تفســــــــــــير القــــــــــرآن - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم البرامج الإسلامية

قسم البرامج الإسلامية يعنى بجمع البرامج الإسلامية كالأقراص الاسلامية لتعليم القرآن و برامج الأذان ...وكذا تفريغ الخطب والمحاضرات

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

تفســــــــــــير القــــــــــرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2019-10-27, 21:48   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي تفســــــــــــير القــــــــــرآن

https://benaa.islamacademy.net/files...tafseer/01.mp3

https://benaa.islamacademy.net/files...tafseer/02.mp3

https://benaa.islamacademy.net/files...tafseer/03.mp3


https://benaa.islamacademy.net/files...tafseer/04.mp3









 


رد مع اقتباس
قديم 2019-10-27, 21:50   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

التفسير
الدرس الأول (1)
فضيلة الشَّيخ/ د. عبد العزيز بن محمد السدحان
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وفي مطلعِ هذه الفصل المبارك أرحبُ بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور عبد العزيز بن محمد السدحان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاك الهل، وحيَّا الله المشاهدين وبيَّا الجميع.
{في أولى حلقات سلسلة مادة التفسير، سنتكلم -بإذن الله- عن نُبَذٍ مختلفةٍ من تفسيرٍ القرآن، وعن أمثلةٍ مُتعلِّقةٍ بأنواعِ القرآن.
شيخنا، لو تكلمتم عن تعريف القرآن الكريم}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
سيكون الكلام -كما اتَّفقنا وكما ذكرتَ- عبارة عن فوائدَ متفرِّقةٍ عن التَّفسير وعلوم القرآن الكريم، وفيما نقله بعضُ أهل العلم ممَّا يتعلَّق بالآياتِ والأحاديثِ وما شَاكَلَه.
وهذا الكلام بهذه الطَّريقة منهجٌ مألوفٌ عندَ أهلِ العلم، يعني الفوائد المتنوعة سواء كانت في فنٍّ معيَّنٍ أو في فنونٍ مختلفةٍ أمرًا مألوفًا ومنهجًا معروفًا عندَ أهلِ العلم، ولعلَّ مَن يُشاهد ويسمع يتذكر كتاب "الفوائد" لابن القيم، أو "بدائع الفوائد"، وهناك كتب في علم الحديث رواية ودراية تتعلَّق بجمع أنواع من الفوائد، سواء في رجال الإسناد -عند المحدِّثين- أو في العلل، أو في المتون، وعند المفسِّرين ما يتعلَّق بعلوم القرآن الكريم أو بتفسيره أو ما يتبع ذلك، كما سنذكر -إن شاء الله.
تعريف القرآن لغة: كلُّ كلام مَقروء فهو قُرآن.
وأمَّا في الاصطلاح -أو التَّعريف الشَّرعي: هو كلام الله الذي أنزله على محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو كلام مُنزَّل غير مخلوق، مُعْجزٌ محفوظٌ من التَّحريف والتَّبديل، المفتتح بسورة الفاتحة، والمُختتم بسورة الناس.
هذا تعريف لِمَا ذكره أهل العلم فيما يتعلق بالقرآن الكريم، وهناك تعاريف أخرى، ولكن لعلَّ هذا -إن شاء الله تعالى- من أجمعها.
{لو ذكرتم لنا نبذة عن الكتب السَّماويَّة}.
يقول بعض أهل العلم: أرسل الله رُسلًا أخبرنا عن بعضهم، وذكر في كتابه الكريم أنَّه قصَّ بعضهم ولم يقص البعض على نبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال بعضهم: أخبرنا الله عن كتبٍ سماويَّة نزلت، منها صُحف إبراهيم، فقد جاء في الآية الكريمة: ï´؟صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىï´¾ [الأعلى: 19]، ومنها كتاب التَّوراة المنزَّل على موسى -عليه السَّلام.
وللفائدة: فقد ذكر بعضهم أنَّ معنى التَّوراة: البشارة والتَّعليم.
وهناك "الإنجيل" نزل على عيسى -عليه السلام- وهناك الزَّبور نزلَ على داود -عليه السلام- في قوله تعالى: ï´؟وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًاï´¾ [النساء: 163]. وجاء في مطلع سورة آل عمران ذكر الكتب الثلاثة "القرآن الكريم، والتوراة والإنجيل".

{ما الفرق بين القرآن وبين هذه الكتب. أحسن الله إليكم؟}.
ذكر أهل العلم فُروقًا، من هذه الفروق:
الفرق الأوَّل: أنَّ القرآنَ الكريم مُعجِزٌ في نظمه، ولذلك تحدَّى الله تعالى المشركين في القرآن أن يأتوا بمثل القرآن، وآية التَّحدي الثَّانية أن يأتوا بعشر سور مثلة، وآية التَّحدِّي الثَّالثة أن يأتوا بسورةٍ واحدةٍ. قال تعالى: ï´؟قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًاï´¾ [الإسراء: 88]، وقال تعالى: ï´؟قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍï´¾ [هود: 13]، وقال تعالى: ï´؟فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِï´¾ [البقرة: 23]، فالقرآن معجزٌ في نظمهِ بخلاف الكتب السَّابقة.
الفرق الثَّاني: أنَّ القرآن محفوظٌ من التَّحريفِ والتَّبديلِ، ولهذا قال ربنا: ï´؟إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَï´¾ [الحجر: 9]، بينما جاء التَّحريفُ والتَّبديلُ والتَّقديمُ والتَّأخيرُ في الكتبِ السَّابقة.
الفرق الثَّالث -ولبعض أهل العلم عليه تحفُّظ: أنَّ القرآن الكريم نزلَ مُفرَّقًا، قال تعالى: ï´؟وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًاï´¾ [الإسراء: 106]، بينما الكتب السَّابقة قد عهد الأوَّلون أنَّها لا تنزل إلا جُملةً واحدةً، وقال تعالى في سورة الفرقان: ï´؟وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةًï´¾ [الفرقان: 32]. هذه بعض الفروق التي يذكرها العلماء.
{سؤال يا شيخ متعلق بالسؤال الأول: ما هو الفرق بين القرآن والحديث القدسي؟}.
القرآن الكريم يشترك مع الحديث القدسي أنَّه يُقال في أوَّلهما: "قال الله تعالى"، ولهذا يقول أهل العلم في مصطلح الحديث: "الحديث القدسي يُصدَّر بــ "قال الله تعالى" أو "يقول الله تعالى" أو "فيما يرويه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ربِّه"، مثل حديث: «يا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي...» ، وحديث: « مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا...» ، وحديث « أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي...» ، إلى آخــره.
ومن الفروق بينهــما:
أولًا: أنَّ القرآنَ معجزٌ في لفظهِ ونظمهِ، بخلاف الخبر القدسي.
ثانيًا: القرآنُ كلُّه متواترٌ من أوَّلهِ لآخرهِ، بينما الحديث القدسي فيه المتواتر وفيه الآحاد، ودخله الضَّعيفُ والموضوعُ والمكذوبُ من الرُّواة الكّذَبَة.
ثالثًا: أنَّ القارئ له عشر حسناتٍ بكلِّ حرفٍ يقرأه في القرآن الكريم، بخلاف الخبر القدسي.
رابعًا: القرآن مُتعبَّدٌ بتلاوته، بخلاف الخبر القدسي.
{أحسن الله إليكم شيخنا.. ما معنى "السُّورَة"؟}.
في كتب علوم القرآن ذكروا أكثر من معنى لــ "السورة":
قال بعضهم: السورة بمعنى المنزلة.
ومنهم من قال: كما أنَّ السُّورَ لبنةٌ إلى لبنةٍ؛ فكذلك السُّورة كلمة إلى كلمة.
وقال بعضهم: أُخذت "السورة" من سُورِ المنزلِ أو سور الحصنِ؛ لأنَّه يحمي -بإذن الله- أهله، فكذلك إذا قرأ الإنسان السورة من القرآن وعمل بها تحميه -بإذن الله.
وقال بعضهم: السُّورُ مِن الرِّفعَة والعلو، وكذلك السُّورة ترفع صاحبها إذا علمها وعمل بها.

{جزاكم الله خيرًا يا شيخ..
يعلم الجميع أن السُّور فيها مكِّي ومدني. فما هي علامات المكي؟}.
هناك ضوابط، منهـــا:
الضَّابط الأوَّل: كل سورة تقرؤها فيها كلمة "كلا" فهي مكيَّة، وتتذكَّر حرف الكاف في "كلا" و "مكِّي".
يقول الناظم:
ولم تنزلن "كلا" بيثرب فاعلمن ** وليست من القرآن في نصفه الأعلى
يقول: إنَّ كلمة "كلا" لم ترِد في سورةٍ مدنيَّة، وليست في القرآن في النِّصف الأوَّل -من سورة الفاتحة إلى نصف الكهف- فليس في أي سورة منها كلمة "كلا"، وإنَّما في السُّور الأخرى.
الضَّابط الثَّاني: كل سورة يقرأها القارئ ويمر بسجدة فهي سورة مكيَّة.
الضَّابط الثَّالث: كل سورةٍ يقرأها القارئ مبدوءة بحروف مقطَّعة "الم، الر، حم،..." فهي سورة مكيَّة، باستثناء البقرة وآل عمران.
الضَّابط الرَّابع: كل سورة فيها قصَّة آدم -عليه السَّلام- وإبليس فهي مكيَّة، واستثنوا من ذلك سورة البقرة.
هذه بعض علامات بعض السُّور المكيَّة.
{شيخنا أحسن الله إليك، الجزء الأعلى من سورة الأعراف هل هي مكيَّة أو مدنيَّة}.
سورة الأعراف مكيَّة.

{لو توضحون قول الناظم "ولم تنزلن "كلا" بيثرب فاعلمن**......."}.
يقول: إنَّ كلمة "كلا" لم تنزل في سورة مدنية، وأنَّ "كلا" لم ترد في الأجزاء الخمسة عشر الأولى في القرآن الكريم.
ومن باب الفائدة هنا: بعضهم تكلَّف وجمع حروف القرآن الكريم، ثم وضعوا عند الحرف الذي يعتبر في نصف الميزان -كما يُقال: لسان الميزان- فوجوده حرف اللام الثَّانية في قوله: ï´؟وَلْيَتَلَطَّفْï´¾ في سورة الكهف، وذكر بعضهم أنَّ القارئ إذا وصل إلى هذه الآية يقف ويدعو.
ويُقال: إنَّ تحديدَ حرفٍ معيَّنٍ أو سورةٍ معيَّنةٍ بذكرٍ معينٍ على جهةٍ تعبُّديَّةٍ لا يكونُ إلَّا بدليلٍ شرعيٍّ.
{ما حُكم التفسير بعدد الآيات؟}.
ظهرت كتب في الزَّمن الأخير تُعنَى بالأعداد وحسابات رياضيَّة ومقدِّمات ولها نتائج؛ وهذه أمور -فيما يظهر- كلها تخرُّصات، ولو كان خيرًا لسبق إليه الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم- فهم أحرص الناس على اقتفاء أثر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم من نقلوا لنا الشَّريعة وحفظوها، وكانوا حقًّا أصدق أمناء بعد نبي الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ذلك، ومع هذا ما عُرف أنَّ أحدًا منهم جعل َلهذه الأعداد مقدِّمات ونتائج واستنتاجات، وأنَّ هذا يكون كذا...، وكذا...، هذا كلُّه ظهر في الزَّمن المتأخِّر، ومع الأسف الشَّديد يلقَى له رواجًا بين الناسِ، والسَّبب هو أنَّه كلَّما كثُرَ الجهل فيهم كلَّما كان تقبُّل هذه الأمور أكثر رواجًا عندهم.

{أحسن الله إليكم شيخنا، لو ذكرتم لنا علامات السُّورة المدنية}.
لمَّا استقرَّت دولة الإسلام في المدينة، وكما يُقال: وضعت الحرب أكثر أوزارها؛ نزلت الآيات التي فيها أحكام الفرائض وأحكام العبادات وأحكام الزَّكاة، فهذه من علامات السُّورة المدنية.
وأيضًا ذكروا من العلامات: ذكر المنافقين، لأنَّ النِّفاق كان في المدينة، وأمَّا في مكَّة فكان النِّفاق معدومًا أو قليلًا.
وكذلك الجهاد وأحكامه، وتقسيم الغنائم وما يتبعها، ومعاملة الأسرى؛ كل هذه علامات على السُّور المدنية.

{يشتمل القرآن على أحكام ومواعظ وقصص. فما أنواع هذه القصص؟}.
كتب علوم القرآن والحمد لله كافية ووافية، وقد استفدتُّ منها أنَّ أنواع القصص في القرآن على أقسامٍ ثلاثة:
الأول: قصصُ الأنبياءِ -عليهم الصلاة والسَّلام- مع أقوامهم، ومن قرأ سورة الأعراف رأى أخبار بعض الأنبياء، وكذلك سورة الشُّعراء وسورة الصَّافات، بحسب طول الآي وقصرها.
الثَّاني: قصصُ الرَّسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع قومه، كما في سورة الأنفال والتوبة أخبار عن الصَّحابة، وأخبار عن مَن نافقوا كما في قوله ï´؟وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ...ï´¾.
الثَّالث: قصصُ أناسٍ ليسوا بأنبياء، مثل قصَّة أصحاب الكهف، وأصحاب الجنتين، وهلمَّ جرا.
{لو ذكرتم لنا فضيلة الشيخ بعض فوائد هذه القصص}.
في قوله: ï´؟وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَï´¾ [هود: 120]، وهذه أعظم فائدة.
وهناك تنبيه قرأته للسخاوي في كتابه: "الإعلام بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ"، يقول: "مَن ظنَّ أنَّ القَصَصَ في القرآن أحاديثَ سمرٍ تُقطَعُ به المجالس، فهذا جهلٌ وضلالٌ؛ وإنَّما الحكمة من ذكرِ القَصَصِ تثبيتُ قلبِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتثبيتُ قلبِ مَن ابتُلي، وأنَّ الأنبياء قبله -عليهم السلام- قد ابتلوا واحتسبوا وصبروا".
فتثبيتُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأخبارِ مَن قبله مِن أعظم حكم سردِ القَصصِ، وإن لم يكن غير هذه لكَفَت.
وذكروا أيضًا من الفوائد: تصديق الأنبياء السابقين -عليهم الصلاة والسلام- فإذا جاءت القصص عن هو -عليه السلام- أو نوح -عليه السلام- وعن دعوتهم، وكيف تحمَّلو وكيف صبروا؛ فهذا يؤكِّد صدقهم وصبرهم واحتسابهم.

{أحسن الله إليكم. ما الحكمة من تكرار القصة؟}.
كلام البشر إذا أُعيد فالغالب أنَّه يُمل ويُسئَم من سماعه، ففي أول سرد الحكاية يُفهَم المراد، أمَّا في القرآن الكريم فقد ذكر علماء علوم القرآن أنَّ تكرار القصة في القرآن الكريم له حِكَم، منها:
ïƒک أنَّه قد يأتي في بعض السَّرد في سورة تفصيل لِمَا كان مجملًا في سورة أخرى، تأتي أحداث في هذه السورة زيادة على ما كان في السُّور الأخرى.
ïƒک إظهار بلاغة القرآن الكريم، وهذا من إعجازه، يعني لو أنَّ واحدًا ذكر قصَّةً ثم أعادها غدًا وبعدَ غدٍ؛ فيُمل منه حتى أنَّ السَّامعين قد يقولوا: يكفي ما سمعنا!
أما في القرآن إذا أعدتَّ الآية، فتأتي القصَّة في سورة الأعراف، ثم تقرأها في سورة يونس، ثم في سورة هود؛ ثم في سورة الصَّافَّات؛ وتجد أنَّ هناك تغايرًا وأنَّ هناك فوائد تزيد على ما سبق أو تؤكِّد ما سبق.

{أحسن الله إليكم يا شيخنا، لو ذكرتم لنا بعض آداب تلاوة القرآن}.
آداب تلاوة القرآن ليست واجبة، لكن من باب فضائل الأعمال والمستحبات التي تُعين، منها:
أولًا: أن يكون الإنسان على طهارة، حتى ولو كان على حدثٍ أصغر فله أن يقرأ القرآن الكريم، حتى ذكر بعض أهل العلم أنَّ مَن عليها العذر الشَّرعي لها أن تقرأ القرآن عن ظهر قلب، واحتجُّوا بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة: «فَافْعَلِي ما يَفْعَلُ الحَاجُّ، غيرَ أنْ لا تَطُوفي بالبَيْتِ» ، والحاج يقرأ القرآن ويُسبِّح، إلى آخره.
وقد جاء في الحديث: «لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» .
ثانيًا: الاستياك، جاء في الحديث «طيِّبُوا أفواهَكُم بالسواكِ، فإِنَّها طُرُقُ القرآنِ» ، حسَّنه بعضهم.
ثالثًا: الاستعاذة، فيستعيذ بالله في بدء قراءته، والاستعاذة له صيغ متنوعة، "أعوذ بالله من الشيطان الرَّجيم، أعوذ بالله السَّميع العلم من الشَّيطان الرَّجيم، أعوذ بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الرَّجيم من همزه ونفخ ونفثه".
رابعًا: يستحب بعض أهل العلم إذا كان سيقرأ من أول السورة أن يُبسمِل، وإن كانت القراءة من غير أوَّلِ السُّورة، وهذا الأمر محلُّ استحسانٍ، فلو أنَّ أحدًا قرأ وبسملَ في وسط السور فلا يُثرَّب عليه، ولكن الأفضل كما قالوا.
خامسًا: التَّدبُّر والتَّأمُّل فيما يقرأ، فجاء في مقدِّمَة سورة المزمِّل في تفسير البغوي أثر عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه قال: "لا تنثروه نثر الرمل -يعني أثناء القراءة- ولا تهذُّوه هذَّ الشِّعر، قفوا عند عجائبه وحرِّكوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة".
وهنا ينبغي التَّنبيه إلى أنَّ القراءة أنواع:
ïƒک قراءة البحث العلمي، شخص يريد كلمة في سورة فيتصفَّح الصَّفحات بسرعة؛ لأنَّ قصده الوقوف على هذه الكلمة، وآخر يبحث مثلًا عن اسم نبي في سورة معيَّنةٍ، فيقرأ لاستخراج الآيات في ذلك.
ïƒک قراءة الحدر، حتى يُكمل حزبه.
ïƒک قراءة التَّرسُّل والتُّؤدَة ليتأمَّل ويعتبر.
سادسًا: من آداب التلاوة تحسين الصوت ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فالأذان قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه: «أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ» ، وإذا سمع الناس صوت المؤذن النَّدي فإنَّ هذا يُزيدهم حبًّا وراحةً لهذا النِّداء، وكذلك الإمام إذا كان صوته نديًّا وتلاوته متقَنة فإنَّ هذا يزيد الجماعة في حرصهم على الصَّلاة خلفه.
وهنا أمر -وإن كان عارضًا- ولكنِّي أحبُّ ذكره: بعض من يصلِّي بالنَّاس يحبب الناس إلى الصَّلاة بحسن التِّلاوة والتَّنوُّع فيها، وإعطاء القراءة حقَّها من التَّأنِّي والتَّرسُّل فيها.
في المقابل؛ بعضهم يُكثِر من ترداد السورة في الصَّلوات، يعني يقرأ السورة في الأسبوع أربع أو خمس أو ست مرات، أو التَّكرار يجعل الصَّلاة عند بعضهم عادة، أو يفقد فيها خشوعه، أو بمعنى آخر ينتظر متى ينتهي عند المقطع هذا حتى يُكبِّر وتنتهي الصَّلاة!
لكن إذا نوَّع الإمام وأحسن تلاوته يكون هذا من أسباب جلب الخشوع للمصلين.

