حنة أرندت فيلسوفة السياسة كتاب جديد يبحث في نظرياتها
تعدّ الفيلسوفة الألمانية – الأمريكية حنة آرندت من بين أهم الفلاسفة المعاصرين الذين انشغلوا بقضايا الحداثة السياسية، ووضع الإنسان المعاصر، وأزمة الثقافة، والفضاء العمومي، والفاعلية السياسية، وإمكانات الثورة، والعلاقة مع التراث ومطلب الحرية. وأثارت مواقفها وأفكارها إزاء هذه القضايا إشكالات كبرى واحتلت مكانة مرموقة ضمن دائرة النقاشات الفلسفية المعاصرة.
يعرف الفكر العربي تقبلا ضئيلا لفكر ارندت. رغم حاجته لنظرياتها ومواقفها المهمة في السياسة، والحرية، والتي بإمكانها أن تضيء بعض المناطق المظلمة والمعتمة من كينونتنا. باستثناء بعض الدراسات والترجمات الجادة ونذكر منها: «حنة أرنت في العنف»، ترجمة إبراهيم العريس، بيروت 1992، «حنة آرنت بين الماضي والمستقبل»، ترجمة عبد الرحمان بشناق، القاهرة، 1974، «حنة آرنت، أسس التوتاليتارية» ترجمة أنطوان سعد،1993، وغيرها. ونعرض في هذا الركن قلما خاض في دروب فكر وفلسفة حنة آرندت، ودل عن كفاءة وحنكة على مستوى البحث والإنجاز، الأمر يتعلق بالباحثة الجزائرية مليكة بن دودة، صاحبة كتاب «فلسفة السياسة عند حنة آرندت» الصادر حديثا عن دار «منشورات الاختلاف»، وضفاف ودار الأمان.
تسعى مليكة في هذا المصنف إلى تفكيك المنظومة الفكرية المركبة المحيطة بفكر ارندت. ولعل ما أصابت فيه بقدر معتبر هو حرصها على بيان أن عرض الفكر السياسي المركب يفترض بالضرورة الاشتغال على ما سماه ناجي العونلي في المقدمة التي خصها للكتاب بالتشكلات المركبة للشخص المفهومي، بمعنى تفكيك الطابع المركب لفكر آرندت الذي يضم نسيجا معقدا من الأفلاطونية والأرسطوية والسبينوزية والكانطية والهيغلية والماركسية، من دون أن نغفل طبعا أثر فيلسوف الغابة السوداء ضمن هذه التركيبة التي سماها ناجي العونلي بالشميلة.
تحاول مؤلفة الكتاب الإجابة عن الإشكال التالي: هل فكر آرندت يحتوي على نظرية في السياسة؟ أم أنه يضع قواعد لفلسفة سياسية جديدة؟
تزاول حنة آرندت في منجزها الفكري السياسي الفلسفي القطع مع مشروع الميتافيزيقا الغربية، من خلال نقد التراث الفلسفي، ولاسيما في علاقته بالسياسة. إن العلاقة القائمة بين الحرية والسياسة، حسب آرندت ليست علاقة وصفية فقط، بل إن المجال الذي تتمظهر فيه كل أشكال الحرية.
«أصل السياسة هو الحرية» هكذا جاء تعريف آرندت للسياسة، وهو تعريف يجد أسسه في التصور اليوناني للسياسة، الذي ارتبط بدوره بتشكل المدينة اليونانية «البوليس». إن مفهوم الحرية الذي تتخذ منه حنة آرندت جوهرا للفعل السياسي. يرتبط بمفهومين آخرين تعتبرهما ضروريين لإظهار الاختلاف القائم بين مفهوم الحرية باعتبارها هدف السياسة، والمفاهيم الأخرى التي ترتبط بمفهوم السياسة، خاصة حرية التعبير وحرية الإرادة، وهذان المفهومان هما: البراعة، والشجاعة.
