن التحدُّث، بل إنه يأخذ بيد سفيان بن عيينة، فيقول له: "إنْ كنت تظنُّ أنه بقي على وجه الأرض شرٌّ مني ومنك، فبئس ما تظنُّ".
من أقوال الفضيل:
• من أخلاق الأنبياء: الحِلم، والأَناة، وقيام الليل، إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النَّهار، فاعلم أنَّك محروم، كبَّلَتك خطيئتك.
• المؤمن قليل الكلام كثير العمَل، والمنافق كثيرُ الكلام قليل العمل.
• بقدر ما يصغر الذَّنب عندك، يَعظم عند الله، وبقدر ما يَعْظم عندك يصغر عند الله.
عامِلوا الله - عزَّ وجلَّ - بالصِّدق في السِّر؛ فإنَّ الرفيع مَن رفعه الله، وإذا أحبَّ الله عبدًا أسكن محبَّتَه في قلوب العباد[21].
• سأله رجلٌ قائلاً: يا أبا علي، متَى يبلغ الرجلُ غايته من حُبِّ الله تعالى؟ فقال له الفُضيل: إذا كان عطاؤه ومنعه إيَّاك عندك سواء، فقد بلغتَ الغاية من حُبِّه.
• وسأله عبدالله بن مالك، فقال: يا أبا علي، ما الخلاص مما نحن فيه؟ فقال له: أخبِرني؛ مَن أطاع الله - عزَّ وجلَّ - هل تضره معصيةُ أحد؟ قال: لا، قال: فمن عصى الله - سبحانه وتعالى - هل تنفعه طاعةُ أحد؟ قال: لا، قال: فهو الخلاص إنْ أردت الخلاص؛ تَرْك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شِرْك، والإخلاص أن يُعافيك الله منهما.
وفاة الفضيل:
توُفِّي الفضيل بن عياض - رحمه الله رحمة واسعة - بمكَّة المكرَّمة في أوَّل سنة مائة وسبع وثمانين[22]، توفِّي الفضيل بعد أن ترك مدرسةً كبيرة في مكَّة، بل في العالَم الإسلامي كلِّه، فمِن تلامذتها ابنه البارُّ عليُّ بن الفضيل، وسفيانُ الثَّوري، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن يحيى وغيرهم.