{ذكرتم يا شيخنا أثر ابن مسعود في التلاوة، وذُكر عن بعض السلف ختم القرآن في ليلةٍ، فما الجمع بينهما؟}.
لا يُصار إلى الجمع عند الأصوليين إلَّا عند التَّعارض، وليس هناك تعارض، فكون الإنسان يقرأ حدرًا ليختم حزبه، فيقال إنَّ هذا عرض يأتي أحيانًا، شخص ختم القرآن في ليلة، في السنة مرة أو في السنتين مرة؛ فهذا لا مانع منه من باب مراجعة الحفظ، والأجر لكل حرف عشر حسنات، ولتقويم اللسان.
والناس هنا اعتبارات، بعضهم يقرأ الآية سريعًا ويستخرج منها أحكامًا، وبعضهم يقرأ بتؤدة وقد لا يوفَّق فيما سبق، فهنا باعتبار الفكر والنَّظر والتَّدبُّر، ولكن القاسم المشترك في التَّدبُّر، والأصل أن يقرأ بالتَّرسُّل والتَّأنِّي، ولكن لو كان إمام سيختم بجماعته أو أحبَّ أن يُراجِع القرآن الكريم فيختمه في ليلة، وقد حصل هذا من بعض السَّلف.

{لو ذكرتم لنا ثمار تلاوة القرآن}.
ثمار التِّلاوة كثيرة، وقد ذكر العلم في كتب التفسير -عمومًا- وفي كتب الرقائق آثارًا عظيمة، منها:
- أنَّ فيها اطمئنان للقلوب، وربنا يقول في سورة الرعد: ï´؟الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُï´¾ [الرعد: 28]، وإذا اطمأنَّ القلبُ تبعته الجوارح.
وقد يخفى على بعض الناس أنَّ من ثمار التِّلاوة البركة في الوقت، إذا كان طالبَ علمٍ وجدَ بركةً في وقته في البحث العلمي والكتابة، وأذكر أنَّني قرأتُ في طبقات الحنابلة أنَّ أحد طلاب الحديث كان يضنُّ بوقته على أن يُنفَق في غير الحديث، قال: فأرشدني شيخٌ لي إلى أن أجعل لنفسي حظًّا من التِّلاوة؛ قال: فجعلتُ لي حزبًا من التِّلاوة في كل يوم، فكنت أكتبُ من الحديث بعد هذا الحزب من أكثر من ذي قبل.
فمن ثمار تلاوة القرآن البركة في الوقت، وهذا يجده مَن قرأ وسمع وجالس مَن جعل الله له حظًّا من التِّلاوة.
- فيها تزكية للنفوس، قال تعالى: ï´؟قد أفلح من زكاهاï´¾ [الشمس: 9]، وخير تزكية للنَّفس أن تُزكَّى بطاعة الله، ومن طاعة الله أن يقرأ الإنسان كلام ربِّه بتدبُّرٍ وتأمُّلٍ.
- وأيضًا من الثِّمار -كما تقدَّم- أنَّ بكل حرف عشر حسنات.
{ما هي الأسباب المعينة لحفظ كلام الله -جَلَّ وَعَلَا؟}.
أولًا: كلُّ أمرٍ عليك فيه بالدُّعاء الدُّعاء بقلبٍ صادقٍ، وجاء في الطبقات في ترجمة الإمام أحمد: "قيل له: كم بيننا وبينَ عرش الرحمن؟ قال: دعوةٌ صادقةٌ من قلبِ عبدٍ صادقٍ"، عليك في كلِّ أمرٍ أن تبدأ بالدُّعاء، وأخصُّ طلاب العلم أن يبدؤوا -أن استطاعوا- بحفظ القرآن الكريم، وأن يكون قصده في ذلك مرضات الله تعالى.
وهنا تنبيه!
بعض أهل العلم يقول: لا ينبغي الإيغال والغلو في أمور النيَّات، لأنَّ هذا يُثبِّط بعض النَّاس، وقد يُتوهَّم أنَّه مراءٍ في العمل، ولكن يُقال له: أخلص لله -جَلَّ وَعَلَا- وادعُ ربَّكَ أن يُعينكَ على الإخلاص، واستعنْ بالله.
ثانيًا: ترتيب وقت في اليوم، لأنَّ كلما رتَّبَ مَن أرادَ الحفظ وقتًا يوميًّا ساعة أو أقل بحسب ظروفه؛ فهذا -بإذن الله- سيرى نتائج إيجابيَّة.
ثالثًا: قبل أن يحفظَ أن يَسمَعَ الجزء الذي يريد حفظ من قارئ، فأحيانًا بعض الفضلاء يحفظ على تلاوته ويلفظ خطأً فترسخ في ذهنه، كأن يقرأ الآية في سورة العنكبوت ï´؟وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَï´¾ [العنكبوت: 21] فيقول "تُقلَّبون"، فهذا خطأ، وأذكر أنَّ أحدَهم كانَ يقرأ: ï´؟وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُï´¾ [لقمان: 13] فيقول "وهو يعُظُّه"، حتى أني سمعت بأذني أنَّ أحدهم يقرأ ï´؟فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِï´¾ [النساء: 129]، فقال "كَالْمِلْعَقَة"! فقلتُ له: تأكَّد من ترتيب الحروف. فإذا سمعت مثل هذا فحاول أن يعرف المخطئ خطأه قبل أن تصوِّبَه، فإنَّ هذا أبلغ في نسيان الخطأ من الذِّهن.
فقصدي من هذا: أنَّ الطالب يُسَمِّع الجزء -أو الحزب- الذي يُريد حفظه على قارئ، أو أن يَسْمَعه من قارئ، سواء كان تسجيلًا أو مقابلةً.
رابعًا: أن تكون له نسخة واحدة يحفظ منها، والآن نسخة مصحف الملك فهد -رحمه الله- أصبحت شبه معتمدة في كل المساجد.
خامسًا: أن يقرأه في صلواته، يعني مثلًا شخص حفظ سورة الغاشية أو القيامة، فنقول: كرِّرها في النَّوافل القبليَّة والبَعديَّة، ولا مانع أحيانًا أن تقرأها إن كنت إمامًا.
سادسًا: طريقة كنَّا نعلمها ونحن صغار، وهي كتابة اليد، والناس أجناس، وكل له طريقة، ولكن كتابة الآية باليد مع تكرارها لفظًا والصَّلاة بها؛ فإنِّي أعتقد -إن شاء الله- أن تُرسِّخ، وأذكر أنَّني قراتُ في بعض طبقات الحُفَّاظ أنَّ الواحد إذا حفظَ متنًا من المتون يذهب إلى قنطرة -جسر نهر- أو على دَرجٍ، ويُذكر أنَّ بعضهم صعد درجًا سبعين درجةٍ، فيطلع الدرجة الأولى ويعيد ما يحفظه، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة...، حتى ينتهي؛ فمثل هذا التَّكرار يزيد الحفظ ورسوخه في الذِّهن على تقادم الأيام.
سابعًا: أن يقرأ تفسير الآيات التي يحفظها، فالحفظ مع التَّكرار مع الكتابة؛ فهذه كأوتاد ترسِّخ المحفوظ.
ثامنًا: ينبغي اجتناب المعاصي، جاء عن الضَّحاك -رحمه الله- أنَّه قال: "ما حفظ أحدٌ شيئًا من القرآن فنسيه إلا بذنبٍ عمله"، قال تعالى: ï´؟وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِï´¾ [فصلت: 46].

{أحسن الله إليكم يا شيخنا، بعضهم يتحمَّس لحفظ القرآن على الكبر، فبماذا توجِّهونهم وتنصحونهم؟}.
طلب العلم ليس وقفًا على الصغير، بل حتى الكبير، وكم من كبير وُفِّقَ إلى حفظِ ما لم يستطعه الصَّغير، والصَّحابة ربما طلب العلم على كبر، حتى ذكر لي بعض المشايخ المهتمِّينَ بعلم الحديث أنَّ عبد الصَّمد شرف الدِّين -رحمه الله- الذي حقق كتاب "تحفة الأشراف" طلب العلم على كبر، ومع ذلك فقد أخرج هذا السِّفر العظيم، فطلب العلم ليس وقفًا على شخص معيَّن، فالكبير والصغير والمرأة والرجل والغني والفقير يستوون، ولكن بحسب الصِّدق مع الله، وبحسب فعل وبذل الأسباب.

{هناك في القرآن ألفاظ ونظائر، فلو ذكرتم لنا أمثلة على ذلك، أحسن الله إليكم}.
هناك كتب صدرت عن نظائر القرآن الكريم، ألفاظ متشابهة، أو آيات متشابهة.
المثال الأول: ما يتعلق بعلم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين:
علم اليقين وعين اليقين جاء في سورة التَّكاثر، وحق اليقين جاء في سورة الحاقة.
وعين اليقين: يُدرَك بالنَّظر.
وعلم اليقين: ما يُدرَك بالسَّمع.
وحق اليقين: ما يُباشره.
ومثَّلوا لذلك بقولهم: لو قيل لك: إنَّ هناك عسلًا؛ فهذا علم يقين، فلو رأيت العسل بعينيك فهذا عين اليقين، فلو ذقته فهذا حق اليقين.
المثال الثاني: الصفح الجميل، والهجر الجميل، والصبر الجميل.
قال ابن تيمية: "الهجر الجميل: هجرٌ بلا أذى، والصفح الجميل: صفحٌ بلا عتاب. والصبر الجميل: صبرٌ بلا شكوى".

{هناك مفاهيم خاطئة لبعض الناس في بعض الآيات، لو ذكرتم أمثلة وبعض الأسباب على ذلك}.
كلُّ مَن تكلَّم بغير علم ففي الغالب يُخطئ، حتى يُقال في الشرع: لو أصاب فهو آثم؛ لأنَّه تجرَّأ على القول بغير علم، وصوابه لا يشفع له خاصَّة في كلام الله وكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويبدو أنَّ من أسباب الفهم الخاطئ:
أولًا: التَّعالُم، يعني شخص يُسأل في مجموع من الناس وهو له قدر عندهم ومكانة؛ فتأنف نفسه أن يقول "لا أدري" فيجيب ويخوض ويتخرَّص بلا علم.
ثانيًا: أن يتبادر إلى فهمه شيء فيُقنع نفسه أنَّ هذا هو الصَّواب.
ثالثًا: أن يسمع كلامًا لغير أهل العلم فيُحاكيهم في كلامهم، وهذا لا شك من الجهل.
وأذكر من الأفهام الخاطئة: أنِّي مرَّة صليتُ وقرأتُ ببعض الآيات من سورة يوسف، فلما انتهيت لحقني أحدهم وقال لي: ما مصير أخي يوسف؟
قلتُ: بنيامين الصغير أخذه يوسف عنده بصواع الملك، والثاني يهوذا بقيَ عندهم، وقال لإخوته: ارجعوا لأبيكم.
فقال: الثالث؟ قلت: وما الثالث؟ فقال: أنت قرأت ï´؟فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَï´¾ [يوسف: 63]؟
فهو فهم أن "نكتل" عبد لهم؛ والصواب أنه فعل من "الكيل"؛ فانظر كيف استقرَّ هذا الفهم!
ومن الأفهام الخاطئة أيضًا في قوله -جَلَّ وَعَلَا- عن مريم -رحمها الله: ï´؟يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍï´¾ [مريم: 28]، فيتبادر إليهم أن مريم بنت عمران، وموسى ابن عمران، وهارون أخ موسى، وفي الآية قال: ï´؟يَاأُخْتَ هَارُونَï´¾، فإذن موسى وهارون ومريم إخوة!
وهذا ليس بصحيح، فبينهم بونٌ شاسع، قدَّره بعضهم بخمسة قرون أو أكثر أو أقل، وهذه أمور غيبية والله أعلم.
والمفهوم الصَّحيح للآية: أنَّهم كانوا يسمُّون بصالح قومهم، مثل الشخص في الأسرة أو في القبيلة كان معروف بكرم أو شهامة أو شجاعة أو علم؛ فيُسمِّي الناس أبناءهم وأحفادهم على اسم الشَّخص، أو بالنَّسبة إليه فيُقال: يا أخا تميم، أو يا أخا قحطان، أو أخا عدنان، وهذ من باب التَّنوُّع.
وقيل: لقد كان عندهم رجل في ذلك الوقت اسمه هارون، وكان عابدًا قانتًا، فشبهوها به.
ومن الأفهام الخاطئة: أنَّ البعض يظن أنَّ "طه ويس" من أسماء الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والسبب في ذلك الضَّمير، فلاحظ قوله تعالى: ï´؟طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىï´¾ [طه: 1، 2]، وقوله: ï´؟يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَï´¾ [يس 1 - 3]، فيظنُّ بعض القرَّاء أنَّ المراد بالضَّمير هو النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والصَّحيح أنَّ "طه ويس" شأنها شأن الحروف المقطَّعة "حم، ق، ص، كهيعص".
وكذلك من الأفهام الخاطئة: في قصَّة الرجل الذي عمل عنده موسى -عليه السلام- والد المرأتين، في قوله: ï´؟قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِï´¾ [القصص: 27]، يظنُّ بعضهم أنَّ هذا الرَّجل هو شعيب.
ويقول بعض المفسرين في سياق آيات الأعراف أنَّ بين شعيب -عليه السَّلام- وبين موسى -عليه السَّلام- حقبة زمنيَّة، لمَّا ذكر الله أخبار الأنبياء ثم ذكر شعيبًا قال: ï´؟ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَىï´¾ [الأعراف: 103]، تشعر من السِّياق القرآني أنَّ هناكَ حُقبَة زمنيَّة بينَ الأنبياء السَّابقين وبينَ موسى.
والعجب أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في كتاب "الجواب الصحيح"، يقول: "باتِّفاق علماء المسلمين واليهود والنَّصارى أنَّ هذا الرجل ليس شعيبًا -عليه السلام".
ومن الأفهام الخاطئة: في مطلع سورة يوسف في قوله تعالى: ï´؟نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِï´¾ [يوسف: 3]، فيظنُّ البعض من سياق الآية أنَّ قصَّة يوسف أحسن قصَّةٍ في القرآن، وهذا ليس بصحيح كما يقول أهل العلم، بل إنَّ الآية لها محملان، وذكر ذلك أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "جواب أهل العلم والإيمان فيما أخبر به رسول رب الرحمن أنَّ ï´؟قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌï´¾ تعدل ثلث القرآن"، وهو كتاب مطبوع في تفسير سورة الإخلاص، يقول فيه: "إنَّ معنى أحسنَ القَصص: أنَّ قَصص القرآن هو أحسن القصص على الإطلاق، أو أن قصَّة يوسف في بابها هي أحسنُ قصَّةٍ".
فلو قال قائل: ما أحسن قصَّة في ظلم الإخوة؟
نقول: قصَّة يوسف.
ولو قيل: ما أحسن قصَّة في ابتلاء المرأة وفتنة النساء؟
نقول: قصَّة يوسف.
ولو قيل: ما أحسن قصَّة في ابتلاء الرجل بوالده ودعوته إلى دينه؟
نقول: قصة إبراهيم عليه السلام.
ولو قيل: ما أحسن قصَّة في البلاء البدني والصبر؟
نقول: قصَّة أيوب.
إذن؛ قصَّة أحسن قصَّة فيما يتعلق بحسد الإخوة وكيد النِّساء.
والوجه الآخر: أنَّ القَصص في القرآن هو أحسن القَصص على الإطلاق.
وهناك أيضًا مفاهيم خاطئة أخرى: مثل ما يفهمه بعض الناس من قوله: ï´؟يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْï´¾ [المائدة: 105]، كأنَّه يقول: أنت إذا أطعتَ ربَّك فلا تهتم بالآخرين، فالصِّديق أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أعلم الأمَّة بعد الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيَّنَ أنَّ هذه الآية في عهده يفهمها الناس خطأ، والمراد بها: إذا رأى الناس منكرًا يُغيِّروه، فأنت إذا أنعم الله عليك بالخير ورأيت مَن خالف هذا النَّهج عليك بدعوته بالتي هي أحسن.
وذكر ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" جملةً من هذه الأفهام الخاطئة.
إذن؛ سبب هذه الأخطاء في الأفهام هو التَّعالُم والتَّسرُّع، ومتى ما استقرَّ في ذهن الإنسان فهمًا يظنُّ أنَّه الصَّواب ولا صواب غيره.

