عذاب القبر ونعيمه ثابت بالكتاب والسُّنَّة، وهو معلوم من الدين بالضرورة؛ قال تعالى: ï´؟ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ï´¾ [غافر: 46].
وقال تعالى عن المنافقين: ï´؟ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ï´¾ [التوبة: 101]، قال ابن مسعود وغيرُه: العذاب الأوَّل في الدنيا، والثاني عذاب في القبر، ثم يُرَدُّون إلى عذاب عظيم في النار، إلى غير ذلك من الآيات.
أمَّا الأحاديث في إثبات عذاب القبر ونعيمِه فهي كثيرة، بل قد صرَّح ابن القيِّم وغيرُه أنها متواترة؛ ففي الصحيحين: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مرَّ بقبرين، فقال: ((إنهما ليُعَذَّبان وما يُعَذَّبان في كبير؛ أمَّا أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأمَّا الآخَر فكان يمشي بالنميمة)).
وفي الصحيحين أيضًا أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول في دعائه في الصلاة: ((اللهم إني أعوذ بك مِن عذاب القبر...)).
والقبر أوَّل منزلةٍ مِن منازل الآخرة؛ لذا كان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبرٍ بَكَى ما لا يَبكيه عند ذكْر الجَنَّة والنار، فقيل له في ذلك، فقال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((القبر أوَّل منازل الآخِرة، فإنْ نجا العبدُ منه فما بَعْدَه أَيسَرُ منه))، قال الشيخ الألباني: (حسَن)، انظر حديث رقم: 1684 في "صحيح الجامع".
إنَّ الإنسان في قبره يتعرَّض لامتحانات وابتلاءاتٍ قاسية في جوٍّ لم يألفه مِن قبْل؛ حيث طُرِح وحيدًا، لا صاحبة ولا ولد، ولا أخ ولا صديق...
ووسط هذه الأجواء يأتيه الملكان (منكر ونكير)، فينهرانِه ويسألانه: مَن ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في الرجل الذي بُعِث فيك؟ والإجابة عن هذه الأسئلة هي التي ستحدِّد مصير الإنسان، هل سينعم ويُفسَح له في قبره مدَّ البصر، أو يعذَّب ويضيَّق عليه قبره، فالقبر إمَّا روضة مِن رياض الجَنَّة، أو حُفرة مِن حُفَر النار، فكيف يتحصَّل العبدُ على هذه الروضة؟ وكيف ينجو مِن هذه الحفرة؟
الأسباب المنجية من عذاب القبر:
هناك وسائل كثيرةٌ إذا فعَلها العبدُ نجا مِن عذاب القبر، والتي منها:
الوسيلة الأولى: الإكثار مِن ذكْر هادم اللذات:
أوصى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَّته بالإكثار مِن ذكْر الموت؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أَكْثِروا مِن ذكْر هادِم اللذَّات))؛ يعني: الموت؛ رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، بأسانيد صحيحة.
وذكْر الموت له فوائد عظيمة منها:
1- يزجر العبدَ ويمنعه مِن الذنوب والمعاصي.
2- يدفعه إلى الإسراع إلى التوبة والعمل الصالح.
3- يجعله وجلًا خائفًا، فيأمَن في قبره وبين يدي ربه؛ لأن الله عزَّ وجلَّ لا يَجْمَع على عبدٍ خوفَين ولا أمنَين، فمَن أمِنَه في الدنيا أخافه في الآخرة، ومَن خافَه في الدنيا أمَّنه في الآخرة.
4- الإكثار مِن ذكر الموت يَدفع إلى المحاسبة، فإذا أصبح لا ينتظر المساء، وإذا أمسى لا ينتظر الصباح، فيجلس كلَّ ليلة يُحاسِب نفسَه، فيدفعه ذلك إلى التوبة والندم والاستغفار، يقول ابن القيِّم: "لا بُدَّ أن يجلس الرجل عندما يريد النوم لله ساعةً يُحاسِب نفسَه فيها على ما خسِرَه ورَبِحَه في يومه، ثم يجدِّد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألَّا يُعاوِد الذنبَ إذا استيقَظ، ويَفعَل هذا كلَّ ليلة، فإنْ مات مِن ليلته مات على توبة، وإنِ استيقَظ استيقَظ مستقبِلًا للعمل، مسرورًا بتأخير أجَله، حتى يَستقبل ربَّه، ويَستَدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع مِن هذه النومة، ولا سيَّما إذا عقَّب ذلك بذكْر الله، واستعمالِ السُّنن التي وردَت عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عند النوم حتى يغلَّه النوم".
