معني اسم الله تعالى البَدِيعُ
الله -عز وجل- هو بديع السموات والأرض
, كل ما في الأرض من بشر وشجر وحجر ودواب,
وكل ما في السموات من نجم وكوكب,
وشمس وقمر, وأجرام وأفلاك,
وملك وجان, كل ذلك قد أوجده الله تعالى
فأبدع في خلقه, على أفضل ما يكون من صورة
, وأكمل ما يكون من هيئة,
قال تعالى: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه: 50],
وقال -سبحانه-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين: 4].
والبديع في اللغة: على وزن فعيل بمعنى مُفعِل
أي مُبدع السماوات والأرض,
وفي لسان العرب:
بدع الشيء يبدعه بدعاً وابتدعه: أنشأه وبدأ هو.
ومنها جاء معنى البدعة:
وهي الحدث وما ابتدع من الدين بعد الإكمال,
ومنها قوله تعالى: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف: 9]
أي لست أول رسول,
بل كان هناك رسل قبلي.
والإبداع: أن تصنع شيئاً على غير مثالٍ سابق,
فالله -عز وجل- قد أبدع هذا الكون
بكل ما فيه على غاية الحسن والإحكام
من غير مثال سابق,
فالبديع: من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء
وإحداثه إياها, ويجوز أن يكون بمعنى مبدع
أو يكون من بدع الخلق أي بدأه
كما قال سبحانه-: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة: 117]
أي خالقها ومبدعها,
فهو -سبحانه- الخالق المخترع لا عن مثال سابق.
وقد يعتقد البعض أن اسم الله “البديع”
يعطي نفس الدلالات والمعاني لأسماء أخرى لله -عز وجل
, مثل اسم الله “الخالق”, “البارئ”, “المصور”,
وهذا ليس صحيح,
فلكل اسم منهم معنى ودلالة خاصة به
تفرقه عن غيره,
وإن اشتركت أحياناً في معنى عام.
فالخالق الذي خلق المخلوقات من العدم,
والبارئ هو الذي خلق الخلق بريئًا من التفاوت والتناقض,
والمصور الذي جعل لكل مخلوقٍ
هيئة وصورة مختلفة تميزه عن غيره,
وأما البديع فهو الذي أبدع الخلق على غير مثال
ولا اقتداء بسابق,
فهكذا تتقارب معاني تلك الألفاظ
ويتمايز بعضها بملمح دلالي خاصٍّ
كما نرى في اختصاص الإبداع بملمح عدم المثال
وكاختصاص المصوِّر بملمح إنشاء الصورة والهيئة,
لكن الاستعمال القرآني الحكيم لهذه الألفاظ
يفرِّق بينها تفرقة دقيقة.
وقد ورد اسم البديع مضافاً
في كتاب الله تعالى في موضعين,
في سورة البقرة (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة: 117],
وفي سورة الأنعام (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام: 101]
والآيتان كانتا في معرض الرد على من ادعى الولد لله -سبحانه وتعالى-,
قال ابن جرير -رحمه الله-:
“فمعنى الكلام فسبحان الله أنى يكون لله ولد, وهو مالك ما في السماوات والأرض, تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية, وتقر له بالطاعة
, وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه.
وهذا منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال, هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته“.
وقد ورد في السنة النبوية من حديث أنس بن مالك
قال: سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يقول: “اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك، لا شريك لك، المـنان، بديع السماوات والأرض
ذو الجلال والإكرام“. فقال: “لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سُئِلَ به؛ أعطى
وإذا دُعِيَ به؛ أجاب“. لذلك ذهب جمع من أهل العلم على اعتبار أن اسم “البديع” أو “بديع السموات والأرض”
هو اسم الله الأعظم؛ لتجلي الكثير من الصفات الربانية فيه.
ومظاهر وصور الإبداع في خلق الله
في الكون كثيرة تفوق العد والحصر,
ولو نظرنا إلى مثال واحد هو “الإنسان”
فعلى وجه الأرض يعيش أكثر من سبعة مليارات من بني آدم,
عدد مهول ضخم!! لكن أبدع الخالق في خلقهم
فلكل واحد من هؤلاء البشر بصمة أصابع لا تتشابه مع الآخر,
ونغمة صوت لا تتطابق مع الآخر,
ورائحة جسد تميزها بعض الحيوانات
مثل الكلاب البوليسية لا تتشابه مع الآخر,
وقرنية عين لا تتشابه مع الآخر,
أليس هذا هو الإبداع الرباني والقدرة الإلهية الشاملة؟!.
أما الإنسان لو أراد مثلاً أن يرسم وجهاً لغرض ما مباح
فلو كلَّفنا رسَّاما أن يرسم وجهاً يرسم وجه اثنين.
. ثلاثة مختلفة عن بعضها
وبعد ذلك ينضب الإبداع من ذهنه وتأتي رسوماته متشابهة
ومهندسو السيارات يصممون أشكال السيارات، مرة خطوط منحنية
مرةً خطوط متعامدة
مرةً خطوط انسيابية
وبعد حين يعودون إلى الشكل السابق فإبداعهم ينضب!!.
وهذا مثال في مخلوق واحد وهو الإنسان,
فما بالكم بعالم الحيوانات والطيور والحشرات
والنبات, ملايين الأنواع في كل عالم منهم,
لا تتشابه مع بعضها البعض!!.
عباد الله:
من أهم استحقاقات الإيمان باسم الله “البديع”:
التفكر في الكون وما فيه من نعم ومخلوقات, التفكر في مظاهر الإبداع فيها,
وما تورثه في قلب العبد من إيمان وتسليم بوحدانية الله -عز وجل-
وقدرته, قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191],
فقد خلق الله -سبحانه وتعالى-
الكون وخلق الإنسان ليعبد الله
ويتفكر في بديع خلقه وكائناته,
فلم يخلق أي شيء عبثا,
كل مخلوق وله عمله الموكل إليه في هذه الحياة.