{يذكر بعض أهل العلم ضوابط عند القرآن الكريم، لو ذكرتم بعضها أحسن الله إليكم}.
كتبتُ بعضَ النِّقاط من خلال ما سمعتُ وقرأتُ من لطائفٍ لأهلِ العلم، هذه النِّقاط تجمع المتفرق، منها:
- كل ما جاء في القرآن من ï´؟وَمَا أَدْرَاكَï´¾ فقد أخبره الله بجوابه، مثل قوله: ï´؟وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌï´¾ [القارعة: 9، 10]، ï´؟الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُï´¾ [الحاقة 1-4]، وقوله: ï´؟وما أدراك ما يوم الدين. تملكï´¾ [الإنفطار: 17].
- أما قول ï´؟وَمَا يُدْرِيكَï´¾ فقد اخفى الله جوابه، قال تعالى: ï´؟وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌï´¾ [الشورى: 17]، ï´؟وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىï´¾ [عبس: 3].
وأظن أنَّ هذا القول عن سفيان بن عيينه -رحمه الله تعالى.
- إذا جاء التفسير عن الله -جَلَّ وَعَلَا- يعني تفسير القرآن بالقرآن، أو جاء عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُحتج إلى كتب أهل العلم.
مثل قوله في سورة مريم: ï´؟قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّاï´¾ [مريم: 24]، قرأت في بعض التفاسير من قول بعضهم أنه ملك، وجاء الحديث الصحيح قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السريُّ النَّهر» ، فهنا لا نحتاج إلى بحث آخر.
- وفيما ذكر الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في "أضواء البيان": كل الاستفهامات التي جاءت في خطاب المشركين فيما يتعلَّق بتوحيد الربوبيَّة إنَّما هو لإظهار التَّناقض، يعني أنها استفهامات تقريريَّة يُراد بها: أنَّكم إذا كنتم مُقرِّينَ بالرُّبوبيَّة فيلزمكم الإقرار بالألوهيَّة.
ولهذا قالوا: من التَّناقض أنَّ كفَّار الجاهليَّة أقرُّوا بالرُّبوبيَّة وأنكروا الألوهيَّة، ومن لازم الرُّبوبيَّة الألوهيَّة، فإذا أقرَّ أنَّ الله الذي خلق السَّماوات وأنزل المطر وأنبت الزَّرع ويُحيي الموتى؛ فمن لازم هذا أن يكون هو المستحق للعبادة، وبعضهم يضيف الأسماء والصِّفات، ومن لازم ذلك أن تكون أسماؤه لا تليق إلَّا به، وصفاته لا تليق إلَّا به، فأنواع التَّوحيد الثَّلاثة متلازمة لازمة.
- إذا جاءت الآية عامَّة لا تقصرها على معنًى واحد، مثل قوله تعالى: ï´؟رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةًï´¾ [البقرة: 201]، لو قال قائل: الحسنة هي الزَّوجة الصَّالحة، وقال آخر: الحسنة هي الدَّار الواسعة، وقال آخر: المال الحلال، وقال آخر: الحسنة الذُّريَّة الطَّيبة. فلا تصوِّب واحدًا وتُخطِّئ الآخر؛ فكل ما يشمل هذا يدخل تحت مظلَّته، ولا تقصر كلمة أو آية على مفردات معيَّنةٍ.
- إذا جاءت مفردتان مترادفتان؛ فالأولى تعطي معنًى خلاف الثاني، قال تعالى: ï´؟يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًاï´¾ [النساء: 71]، قالوا: الثُّبات هو التَّفرُّق، أي: متفرقين. وعكسه: التَّجمُّع. ومثل قوله: ï´؟فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًاï´¾ [البقرة: 239]، إمَّا أن تكونوا على أرجلكم أو تكونوا راكبين الدَّواب.

{هل من طريقةٍ تُعين على فهم الآيات؟}
قد يكون لكل إنسان طريقة، لكن دوَّنتُ قديمًا طريقةً وأحسبُ أنَّ فيها نفعًا:
أولًا: الدُّعاء، أن يدعو الإنسان ربَّه، ويجتهد في الدُّعاء أن ييسر له ما تعسَّر، والله -جَلَّ وَعَلَا- إذا قَبِل الدُّعاء قرَّبَ ما كان بعيدًا، وجمع ما كان تفرِّقًا، ويسَّرَ ما كان عسيرًا.
ثانيًا: أن يكون معه قلم وأوراق، ومصحف يقرأ فيه.
ثالثًا: أنصح مَن أراد أن يستفيد أن يبدأ بفهم تفسير ما يحفظه، فشخص يحفظ جزء عمَّ فلا يبدأ بتفسير البقرة وآل عمران، بل يبدأ بما يحفظ، لأنَّه سيكون أكثر رسوخًا في ذهنه.
رابعًا: إذا قرأ السورة يبدأ باللفظ الغريب، مثل قوله تعالى: ï´؟قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَï´¾ [الفلق 1- 3]، فاللفظ الغريب هنا "غاسق، وقب". وفي قوله تعالى: ï´؟قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُï´¾ [الصمد 1، 2]، اللفظ الغريب هو "الصمد"، وفي قوله تعالى: ï´؟فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِï´¾ [التكوير: 15]، فاللظ الغريب "الخنس، الكنَّس".
يُحاول من يحفظ هذه الآية أن يكتبها، ثم يُحاول بما أعطاه الله من المسميات التي يعرفها أن ينحتَ الذِّهنَ، وهذا يسمونه "التعلُّم بالقوَّة"، ومن سبله طرح السؤال، فأنت إذا أعطيتَ الناس معلومة أخذوها، ولكن لو قلتها في صيغة سؤال أو لُغز: ما تقولون في كذا وكذا؟ فكل واحد يبدأ ينحت ذهنه.
فيُقال لهذا الشَّخص: حاول تعرف معنى "غاسق، وقب"، اكتب أيَّ معنى، فأنت لست في مقام فُتيا؛ بل أنت في مقام تحريك الذِّهن.
فتبدأ تأخذ الآية الأولى في السورة، وتكتب ما تستفيده منها من فوائد عقدية مثلًا أنَّ العبد ضعيف لأنَّه مستعيذ، والله تعالى هو القوي لأنَّه هو المُستعَاذُ به، وأنَّ العبد فقيرٌ لأنَّه محتاج، وأنَّ الله غنيٌّ لأنَّه يُحتاجُ إليه.
فإذا انتهيت من هذا الأمر فارجع إلى التفاسير، وأنا أنصح نفسي والإخوان بتفسير ابن السعدي كمرحلة أولى، ثم تفسير ابن كثير كمرحلة ثانية، ثم تفسير القرطبي؛ وينظر هل الألفاظ الغريبة التي كتبها لها معانٍ توافق ما ذكره أهل العلم سواء في التفسير أو في الغريب، فإن كانت موافقة فليحمد الله على الصَّواب، وإن كانت مخالفة فليحمد الله أنَّ الله بصَّره بالصَّواب.
ثم ينظر إلى الفوائد التي كتبها، هل ذكرها المفسرون أولا، فإذا خطَّؤوها ألغاها، وإن ذكروها حمد الله، وزاد ما ذكر المفسرون على ما ذكر.
كل هذا مع تزكية العلم، فزكاة المال ربع العشر، وزكاة الزَّرع يوم حصاده؛ وزكاة العلم العمل به ونشره بينَ النَّاس والصبر على ذلك.
هذا فيما يظهر، ولعلَّها -إن شاء الله- تنفع قائلها وسامعها وشاهدها ومَن بلغ.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج ومنِّي أنا محدِّثكم عبد الله بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-10-27, 21:51   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

التفسير
الدَّرسُ الثاني (2)
فضيلة الشيخ/ د. عبد العزيز بن محمد السدحان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السدحان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله وبيَّاكَ، وحيَّا الله المشاهدين والمستمعين وبيَّاهم.
{تكلَّمنا في الحلقة الماضية مع فضيلتكم عن بعضِ المقدِّمات في علومِ القرآن، لو راجعنا فضيلة الشيخ على بعض المسائل..
ما الفرق بين القرآن وغيره من الكتب السَّابقة؟}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم وباركَ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
تكرار العلم وإعادته من باب التَّرسيخ، ولهذا يكون العلم إمَّا تأكيدًا لمعلومٍ أو أن يكون تأسيسًا لمجهول، والمراجعة هي التَّأكيد للمعلوم السابق وتزيد من رسوخه في ذهن المتكلم وفي ذهن السامعين.
وذكر أهل العلم فروقًا بين القُرآن الكريم والكتب السابقة، وهذه الفروق في بعضها عليه مأخذ لأهل العلم، ولكن من أشهرها:
الفرق الأوَّل: أنَّ القرآن الكريم مُعجزٌ في نظمه وتلاوته، بخلاف الكتب السَّابقة.
الفرق الثَّاني: ذكره بعض المفسرين عند قوله تعالى في سورة الفرقان: ï´؟وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةًï´¾ [الفرقان: 32]، فقالوا: إنَّ الكتب السَّابقة كانت تنزل جملة واحدة، بينما القرآن الكريم نزل مُنجَّمًا مُفرَّقًا.
الفرق الثَّالث: أنَّ القرآنَ الكريم محفوظٌ كما ذكر الله تعالى: ï´؟إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَï´¾ [الحجر: 9]، فقد تكفل الله تعالى بحفظه، أما الكتب السَّابقة فقد وُكِلَت إلى علمائهم، قال تعالى: ï´؟بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَï´¾ [المائدة: 44]، ولهذا تعرَّضت الكتب الأخرى للتَّبديلِ والتَّحريفِ والتَّقديمِ والتَّأخيرِ.

{من المسائل المهمَّة التي ينبغي مُراجعتها -أحسن الله إليكم: ما الفرق بين القرآن والحديث القدسي؟}.
الحديث القدسي هو ما يُصدَّر بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قال الله تعالى، أو يقول الله تعالى، أو فيما يرويه عليه الصلاة والسلام عن ربه تبارك وتعالى".
والفرق بين الأحاديث القدسية والقرآن الكريم:
أولًا: أنَّ القرآن الكريم مُتواترٌ مِن أوله لآخره، بينما الأخبار القدسية فيها الصَّحيح وفيها الضَّعيف وفيها الموضوع.
ثانيًا: القرآن الكريم مُتعبَّد بتلاوته، بمعنى أنَّه لو جاء شخص وقال: أنا سأقرأ في الصَّلاة بحديث قدسي بعدَ الفاتحة؛ لأنَّه كلام الله. فيُقال له: لا، المتعبَّد بتلاوته هو القرآن الكريم.
ثالثًا: القرآن الكريم معجِزٌ في نظمه وسياقه، بخلاف الحديث القدسي.
{لو حدثتمونا فضيلة الشَّيخ عن الفرق بين السُّور المكيَّة والسُّور المدينة}.
سأذكر علامات السُّور المكيَّة، ويُفهم منها بعض علامات السُّور المدنية:
- كل سورة فيها كلمة "كلا" فهي مكيَّة، فيضبط السامع والمشاهد اشتراك الكلمتين في حرف الكاف "ك- مكي، ك -كلا".
وفائدة هنا تُضاف إلى هذا المبحث: أنَّ كلمة "كلا" مذكورة في النِّصف الأخير من القرآن الكريم، فمن سورة الفاتحة إلى منتصف الكهف ليس فيها كلمة "كلا".
ولهذا قال الناظم:
وما نزلت "كلا" بيثرب فاعلمن ** ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى
إذن؛ كل سورة فيها كلمة "كلا" فهي مكيَّة.
- كل سورة فيها سجدة فهي مكيَّة.
- كل سورة مفتتحة بحروف مقطَّعة فهي مكيَّة، باستثناء البقرة وآل عمران.
- كل سورةٍ فيها قصَّة آدم وإبليس فهي مكيَّة، باستثناء سورة البقرة.
وذكروا علامات للسُّور المدنيَّة وهي:
- التي فيها الحديث عن النِّفاق، وعلامات المنافقين، لأنَّ النِّفاق كانَ في المدينة.
- التي فيها الحدود الشَّرعيَّة وأحكام الفرائض، فكانت كلها في المدينة بعدما استقرَّ الأمر.

{في هذه الحلقة سنتحدَّث -بإذن الله عن علامات الرُّسل وما يتعلق بهذا.
لو ذكرتم لنا تعريف ومعنى كلمة "الرسل والأنبياء"}.
لأهل العلم كلام في كتب اللغة وفي كتب علوم القرآن، أذكر -حسب علمي القاصر- أنهم قالوا: إنَّ النبي مأخوذٌ من النَّبوة، وهي المكان المرتفع، لعلو مكانته.
وقيل: مأخوذ من النَّبأ الذي يُخبر، قال تعالى: ï´؟عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِï´¾ [النبأ: 1، 2]
وهناك تعاريف كثيرة، ولكن هذا بعض منها.

{أحسن الله لكم شيخنا؛ هل يتفاضل الرسل -عليهم الصلاة والسلام؟}.
تفاضل الرُّسل جاء في سورة البقرة في قوله تعالى: ï´؟تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍï´¾ [البقرة: 253].
وهنا أفيد نفسي وإيَّاكم مسألة، وهي: التَّفاضل في الأزمنة والأمكنة والأشخاص التَّفاضل الشَّرعي مردُّه إلى الشَّرع، وذكروا في كتب العقيدة هذه المسألة؛ لأنَّ من مفاتيح أبواب البدع الخلل في هذه المسألة، فيُقال: تفاضل الرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام- بعدما يُقرَّر بأنَّهم صفوة خلق الله، وهم المصطفين الأخيار، والأنبياء والرُّسل هم أفضل البشر قاطبة، كما قال -جَلَّ وَعَلَا: ï´؟اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌï´¾ [الحج: 75].
والاصطفاء هو الاختيار والاجتباء، إلى آخره.
قال أهل العلم: الأنبياء يتفاضلون، والصَّحابة يتفاضلون، والقرآن الكريم بعضه يفضل على بعض من حيث الأجر، فآية الكرسي أفضل من غيرها، وقراءة الإخلاص أفضل من غيرها.
وبما أنَّ الحديث عن تفاضل الرسل؛ فقد جاءت الآية في سورة البقرة في قوله -جَلَّ وَعَلَا: ï´؟تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍï´¾ [البقرة: 253]، والآية صريحة الدلالة في تفضيل الرُّسل، فهم في الذروة العليا من الفضل، لكنَّهم في فضلهم ومكانتهم يتفاضلون، فأفضلهم -كما قال أهل العلم- أولو العزم، وأفضل أولو العزم محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{أحسن الله إليكم، حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُفَضِّلوني على يُونُس بن مَتَّى» }.
ذكر أهل العلم الجمع بين ما ظاهره التَّعارض، فقالوا في هذا المقام: إنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال هذا الحديث قبل عِلمه بأنَّه أفضل الرُّسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام.
وقيل: إنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال ذلك من باب التَّواضع، وأنَّه هو أفضل الرسل -عليهم الصلاة والسلام..
وقيل: إذا كان المقام مقام تعصُّب وغضوبة فلا ينبغي التَّفضيل حتى لا يُقدَح في أحدٍ من المفضَّلين أو من المفضَّل عليهم.
{أحسن الله إليكم.
لو ذكرتم لنا بعضًا من خصائص الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام}.
ليس كل ما سمي "خاصًّا بالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسلَّم به؛ لأن بعض أهل العلم يتحفَّظ وله ملحوظات ونظر واعتراض على بعض الخصائص، وألَّفَ السُّيوطي كتابًا سماه "الخصائص الكبرى"، لكن لم يُسلَّم له -رَحِمَهُ اللهُ- بكل ما فيه.
ومما أعرفُ مِن خصائصِ الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام:
أولًا: أنَّهم يُوحَى إليهم دونَ غيرهم.
ثانيًا: يُخيَّرون عند الموتِ، يختار البقاء أو يختار الموت، فاختاروا جميعًا الموت.
ثالثًا: أنَّهم -عليهم الصَّلاة والسَّلام- يُدفنون في المكان الذي ماتوا فيه، ولهذا لما اختلف الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- في دفن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال بعض الأنصار: يُدفَن في المدينة، وقال بعض المهاجرين يُدفَن في مكَّة موطن آبائه وأجداده، فجاء الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقال: سمعتُه يقول: «إنَّه لم يُدْفَنْ نَبيٌّ قَطُّ إلَّا حيثُ قُبِضَ» .
رابعًا: أنَّهم لا يتركون ميراثًا، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» .
خامسًا: أنَّهم أحياء في قبورهم يُصلون، وهذه حياة برزخيَّة الله أعلم بها.
سادسًا: أنَّ الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجسادهم.
{أحيانًا يُشكل إذا قيل أنَّ الأنبياء أحياء في قبورهم، فهل معنى هذا أنها حقيقيَّة؟ لأنَّ الناس أيضًا أحياء في قبورهم، فما الفرق؟}.
الناس يُبعثون من القبور حينما يأذن الله بذلك، أمَّا الأنبياء فلهم استثناء -وجاء في بعض الأخبار الشهداء- ولهم حياة برزخيَّة، وجاء النص النبوي: «الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ» . كيف ذلك؟ وهل هي على ظاهر اللفظ أم أنَّ هناك أمور لا نعلمها؟
الله أعلم! ولكن جاء النَّصُّ هكذا «الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ» -عليهم الصلاة والسلام.
والقاعدة في الأمور الغيبية هذه أن يؤخَذ بالنَّص ويُنظر في كلام أهل العلم من أهل السنَّة والجماعة ويُكتفى بذلك.

{لو ذكرتم لنا بعض خصائص نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}.
من خصائص الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي تفرَّدَ بها عن الأنبياء واجتمعت في حديث: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغَنَائِمُ، وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ» .