بعد انتقادها للفلسفة السياسية اليونانية التي تؤسس مفهوم الحرية على مفهوم الإرادة الحرة، تنتقل آرندت إلى انتقاد الفلسفة السياسية الحديثة، التي ربطت مفهوم الحرية بالسيادة، وعلى رأسها فلسفة جان جاك روسو. إن القول «السيادة سيادة الشعب» يتناقض بشكل جلي وكامل مع الحرية، بيد أن مفهوم الشعب لا يعبر أبدا عن كل شرائح المجتمع، وإنما يمثل مجموعة واحدة من الشعب اكتسحت الساحة السياسية وشكلت أغلبية أصبحت تمثل ما تسميه آرندت «اضطهاد الإرادة الجماعية».
وفي الدراسة تناص واضح مع الأطروحة التي يتأسس عليها كتاب كانط «الدين في حدود مجرد العقل»، إذ ينطلق كانط في هذا الكتاب من فكرة جوهرية مفادها أن المعطى الذي يجعل الأخلاق في غير حاجة إلى الدين، هو كونها مؤسسة على مفهوم الإنسان وبالتالي مفهوم العقل، هذا الأخير الذي يجعلها مكتفية بذاتها.
ان احترامنا لهذا الشيء المقدس يجب أن يكون احتراما حرا خاليا من الإكراه والقهر والمصادرة التي تفرضها عليه الشعائر النظامية المنغلقة، أي ألا يتنافى احترامه مع قوانين العقل المحض. ذلك أن هذا الاحترام نابع من حاجة خلقية في طبيعتها وليس من خوف كسول من المجهول. ومن ثمة فإن الدولة لا تحتاج إلى الدين حتى تفرض سلطتها على المواطنين، لأن طاعة السلطة أمر أخلاقي بالدرجة الأولى وتغليفها بلباس ديني لن يضيف إليها أي شيء. فالدين لا يحتاج إلى قطيع يمارس الشعائر، بدون فهم لمعناها، كما لا يحتاج لقطيع يتملق الإله بغية الحصول على ما عبر عنه الروائي برهان شاوي في أحد مقاطع روايته «متاهة إبليس» بتبن الجنة، بل لا يحتاج إلى أناس يحولون النعيم الأخروي إلى جهاز ابتزاز أخلاقي للفانين على الأرض. وإنما يحتاج إلى أناس أحرار يؤمنون بأنفسهم وبما تمليه عليهم عقولهم. هكذا لن يعود الدين يفرض على أي أحد أن يصير نفسه عبدا «إلا الذي يريد وطالما هو يريد كذلك». بما أن مفهوم التفكير يتخذ موقعا أساسيا ضمن النظرية السياسية لفيلسوفة الثورة، فإن إمكانية إخراج نظريتها في السياسة من دائرة الفلسفة يبدو مستحيلا، رغم امتناعها في عديد من المناسبات عن قبول وضع اسمها ضمن حلقة الفلاسفة. وتهدف آرندت من خلال تركيزها على مفهوم التفكير في نظريتها السياسية على العثور على الرابط الذي يمكن أن يجمع الحياة التأملية مع الحياة العملية، بمعنى إيجاد الفكر الذي لا يسمح لنا بأن نفهم الوقائع فحسب، وإنما الفكر الذي يسمح لنا أيضا في الوقت نفسه بامتلاك الأدوات للتأثير عليه وتغييره، بمعنى أن آرندت تتعقب الفحص عن الملكات العقلية التي تسمح للفكر بأن يصبح بالفعل سياسيا يظهر في العالم كنتيجة منبجسة عن فعل التفكير. هذه الحركة التي تنجر عن فعل التفكير هي ما يجعل منه فعلا حيويا وشرطا من شروط الحياة وأساسا من أسس العالم. ومن ثمة يمكننا أن نخلص مع آرندت أن الفكر امتداد للعالم وأن العالم امتداد للفكر.