المبحث الثاني: مفهوم التنمية1
لعقود عديدة خلت من القرن الماضي كان الاقتصاديون والسياسيون ومخططو التنمية يُعَرِّفُون التنمية الاقتصادية بقدرة الاقتصاد القومي على توليد واستدامة الزيادة السنوية في الناتج القومي الإجمالي (GNP) بنسبة تتراوح بين 5٪ إلى 7٪ أو أكثر، ويأخذونه بمعدل نمو نصيب الفرد من الدخل أو الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، إضافة إلى قدرة الدولة على توسيع إنتاجها بمعدلات أسرع من معدل النمو السكاني كمؤشر على التنمية، وهذه العملية التنموية تنطوي على تغيير مخطط لبنية الإنتاج والعمالة، تنخفض معه مساهمة الزراعة كقطاع تقليدي، بينما تزداد فيه مساهمة الصناعة وقطاع الخدمات، وبالتالي تُركِّز التنمية الاقتصادية على عملية تسريع التصنيع، وأحياناً تستخدم مؤشرات غير اقتصادية بدرجة ثانوية؛ لتوصيف منافع عملية التنمية الاقتصادية كمعدل تعليم الكبار وتحسين الخدمات الصحية والإسكان.
وخلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات انغمرت معظم الدول النامية في تطبيق هذا المفهوم، واستطاعت – بعضها - تحقيق هدف النمو الاقتصادي الكمي، ولكن ظلت هناك فروقاً كبيرة بين السكان في مستويات المعيشة من ناحية توفر الحاجات الضرورية ودرجة الرفاهية، وعكست الأرقام في العديد من الدول النامية خاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا الوسطى تدهوراً في مستويات الصحة العامة ودرجة التعليم والعمر المتوقع للأفراد، ممَّا
أثر سلباً على مستوى إنتاجية القوى العاملة، إضافة إلى النقص المتزايد في مستوى الإشباع من السلع والخدمات الضرورية.
هذا القصور في المفهوم التنموي وتطبيقاته بنتائجه السلبية، دفع الكثير من الاقتصاديين إلى انتقاد مدخل التنمية التقليدي، وعدم كفاية المقارنات الإجمالية لنصيب الفرد من الدخل القومي أو الناتج المحلي لتحديد حالة النمو والتنمية من عدمها.
وخلال منتصف السبعينيات تمت إعادة تعريف التنمية الاقتصادية على أساس الجهود المبذولة؛ لتخفيف الفقر وتحقيق العدالة وتوفير فرص العمل في سياق اقتصاد نامٍ، وصار تعبير -إعادة التوزيع من النمو- شعاراً عامّاً ومألوفاً، ولقد حاول دودلي سيزر أن يصيغ سؤالاً مهمّاً حول معنى التنمية بقوله: السؤال الذي يجب توجيهه عن تنمية أي بلد هو ماذا حدث للفقر والبطالة وعدم عدالة الدخول؟ فإذا انخفضت المتغيرات الثلاثة من مستويات عالية تصبح عملية التنمية محل اهتمام، أما إذا ازداد أكثر من واحد منها سوءاً فمن المستغرب أن نسمي ذلك تنمية حتى وإن كان نصيب الفرد من الناتج الإجمالي يساوي الضعفين. وفي هذا السياق يضيف إدغار أوبينس: إن التنمية تم معالجتها من قبل الاقتصاديين كتمرين في الاقتصاد التطبيقي بدون أن تتعلق عملية التنمية بالأفكار السياسية أو تكوين الحكومات أو دور الأفراد في المجتمع، إننا في حاجة لدمج السياسة مع النظرية الاقتصادية، ليس فقط لاعتبار أنها أسلوب للمجتمعات المعاصرة، بل لتكون أكثر إنتاجية مع أن تنمية البشر أهم من تنمية الأشياء.
حتى البنك الدولي الذي كان يساند النمو الاقتصادي الكمِّي منذ الثمانينيات كهدف رئيس للتنمية الاقتصادية أوضح في تقريره عن
التنمية لعام 1991م: إن التحدي أمام التنمية هو تحسين نوعية الحياة، خاصة في الدول الفقيرة، إن أفضل نوعية للحياة هي التي تتطلب دخولاً عالية، ولكنها في نفس الوقت تتضمن أكثر من ذلك، تتضمن تعليماً جيداً ومستويات عالية من التغذية والصحة العامة وفقراً أقل، وبيئة نظيفة، وعدالة في الفرص، وحرية أكثر للأفراد وحياة ثقافية غنية. ووضع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة UNDP مقياساً جديداً للتنمية البشرية من خلال فريق عمل من الخبراء والمختصين كُوِّنَ لهذا الغرض وأصدر تقريراً بهذا الخصوص في 1990م، وهو مقياس كمي لأوضاع التنمية البشرية، حيث يُرتب الدول على أساس ما حققته من نجاح في تلبية الحاجات الإنسانية وتحسين مستوى معيشتهم، ويتضمن المقياس معايير اقتصادية وأخرى مثل: التخصيص الأمثل للموارد الاقتصادية، الاختيارات الاقتصادية، الحرية، الأوضاع الصحية والتعليمية.
أما منظمة العمل الدولية ILO فقد حاولت أن تترجم مفهوم تلبية الحاجات الأساسية إلى برنامج عمل ناجح في الكثير من الدول النامية غطَّى جوانب مهمة من عملية التنمية الاقتصادية شملت الرعاية الصحية والتعليم الأساسي ودعم المشروعات الصغيرة ومشروعات البنية التحتية.
يرى الاقتصادي مايكل تودارو أن التنمية الاقتصادية يجب أن تكون عملية متعددة الجوانب متضمنة للتغيرات الرئيسية في البنية الاجتماعية والمواقف الشعبية والمؤسسات القومية، كما تستهدف تعجيل النمو الاقتصادي وتقليل عدم التساوي في الدخول وتخفيف حدة الفقر. والتنمية في جوهرها يجب أن تمثل كل السلسلة المتكاملة للتغيير، بجانب التوفيق بين الحاجات الأساسية ورغبات