{أحسن الله إليكم.
هل صيغة "عليهم السلام" خاصَّة بالأنبياء دون غيرهم؟}.
يذكر أهل العلم أنَّها خاصَّة على الدَّوام بالأنبياء والملائكة -عليهم الصلاة والسلام- ولا مانع من أن تُطلَق على غيرهم أحيانًا، ومن ذلك قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما رأى صدقةً أتى بها أحد الناس إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يقسمها على الفقراء، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صدقة من هذه؟»، قالوا: صدقة ابن أبي أوفى. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ علَى آلِ أبِي أوْفَى» .
وأذكر أني سألت شيخي الوالد الكريم عبد الله بن محمد بن حميد -رَحِمَهُ اللهُ- هذا السؤال نفسه، فقال -رَحِمَهُ اللهُ: "نعم، كما لو قيل: اللهم صلِّ على أخينا عبد العزيز السَّدحان"، وهذه لا أنساها منه -رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
والصلاة هنا بمعنى الدعاء، وجاء في الحديث: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُجِبْ، فإنْ كانَ صَائِمًا، فَلْيُصَلِّ» ، والصلاة يُطلب بها ذكرهم في الملأ الأعلى الذكر الحسن.
{بعضهم إذا جاء ذكر علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: "علي عليه السلام" أو "فاطمة عليها السلام". فما الحكمها؟}.
الشيعة يذكرون في علي صيغ ثلاث:
 الأولى: "عن علي عليه السلام".
 الثانية: "عن علي كرم الله وجهه".
 الثالثة: "عن علي الإمام"، فيقولون: من خطب أبي بكر الصديق...، من خطب عمر...، من خطب عثمان...، من خطب الإمام علي...
هذه الأوصاف الثلاثة لا ينبغي أن يُخصّ بها علي، فالصِّديق وعمر وعثمان أفضل الصحابة، فلا يُخص أحد إلا بوصفٍ خصَّه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- به، ولو كان علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يسمع هذا لأبى أن يُقال في حقِّه ما لم يُقَل في الشيخين وعثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم جميعًا.
{هل يوجد في النساء نبيَّة؟}.
في سورة يوسف آية فيها الحجيَّة وقطع النِّزاع في ذلك، قال تعالى: ï´؟وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَï´¾ [يوسف: 109].
هذه الآية قاطعة بأن جميع الرسل من الرجال، وزاد بعضهم تعليلًا فقال:
أولًا: من حكمة الله تعالى من عدم إرسال نساء أنَّ نفوس الرجال تأنف من اتِّباع المرأة، ولذلك جاء في الحديث: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ ولَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأَةً» .
ثانيًا: أنَّ النساء لديهن ما يضعف أبدانهنَّ من العذر الشرعي والنفاس وما شاكله.
ثالثًا: أنَّ النساء أكثر نسيانًا من الرجال، ولهذا خصَّ الله النُّبوَّة للرجال.
{يذكر كثير من المفسرين أخبارًا عن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فهل جميع ما يُذكر صحيح؟}.
كتب التفسير متنوعة، فبعض المفسرين يذكر أخبارًا ويسوقها سردًا دون أن يعرِّجَ على بيان الصحيح من الضعيف، فيغتر القارئ ويأخذ كل ما يقرأ ويسمع، وبعض المفسرين يخلي تفسيره من هذه الأخبار، وبعضهم يقيد بعضها وينقضها، فكتب التفسير مليئة، ولهذا أفرد بعضهم مصنفات خاصَّة في الأكاذيب والموضوعات في كتب التَّفسير، وأذكر في هذا المقام كتاب للشيخ محمد محمد أبو شهبة، سمى كتابه: "الإسرائليات والموضوعات في كتب التفسير"، والحقيقة أن هذا الكتاب مليء بالفوائد، ومن ميزة هذا الكتاب أنه يورد الوجه الضعيف والمكذوب والمنكر، ثم يُبيِّن علَّته، وفي المقابل يأتي بالوجه الصحيح، فهو يذكر الروايات الباطلة، ثم يذكر بطلانها سواء البطلان في إسنادها أو متنها، ثم يورد الصحيح، وبهذا يستفيد طالب العلم أو القارئ أو السامع استفادة كاملة، عرف أنَّ هذا الخبر باطل، وعرف سبب بطلانه، وعرف الصحيح من ذلك.
والأخبار في هذا كثيرة، وقد أحضرت معي بعض الأخبار أو بعض ما قرأتُ من باب إفادة السَّامع والمشاهد.
قال تعالى في سورة البقرة: ï´؟فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُï´¾ [البقرة: 37]، ذكر بعض المفسرين حديثًا أنَّ آدم -عليه السلام قال: "أسألك بحق محمد"، فقال الله -وهو أعلم: وما أدراك ما محمد؟ فقال: يا ربي رفعتُ رأسي وجدتُّ اسمه مكتوبًا على العرش.
هذا أورده بعض المفسرين وقال: إنَّ هذه هي الكلمات "بحق محمد..." التي سأل آدم ربه بها، فتاب الله تعالى عليه.
وهذا الحديث -كما يقول أهل العلم- ضعيف، بل أوصله بعضهم إلى البطلان، وقالوا: لا يصح؛ لأنَّ في إسناده مجاهيل، وخصوا في إسناده رجلًا اسمه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال عنه البخاري: منكر الحديث، وإذا قال البخاري في الرجل: "منكر الحديث" فلا تحل الرِّواية عنه.
وهنا فائدة في مصطلح الحديث: كلمة "منكر الحديث" يذكرها جمع كثير من المحدثين، كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي..، ولكن تختلف اصطلاحاتهم في إطلاقها، قد يكون فيه قاسم مشترك لضعف، ولكن عند بعضهم ضعف نسبي، وبعضهم ضعف كبير، فإذا قال الإمام أحمد "منكر الحديث" يعني يتفرَّد عن أقرانه أو قليل الرِّواية.
الشَّاهد: إذا قالها البخاري فهي مُهلكةٌ للرجل.
والصحيح أنَّ الكلمات التي تلقاها آدم من ربه هي ما جاء في الآية: ï´؟قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَï´¾ [الأعراف: 23]، هذه هي الكلمات التي تلقاها آدم -عليه السلام- وأما ما قيل من كونه رأى اسم محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكل هذا من الأباطيل والمنكرات والغلو في مقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
آية أخرى في سورة البقرة: ï´؟وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَï´¾ [البقرة: 102].
هذه الآية جاء في تفسيرها في بعض الكتب أخبار، كما قال ابن حزم في موضع آخر: "بطلانها يغني عن إبطالها، وسقوطها يغني عن إسقاطها، ونكارتها تغني عن إنكارها".
ذكروا أنَّ الملائكة قالوا لله -والله تعالى أعلم- كما في الرواية: يا ربنا خلقتَ هؤلاء لعبادتك فعصوك، وكفروا بك وأشركوا معك، وارتكبوا ما حرَّمتَ، وتركوا ما أحللتَ"، ولم يعتذروا لهم، فأخبرهم الله أنَّه ركَّبَ فيهم الشَّهوة وأنه...، وأنَّه...، فكأن الملائكة -كما تقول الرواية- نقضوهم ولم يعذروهم ودخلهم العجب، فطلب الله منهم أن يختاروا ملكين اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، ورُكِّبَت الشَّهوة، فلما نزلوا إلى الأرض رأوا امرأة فاتنة الجمال فوقعت في نفسيهما، فجاهدوا نفسهما، ثم لمَّا لم يستطيعوا فرجعت لهما مرة أخرى، ولما أرادوها وقالت لهما: حتى تكونان على ديني، فأبوا ذلك.
وبعد حينٍ رجعت، فلما فأرادوها قالت: إمَّا الخمر أو الرجوع عن الدين. فاختارا الخمر، فشربا الخمر، فوقعا على المرأة وفعلا الفاحشة، ثم مرَّ رجل فخشيا الفضيحة فقتلاه، فلما أفاقا علما خطيئتهما، فخيَّرهما الله بين عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقالا: عذاب الدنيا ينقطع أما الآخرة فدائم، فاختارا عذاب الدنيا، فهما الآن مُعلَّقانِ في باب من أرجلهما.
هذه القصة ذكرها بعض المفسرين، وهذا كلام ساقط لا قيمةَ له؛ بل حتى قال العراقي شيخ ابن حجر -عليهما رحمة الله: "من قال إنَّ هاروت وماروت ملكان يُعذَّبان لخطيئتهما؛ فهو كافر مرتدٌّ"، فالملائكة معصومون، لقول الله تعالى: ï´؟لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْï´¾ [التحريم: 6].
أما الخبــــــــر الصحيح:
في عهد النبي سليمان -عليه السلام- أشاعوا أنَّ ما يأتي سليمان من الأخبار ليس من الوحي، ولكنَّه من السَّحرة، يعلِّمونه أخبار الرجل بالغيب ويُملون عليه الأقاويل، ويُملي هو عليهم، فأنزل الله ملكين يعلمان الناس الفرق بين السِّحر وبين النُّبوَّة حتى لا يقع لَبس، وليس هذا مشاعًا لكل أحدٍ إلَّا مَن كان قادرًا على التَّمييز، فإذا أتاهم الشخص فيقولان له: إنَّما نحن فتنة فلا تكفر.
فتنة: يعني محلَّ بلاء، ونحن فتنة نعلم الناس الفرق بين السحر وبين الوحي، وليس كل أحدٍ قادر على التَّمييز، ولهذا جاء في الحديث: «مَن سَمِعَ بالدَّجَّالِ فليَنْأَ عَنْهُ» ، فليس كل الناس يستطيع أن يُحاجج، فإنَّ الرجل يأتيه ويريد أن يُحاجَّه فلا يستطيع.
الشاهد: بطلان خبر أنَّ هاروت وماروت فعلا الفاحشة وشربا الخمر وقتلا النفس المعصومة؛ وكل هذا كلام لا قيمةَ له ولا زمام له وخطام.
وفي سورة الأعراف قوله تعالى: ï´؟هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَï´¾ [الأعراف: 189، 190].
ذكر بعض أهل العلم من المفسرين عند هذه الآية: أنَّ حواء كلَّما جاءها مولدٌ ماتَ، فطاف بهما الشيطان -هي وآدم- وقال لهما: سمياه عبد الحارث -والحارث من أسماء الشيطان كما في بعض الأخبار- فسمياه عبد الحارث فعاشَ، فعاتبهما الله بهذا.
هذا الحديث من رواية الحسن بن سمُرَةٍ، وقد ذكر أهل العلم أنَّ التَّحقيق الصَّحيح: أنَّ هذا الحديث لا يصح، وهذا لأمور:
أولًا: لأنَّ آدم -عليه السلام- في خبر الشفاعة الطويل لَمَّا ذكر خطيئته ذكر الأكل من الشَّجرة، ولو كان هذا الأمر -طاعة الشيطان والتَّعرُّض للشرك معاذ الله- لذكَرَه، وهو أكبر من الأكل من الشَّجرة.
ثانيًا: الحسن البصري راوي الحديث سُئل عن الآية ففسَّرها بغير تفسير الحديث، ولو كان الخبر ثابتًا عنده لَمَا عدلَ عن الحديث.
وذكر بعض اهل العلم أنَّ الآيتين ï´؟هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَï´¾ متصلتان لفظًا مختلفتان في المعنى.
فالآية الأولى: خاصَّة بالأبوين أنهما مخلوقان من نفس واحدة، وآخر الآية التي تفيد بوقوع الشِّرك إنَّما هو من ذريَّة آدم -عليه السلام.
بمعنى أنَّ عصمة الأنبياء تكون من الوقوع في الشرك، وأن الخبر باطل سندًا ومتنًا، وأنَّ الإمام الحسن البصري من أئمة أهل العلم والحديث، ومع ذلك لم يفسر الآية بما روى من الحديث، ولو كان الخبر ثابتًا عنده لَمَا عدلَ عنه، وكما قلتُ لكَ آنفًا: إنَّ آدمَ لَمَّا ذكر خطيئته في خبر الشفاعة ما ذكر إلَّا أنَّه أكلَ من الشَّجرة، ولو كان هذا الخبر قد وقع منه لذكره؛ لأنَّه أعظم خطيئة من أكله من الشَّجرة، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{ما الباعث على مثل هذه القصص التي تُذكَر في كتب التفسير أو كتب المواعظ؟ ولماذا يوردها أهل العلم في كتبهم؟}.
قد يكون المصنف جاهلًا في علم الحديث، ليس عنده بضاعة كافية بحيث يحذر من الضعيف والموضوع، فهو كما يُقال: "حاطب ليل"، وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض التفاسير فذكر أنَّ بعضهم يُورد ما هبَّ ودبَّ كحاطب الليل.
وبعض المفسرين قد يكون قلَّدَ أحدًا قبله فنقل من كتاب تفسير آخر، وقد يرى هذا المقلَّد من أئمة مذهبه أو قد يكون درسَ عليه؛ فأخذَ ما نقله.
وقلت لك: إنَّ بعضهم يتعمَّد ذكر هذه الروايات من باب التَّحذير، وقد يُحتاج إلى هذا العلم إذا عمَّت البلوى بانتشار أخبار مكذوبة، فأنت تستبق الأحداث وتقول: "وأيضًا من الأخبار المكذوبة كذا وكذا..." فيما لو وصلت لهم أو قرؤوها أو سمعوها يكون عندهم رصيد علمي بأنَّ هذا الخبر مكذوب.
ولهذا يحسُن إذا كان الخبر مكذوبًا أو يورَد الصَّحيح؛ لأنَّ معرفة كون الخبر باطلًا ومكذوبًا يكفي، ولكن يزيد في ردِّه وإبطاله أن تعطي السَّامع -أو السائل- الخبر الصَّحيح.
نمثل بمثالٍ قريبٍ: هناك على ألسنة الناس أحاديث شائعة يروونها ويتواردون على ذكرها، ولعلَّ السبب أنَّ بعضها موجود في كتب الوعظ؛ ولأنَّ بعض الوُعَّاظ او بعض كتَّاب الصَّحافة يذكرها من باب أنها حديث، لكنه لا يعلم الصِّحة من الضعف، حتى أنَّ بعض الأمثال الشَّعبيَّة تُروَى على أنَّها حديث.
تجد الواحد يقول: يخلق من الشَّبه تسعة وثلاثين.
فيُصَحَّح له ويُقال: يخلق من الشبه أربعين؛ حتى لا يُحرِّف في الحديث!
وهذا ليس حديثًا، وهذا وجدته بعد البحث في كتب الأمثال الشَّعبيَّة، فقد يخلق الله على صورة الشخص شخصًا واحدًا، وقد لا يُخلق على صورة الشخص أحد، الله أعلم!
ومثل ما اشتُهر على بعض الألسنة: السَّاكت عن الحق شيطان أخرس.
والعجيب لَمَّا كنَّا صغارًا وحتى الآن بعض الناس تقول له جزء من الحديث الضعيف؛ فيُكمله، لكنه لا يعرف الصحيح.
مثل قولهم: "الفتنة نائمة لعن الله مَن أيقظها، أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار، لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، اطلبوا العلم ولو في الصين، أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين"، وهذه كلها لا تصح، وفي الصَّحيح ما يغني عنها، وقيدَّ الله أئمة في الحديث من المتقدمين ومن المعاصرين ومن آخرهم العلامة الألباني -رَحِمَهُ اللهُ- في كتبه السلسلة الضعيفة، وضعيف الجامع، وكذلك سمتحة الشيخ ابن باز؛ فهؤلاء بيَّنوا أنَّ هذه الأحاديث وبيَّنوا عللها، وهناك -والحمد لله- مصنَّفات الضعيف وما يقوم مقامه من الصَّحيح.
{هل هناك أحاديث ضعيفة لها معنًى صحيح مثل: "أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار"، أم أنَّ هذا في باب معي؟}.
نُفرِّق بين فضائل الأعمال وبينَ الأحكام، وذكروا أنَّ الإمام أحمد قال: "إذا روينا الأحكام شدَّدنا". وقال ابن المبارك -رَحِمَهُ اللهُ: "في صحيح الحديث ما يُغني عن سقيمه".
لو وجدت مئات الأحاديث الضعيفة والموضوعة؛ ستجد في كتاب الله وفي الصحيح من السُّنة -سواء كان لصحيح لذاته أو لغيره أو حسن لذاته أو لغيره- من الأحاديث والفضائل والأجور العظيمة ما يُغطي الضعيف أضاعفًا مضاعفَة، ولكن دَرَج الناس على الضعيف.
ونلاحظ في الأعوام الأخيرة -والحمد لله- صار فيه كثير يسأل ويتقبَّل، يعني: إذا قلت له هذا الحديث ضعيف؛ تجده يستغفر الله، وتجنَّبَ ذكر وحَذِرَ منه وحذَّرَ غيره.
وأقوال دائما: ينبغي التنبيه والتحذير في المراحل الأوليَّة للصغار من هذه الأحاديث؛ لأنَّهم يتلقَّفونَ هذه الأحاديث وينشؤون على ذكرها، ولا يتساهل الأب أو المعلم، بل يقول: يا أبنائي هذا حديث لا يصح عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويحذرهم من مغبَّة الكذب عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والكلام بلا علم، ويبيِّن لهم الصحيح.
ومن اللطائف أن أخبرني الأفاضل أنَّه وهو صغير ذكر له الأستاذ حديث «الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الأمَّهَات»، والحديث ورد بلفظ «الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ» ، وطبعَا ردَّ بعضهم هذا الحديث وضعَّفه، وقال ابن تيمية: ليس له إسناد ثابت بهذا اللفظ.
يقول: كنتُ في الثانية ابتدائي، فالمدرس قال حديث «الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الأمَّهَات»؛ فدخلت على والدتي بعدَ المدرسة فأتيت أرفع قدمها، فقالت: خير إن شاء الله. فقلت: أرى الجنَّة يا أمي!
فالمدرس لَمَّا تركَ الحديث على ظاهره ألبَسَ على الطُّلَّاب.
وأذكرُ أنني كنت أقرأ مرةً حديثًا على بعض الناس، وسبب الحديث أنَّ الصحابة كانوا في غزوة الأوطاس وسبوا جوارٍ، فالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهاهم أن يطؤوا الجواري حتى تستبرئ الجاري بحيضة ويبرأ الرَّحم، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» ، يعني لا يُعاشر الجارية حتى تبرأ.
فسمع بعضهم هذا الحديث فقال كيف ذلك، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمر بإكرام الجار، وهذا يقول لا؟! فهو فهم الحديث على ظاهره!
فينبغي لطالب العلم أنَّه إذا ذكر شيئًا موهمًا وبخاصَّة عند العامَّة أن لا يُفارق المجلس حتى يُبيِّن، وكما ذكرتُ لكم في الحلقة الماضي الرجل الذي صلَّى خلفي لما قرأت سورة يوسف، في قوله تعالى: ï´؟فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْï´¾، فقال لي بعد الصلاة: ما مصير أخي يوسف "نكتل"؟ فظنَّ أنَّ الفعل اسم!
فينبغي على طالب العلم أن يحرص بيان الضَّعيف وضعفه.
{جزاكم الله خيرًا.
شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-10-27, 21:52   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