الوسيلة الثانية: الإيمان والعمل الصالح:
الإيمان والعمل الصالح مِن أعظم الوسائل المنجية مِن عذاب القبر؛ قال تعالى: ï´؟ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ï´¾ [إبراهيم: 27].
يقول العلَّامة السعدي: "يخبر تعالى أنه يثبِّت عبادَه المؤمنين؛ أي: الذين قاموا بما عليهم مِن إيمان القلب التامِّ، الذي يستلزم أعمالَ الجوارح ويثمِّرها، فيثبِّتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبُّه الله على هوى النفسِ ومُراداتها، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدِّين الإسلامي والخاتمة الحسَنة، وفي القبر عند سؤال الملَكَين، للجواب الصحيح، إذا قيل للميت: مَن ربك؟ وما دينك؟ ومَن نبيُّك؟ هداهم للجواب الصحيح؛ بأن يقول المؤمن: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيِّي.
ï´؟ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ï´¾ عن الصواب في الدنيا والآخِرة، وما ظلَمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسَهم، وفي هذه الآية دلالة على فتنة القبر وعذابه ونعيمه، كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الفتنة، وصفتِها، ونعيم القبر وعذابه".
الوسيلة الثالثة: الاستقامة:
يقول تعالى: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ï´¾ [فصلت: 30 - 32].
وأصل الاستقامة كما يقول ابن رجب: "استقامة القلب على التوحيد كما فسَّر أبو بكرٍ الصدِّيق وغيرُه قوله: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ï´¾ [فصلت: 30] بأنهم لم يلتفتوا إلى غيرِه، فمتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته، وإجلاله ومهابته، ومحبَّته وإرادته، ورجائه ودعائه، والتوكُّل عليه والإعراض عمَّا سواه - استقامت الجوارح كلها على طاعته؛ فإن القلب هو ملِك الأعضاء وهي جنوده، فإذا استقام الملِك استقامت جنوده ورعاياه.
والاستقامة ترجمان الإيمان؛ والدليل على ذلك قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((قُلْ: آمنتُ بالله، ثم استقم))؛ رواه مسلم.
الوسيلة الرابعة: التقوى:
التقوى مِن أهمِّ الأسباب التي تُنجي العبدَ في الدنيا والآخِرة؛ قال تعالى: ï´؟ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ï´¾ [النمل: 53]، وهي تَستَجلب معيَّة الله في كلِّ الأمور؛ ï´؟ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ï´¾ [البقرة: 194]، والقبرُ وفتنتُه مِن الأمور العظام التي لا ينجو منها إلا أهل التقوى؛ لذا أمرَنا اللهُ بالتزوُّد منها؛ قال تعالى: ï´؟ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ï´¾ [البقرة: 197].
الوسيلة الخامسة: الرباط في سبيل الله:
فقد ورد عنه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أنه قال: ((كلُّ ميتٍ يُختَم على عمله، إلاَّ الذي مات مُرابِطًا في سبيل الله، فإنه يُنمَى له عملُه إلى يوم القيامة، ويَأمَن فتنةَ القبر))؛ أخرجه الترمذي وأبو داود.
الوسيلة السادسة: الشهادة في سبيل الله:
فعن المقدام بن معديكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لِلشهيدِ عند الله ستُّ خصال: يغفر له في أوَّل دفعة مِن دمه، ويرى مقعده مِن الجَنَّة، ويُجَار مِن عذاب القبر، ويأمن مِن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاجُ الوقار؛ الياقوتة منه خيرٌ مِن الدنيا وما فيها، ويُزَوَّج اثنتين وسبعين زوجة مِن الحور العين، ويشفع في سبعين مِن أقاربه))؛ أخرجه الترمذي.
الوسيلة السابعة: المداومة على قراءة سورة المُلْك، والعمل بمقتضاها:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ضَرَبَ رجلٌ مِن أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خباءه على قبرٍ وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا بقبر إنسانٍ يَقرأ سورة المُلْك حتى ختمها، فأتى النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسول الله، ضربتُ خبائي على قبرٍ وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة المُلْك حتى ختمها، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((هي المانعة، هي المنجية؛ تنجيه من عذاب القبر))؛ أخرجه الترمذي
رابط