الأصل الثالث : الغلو في فقه المصلحة
كثيراً ما تسمع القوم يرددون ( هذا فيه مصلحة ) و ( هذه مصلحة الدعوة ) ولا يعتبرون المفاسد المقترنة بتلك المصلحة .
قال العلامة ربيع المدخلي في جناية أبي الحسن على الأصول السلفية :
13- يسيء أبو الحسن استخدام المصالح والمفاسد، فهو ينادي كثيراً بها ثم يطبقها بدون مراعاة لشروطها، مثل :
أ- أن لا تكون المصلحة مصادمة لنص أو إجماع.
ب- أن تعود على مقاصد الشريعة بالصيانة والحفظ ومن هذه المقاصد حفظ الدين والعرض والمال.
ج- أن لا تكون في الأحكام الواجبة مثل وجوب الواجبات وتحريم المحرمات.اهـ
وهنا سأذكر مثالاً واحداً ، وهو دعوتهم للمظاهرات والخروج على أئمة الجور مع ما يترتب على ذلك من سفك الدماء
قال البخاري في صحيحه 4513:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَاهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ فَقَالَ يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي.
فَقَالَا أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ }؟
فَقَالَ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَزَادَ عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو الْمَعَافِرِيِّ أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ:
يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا وَتَعْتَمِرَ عَامًا وَتَتْرُكَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللَّهُ فِيهِ
قَالَ يَا ابْنَ أَخِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالصَّلَاةِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ قَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } { قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ }
قَالَ فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا قَتَلُوهُ وَإِمَّا يُعَذِّبُونَهُ
حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ قَالَ فَمَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ؟
قَالَ أَمَّا عُثْمَانُ فَكَأَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَعْفُوا عَنْهُ وَأَمَّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنُهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَقَالَ هَذَا بَيْتُهُ حَيْثُ تَرَوْنَ .
أقول : فتأمل قول ابن عمر (وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ ) ، ولم يكن أحدٌ من هؤلاء يرفع شعار الديمقراطية ، وعامتهم من الأخيار المتأولين
وقال الإمام مسلم في صحيحه 190- [158-96] :
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ (ح)
وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ كِلاَهُمَا ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي ظِبْيَانَ ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَهَذَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، قَالَ :
بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً فَقَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ ، قَالَ : أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ ؟
فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ ، قَالَ : فَقَالَ سَعْدٌ : وَأَنَا وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ ، قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ؟ فَقَالَ سَعْدٌ : قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ.
فهذا كلام سعد الأنصاري ككلام ابن عمر ، لقومٍ لم يرفعوا شعارات مشبوهة مثل ( المساواة ) و ( الحرية ) و ( الديمقراطية ) و ( الوحدة الوطنية ) و ( الهلال مع الصليب ) ، بل كانوا لا يدعون لغير التوحيد وتحكيم شرع الله ، ومع ذلك لم يقولوا لهم ( قتلاكم شهداء ) كما يغرر الحركيون بالناس اليوم ، حتى وصفوا من أحرق نفسه بالشهادة
قال البخاري 4234 :
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ حَدَّثَنِي ثَوْرٌ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ :
افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ
فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا
فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ فَقَالَ هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ
أقول : سبحان الله هذا الرجل جاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ، جهاداً شرعياً ولم يوصف بالشهادة لأمرٍ وقع منه ، فكيف يوصف بالشهادة من خرج أجل الديمقراطية ، ومن انتحر بحرق نفسه ؟!
قال البخاري في صحيحه بَاب مَنْ كَرِهَ أَنْ يُكَثِّرَ سَوَادَ الْفِتَنِ وَالظُّلْمِ
قال 7085 :
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ وَغَيْرُهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَنَهَانِي أَشَدَّ النَّهْيِ ثُمَّ قَالَ:
أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ }
أقول : فانظر إلى فقه هذا الإمام الذي نهى عن الدخول في القتال بين المسلمين الذي يكون ظاهره أنه على الملك ، وإن كان كلٌ منهم يزعم أنه مصلح ، فكيف بالقتال في صف من يدعو للديمقراطية ، أو الخروج على الولاة من أجل المظالم المالية والاستبداد
وقال ابن أبي شيبة في المصنف 38512:
حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ، قَالَ : حدَّثَنَا زُهَيْرٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْغَرِيف قَالَ : كُنَّا مُقَدَّمَةَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا بِمَسْكَنٍ مُسْتَمِيتِينَ تَقْطُرُ سُيُوفُنَا مِنَ الْجِدِّ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ وَعَلَيْنَا أَبُو الْعَمَرَّطة .