التفسير
الدَّرسُ الثالث (3)
فضيلة الشيخ/ د. عبد العزيز بن محمد السدحان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/عبد العزيز بن محمد السدحان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله وبياكم يا أبا عزَّام، وحيَّا الله المشاهدين والمستمعين.
كلمة "بيَّاكم" تتكرَّر، وربَّما مَن يُشاهد ويسمع قد يَخفى عليه معناها، وأنا أجمعها في كلمة "أبجف":
أ= أضحك.
ب= بوَّأك في الجنَّة منزلًا.
ج = جاءَ بك.
ف= فرَّحك.
فهذه معاني كلمة "بيَّاكَ".
{جزاكم الله خيرًا.
في البداية لو نراجع بعض ما سبق؛ فلو ذكرتم لنا بعض خصائص الأنبياء}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
مراجعة الدَّرس السَّابق قبل الدَّرس اللاحق ممَّا ينفع المستمع بل وحتَّى المتكلم، ولهذا فإنَّ بعض المعلمين الموفَّقين قبل شرح الدَّرس الحالي يسترجع المعلومات السَّابقة ليربط السَّابق باللَّاحق، وهذه الطَّريقة تُعين على ضبط المعلومة وعلى توثُّق المتكلِّم منها، سواء كان ناقلًا أو قائلًا.
تقدَّم في المجلس السَّابق أنَّ للأنبياء -عليهم السَّلام- خصائص دون النَّاس، وهناك خصائص للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دون الأنبياء، فخصائص الأنبياء دون النَّاس:
• الوحي.
• العصمة في التَّبليغ في الرِّسالة التي يحملونها.
• يُخيَّرون عند موتهم، إمَّا الحياة السَّرمديَّة أو قبض الأرواح، وجميعهم -عليهم الصلاة والسَّلام- اختاروا قبض الأرواح.
• يُدفنون في المكان الذي ماتوا فيه.
• لا يتركون ميراثًا خلفهم.
• أنَّ دعوة الأنبياء كلهم واحدة في التَّوحيد، وأما أحكام الفرائض تختلف، لكن الأصل واحد وهو التوحيد، قال تعالى:ï´؟إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُï´¾[آل عمران: 19]، يعني: دين جميع الأنبياء هو توحيد الله -عزَّ وجل.
• مَن كَذَّب نبيًّا واحدًا فهو مُكذِّبٌ بجميع الأنبياء، فلو زعم زاعمٌ أنَّه يؤمن بجميع الأنبياء إلَّا فلان منهم؛ فيُقال له: عدم إيمانك بأحدهم هو عدم إيمان بالجميع، ولهذا قال تعالى:ï´؟كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَï´¾[الشعراء: 105]، فلأنَّهم كذَّبوا نوحًا -عليه السَّلام- فلزم تكذيب دعوته وإنكار التوحيد الذي أتى به أنَّهم منكرون ومكذِّبون لجميع الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام.
{جزاكم الله خيرًا يا شيخنا.
في هذه الحلقة -بإذن الله- سنتحدَّث عن بعض الفوائد من سورة يوسف.
المقطع الأول: قال تعالى:ï´؟الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَï´¾[يوسف 1- 3])}.
تقدَّم في مجلسٍ سابقٍ أنَّ من علامات السُّور المكيَّة أنَّها تُستفتَح بالحروف المقطَّعة، فكل سورة مفتتحة بحروف مقطَّعة فهي مكيَّة باستثناء سورتي البقرة وآل عمران.
قوله تعالى:ï´؟نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِï´¾، يظن كثير ممَّن يقرأ هذه الآية أنَّ قصَّة يوسف هي أحسن قصَّة على الإطلاق، والصَّحيح أنَّ هذا فيه تفصيل:
قال أهل العلم: للآية محملان:
الأوَّل: قوله:ï´؟نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِï´¾، يعني: ما نقصُّه عليك يا محمد في هذا القرآن هو أحسن القصص على الإطلاق.
الثَّاني: أنَّ قصَّة يوسف هي أحسن قصَّة على الإطلاق في موضوعها.
فلو قال قائل: ما أحسنُ قصَّةٍ في كيدِ النِّساء وفي حسَدِ الإخوة؟
لكان الجواب فورًا: قصَّة يوسف.
ولو قال قائل: ما أحسن قصَّة في الابتلاء والصَّبر على المرض والاحتساب؟
فيُقال: قصَّة أيوب، وهلمَّ جرا
فقصَّة يوسف هي أحسن قصَّة في بابها.
وممَّا ذُكر في الآية: قوله:ï´؟وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَï´¾، قد يستشكل بعضهم المعنى؛ فيقل: الغفلة قبل أن يُوحَى إليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كسائر النَّاس، لا يعرف هذا الشَّيء، فلمَّا أكرمه الله واصطفاه بهذه النُّبوَّة أخبره -عز وجل- بالأخبار السَّابقة في الأمم الغابرة حتى نقلها إلينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الصَّادق المصدوق.
{المقطع الثاني: قال تعالى:ï´؟إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَï´¾[يوسف: 4]}.
أوردَ بعض المفسرين روايات في تسمية هذه الكواكب، وأنَّ أسماءها كذا وكذا وكذا؛ وهذا الخبر لا يصح، ولو صحَّ لا يترتَّب عليه فائدة!
وذكر شيخ الإسلام أنَّ بعض المفسرين ينقل أخبارًا أو يُسوِّد صفحاتٍ في أمورٍ لا تنفع القارئ ولا الباحث ولا حتى السامع؛ بل حتى هو نفسه لا تنفعه.
مثَّل بعض أهل العلم لذلك: ما لون كلب أصحاب الكهف؟ هل كان لونه أبيض أو كذا، أو كذا، أو خليطًا من لونين؟ ما نوع العصا التي ضرب بها موسى البحر فانفلق؟ هل هي كذا أو كذا؟ ما نوع الشجرة التي أكل منها آدم؟
لا يترتَّب على العلمِ بهذه الأشياء فائدة؛ بل لو كانَ لها فائدة لنصَّ الشَّرع عليها، فهذه الكواكب التي رآها يوسف -عليه السَّلام- ذكر عددها ولم يذكر أسماءها.
قوله:ï´؟إِنِّي رَأَيْتُï´¾.
مع تقدُّم وسائل التواصل كثُرَ الكلام عن الرؤى والأحلام، وأصبح لها قنوات خاصَّة، وهناك كثير من النَّاس صدَّرَ نفسه للتعبير، وأصبح هذا العمل -للأسف- قد خاضَ فيه مَن يعرف ومَن لا يعرف.
وأقول للفضلاء المشاهدين والمستمعين: ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يحتاج إلى تعبير.
ذكر المصطلح في فتواه -وذكر ذلك غيره: أنَّ ما يراه النَّائم على أقسامٍ ثلاثة:
• الأوَّل: رُؤى، إمَّا أن تكون محذِّرَة أو مبشِّرة.
• الثَّاني: أضغاث أحلام، وهي أن يرى أشياء مُتناقضة، ليس لها زِمَامَ ولا خِطَام، وكما قيل: لا أوَّل لها ولا آخر.
• الثَّالث: حديث النَّفس، وهو أن يرى الإنسان ما نام عليه.
ومثَّلوا لذلك: كأن يكون الإنسان مُصابًا بالحمى فيرى جمرًا وشمسًا أو نارًا، أو يكون مصابًا بالفالج -البرد- فيرى ثلجًا وماءً... إلى آخره، في الغالب تكون هذه تأثيرات نفسيَّة.
إذن؛ الرُّؤيا هي التي تكون مُبشِّرة أو تكون منفِّرة، وأن تخلو من التَّناقضات ومن الأمور التي ليس لها زمام ولا خطام، وألَّا يرى ما نام عليه، حتى ذكر بعضهم أنَّه إذا قام لا ينساها، فيتذكرها كاملة.
وينبغي لمن رأى الرُّؤيا ألا يقصَّها على كل أحد، فقد جاء في الحديث: «لَا تَقُصُّوا الرُّؤْيَا إِلَّا عَلَى عَالِمٍ، أَوْ نَاصِحٍ» ، قيل: العالم يفسرها لك، والنَّاصح يحثُّك على الخير ويأمرك به، ويحذِّرك من السُّوء والمعاصي، ولكن بعض النَّاس قد يكون جاهلًا فيُعبِّر الرُّؤيا، حتى إن بعضهم يجزم بتعبيره كأنه يوسف بن يعقوب - عليه السَّلام- أو كأنَّه ابن سيرين، فيجزم ويقطع بصحِّةِ تعبيره!
وبعض المعبِّرين -مع الأسف الشَّديد- يبني على الرُّؤيا أحكامًا فيها الشَّك والرِّيبة للرأى، مثلًا يقول لك: هذه الرُّؤيا التي رأيت تعني أنَّ هناك امرأة تحسدك، ثم يتوسَّع في الكلام فيقول: هذه المرأة صفاتها الخلقيَّة كذا وكذا! وقد تطابق هذه الصفة صفة أمه أو أخته؛ فيُوقع الشَّك والرِّيبةَ؛ بل قد يُصرِّح الرَّائي بهذه المرأة، وهذا لا شكَّ أنَّه رمي بهتانٍ، ومع الأسف الشديد -كما بلغني- أنه وقع خلاف وعداء وهجران بسبب تسرع وتهوُّر من بعض المعبِّرين في القطع بأنَّ الرُّؤيا تدلُّ على كذا أو كذا.
وممَّا ينبغي أن يُقال: أنَّ بعض النَّاس إذا أصيبَ بمرضٍ ثم رأى في المنام أنَّ فلانًا أو فلانة؛ فيذهب لبعض المعبِّرين فيقول له: إنَّ هذه هي التي أصابتك، أو يقع في نفسه أنَّ هذا الشخص هو الذي أصابه؛ وقد تكون المرأة التي رآها أو الرجل الذي رآه يحمل بين جنبيه قلبًا فيه من التُّقى والورع ما لو قُسِّمَ على سبعين من الرائي لكفاهم، فنبغي لهذا الإنسان أن يتقي الله، وألَّا يرمي النَّاس بالظنون السيئة والبهتان بمجرَّد أنَّه رأى رؤيا.
ثم هذا الذي رأى المرأة لو ذهب إلى شخصٍ آخر وقال له: إنَّ هذه المرأة تُحبُّك وتدعو لك؛ لتغيَّرت نفسيَّته بمجرد كلام المعبِّر.
فيُقال: إذا رأيتَ رجلًا أو امرأةً لا تبني حُكمًا في اتِّهام المسلمين -أو حتى غير المسلمين- لمجرد أنَّك رأيته في المنام؛ فقد تكون الرُّؤيا تخذيل أو تلبيس من الشَّيطان في سبيل إيقاع العداوة والبغضاء بينك وبين من رأيت.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
هل ينبغي لمن رأى رؤيا أن يسارع لتعبيرها، أو أن يترك الأمر؟}.
يقولون: إن الرُّؤيا تختلف، تارة يتفاءل بها الإنسان فيكون فيها بشارات، وسنشير إلى من ينبغي سؤال في مثل هذا، ولكن بعض النَّاس يُسارع إلى تفسيرها بنفسه، وما عنده حظ من علم التَّعبير، أو يسأل من يُشهر نفسه على وسائل التَّواصل أنَّه يُعبِّر وأنَّه كذا وكذا، والمشكلة أنَّه يجعل تعبير فلانٍ كأنَّه وحيٌ مُنزَّلٌ مُحكَم لا يقبل الخلل ولا النُّقصان ولا الزِّيادة.
ومن السَّنَّة أنَّه إذا رأى ما يكره:
• أن يكتمه ولا يُحدِّث به أحدًا.
• الاستعاذة بالله من الشَّيطان الرَّجيم من شرِّ ما رأى.
• أن يعتقد أنَّها -بإذن الله- لا تضره.
• إذا قام من فراشة تَفِلَ عن يساره ثلاثًا.
• يتوضأ ويُصلِّي ركعتين.
• إذا رجع إلى النَّوم غيَّر جنبه الذي كان عليه.
فهذا في آداب الرُّؤيا المفزعة.
{المقطع الثالث: قال تعالى:ï´؟قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌï´¾[يوسف: 5]}.
هنا نستفيد وصية الآباء للأبناء، فيعقوب -عليه الصَّلاة والسَّلام- جمع في هذه النَّصيحة النُّبوَّة والأبوَّة والمعلِّم ليوسف -عليه السَّلام.
قوله:ï´؟يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْï´¾ هنا نهي.
قوله:ï´؟لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَï´¾؛ لأنَّ هناك مَن يحسُد حتى علىالمنامات، فبعض النَّاس يحسد في اليقظة على نعمة ظاهرة خَلقيَّة أو خُلُقيَّة أو ذُريَّة أو ما شاكلها، ولكن هناك أناس إذا بلغهم أنَّك رأيت في المنام رؤيا أو رُئِيَت فيك رؤيا يحسدك، وهذا من أمراض القلب، فيعقوب -عليه السَّلام- ينصح ليوسف -ولكل أحد- ألا يقصص رؤياه على إخوته، حتى لا يكيدوا له كيدًا، وهذا من فقه يعقوب -عليه السَّلام- وكيف لا وهو من الأنبياء المصطفين.
قال تعالى:ï´؟إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌï´¾، يجتمع في قصِّ الرُّؤيا على مَن يخشى منهم اجتماع كيد العدو الأكبر الشَّيطان والعدو الأصغر وهم الحَسَدة أو مَن يُخشَى من كيدهم على مَن رأى، فيُقال لمن رأى رؤيا طيِّبة: لا تقصَّها على مَن تخشى أو تشعر أن ينافسك أو يغار منك.
وهنا فائدة طيِّبة: إذا علمت من نفسك أنَّ الله أفاء عليك بنعمٍ، أو امرأة أفاء الله عليها بنعمٍ؛ فرُئِيَ فيها رؤيا أو رأت في نفسها رؤيا بوادرها الخير والبشارة، فلا ينبغي أن تُعين الشيطان على تلك الحاسدة؛ لأنَّ هذا ابتلي بالحسد بمرض القلب وضعف الإيمان، فلا تقص الرُّؤيا عليه فتزيد الشيطان عونًا عليه، ولكن اطوِ بساطك -كما يُقال- واكتمها إلَّا عن من تُحب، ولهذا في الحديث:«اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ بِكِتْمَانِهَا، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُود» ، وهذه قاعدة عامَّة، فمن تخشَى من كيده وبطشه فلا تخرج له ما أفاء الله عليك حتى لا تضر نفسك وتضر المسكين هذا فتُعين الشيطان عليه.
ومما يستفيده المتابعين والمشاهدين: ذكر ابن القيم عشرة أسباب في علاج الحسد، ثم قال: "وآخرها أصعبها على النفس إلَّا مَن وفَّقه الله، وهي الدعاء للحاسد بالهداية والتَّوفيق"، فإذا تذكر الإنسان قوله تعالى:ï´؟ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌï´¾[فصلت: 34]، فقوله: "حميم" يعني: زيادة في المحبَّة والحميمية بين مَن كان عدوًا لك.
{ما هو القول الوسط بينَ التَّحديث بالنعمة وبين حديث «اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ بِكِتْمَانِهَا»}.
نقول: ليس هناك تعارض بين آية وآية، أو بينَ حديث وحديث، أو بين آيةٍ وحديث؛ ولكن التَّعارض في ظاهر اللَّفظ، فيُقال: حدِّث بالنِّعَم الظَّاهرة، كأن يكون قد أنعم الله عليه بإمامة مسجد، أو أنعم الله عليه بمحبَّة بين النَّاس، أو أنعم الله عليه بمحبَّة والديه؛ فيقول: الحمد لله أنِّي أبيت وأقوم ووالداي راضين عنِّي، أو أحمد الله -جَلَّ وَعَلَا- أن أكرمني بهذه الإمامة وأعاني على أداء أمانتها، أو رزقه الله نعمة ظاهرة كبيتٍ إمَّا يُوهَب له أو يُهدَى له، أو يُقيِّد الله صفقة تجاريَّة شرعيَّة فيظهر أمره فيتحدَّث بالنِّعَمِ مع شكر الله تعالى عليها.
وهناك نعم لا تكون ظاهرة، فتكون خفيَّة، كحصوله على أرباح مثلًا لا يطلع عليه إلَّا الخاصَّة، فمثل هذا لا ينبغي إخراجه بخاصَّة عندَ مَن يُخشَى عليه أن يتأثَّر إمَّا حزنًا أو كيدًا.
فائدة في سورة النصر:ï´؟إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُï´¾هذه نعمة، ثم قال:ï´؟وَرَأَيْتَ النَّاس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًاï´¾هذه النعمة الثانية، قال:ï´؟فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًاï´¾، يقول قائل: نحن نحمد الله عند النِّعم، لكن ما مناسبة الاستغفار؟
يقول أهل العلم: إذا أنعم الله على العبد بنعمة، فإنَّه يشكر الله تعالى ويستغفره، ومناسبة الشكر معروفة في قوله:ï´؟لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْï´¾[إبراهيم: 7].
وجه الاستغفار بعد الذَّنب: الاستغفار يكون بعد الذَّنب أبدًا، قد يكون العبد من الأتقياء ويقول سيد الاستغفار، لكن الاستغفار بعد النِّعم حتى يشكر الله لتيسير هذه النِّعمة، ويستغفر الله من تقصيره في حق الله مع إكرام الله تعالى له.
{المقطع الرابع: قال تعالى: ï´؟وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَï´¾[يوسف: 24]}.
قوله:ï´؟وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَاï´¾، هَمُّ المرأة معروف وهو الفاحشة.
وذكر أهل العلم أنَّ للهمِّ تفاسير ثلاثة:
القول الأوَّل: وهو تفسير باطل، وقد نقل بعضهم أمورًا يعف اللسان عن إسماعها للحاضرين، فمما ذكروا: أنَّه همَّ بما همَّت به، وهذا كلام باطل بالعقل وبالنَّقل والفطرة.
القول الثَّاني واختاره من المتأخرين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، ومن المتأخرين الرازي وغيره: ليس هناك همٌّ أصلًا، لأنَّ الآية فيها تقديمٌ وتأخيرٌ وتقدير، فهذه الآية مثلما ورد في سورة القصصï´؟وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَاï´¾[القصص: 10]، فمعنى الآية: أصبح فؤاد أم موسى فارغًا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها، فلمَّا ربطنا على قلبها ما أبدت به، وكذلك في سورة يوسف:ï´؟وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِï´¾، قد كاد أن يهمَّ بها ولكن رأى برهان ربِّه، فما هناك همٌّ أصلًا لأنَّه رأى البرهان.
القول الثَّالث: الهمُّ هنا الميل الطَّبيعي، مثل: العطشان عطش شديد وهو صائم في رمضان في حرِّ الهواجر يرى الماء، فبطبيعة النفس أنَّها تتوق إلى الماء عند العطش، لكن الوازع الشَّرعي يمنع؛ بل لا يُمكن أن يشرب الماء لحُرمة الماء، وعدم مرضاة الله على مَن شرب في رمضان.
قالوا: فالهمُّ هو الميل الطبيعي، لكن العصمةوالعناية الإلهيَّة ومقام النُّبوَّة إلى آخره من نفور الفطرة والعقل من يوسف -عليه السَّلام- أبعده الله ونجَّاه كما ذكر في آخر الآية:ï´؟كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَï´¾.
{المقطع الخامس: قال تعالى:ï´؟قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَï´¾[يوسف: 26]}.
هنا بيان أنَّها هي المُراوِدَة، وأنَّها هي التي أرادت السُّوء.
قال تعالى:ï´؟وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَاï´¾ذكر المفسرون في الشاهد" أقوالًا:
• القول الأول: أنَّ الشَّاهد من الملائكة -عليهم السَّلام.
• القول الثاني: أنَّ الشاهد من الجن الصَّالحين.
• القول الثَّالث: الشاهد هو القميص الذي عليه.
• القول الرَّابع: الشَّاهد طفل رضيع في المهد.
• القول الخامس: الشَّاهد هو رجل عاقل.
والآية نفسها ستسقط بعض الأقوال:
الأول: في نفس الآية يقول رب العالمين:ï´؟وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَاï´¾، فالملائكة ليسوا من أهلها؛ فسقط القول الأول، وكذلك الجن ليسوا من أهلها؛ فسقط القول الثَّاني، والقميص كذلك ليس من أهلها؛ فسقط القول الثالث؛ فبقيَ قولان:
• إمَّا أن يكون رضيعًا.
• أو يكون رجلًا عاقلًا.
وجاء في الحديث: «تكلم في المهد أربعة...»، منهم «شاهد يوسف»، لكن هذه الزِّيادة لا تصح.