إن التفكر والتأمل في خلق الكون
من أهم الواجبات الموكلة إلى المسلم؛ لترى عظمة الخالق في إبداع السماوات والأرض, فلولا عظمة الخالق في ترتيب وتنسيق جميع موازين الكون
ومقاييسها لاختلت الحياة وفسدت. فهذه المجرات والكواكب والشمس والقمر والنجوم,
قال تعالى عنها: (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت: 12],
كل له وظيفة ودورانه الخاص,
فالأرض تدور حول الشمس بنظام معين وبمقدار مناسب,
فلو زاد أوقل هذا المقدار لحدثت الكوارث والمصائب,
هذا من عظمة الخالق في خلق الكون وإبداعه.
أيها المؤمن:
تفكَّر في خلق البحار والمحيطات والأنهار وما فيها من كائنات بحرية حية, منها ما توصَّل الإنسان إلى معرفته,
ومنها لم تعرف بعد, كل منها له وظيفته الخاصة من طعام وشراب وطاعة لله -عز وجل-,
تجد في هذه المحيطات بعض المواد التي تشفي من الأمراض, وأيضا تجد فيها كائنات تفيد في تنقيتها وحمايتها من التلوث, وتفكَّر في خلق الجبال
وقوتها وصمودها ولكنها تخر خاشعة من خشية الله, وتفكر في السهول والوديان وتكوينها والصحارى الممتدة وما فيها من عظمة الخالق في الإبداع.
لذلك كان من المشاهد المتكررة عبر الزمان أننا نجد من علماء اليهود والنصارى والوثنيين من يعلن إسلامه ويذعن بالتوحيد لله تعالى,
بعد أن يُعمل فريضة التفكير في الكون والخلق, فيرى إبداعاً وعظمة تنير ظلمات قلبه, وتوسع ضيق صدره, فيعلن إسلامه, البروفيسور الياباني (يوشيدي كوزاي) سمع
قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) [فصلت: 11]
تتلى في المؤتمر العلمي للإعجاز القرآني الذي عقد في القاهرة,
ولما سمع تلك الآية نهض مندهشاً وقال: “لم يصل العلم والعلماء إلى هذه الحقيقة المذهلة إلا منذ عهد قريب بعد أن التَقَطِت كاميرات الأقمار الاصطناعية القوية صوراً
وأفلاماً حية تظهر نجماً وهو يتكون من كتلة كبيرة من الدخان الكثيف القاتم“!!. ثم أعلن إسلامه .
ومنهم البروفيسور الأمريكي (بالمر)
الذي سمع قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) [الأنبياء: 30]
في مؤتمر الشباب الإسلامي الذي عقد في الرياض
1979م, فقال: “حقاً لقد كان الكون في بدايته عبارة عن سحابة دخانية غازية هائلة متلاصقة ثم تحولت بالتدريج إلى ملايين الملايين من النجوم التي تملأ السماء,
ولا يمكن بحال من الأحوال أن ينسب إلى شخص مات قبل 1400 سنة
لأنه لم يكن لديه تليسكوبات ولا سفن فضائية تساعد على اكتشاف هذه الحقائق, فلا بد أن الذي أخبر محمداً هو الله” وأعلن البروفيسور (بالمر) إسلامه في نهاية المؤتمر.
ومنهم العالم التايلاندي (تاجاس) المتخصص بعلم الأجنة, والبروفيسور (كيث مور) بعد أن سمعا بآيات أطوار الخلق في سورة المؤمنون,
والعالم اليهودي (روبرت جيلهم) والذي يعد من أشهر علماء الأجنة في العالم بسبب عدة المطلقة, ب
عد أن أفنى عمره في أبحاث تخص البصمة الزوجية للرجل، وتأكد بعد أبحاث مضنية أن بصمة الرجل تزول بعد ثلاثة أشهر.
والأمثلة كثيرة لمن قادهم التفكير والتدبر في بديع صنع الله للإيمان به .
عباد الله:
إن من تكريم اللّه لهذا الإنسان أنْ مكَّنهُ مِن أنْ يُبدع
وهذا في الصناعة والتفكير والعلوم التجريبية,
وورد في الحديث: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”. وإن كان في سنده مقالاً, فإن له شواهد كثيرة تنهض به للقبول.
والإتقان من أبرز صور الإبداع, وتاريخ المسلمين
زاخر بالمبدعين في كل المجالات في الطب والرياضيات والعلوم والكيمياء وسائر العلوم,
وفي القيادة والتفكير الإنساني, وفي علوم الشريعة كان هناك الأئمة والأفذاذ والعلماء الكبار الذين كانوا في غاية الإبداع والإتقان في مجالاتهم
والواجب على المسلمين حتى يتخلصوا من حالة التخلف الحضاري التي أوقعتهم فريسة سهلة لأعدائهم وأن يبذلوا أقصى ما عندهم من جهد,
ويخرجوا كل طاقاتهم الإبداعية؛ لتحقيق نهضة الأمة وإخراجها من كبوتها العارضة.
ونقصد بالإبداع هاهنا الإبداع النافع المفيد في حياة الناس الذي ينشر العمران
ويحقق الأمن والطمأنينة بينهم ويسهل منافعهم,
أما أن يكون الإبداع سلماً للدمار ونشر الفواحش وترويج الرذيلة وإضاعة الأوقات ونشر ثقافة السلبية والتفاهة,
فهذا ليس من الإبداع في شيء, بل هو إبداع الشيطان في غواية الإنسان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
ملتقي الخطباء