قَالَ : فَلَمَّا أَتَانَا صُلْحُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ كَأَنَّمَا كُسِرَتْ ظُهُورُنَا مِنَ الْحُزْنِ وَالْغَيْظِ ، قَالَ : فَلَمَّا قَدِمَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفَةَ قَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنَّا يُكْنَى أَبَا عَامِرٍ ، فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْك يَا مُذِلَّ الْمُؤْمِنِينَ
فَقَالَ : لاَ تَقُلْ ذَاكَ يَا أَبَا عَامِرٍ ، وَلَكِنِّي كَرِهْت أَنْ أَقْتُلَهُمْ طَلَبَ الْمُلْكِ ، أَوْ عَلَى الْمُلْكِ.
أقول : فليعتبر بهذا من ينسب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مذهب الخوارج ، فهذا الحسن بن علي ومعه هذا الجيش العرمرم ، وقد ذكر لك أبو الغريف من أوصافهم ما ذكر .
كره الحسن إدخالهم في القتال ورأى أن حقن الدماء أولى ، ولا يخفى ثناء صلى الله عليه وسلم على هذا الصلح بقوله (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ) ، أفترى الحسن الذي ترك القتال والحال هذه مقاتلاً لو لم يكن له شوكة ولا منعة أميراً ممكناً ، وهو الذي ترك القتال ومعه هذا الجيش العرمرم فاعتبروا يا أولي الأبصار .
وأمر الدماء عظيم
قال ابن أبي شيبة في المصنف 31191:
حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، قَالَ : قَالَ لِي الْحَسَنُ : أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ! دَخَلَ عَلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ قِتَالِ الْحَجَّاجِ وَمَعَهُ بَعْضُ الرُّؤَسَاءِ ، يَعْنِي : أَصْحَابَ ابْنِ الأَشْعَثِ.
أقول : سبب تعجب الحسن أنه نهاهم عن ذلك ، ومع ذلك خرجوا وكان ما كان من سفك الدماء ، والحجاج كان ظلوماً غشوماً سفاكاً للدماء ، فاسد الاعتقاد صح عنه الطعن في ابن مسعود ورميه بالنفاق ، وقد كفره جمع من أهل العلم ، وصح أن جابر بن عبد الله لم يكن يسلم عليه ولا يصلي خلفه ، كما في الطبقات لابن سعد ، وهذا محمول على أنه قد أمن أذاه
قال ابن عبد البر في التمهيد (10/10) :
الحجاج بن يوسف..ومن أهل العلم طائفة تكفره وقد ذكرنا أخبارهم في كتاب مفرد.اهـ
ومع كل هذا نهى الحسن عن الخروج عليه ، وهنا فائدة على الهامش وهي أن الحجاج مع كل ما له من سيئات كان الإمام أحمد يرى دعاة البدعة شراً منه ، لأنهم يريدون تبديل الدين
قال الخلال في السنة 1769:
سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْمَرُّوذِيَّ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , وَذَكَرَ الْجَهْمِيَّةَ , فَقَالَ : إِنَّمَا كَانَ يُرَادُ بِهِمُ الْمَطَابِقَ , تَدْرِي أَيَّ شَيْءٍ عَمِلُوا هَؤُلاَءِ فِي الإِسْلاَمِ ؟
قِيلَ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الرَّجُلُ يَفْرَحُ بِمَا يَنْزِلُ بِأَصْحَابِ ابْنِ أَبِي دُؤَادَ , عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إِثْمٌ ؟
قَالَ : وَمَنْ لاَ يَفْرَحُ بِهَذَا ؟
قِيلَ لَهُ : إِنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ : الَّذِي يَنْتَقِمُ مِنَ الْحَجَّاجِ , هُوَ يَنْتَقِمُ لِلْحَجَّاجِ مِنَ النَّاسِ .
قَالَ : أَيَّ شَيْءٍ يُشْبِهُ هَذَا مِنَ الْحَجَّاجِ ؟ هَؤُلاَءِ أَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ.
والآن نرجع إلى المقصود
قال المزي في تهذيب الكمال (28/ 247) :
وقَال البُخارِيُّ فِي التاريخ الصغير : حَدَّثَنَا موسى بْن إسماعيل عَن جعفر، يعني ابْن سُلَيْمان، قال: حَدَّثَنَا مالك بن دينار، قال: لقيت معبدا الجهني بمكة بعد ابْن الأشعث وهو جريح، وقد قاتل الحجاج فِي المواطن كلها، فقال: لقيت الفقهاء والناس لم أر مثل الحسن، يَا ليتنا أطعناه - كأنه نادم على قتال الحجاج.اهـ
وقال الخلال في السنة 89:
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ , وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ , أَنَّ أَبَا الْحَارِثِ حَدَّثَهُمْ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي أَمْرٍ كَانَ حَدَثَ بِبَغْدَادَ , وَهَمَّ قَوْمٌ بِالْخُرُوجِ .
فَقُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , مَا تَقُولُ فِي الْخُرُوجِ مَعَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ ؟
فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ , وَجَعَلَ يَقُولُ : سُبْحَانَ اللَّهِ , الدِّمَاءَ , الدِّمَاءَ , لاَ أَرَى ذَلِكَ , وَلاَ آمُرُ بِهِ , الصَّبْرُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْفِتْنَةِ يُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ , وَيُسْتَبَاحُ فِيهَا الأَمْوَالُ , وَيُنْتَهَكُ فِيهَا الْمَحَارِمُ , أَمَا عَلِمْتَ مَا كَانَ النَّاسُ فِيهِ , يَعْنِي أَيَّامَ الْفِتْنَةِ ؟ قُلْتُ : وَالنَّاسُ الْيَوْمَ , أَلَيْسَ هُمْ فِي فِتْنَةٍ .
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَإِنْ كَانَ , فَإِنَّمَا هِيَ فِتْنَةٌ خَاصَّةٌ , فَإِذَا وَقَعَ السَّيْفُ عَمَّتِ الْفِتْنَةُ , وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ , الصَّبْرَ عَلَى هَذَا , وَيَسْلَمُ لَكَ دِينُكَ خَيْرٌ لَكَ , وَرَأَيْتُهُ يُنْكِرُ الْخُرُوجَ عَلَى الأَئِمَّةِ , وَقَالَ : الدِّمَاءَ , لاَ أَرَى ذَلِكَ , وَلاَ آمُرُ بِهِ
أقول : فذاك قول الحسن في الخروج على الحجاج وقد علمت من حاله ما علمت ، وهذا قول أحمد في الخروج على من أجبر الناس على القول بخلق القرآن وهو قولٌ كفري ، والذين خرجوا على هذا وعلى ذاك ما أرادوا إلا إعلاء كلمة الله لم يريدوا ديمقراطية ولا غيرها من زبالات عقول الكفار .
ثم يأتي اليوم حركي ضاقت به السبل في إثبات مشروعية الخروج على الحاكم المسلم ، فيزعم أن الخروج ( ضرورة ) ، وهذه من أسخف ما قد تقف عليه من الشبهات ، وهذا أيضاً من أصول الفقه الحركي ( توسيع باب الضرورة ) حتى تترامى أطرافه وتتسع لجميع الممارسات الحركية التي تريد الجماعة إباحتها ، وتقف النصوص الشرعية حائلاً دون ذلك
ومن غلوهم في المصلحة و ( الضرورة ) ، اتباعهم لبعض الوسائل المحدثة الدعوية ، والوسائل المحدثة في نصح الولاة ، مع هجرانهم للوسائل الشرعية في هذا الباب وذاك ،و تجدهم يستدلون على صحة هذه الوسائل بما يترتب عليها من مصالح هم يرونها ، ولا يتنبهون إلى ما في هذه الوسائل من الإحداث في دين الله عز وجل ، وهجران للوسائل الشرعية المأثورة عن السلف وكفى بذلك مفسدة
فهذا شيخ الإسلام لما عرض عليه شيخ يتوب العصاة بالتغبير لم يلتفت شيخ الإسلام إلى كون أولئك العصاة تركوا المعصية ، بل تنبه إلى أن ذلك الشيخ قد ابتدع في دين الله عز وجل .
فقال الشيخ كما في مجموع الفتاوى (11/624) :
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ فِي الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ مَا يَتُوبُ بِهِ الْعُصَاةُ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مَنْ لَا يُحْصِيه إلَّا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأُمَمِ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا ذُكِرَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ الْبِدْعِيِّ.اهـ
وكذلك لا يجوز أن يقال أنه ليس في الطرق الشرعية ما يدعى به الناس ، أو يناصح به الولاة حتى نلجأ للوسائل المستوردة من الغرب كالتمثيل والمظاهرات .
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد في باب من الشرك الاستعاذة بغير الله وقول الله تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)
فقال في المسائل المستفادة :
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به مصلحة دنيوية من كف شر أو جلب نفع - لا يدل على أنه ليس من الشرك .اهـ
وكذلك لا يدل أنه ليس ببدعة ولا محرم
بل وتجد بعضهم يعتبر مصالح ما جاء الشرع باعتبارها مثل ( الحرية ) و ( الوحدة الوطنية )
ومن ذلك غلوهم ب( المصالح المرسلة ) دون مراعاة لتعريفها فضلاً عن ضوابطها ، فالمصلحة المرسلة عند الأصوليين هي التي لم يأتِ نص شرعي باعتبارها ولا إهدارها ، ولم يقم داعيها في عصر الصحابة وقام داعيها في زمننا ، وكانت مندرجةً تحت مقاصد الشريعة العامة
وعلى هذا كل ما كان تشبهاً بالكفار كالتمثيل والمظاهرات وغيره لا يكون مصلحةً مرسلة لمخالفته للنصوص الناهية عن مشابهة الكفار
وكل ما كان فيه منازعة لولي الأمر كالمظاهرات والإمارة الدعوية لا يكون مصلحةً مرسلة ، لمخالفته للنصوص الناهية عن منازعة ولاة الأمور والداعية للصبر على أذاهم