فيبقى الأصل أنَّ الشَّاهد رجلٌ عاقل، والدَّليل أنَّ هذا الكلام الذي ذكره الله لا يصدر إلا من شخص عاقل حكيم:ï´؟إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَï´¾، وقدَّم احتمال صدقها لمقامها في قصرهاï´؟وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَï´¾، فهذا الكلام لا يقوله إلا شخص حكيم وعاقل؛ لأنَّ القميص إن كان ممزَّق من الأمام فهو الذي هجمها، وإنَّ القميص ممزَّق من خلف فهو الذي فرَّ منها وهي التي هاجمته.
{المقطع السادس: قال تعالى:ï´؟يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ(40)ï´¾[يوسف: 39، 40]}.
يستفاد من هذه الآيات:
- أنَّ مَن كان عنده علم أن يبثَّه في كل مكانٍ، فيوسف -عليه السَّلام- في السجن، وقد أتاه هؤلاء يسألونه عن رؤيا مناميَّة، فقبل تعبير الرؤى علم أنهم على غير التَّوحيد، فبدأ بتعظيم التوحيد في نفوسهم ودعوتهم إلى التَّوحيد.
- أنَّ أعظم ما يبدأ به طالب العلم هو التَّوحيد، وبخاصَّة عند غير المسلمين، ولهذا فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أرسل معاذًا إلى اليمن أخبره عن الأرضيَّة التي سيصل لها، وأخبره عن طبيعة أهلها، فقال له: «يا معاذ إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ كِتَابٍ؛ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُم إِلَيْهِ شَهَادَةُ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» ، فيوسف -عليه السَّلام- مع أنَّه مسجونٌ ومظلوم ويعرف أنَّه مظلوم؛ ومع ذلك ما أهمل دعوة هؤلاء إلى التَّوحيد، ولهذا دائمًا طالب العلم أن يكون مباركًا، قال تعالى:ï´؟وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُï´¾ [مريم: 31]، أي مبارك في كل مكانٍ وفي كل زمانٍ مع كلِّ أنسانٍ على كلِّ شأنٍ؛ فينبغي لطالب العلم إذا دخلَ مكانًا ألَّا يقوم من مكانه إلَّا مفيدًا أو مستفيدًا، في الطَّائرة، في الباخرة، في السَّيَّارة، في المسجد، ولو فائدة في ثواني، فبعض الفوائد لا تستغرق منك إلا دقيقة، فينبغي أو يُوظِّف طالب العلم علمه؛ لأنَّهذا زكاة، فزكاة المال ربع العشر، وزكاة الزرعï´؟وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِï´¾[الأنعام: 141]، وزكاة العلم: العمل به، ودعوة النَّاس إليه، والصبر على بذله، وعدم التَّضجُّر من بذله.
يقول بعض علماء الشَّافعيَّة -عليه رحمة الله: "إذا جلس طالب العلم مع أُناس عامَّة ما يعرفون أنَّه طالب علم؛ فينبغي أن يُبيِّن ذلك لهم"، وليس هذا من الرِّياء والسُّمعة، فقد يكون عندهم أسئلة يحتاجونها في عقيدتهم، أو معاملتهم، أو في عباداتهم، أو في سلوكيَّاتهم؛ ولا يقول "أنا طلب علم اسألوني"! بل يقول: يا إخواني من لديه سؤال يتفضَّل، فهذا له مسوِّغ إذا قصدَ نفع النَّاس، ولكن بعض النَّاس قد يثاقل أن تقول عنده "أنا طالب علم".
تقول على سبيل المثال: يا أيها الأكارم فيه فائدة، إنَّ أحد النَّاس قبل قليل قال: "والنَّبي" والحلف بغير الله لا يجوز، قال-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»، والحلف بالله على قسمين: شرك أصغر، وشرك أكبر، فإذا اعتقدَ أنَّ المحلوف به مساوٍ لله فهذا شرك أكبر.
أو إذا قال أحدهم: يا أخي لو أن فلانًا ما ذهب ما وقع!
تقول: يا إخوان فيه فائدة، كلمة "لو" تنقسم إلى أقسام أربعة:
• يأثم قائلها إذا اعترض على قضاء الله وقدره.
• ويأثم قائلها إذا تمنَّى بها فعل الشَّر، كأن يقول: لو كان عندي مال لطبعتُ كتب بدع.
• ويؤجر قائلها: إذا تمنَّى فعل خير، إذا قال: لو عندي مال لبنيتُ دارًا للأيتام، لبنيتُ مركزًا لغسيل الكُلى للفقراء، لبنيت مركزًا لعلاج أسنان الفقراء.
• لا يؤزَر ولا يُؤجَر: وهذا في الخبر العام، كقولك: يا شيخ عبد الرحمن، بيتي من الطَّريق الفلاني، ولو أتيت من الطريق الآخر تصل؛ فهنا ليس اعتراضًا ولا تمنِّي فعل خير أو فعل شر.
فأنت إذا قلت هذه الفائدة فإنَّ الحاضرين سيستفيدون ويبدؤون يسألون.
{المقطع السابع: قال تعالى:ï´؟وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ(43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ(44)ï´¾[يوسف: 43، 44]}.
تعبير الرُّؤيا نوع من الفتيا، وقوله:ï´؟إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَï´¾، فهم على ما فيه من الكفر تبرؤوا من هذا الأمر فقالو:ï´؟أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَï´¾، فينبغي للمسلم، أو لمن صدَّر نفسه للتعبير -كما يحصل الآن- أن يعرف أن التعبير فتيا، وكما قال الإمام روى مالك وغيره: «الرؤيا الصالحة جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»، فينبغي لمن لا يعرف من نفسه التَّأويل، سواء التَّأويل العام بأن لا يعرف التأويل أبدًا، أو لا يعرف تأويل هذه الرُّؤيا، وبخاصَّة إذا سألك أحد علية القوم، فبعض النَّاس يتسرَّع فيُعبِّر الرُّؤيا، فإذا كنتَ تعلم فعبِّر حسب ما ظهر لك، وإذا كنتَ ما تعرف فتقرَّب إلى الله بقولك "لا أدري". قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعض الأحاديث «مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ أَنَبِيّاً كانَ أَمْ لاَ، وَمَا أَدْرِي ذَا الْقَرْنَيْنِ أَنَبِيّاً كانَ أَمْ لاَ، وَمَا أَدْرِي الحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لأَهْلِهَا أَمْ لاَ» ، وفي البخاري باب "كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يأخذ بالقياس"، فلما سأل اليهود النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الرُّوح سكتَ حتى نزل قوله:ï´؟وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًاï´¾[الإسراء: 85].
فالجزم بالتَّعبير واتِّهام النَّاس في أثناء التَّعبير بأنَّ امرأة فيها كذا أو كذا هي التي وضعت لك السِّحر في مأكولٍ أو مشروبٍ أو ملبوسٍ؛ فهذا كلُّه من التَّخرُّص ومِن رمي التُّهم بالباطل.
{المقطع الثامن:ï´؟وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌï´¾[يوسف: 53]}.
تزكية النفس مذمومة على الإطلاق، ولكن لا مانع من أن يُزكِّي الإنسان نفسه في أحوال، إذا كان يعرف من نفسه القيام بالعمل، قال هنا في سورة يوسف:ï´؟قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌï´¾[يوسف: 55]؛ لأنَّه علم -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّ تولِّي أمر الخزائن سيضيع إلَّا إذا تولَّاها بنفسه لعلمه -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه سيضبط هذا الأمر كمًّا وكيفًا.
قال تعالى:ï´؟وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِï´¾فيها تقسيم للنفس، فقيل إنَّ النُّفوس المذكورة في القرآن على أقسامٍ ثلاثة:
• القسم الأول: في سورة يوسف، وهي النفس الأمَّارة بالسوء.
• القسم الثاني: النَّفس اللَّوامة، كما في سورة القيامة: ï´؟لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِï´¾[القيامة1، 2].
• القسم الثَّالث: النَّفس المطمئنَّة، في سورة الفجر:ï´؟يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُï´¾[الفجر: 27].
وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ النفس واحدة ولها صفات ثلاث، فتارة تكون أمَّارة بالسُّوء، وتارة تكون مطمئنَّة، وتارة تكون لوَّامة.
النَّفس الأمَّارة بالسُّوء: تأمر صاحبها بالشَّر وتنهاها عن الخير.
النَّفس المطمئنَّة: مَن تطمئن بفعل الخير، وتمطئن بترك الشَّر.
النَّفس اللَّوامة: من تلوم صاحبها عند الموت لأنَّه فرَّط، وقيل هي نوعٌ من المطمئنَّة تلوم صاحبها عند فعل الشَّرِّ وتركِ الخيرِ.
{من القائل: "وما أبرئ نفسي"؟}.
قال بعضهم: إنَّ القائل هي المرأة نفسها؛ لأنَّها هي التي بدأت المراودة وهي التي همَّت بالسُّوء، ولمَّا كُشِفَ الأمر وظهر تبرَّأت من ذلك، يعني: أخطأت في ذلك.
{المقطع التاسع:ï´؟فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَï´¾}.
لا ينبغي للإنسان إذا وقع في نفسه معنًى أو تفسير أو جواب أن يقطع بأنَّه هو الصَّواب حتى يسأل، وبخاصَّة في مقام القرآن الكريم أو أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أو الفُتيا.
ومن العجائب أنَّني صليتُ بالنَّاس إمامًا قرأتُ هذه الآية؛ ففوجئت بأحد النَّاس يقول لي: ما مصير أخي يوسف؟
قلت له: بنيامين أو يهوذا؟
قال: لا، أنت قرأت اسم أخ له جديد "نكتل" لأن الآيةï´؟فأرسل معنا أخانا نكتلï´¾، فكلمة "نكتل" جاءت بعد "أخانا" فكأنَّها بدل أو اسم!
والصَّحيح أنَّ "نكتل" من الفعل كَالَ.
وأذكر أنَّ بعضهم قد يقع في نفسه معانٍ أو تفاسير.
مثل في قوله-جَلَّ وَعَلَا:ï´؟وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌï´¾[الشعراء: 148]، ذكر بعضهم لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رَحِمَهُ اللهُ: أنَّ "هضيم" يعني يُعين على هضم الطَّعام!
قال الشيخ: لا، "هضيم" معني ليِّن، يُقال هضَمَ الجدار، أو هَضَمَ السُّور، أو هَضَمَ البيت.
ومن المحاذير ما سمعت من قول أحدهم في قوله:ï´؟قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْï´¾[هود: 78]، كيف يقول لهم لوط -عليه السَّلام: هؤلاء بناتي!
فهذا وقع في نفسه الأمر الآخر من هذا العرض، وهذا فهمٌ سقيمٌ؛ فقد يقع في نفس الإنسان فهم فيظن أنَّه مراد الآية.
والصَّحيح ما ذكره أهل العلم: فيقوله:ï´؟هَؤُلَاءِ بَنَاتِيï´¾قولان:
القول الأول:أي: تزوجوهنَّ زواجًا شرعيًّا، واتركوا الفاحشة المحرَّمة، فهؤلاء بناتي من صلبي.
القول الثاني: أنَّ بنات القرية كلهنَّ بناته؛ لأنَّه في مقام الوالد، وفي بعض القراءات ï´؟وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وهُوَ أًبٌ لَهُمï´¾، وإن كانت قراءة شاذَّة.
والشَّاهد: قولهمï´؟قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّï´¾[هود: 79]، قيل: البنات الصُّلب، أو مَن تكون أنت وليًّا عليهم.
فبعض النَّاس يقع في نفسه معنًى محذور خاطئ شرعًّا ومنكرَة عقلًا ونقلًا وفطرةً، وأحيانًا يُدلي بها.
وأذكر في سورة الحجر في قوله تعالى:ï´؟وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُï´¾[الحجر97- 99]، بعضهم إذا قرأ هذه الآية يسجد لقولهï´؟وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَï´¾، ولكن هذا ليس له دليل.
وقرأتُ على سماحة الشيخ ابن باز قولًا في هذا المعنى فقال: "ليس هذا موضع سجود"، ومواضع السُّجود واضحة في القرآن الكريم، وفي المصاحف تجد مواضع السجود عليها علامات سجود.
{المقطع العاشر:ï´؟وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَï´¾[يوسف: 67]}.
يعقوب -عليه الصَّلاة والسَّلام- حثَّ أولاده وأمرهم بعدم الدُّخول من باب واحدٍ؛ لأنَّ عددهم كثير، وعلى خلق حسنٍ، فخشيَ عليهم من إصابتهم بالعين، ولمَّا أمرهم بهذا كان من باب فعل السَّبب، وفعل الأسباب لا يُنافي التَّوكُّل، ويرى بعضهم يرى أنَّ فعل الأسباب يُنافي التَّوكُّل، وهذا من الجهل، بل قال بعضهم إنَّ فعل الأسباب الشَّرعية من التَّوكل، ولهذا جاء في سورة مريم امرأة ضعيفة، وولادتها لم تكن، وهذه الولادة ستغيِّر مجرى التَّاريخ، وسيفترق النَّاس بعدها، ومع هذا التَّعب البدني والنَّفسي قال الله لها:ï´؟وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّاï´¾[مريم: 25]، وما أجمل ما قال الناظم:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمٍ ** وَهُزِّي إِلَيْكِ الجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَبْ
وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ مِنْ غَيْرِ هَزَّةٍ ** جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ
وأنبه أنَّ بعض النَّاس يظن أنَّ هذه آية "وجعلنا لكل شيءٍ سبب"؛ بل هو شطر بيت شعر، أمَّا آية الكهف:ï´؟فَأَتْبَعَ سَبَبًاï´¾[الكهف: 85].
فيعقوب-عليه الصَّلاة والسَّلام- أمر بنيه بالدُّخول من أبواب متفرِّقة، ثمَّ بيَّن أنَّها نصيحة، ومع ذاك لا يغني عنهم من الله شيئًا، يعني أنَّ هذه نصيحة منِّي قدَّمته لكم فخذوا بها.
قال تعالى:ï´؟إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِï´¾، يعني كل شيءٍ بتقدير الله وبتدبير أمره، فالقاعدة العقديَّة الشَّرعيَّة أنَّ فعل الأسباب لا يُنافي التَّوكُّل، ولهذا لمَّا رأى عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الحج أناسًا فيهم نوع من الضعف البدني ورثِّ الهيئة، فقال: مَن هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء المتوكِّلون، لا يحملون زادًا، فإذا وصلوا سألوا النَّاس. فقال: هؤلاء الأكَّالون وليسوا بالمتوكِّلين.
وأعظم النَّاس توكُّلًا الأنبياء-عليهم الصَّلاة والسَّلام- فكان داود حدَّادَا، وكان زكريَّا نجَّارًا، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَعَثَ اللَّه نَبِيًّا إِلا رَعَى الْغَنَمَ» .
{المقطع الحادي عشر:ï´؟قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)ï´¾}.
اجتمعت على يعقوب-عليه الصَّلاة والسَّلام- مصيبة يوسف، ثم فقد أخيه بعده، ومع ذلك قام مقام الأولياء في شكوى بثه وحزنه إلى الله، ونستفيد من هذا أنَّ الإنسان إذا بلغت مصيبته أن يشكو لله تعالى، فبعض النَّاس إذا أصيب بمصيبةٍ ذهب إلى زيد وعمرو وإلى قريبه وجاره ليبثأحزانه وأشجانه، وهذا لا مانع منه؛ ولكنه لا يرفع أكفَّ الضَّراعة إلى الله، ولا يُناجي الله تعالى، وكان الأولى له أن يرفع أكفَّ الضَّراع ويشكو بثَّ حزنه إلى الله، فالله تعالى أرحم بك من أمِّك وأبيك، ومن أختك وأخيك، ومن صاحبتك وبنيك؛ وفي الحديث: «للَّهُ أَرْحَمُ بِعِبادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» .
فالإنسان يشكو بثَّه وحزنَه إلى الله ويكون صادقًا في ذلك، قال تعالىï´؟أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُï´¾[النمل: 62]، والله تعالى يُحبُّ الإلحاح من عبده.
بعض النَّاس إذا أصابهم مرض ذهب إلى الراقي أو إلى الطَّبيب، فإذا قيل له إنَّ الرَّاقي غيرُ موجودٍ أصابه إحباطٌ كأنَّ العَافية في يد هذا الرَّاقي، وإذا قيل له إنَّ الطَّبيب غيرُ موجودٍ أصابه إحباطٌ وفزعٌ كأنَّ الموت بين يديه لمَّا ذهب الطَّبيب، وهذا من ضعف الإيمان؛ بل من نقص العقل والدِّين، لأنَّ هؤلاء أسباب، فاشكُ بثَّكَ وحزنكَ إلى الله، وأحسِن الظَّنَّ بالله، وافعل الأسباب ترى من الله تعالى ما يطمئن قلبك ويشرح صدرك ويُقرُّ عينك.
{بعض المفسرين ذكر فائدة حول قميص يوسف-عليه الصَّلاة والسَّلام- وذكرتموها، ونختم بها جزاكم الله خيرًا}.
أعجبني قول أحدهم: إنَّ قصَّة يوسف-عليه الصَّلاة والسَّلام- تدور على أقمصةٍ ثلاثة:
الأوَّل:ï´؟وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍï´¾[يوسف: 18] لخداع أبيهم والكذب عليه.
الثَّاني:ï´؟وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍï´¾[يوسف: 25]، وهذا فيه براءة يوسف-عليه الصَّلاة والسَّلام.
الثَّالث:ï´؟اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًاï´¾[يوسف: 93].
وهنا فائدة! أنَّ الغريب إذا ذهبَ إلى بلدٍ وأصابه شيء، يقولون: يُرسَل له تراب من أرضه، فإذا شمَّه يتذكَّر، وقال بعضهم إنَّ له أصل في الشرع «بِسْمِ اللهِ تربَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بإِذْنِ رَبِّنَا» .
وأذكر أنَّ أحد الشُّعراء نشأ في وادي التسرير، فقرأ الشِّعر، والعرب تعرف قيمة الشِّعر المتميِّز، فذهب إلى بلاطة في الخلافة العباسية، وأُعجبوا بشعره، فبعدَ حينٍ وبعدَ أن رأى الخيرات أصابه نوعٌ من الكآبة، فانزوى في بيته، واشتاق وحنَّ إلى بلده، فأرسل إلى الأطباء وأعطوه العقاقير فما نفعت، فقالوا له ما الدَّواء الذي تريد؟
فذكر قصيدة، من ضمنها:
قال الأطباء من يشفيك؟ قلت لهم** دخان رمثٍ من التسرير يشفيني
وقبله ميسون امرأة معاوية-رَحِمَها اللهُ-جاءت من البادية فسكنت في قصور الخلافة، فكانت تقول:
لَبَيتٌ تَخفِقُ الأرياحُ فيه ** أَحَبُّ إليَّ مِن قَصرٍ مُنيفِ
ولُبسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عيني ** أَحَبُّ إليَّ مِن لبسِ الشُفوفِ
فهذه فائدة عارضة اجتماعية تاريخيَّة.
{شكر الله لكم يا شيخ.
للاستزادة حول ما ذُكر من الرِّوايات كتاب لفضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز السدحان "آراء خاطئة وروايات باطلة في سير الأنبياء والمرسلين" عليهم الصَّلاة والسَّلام.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-10-27, 21:53   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

التفسير
الدَّرسُ الرابع (4)
فضيلة الشيخ/ د. عبد العزيز بن محمد السدحان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السَّدحان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حيَّاكَ الله، وحيَّا الله المشاهدين والمستمعين.
{في هذه الحلقة -بإذن الله- سنأخذ فوائد من الجزء الثاني من سورة يوسف، إتمامًا لِمَا أخذناه في الحلقة الماضية.
ولعلنا نبدأ بالمقطع الأول: ï´؟قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَï´¾}.
الآية الكريمة فيها من الفوائد:
- أنَّ التَّرفيهَ والتَّنفيسَ عن النُّفوسِ ممَّا جاءت به الشَّرائع، شريطةَ أن يكونَ هذا التَّرفيهُ والتَّسليةُ منوطةٌ بالآدابِ الشَّرعيةِ، فالأنبياء -عليهم السَّلام- أعلم الناس بأحكام الشَّرع، وأتقَى الناس لله، ولمَّا طلبَ إخوة يوسف من أبيهم أن يُرسل يوسف معهم من باب أن يرتعون ويلعبون ما أنكر عليهم الرَّتَعَ ولا اللَّعبَ، وإنَّما خشيَ أن يغفُلوا عن أخيهم فيأكله الذِّئب، وكأنَّ هذا من يعقوب -عَلَيْهِ السَّلام- تحذير لهم لِمَا يعلم من غيرتهم وأنَّهم قد يحتالون على أخيهم بحيلةٍ، فأقرَّهم على أن يرتعوا ويلعبوا، وهم يعلمون أنَّ هذا الرَّتع واللَّعب منوطٌ بالآداب الشَّرعيَّة، وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد سابق بين الخيل مضمَّرة، وسابق عائشة، كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَبَادَحُونَ بِالْبِطِّيخِ ، وكما ذكر بعض أهل العلم أنَّ عمر -رضي الله عنه- كان في سفرٍ فمرَّ بغدير ماء فقال لمن معه: تعالَ أباقيك أيُّا أطول نفسًا في الماء.
فالشَّاهد: أنَّ الإسلام دين السَّماحة ودين الرَّحمة، وفيه من التَّرفيه واللَّهو واللَّعب ما هو في الإطار الشَّرعي.
المقطع الثَّاني: ï´؟وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَï´¾.
قوله: ï´؟وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍï´¾، هناك مثل شائع معناه صحيح يقول: إذا أتاكَ أحدُ الخصمين وهو يحمل في يده عينه فلا تقضِ له، فربما يأتي الخصم الآخر وهو يحمل العينين.
لمَّا أتى الأبناء وهم يبكون؛ كانت هناك ثلاث قرائن للتَّعاطف معهم:
ïپ¶ القميص الملطَّخ بالدَّم.
ïپ¶ البكاء.
ïپ¶ إجماع كلمتهم على أنَّ هذا الأمر من فعل الذِّئب.
فيعقوب -عَلَيْهِ السَّلام- أخذَ بالظَّاهر، لكن لم تأخذه العاطفة على أن يقضي لهم بالحقِّ، وأنَّ ما قالوه هو الصَّواب، ولكن قال: ï´؟وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَï´¾.
ونستفيد من هذا: ألَّا يتسرَّع الإنسان في التَّعاطُف مع مَن ظاهره أنَّه متَّهم إلَّا بالبحث واستقصاء القرائن، وخاصَّة إذا كان في مجال القضاء، أو في مجال الإصلاح بينَ النَّاس.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
بعضهم يقول: إنَّ يعقوب -عَلَيْهِ السَّلام- حكمَ بعدمِ صدقهم؛ لأنَّه رأى القميص غير ممزَّق}.
هذا ذكره بعضهم، وهذا الذي كشف أوراقهم -كما يُقال- أنَّ العادة إذا هاجم ذئبٌ أحدًا لابدَّ بَدَهيًّا وقطعيًّا أنَّ القميص إمَّا أن يتمزَّق، أو يكون فيه آثار شقوق من هجوم الذِّئب، وذكر بعضهم أنَّهم عُميَت أبصارهم عن تمزيق القميص حتى يكون أحد أدلَّة كذبهم.
المقطع الثَّالث: ï´؟قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌï´¾.
ذكر أهل العلم أنَّ الله برَّأَ يوسف -عَلَيْهِ السَّلام- بستِّ شهادات:
الشَّهادة الأولى: في قوله تعالى: ï´؟وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَï´¾، هذه براءة له، فقد دعا ربَّه وهو في مقام الطُّهر والعفاف؛ فنجَّاه الله.
الشَّهادة الثَّانية: قول المرأة: ï´؟أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَï´¾.
الشَّهادة الثَّالثة: قول الشَّاهد: ï´؟وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَï´¾.
الشَّهادة الرَّابعة: ï´؟يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَï´¾.
الشَّهادة الخامسة: قول النسوة: ï´؟مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍï´¾.
الشَّهادة السَّادسة: وهي أعظمها، فقد يؤخَّر الشَّيء للتَّعظيم والتَّفخيم، وهي شهادة رب العالمين، وكفى بالله شهيدًا ï´؟كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَï´¾.
{هل إقرار المرأة لا يعتبر شهادة؟}.
لمَّا قالت: ï´؟أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَï´¾، فأثبتت أنَّها هي المراودة، وفي المقابل أثبتتَ أنَّه من الصَّادقين؛ فلزم أن تكون هي مِن الكاذبين؛ لأنَّها ادَّعت أنَّه هو الذي راودها عن نفسها.
{في المرة الأولى لمَّا جمعَت النسوة وأعتدت لهنَّ متَّكأً وقالت: ï´؟وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَï´¾}.
نعم، هذه شهادةٌ أخرى وتأكيدٌ لما قلناه، فسبحان مَن قيَّد لها فكرة جمع النسوة! وهذا يدل على أنَّ الرَّجل لابدَّ أن يحذر من كيد النِّساء، ويحذر مِن التَّهاون في إيراد الفاحشة، فالذي جاء في القصَّة أنَّ الرجل هو الذي يحذر من كيد المرأة، وهذا فيه معنى حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ» .
المقطع الرَّابع: ï´؟قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَï´¾.
هذه قاعدةٌ في التَّحاكُمِ والتَّخاصُمِ، ويؤكِّدها قوله -جَلَّ وَعَلَا: ï´؟وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىï´¾ [الأنعام: 164]، فمن الظُّلم والإجرام أن يُؤخَذ البريء مكان الجاني المُجرم، أو يؤخَذ البريء مكان المتَّهم -أو المعني بالقضيَّة- فيوسف -عَلَيْهِ السَّلام- مع ما قدَّرَ الله له ويسَّر له من طريقةِ أخذِ أخيه؛ إلَّا أنَّ إخوانه لما طلبوا أن يتركوا أحدًا مكان أخيهم ما تعاطَف معهم، وهذا من وحي الله له، ويُقرأ الآن ويُسمَع أنَّ بعضَ النَّاس يتَّهم فلانًا بمجرَّد أن أخيه اقترفَ جُرمًا، وفلانٌ هذا بريء كبراءة الذئب من دم يوسف!
وأذكر أنَّ الحجَّاج الثقفي- إن صح الخبر عنه- أنَّ أحدَ جنده طلبوا رجلًا قام بجريمة وفرَّ، فأخذوا ابن عمِّه مكانه، فجاء العم للحجاج وقال: ابني بريء وأخذته مكان ابن أخي! فدعا الحجاج رئيس الجند وقال له: ما جنيت بابن هذا الشيخ؟ فقال: فرَّ ابن عمِّه فأخذناه رهينةً حتى يعود، وكما قال الشاعر أيها الأمير:
ولَرُبَّ مَأخُوذٍ بذَنْبِ عَشِيرَةٍ *** ونَجَا المُقَارِفُ صَاحِبُ الذَّنْبِ
فقال الشيخ الكبير والد الرجل البريء: يا حجاج، ألم تسمع قول الله: ï´؟قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَï´¾.
فأمر الحجاج أن يُنادَى أن صَدَقَ الله وكَذَبَ الشَّاعر، وأطلقَ ذلك البريء.
المقطع الخامس: ï´؟قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَï´¾.
بعض النَّاس إذا نزلَت به مُصيبة يشكو بثَّه وحزنه إلى المخلوقين من فلان إلى فلان، ولا مانع أن يتسلَّى بالجلوسِ معهم وبالاستئناسِ بحديثِهم، وأن يؤنِّسوه بذكرِ النُّصوصِ والأمثالِ والقَصَصِ التي في عاقبتها الفرج والتَّفاؤل، إنَّما الإشكال أن يجعل كلَّ أوقاته في بثِّ الأحزان والتَّشكِّي إلى زيد وإلى عمرو، فقد تكون المشكلة صغيرة، فتشتكي إلى زيد وإلى عمرو فتعظم المشكلة لعدم وود حل بأيديهم، فإذا كانت المشكلة كبيرة فاشْكُ قبل كل شيءٍ إلى الخالق -جَلَّ وَعَلَا.
لا مانعَ من الاستئناسِ بآراء النَّاس، ولهذا بعضُ النَّاس الآن إذا أتى ليسترقي عند الرَّاقي فأُخبر أنَّ الرَّاقي مُسافر أو ترك الرُّقية، يُصاب المريض بنوع من الخذلان والإحباط والتَّشاؤم كأن الشِّفاء والعافية بيد الراقي، وهذا من ضعف الإيمان!
ولهذا يُقال دائمًا للمُصاب: إذا أصابتك مصيبةٌ فاشْكُ بثَّكَ وحُزنَكَ إلى الله، وعليك بالأمور الشَّرعيَّة، وهي أدعية تفريج الكروبات، فكتب الأذكار مليئةٌ بهذا، ولا مانع أن تستأنس بالنَّاس، كأن تزور فلاًنا من النَّاس؛ لأنَّ بعض النَّاس ترى الجلوس معه فيه أنس وراحة نفسيَّة وبدنيَّة.
قال ابن قيم -رَحِمَهُ اللهُ: "كانت تأتيني بعض الهموم، فآتي شيخ الإسلام، فتنجلي عنَّا"، يعني يُذكرهم بالنُّصوص والتَّفاؤل، ويحذرهم من التَّشاؤم، إلى آخره...
قوله تعالى: ï´؟وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِï´¾، اليأس من مفاتيح الشَّيطان للتَّخاذُلِ والتَّشاؤمِ، وقد تتَّسع الدَّائرة حتى يرتكب الكبائر العقديَّة، فكلُّ شيءٍ بيدِ الله، إذا أرادَ شيئًا أن يقول له كن فيكون.
فإذا جاءت المصاب مصيبة؛ فيُوصَى:
ïپ¶ أولًا: بحسن الظَّن بالله تعالى.
ïپ¶ ثانيًا: أنَّ الله أرحم به من أمِّه وأبيه، وأخته وأخيه، وصاحبته وبينه.
ïپ¶ ثالثًا: أن يتذكَّر نعم الله الأخرى التي عليه، قال -جَلَّ وَعَلَا: ï´؟إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌï´¾ [العاديات: 6]، قالوا: إذا أصابته مصيبة عدَّدَ النِّقمَ ونسيَ النِّعم.
ïپ¶ رابعًا: أن يتذكَّرَ مَن هو أعظم مُصابًا منه، فإذا كنتَ قد أُصبت بفقدِ أحد أولادك، فغيرك فقدَ كلَّ أولاده، وإذا أصبت بخسارة ماليَّة في شيء من مالك، فغيرك خسرَ ماله كله.
ïپ¶ خامسًا: أن يتذكَّر أنَّ هذه المصيبة مكتوبةٌ عليه قبل أن يُخلَق، ولن يستطيع أن يُغيِّرها.
ïپ¶ سادسًا: أن يتذكَّر المُصَابُ أنَّ هذه المصيبة ربَّما تكون عاقبتها خيرًا له.
فائدة: بعض النَّاس إذا أصابته مُصيبة يقول أنا قصَّرتُ وفعلتُ!
فنقول: لا تمنَّ على الله، فنِعَمُ الله أعظم من هذا، وإذا نزلت المصيبة بالشَّخص -حسب بحثي وقراءتي القاصرة- لها أبواب ثلاثة:
الباب الأوَّل: أن تكون عقوبة مُعجَّلَة، قال تعالى: ï´؟أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْï´¾ [آل عمران: 165].
الباب الثَّاني: أن تكون المصيبة كفَّارة لذنوب سالفة، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه» .
الباب الثَّالث: وهذا يخفَى على الكثير، حتى أنَّ بعضَ النَّاس لخفاء هذا الباب عنه قد يقول: فلان ما يستحق هذا، فلان طيب وله طاعة وصدقات ونفقات
ونقول: هذا الكلام لا يجوز؛ لأنَّهم حصروا المصيبة في أنَّها عقوبة، فقد تكون المصيبة رفعة للعبد، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى» ، ونرى الآن مسنِّينَ ومُسنِّات لا يفتر لسانهم عن ذكر الله، فلا تسمع إلَّا دعاء أو تلاوة أو كلام طيب، ومع ذلك يبتَلون من مرضٍ إلى مرضٍ؛ فهؤلاء يُتفاءل لهم، وهذه المصائب -بإذن الله- وبحسن ظنٍّ في الله أنَّها رفعة لدرجاتهم في جنات النعيم.
المقطع السادس: ï´؟قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَï´¾.
قوله تعالى: ï´؟قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْï´¾، إذا قابل العبدُ المصيبةَ بتقوى الله والصبر؛ سيرى من الله ما يشرح صدره ويُطمئنُ قلبَه ويُقرُّ عينه.
ومن أعظم تعاريف التَّقوى: أن تعبدَ الله على نورٍ من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معاصي الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
فإذا أصابت العبدَ مصيبةٌ فينبغي أن يكونَ التَّعامل معها حسب الآداب الشَّرعيَّة، لا جزع ولا تسخُّط ولا اعتراض ولا نياحة؛ بل تقوى لله -جَلَّ وَعَلَا- وطاعة وصبر واحتساب، وحسن ظنٍّ بالله، وسيرى العاقبة خيرًا في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: ï´؟قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَï´¾، إذا اعترفَ المخطئ بالخطأ وندم، وظهرت بودار الأسف والحسرة عليه؛ فإنَّ من كمال الأخلاق -وهي أخلاق الأنبياء- عدم الشَّماتة؛ بل قبول العذر، وهذا يخضع للمصالح والمفاسد، ولهذا إذا أخطأ بعض الناس، ثم جاء المُخطئ معتذرًا معترفًا بذنبه، وآثر الله المخطئ عليه؛ فلا ينبغي الشَّماتة، بل كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا» ، أي رفعة حسيَّة ومعنويَّة، فيوسف كان قادرًا على الانتقام، وله حق أن ينتقم، فهم ظلموه وآذوه، وكذبوا على أبيهم، ومع هذا كله لمَّا تحقَّق له الخير والمراد من جمع الشَّمل ما شمَتَ وما عزَّرَ؛ بل صفحَ، وهذا يكون بحسب المصلحة.
المقطع السابع: ï´؟اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَï´¾.
يعقوب -عَلَيْهِ السَّلام- حزنَ على يوسف حتى قدَّر بعض المفسرين المدَّة بين ذهاب يوسف واللُّقيا به قرابة أربعين سنةٍ، ومع هذا كلِّه ما فقدَ الأمل، بل كان محسنًا في ظنِّه بالله -عزَّ وجل- ولمَّا ذهب الابن الثَّاني بنيامين كان لايزال يعقوب معلِّقًا الأمل بالله ولا ينقطع، وأمرهم أن يتحسَّسوا من يوسف وأخيه، وهذا من قُوَّة يقينه بالله رب العالمين، ثم قال: ï´؟وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِï´¾.
الشَّاهد: أنَّ يوسف -عَلَيْهِ السَّلام- أرسلَ قميصه مع أحد، وأمره أن يُلقيه على وجه أبيه حتى يرتدَّ بصيرًا، وهذا بتقدير الله تعالى.
وممَّا يُذكر هنا: أنَّ بعض أهل العلم قالوا في حديث: «بِسْمِ اللهِ تربَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بإِذْنِ رَبِّنَا» ، أن يبل سبَّابته ثم يضعها في الأرض.
وأذكر كلامًا لبعض العلماء ممَّن كتب في الطِّب النَّبوي، يقول: إنَّ التُّربةَ التي نشأَ فيها الإنسان وعاش فيها وشمَّ هواءها يكون لها تأثير على نفسيَّته.
وذكر الجاحظ أنَّ المسافر الذي يتغرَّب عن بلده إذا أصابه نوع من الكآبة؛ تذكَّر بلده أو شمَّ بعضَ ما كان يألفه منها فإنَّ نفسيته تتغيَّر، حتى أنَّ أحدَ النَّاس كان في وادي التَّسرير، وذكر الجغرافيُّونَ أنَّ طوله تقريبًا مائة كيلو، وهو في نجد، وأنَّ شاعرًا قد نشأ فيه، ثم لما عرف أهله أنَّ الشاعر فحل، أخذوه إلى بغداد وأغدقوا عليه، فأصابه نوع كآبة، فانطوى في بيته، فجاءه الأطباء وسألوه ما دواؤك؟
فذكر بيتًا من الشِّعر، فقال:
قَالَ الأَطبِّاءُ مَا يَشْفِيكَ ؟ قُلْتُ لَهم: *** دُخَانُ رَمْثٍ مِنَ التَّسْريِرِ يَشْفِينِي
وميسون امرأة معاوية لما قالت:
لَبَيتٌ تَخفِقُ الأرياحُ فيه ** أَحَبُّ إليَّ مِن قَصرٍ مُنيفِ
ولُبسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عيني ** أَحَبُّ إليَّ مِن لبسِ الشُفوفِ
فهي كانت تعيش في البادية، فجاءت إلى الشَّام في القصور، ومع ذلك تحن إلى بلدها.
وهناك عادة عند بعض النَّاس أنَّهم يحتفظون ببعض الأشياء، يقول بعضهم: إذا شممتُ ثوب الوالدة أرتاح نفسيًّا.
وعلى كلِّ حالٍ؛ فما قدَّره الله ليعقوب -عَلَيْهِ السَّلام- أن يكونَ القميص سببًا في رجوع بصره، وهذا من آيات الله -عز وجل.
ونستفيد من الآية الكريمة: أنَّ الإنسان لا يفقد الأمل بالله البتَّة، حتى ولو خرجت روحه يبقى الأمل معلَّق، وأنَّ العبدَ يُحسن الظَّنَّ بربِّه في كلِ ظرفٍ، في أيسر الظُّروف وفي أحلك الظُّروف، فإحسان الظن مطلوب، وفي الخبر القدسي: «إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلا يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ» .
وكانت عاقبة يوسف ويعقوب وإخوانه عاقبة خير.
المقطع الثَّامن: ï´؟قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُï´¾.
يُستفاد مِن الآية: أنَّ الإنسان إذا أخطأ على أحدٍ من النَّاس وعرف أنَّه أخطأ، وعلم أنَّ الذهاب إلى المخطئ عليه سيطيِّب قلبه، فعليه أن يذهب له وأن يطلبَ منه المسامحة وأن يستغفر له.
وهنا مسألة: بعضُ النَّاس يقول: أنا اغتبتُ فلانًا، وسأذهب إليه لأطلب التَّحلُّل منه.
يرى بعضُ أهلِ العلم أنَّ المغتابَ يذهب إلى الذي اغتابه ويقول له: قلتُ فيكَ كذا، أو اغتبتك؛ فحلِّلني.
ويرى آخرون عدم الذَّهاب، بل الدُّعاء والاستغفار له، وقد ورد في حديث ضعيف الإسناد: «إنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته» ، لكن أخذ بعض أهل العلم أن الاستغفار لمن اغتبته يكفى، فقد تخبر المغتاب بغيبتك له فيُوجد الشيطان العداء بينهما.
وقد يُقال إنَّ فيه تفصيل:
ïپ¶ إذا عُلِمَ أنَّه إذا ذهب لمن اغتباه وطلب التَّحلُّلِ أنَّه سيفرح ويدعو له ويُسر؛ فيذهب له.
ïپ¶ أمَّا لو غلبَ عليه أنَّه سيعاتبه ولا يصفح عنه، وستزداد العداوة؛ فالأولَى الكفُّ.
فيعقوب -عَلَيْهِ السَّلام- لما جاء إليه أبناؤه معتذرين قال لهم: ï´؟سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْï´¾، قال بعض العلماء إنَّ ï´؟سَوْفَï´¾ للاستقبال، وقيل إنه أخَّرَ وقت الاستغفار إلى السَّحر، لأنَّه أدعى للقبول، قال تعالى: ï´؟وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِï´¾ [آل عمران: 17].
المقطع التاسع: ï´؟فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَï´¾.
من أنعم الله عليه بنِعَمٍ عليه ألَّا يتنكَّرَ لمعارفهِ، وأن برَّ الوالدين يزداد مع رُقي ولدهما في الدنيا والآخرة، فيوسف -عَلَيْهِ السَّلام- لمَّا رأى أبويه بعدَ الغياب الطويل كان من إيمانه -عَلَيْهِ السَّلام- وحسن برِّه بوالديه أنَّه رفع أبويه وقدَّر مقامهما، ولم ينسَ فضلهما ولا حقَّهما الشَّرعي.
وبعض الناس إذا ارتفع بمنصبٍ تنكَّرَ لوالديه، فبِرُّ الوالدين يزداد في أحوال:
ïپ¶ عندَ مرضِ أحدهما.
ïپ¶ عندَ سفرِ أحدهما يزداد البِرُّ لمن كان موجودًا.
ïپ¶ عندَ موتِهما، يزداد البِرُّ لمن كان حيًّا.
ïپ¶ وإذا تزوَّج الولد أو تزوَّجت البنت؛ فينبغِي لهما أن يُضاعفا من البرِّ.
ïپ¶ إذا رُزقَ أحد الأبناء بمنصبٍ أو بنِعَمٍ من نِعَمِ الدُّنيا فينبغي أن يزيد من برِّ الوالدين؛ لأنَّ الفضل لهما بعدَ الله تعالى.
المقطع العاشر: ï´؟وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُï´¾.
في الآية فوائد كثيرة، منهـــــا:
- فائدة ذكرها بعض المفسرين في قوله ï´؟وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًاï´¾، قال: إنَّ سجودهم إنَّما كان إنحناءً بالرأس.
ويُقال: كان السُّجود عندهم جائزًا، ولا مانع من ذلك، فقد جاء في الحديث: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» ، ثم نهي عن هذا الأمر بهذا الحديث.
- أنَّ تأويل الرؤيا لا يلزم أن يكون قريبًا، وقد ذكرَ بعضُ المفسِّرين أن بينَ رؤيا يوسف الأحد عشر كوكبًا وبينَ قوله: ï´؟هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَï´¾ قرابة أربعين سنة، فقد تتحقَّق الرُّؤيا بعد فترة كبيرة، وقد تزيد إلى أيَّام أو أسابيعَ أو أشهرٍ أو سنواتٍ.
- قوله: ï´؟وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِï´¾، فهذه أخلاق الكبار، وأكبر الناس هم الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- قدرًا وإيمانًا، فما قال يوسف "أخرجني من الجب" حتى لا يُذكِّر إخوانه بأمرهم، وإنَّما مِن كرمِهِ -عَلَيْهِ السَّلام- وعظيم أخلاقه قال ï´؟وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِï´¾.
- اُنظر إلى أخلاقِ الأنبياء، قال في نفس الآية ï´؟مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيï´¾، فقدَّم نفسه على إخوته في النَّزغِ، والشَّيطان إنَّما نزغَ من جهة إخوانه، فهذه هي أخلاق الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- والله -جَلَّ وَعَلَا- يرزق هذه الأخلاق مَن اتَّقى ودعا ربَّه وأحسن الظَّن بربِّه.
- قوله: ï´؟إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُï´¾، من أسماء الله "اللطيف"، فمن فقه يوسف -عَلَيْهِ السَّلام- أنَّه ذكر الوصف "اللطيف"، وقال بعض المفسرين: من ثمار أسماء الله "اللطيف" أنه يسوق عبدَه إلى مكارهٍ تكون عاقبتها خيرًا عظيمًا يُنسِي ما قبله، ويحصل له من الخيرات والمسرَّات في الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما حصَّل العبد من المكاره.
المقطع الحادي عشر: ï´؟رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَï´¾.
هذه الآية وما قبلها من مُضاعفة برِّ يوسف بأبويه ومن صَفْحِهِ عن إخوانه؛ أقول: على مَن تولَّى منصبًا رفيعًا أن يضع نصبَ عينيه هذه الأخلاق العظيمة:
أولًا: ألَّا يتنكَّر لأصحابه، وبخاصَّة أقرب النَّاس إليه وهم والداه وأهل بيته وقرابته؛ بل عليه أن يُكرمهم، شريطةَ ألَّا يكون إكرامهم على مضرَّة آخرين.
ثانيًا: ألَّا يُوظِّف هذا المنصب في التَّشفِّي والانتقام ومضرَّة الآخرين، فهذا يوسف -عَلَيْهِ السَّلام- مع قوَّته الشَّرعيَّة الدينيَّة والدُّنيويَّة صفحَ عن إخوته، بل جعل الخطأ مشتركًا بينه وبينهم، فلم يتشفَّ.
ثالثًا: أن يكونَ مثالَ خيرٍ فيصفح عمَّن ظَلَمه، ويعفو عمَّن أخطأ عليه بالضَّوابط الشَّرعيَّة.
- على مَن تولَّى منصبًا رفيعًا ألَّا ينسَى شكر الله تعالى والافتقار إليه ï´؟رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِï´¾ فيه افتقار واعتراف بفضل الله عليه، قال ï´؟تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَï´¾. فينبغي أن يكون المنصب عونًا له على طاعة الله، وعلى الافتقار إلى الله، وعلى كثرة دعاء الله تعالى والتَّضرُّع إليه.
ونذكر الأمور الأربعة إجمالًا:
ïپ¶ عدم التَّنكُّرِ لأصحابه ومعارفه؛ بل الزِّيادة في برِّهم بشرطِ ألَّا يضرَّ الآخرين.
ïپ¶ ألَّا يُوظِّفَ المنصِبَ في التَّشفِّي والانتقام.
ïپ¶ أن يعفوَ عمَّن ظلمه بالضَّوابط الشَّرعيَّة إذا كان هناك مصلحة.
ïپ¶ أن يُكثر مِن الافتقار إلى الله ودعاء الله تعالى أن يتوفَّاه مسلمًا، وأن يجعل هذا المنصب عونًا له على الطَّاعة لا عونًا له على المعصية.
المقطع الثَّاني عشر: ï´؟وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَï´¾.
عدم التفكُّر في آيات الله التي يراها الإنسان أو يسمعها قد يكون نوعًا من الإعراض على الخير.
وورد فعل "التَّفكُّر والنَّظر" في مواضع كثيرًا، قال تعالى: ï´؟أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْï´¾ [الغاشية: 17]، وقال: ï´؟قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُواï´¾ [الأنعام: 11]، وقال: ï´؟لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَï´¾ [الأعراف: 176]، وقال: ï´؟لعلكم تتفكرونï´¾ [البقرة: 219].
فالتَّفكُّر في آيات الله تعالى سواء الآيات الكونيَّة -اللَّيل والنِّهار، الكسوف والخسوف- أو الآيات التي يراها في نفسه ï´؟وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَï´¾ [الذاريات: 21]، وقال: ï´؟قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَï´¾ [العنكبوت: 20].
ومن لطائف التَّفكُّر ما ذكره بعض أهل العلم في سورة الغاشية، يقول: إذا خرج الرَّجل من بيته يركب راحلته، وهي في الغالب الإبل، فأمره الله تعالى فقال: ï´؟أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْï´¾ [الغاشية: 17]، هذا الحيوان العجيب! وهذا التركيب العجيب! صنع الله الذي أتقن كلَّ شيء.
فإذا ركب على دابَّته يتفكَّر فيها، ثم إذا كان على بعيره رفع رأسه ورأى السَّماء هذه القبَّة العظيمة، فيتفكَّر فيها ï´؟وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْï´¾ [الغاشية: 18]، فإذا التفتَ يمنةً أو يسرةً يرى الجبال ï´؟وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْï´¾ [الغاشية: 19]، فإذا أدنى برأسه رأى الأرض ï´؟وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْï´¾ [الغاشية: 20] ؛ فيكون عنده تفكُّر في ركوبه، فإن رفع رأسه تفكَّر، وإن التفتَ يمنةً أو يسرةً تفكَّرَ، وإذا نظرَ إلى أسفل دابَّته تفكر في أنَّ الأرض مسطوحة، ولو لم تكن كذلك لَمَا استقامت حياة النَّاس.
كذلك يتفكَّر الإنسان في جوارحه، هذه الأصابع لو كانت الأظافر فيها للباطن لتعطَّلت عشرات الحِكَم، ولو كانت هذه الأصابع ليس فيها التواءات لتعطَّلت عشرات الحِكَم، لو كان الإبهام مكان الخنصر لنعطَّلت عشرات الحِكَم، وهلمَّ جرَّا.
ومن اللَّطائف أنِّي الشيخ إبراهيم بن ناصر السَّياري -وكان زميلًا في الكُليَّة- يقول: "ينبغي أن يعتبر الإنسان من كل ما يراه".
وبفعل! إذا رأى بعض النَّاس سيارة في الشَّارع تجد بعضهم يشتُم السَّائق أنه متهور ومجنون!
والاعتبار من ذلك أن يقول الإنسان: الحمد لله الذي عافاني ممَّا ابتلى به غيري.
لو رأى الإنسان شخصًا يرفع صوته على والديه، فبعض النَّاس يقول هذا فيه كذا وكذا؛ بل احمد الله أن عافاكَ مما ابتلاه به، وحاول أن تُصلح ولا تزيد الفساد بالشَّماتةِ والدُّعاء.
والآن قد يرى الإنسان هذه الطَّائرة الضَّخمة أو السَّفينة الضَّخمة، فإذا كنَّا في الطَّائرة وتحتنا البحر أو المحيط فتعجَّب وتفكَّر.
وقرأتُ في كتاب "الحضارة، الإنسان، المناخ، الكواكب" معلومة، تقول: إنَّ كوكبنا -الأرض- عبارة عند كوكب المشتري عن بيضة عند سلَّة بيض، والمشتري عند الشَّمس عبارة عن بيضة عند سلَّة بيض، والشَّمس عند المجرَّة عبارة عن سلة عند سلة بيض.
المهم؛ هنا يرتد العقل إليك خاسئًا وهو حسير! قال تعالى: ï´؟وما قدروا الله حق قدرهï´¾ [الأنعام: 91]، فالتَّفكُّر في الآيات الكونيَّة -في السَّماء والأرض والجبال- وفي خلق الإنسان يزيد العبد إيمانًا، وجاء في الحديث «تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ» ، والمراد بالآلاء هنا: المخلوقات والنِّعم، ولذا قال تعالى : ï´؟فبأي آلاء ربكما تكذبانï´¾ [الرحمن: 13]، وقال: ï´؟فبأي آلاء ربك تتمارىï´¾ [النجم: 55]، فالآلاء هي نعم الله وآياته.
فالقصد: أنَّ التَّفكُّر في خلق الله يزيد العبد إيمانًا وتعظيمًا لله.
ونذكر مثلًا: اللوح المحفوظ مكتوب فيه كل أعمال الإنسان، الآن لو نظرنا إلى التَّقنية الحديثة، فشريحة صغيرة فيها آلاف الكتب؛ فإذا تعجَّبنا من هذه التَّقنية نقول ï´؟صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍï´¾ [النمل: 88]، فكلما أًعجب الإنسان بشيءٍ أو تعاظمَ شيئًا فليذكر أنَّ هذا الشيء مربوبٌ ومخلوقٌ لله -جَلَّ وَعَلَا.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
ذكرتم التَّفكُّر؛ ما يسمى بـ"التأمُّل" بأن يجلس الإنسان في غرفة ويعمل حركات معيَّنة. فما حكم ذلك؟}.
على حد علمي أنَّ هذه -كما يُقال- دراسات نفسيَّة، ومثل هذه الأمور إذا لم تُخالف نصوص الشَّرع الحكيم، ولم يكن فيها محاذير؛ فلا مانع، لكن سمعتُ مَن له إتقانٌ في هذه الأمور يقول: إنَّ هذا قد يكون نوعٌ من إدخال الوهم، وإدخال التَّعب النَّفسي على الإنسان.
لكن الإنسان إذا أعطاه الله بصرًا فيتفكر فيما يرى، وإذا كان الله أعطاه سمعًا وأخذَ بصرَه فيتفكَّر فيما يسمع بالوصف، فيُقال أن بعض العلم أنَّه كان أعمى، وكان يتمنى أن يرى البعير من مقولة الآية فيه، فأُتي له بناقة وبُرِكَت له، فكان يتلمَّسها ويبكي، فهذا أعمى البصر، ولكن البصيرة متيقِّظَة، وبعض الناس مفتِّح البصر لكنَّه أعمى البصيرة.
فالقصد: أنَّ التَّفكُّر هو أن يرى الإنسان ويتأمل، أمَّا الدُّخول في غرفة مُظلمة وإغلاق الباب فهذا ليس مَعروفًا عن السَّلف ولا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا ينبغي للإنسان أن يتهجَّم أو يقول بالتَّخرُّص في الرَّدِّ على أهل العلم بدون بيِّنة، لأنَّ العاطفة ليست دليلًا، فبعض الناس يقول قرأت في بعض كتب علم النفس كذا وكذا، فيرد آخر أنها باطلة وكذا وكذا! ما الأدلَّة التي تُبطلها؟!
والله -جَلَّ وَعَلَا- يقول: ï´؟وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌï´¾ [الإسراء: 36]، ومن جَهِل شيئًا عاداه! بل اسأل أهل الصَّنعَة والتَّخصُّص، فالإنسان قد يُنكِر أشياءً، فإذا سأل عنها رأى أنَّ لها حظ من الشَّرع، بل أحيانًا يرى أنَّ الشَّرعَ يؤيِّدها.
وأعطيك مثالًا: بعض الناس يقول عن هؤلاء الذين يُخبرون بالكسوف قبل وقوعه: إنهم خرَّاصون، وأنَّ الشَّياطين تُحدِّثهم!
وهذا كلامٌ ساقطٌ لا قيمة له؛ لأنَّ هذا علم، فالشَّمس لها درجات، والقمر له منازل؛ بل إنَّ بعض الصَّحابة -رضي الله عنهم- كان عنده علم بالخسوف قبل وقوعه، وأذكر أنِّي قرأتُ في فتح الباري أنَّ ابن حجر ذكر أثرًا فقال: إنَّ بعض الصَّحابة كان يُخبر بالكسوف قبل وقوعه، فقال له بعضهم: أرجمٌ بالغيب؟ فقال: الغيبُ غيبان:
ïپ¶ غيبٌ استأثر الله بعلمه.
ïپ¶ وغيبٌ أطلعَ الله عليه بعضَ خلقه.
وهذا تقسيمٌ إجمالي، وإلَّا فقد يُقال بالتَّقسيم التَّفصيلي:
ïپ¶ غيبٌ استأثر الله به ï´؟إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌï´¾ [لقمان: 34].
ïپ¶ وغيبٌ أطلع الله عليه بعض رسله: ï´؟عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًاï´¾ [الجن 26، 27].
ïپ¶ وغيبٌ أطلعَ الله عليه بعض خلقه بالدِّراسة، الآن يُخبرون بالكسوف والخسوف قبل وقوعه، وذكر لي بعض علماء الفلك: نستطيع معرفة الكسوف المستقبلي بالدَّرجات، وكذلك الكسوف الماضي.
فلا يُستنكَر ولا يُستغرَب ولا يُشنَّع على مَن كان شأنه ذلك؛ إذ ينبغي سؤال أهل العلم والتَّخصُّص قبل كل شيء.
{ذكرت براءة يوسف -عَلَيْهِ السَّلام- من عدَّة وجوه، لعلكم تذكرونها لنا يا شيخ}.
بعضهم يسميها شهادات وبعضهم يسميها براءات، وهي:
ïپ¶ الأولى: ما ذكره الله -عز وجل- عن يوسف عندما دعا ربَّه ï´؟وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَï´¾
ïپ¶ الثَّانية: شهادة امرأة العزيز بقولها: ï´؟أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَï´¾.
ïپ¶ الثَّالثة: قول النِّسوة: ï´؟مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍï´¾.
ïپ¶ الرَّابعة: قول الشَّاهد: ï´؟وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَï´¾.
ïپ¶ الخامسة: شهادة زوج المرأة ï´؟يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَï´¾.
ïپ¶ السَّادسة: وهي أعظمها وأجلها، وهي شهادة رب العالمين: ï´؟كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَï´¾، ما قال "المخلِصين"، لأنَّ "المُخلَصين" فيه معنى الاصطفاء. والله تعالى أعلم.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.










رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 09:10

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc