شهد العالم منذ بداية القرن العشرين اكبر حركة تحررية في التاريخ وهي تحرير مئات الملايين من البشر من السيطرة الاستعمارية وقامت دول جديدة مستقلة اخذت تطالب بنصيبها في الحياة الدولية وفي المساهمة الفعلية في تقرير مصير العالم وممارسة هذه الدول لحريتها وحقوقها في السيادة وضعتها وجهاً لوجه امام مجموعة من القواعد الدولية التقليدية اشتركت في وضعها الدول الكبرى الاوربية وهدفت بها الى المحافظة على توازن القوى فيما بينها وتحقيق سيطرتها التامة على العلاقات الدولية وتنظيم التنافس على اقتسام المستعمرات وقد ادركت شعوب هذه الدول المستقلة الجديدة انها لا تستطيع ان تحقق ما تهدف اليه من النهوض بالمستويات الاقتصادية ورفع مستويات المعيشة الا اذا استقر السلام في العالم لان قيام الحرب بين الكتلتين حتى لو لم تشترك فيها لابد وان يصيبها بأضرار وخسائر لا يمكن في الواقع تحديد مداها وآثارها وهكذا ظهرت دعوة الحياد الايجابي وعدم الانحياز في المحيط الدولي العالمي والعربي .
والحياة كنظام قانوني مجموعة من القواعد القانونية الدولية التي تنظم العلاقات المتبادلة بين الدول المحاربة والدول غير المشتركة في الحرب ويخول للدول الحق في البقاء بعيداً عن معترك الحرب وهو ما يطلق عليه حق الحياد وأما واجبات الدول المحايدة فهي الامتناع عن الاشتراك في العمليات الحربية وعن التحييز لاحد المتحاربين ومنع الاعتداء على اقاليمها او سيادتها . والحياة الايجابية وعدم الانحياز احدى الصور الجديد للحياد الدائم وبمعنى ان الدول التي تاخذ به تبذل الجهد للتوفيق بين الاطراف المتنازعة وتنتصر لصاحب الحق . ولقد اقتنع بعض قادة الدول ان انقسام العالم الى معسكرين متنافسين لابد وان يؤدي الى قيام حرب نووية تهدد الانسانية والحضارة بالفناء والدمار . ولقد كان عقد مؤتمر الدول الافريقية والاسيوية في باندونغ عام 1955 الفرصة المواتية لهؤلاء القادة للتعبير عن المخاوف التي تساورهم والامال التي تراودهم في اقامة نظام عالمي يسود في ظله السلام والتعاون بين الدول … ولقد ولدت فكرة عقد مؤتمر افراوآسيوي في باندونغ في مؤتمر كولومبو - نيسان سنة 1954وتنفيذاً لهذه الفكرة اجتمع رؤساء ووزراء الدول الخمس المشتركة في مؤتمر كولومبو بمدينة بوجور فيما بين 28-29 كانون الاول 1954 لوضع الترتيبات النهائية للمؤتمر الافروآسيوي الكبير المزمع عقده بمدينة باندونغ وقد تم الاتفاق على خط سير العمل في هذا المؤتمر والذي يتضمن : اولاً : العمل على توطيد التعاون بين الدول الافرواسيوي . ثانياً : بحث مشاكل هذه الدول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية . ثالثاً : بحث قضايا وخاصة السيادة القومية ومكافحة التمييز العنصري . رابعاً : تحديد موقف كل من اسيا وافريقيا تجاه العالم الحديث ومساهمة كل منها في قضية السلام والتعاون الدولي . وقد تم الاتفاق ايضاً على اشتراك الدول في المؤتمر لا يعني الاعتراف ببعض الحكومات التي ستكون موجودة في المؤتمر وسيكون محرماً توجيه النقد الى نظام الحكم او النظام الاجتماعي لاي دولة مشتركة في المؤتمر كما تم الاتفاق على انه ليس في نية المشترك العمل على انشاء كتلة دولية جديدة او وضع اسس لمنظمة دولية جديدة وعلى ضوء هذا المنهج قبلت الدول الاشتراك في هذا المؤتمر . تكون المؤتمر من تسع وعشرين دولة هي الدول الخمس التي اشتركت في مؤتمر كولومبو ومؤتمر بوجور التحضيري وهي بورما - وسيلان - والهند - وباكستان - واربع وعشرون دولة مدعومة : وهي افغانستان- والعربية السعودية - وكمبوديا - الصين - وساحل الذهب (سمي غانا بعد الاستقلال) ومصر - اثيوبيا - والنيبال - والفلبين - تايلند - السودان - سوريا - تركيا - وفيتنام الشمالية - اليمن - ايران - الاردن - ولاس - ولايبريا - اليابان - العراق - لبنان - ليبيا . والدول التي اشتركت في مؤتمر باندونغ لم تتقيد بالارتباطات او التكتلات التي كانت ترتبط بها قبل المؤتمر مثل مجموعة الكومنولت ومجموعة كولومبور - جامعة الدول العربية او حلف بغداد ولكن ساد المؤتمر ثلاثة اتجاهات . اولاً : المناهضون للشيوعية والمؤيديون للانحياز المدافعون عن الكتلة الغربية وفي مقدمتهم الفلبين واليابان وفيتنام الجنوبية ولاوس وتايلند وتركيا وباكستان واثيوبيا ولبنان وليبيا وليبريا والعراق وايران . ثانيا : المؤيدون للشيوعية وهم الصين وفيتنام الشمالية . ثالثاً : الحياديون وفي مقدمتهم افغانستان وبورما واندونيسيا والهند ومصر وسوريا . اما باقي المشتركين في المؤتمر فلم يكن لهم اتجاه خاص ووزعت ميولهم بين المجموعات السابقة حسب القضايا التي نوقشت وحسب الملابسات المحيطة بتلك المناقشات . وقد دافع عن الدول المنحازة للغرب كل من فاضل الجمالي (العراق) وشارل مالك (لبنان) والجنرال رومولد (الفلبين) واستندوا في دفاعهم الى حجتين : اولاً : يجب التفرقة بين الدول الصغيرة والتي اذا شاءت ضمانا لاستقلالها فانه لا مناص لها من ان تتحالف عسكريا وبين الدول الكبيرة مثل الهند التي هي بسبب حجمها الاقليمي ليست في حاجة الى مثل هذا التحالف . ثانياً : ان الدول الصغيرة في هذه المنطقة ستظل في حاجة الى حماية الاحلاف العسكرية اما الفريق الاخر الذي دافع عن مفهوم عدم الانحياز فقد تجلى في موقف نهرو المتشدد الى سياسة عدم الانحياز فقد اوضح في احدى خطبه مدى الاهانة التي تتعرض لها اي دولة افرواسيوية تقبل ان تدور في فلك احد المعسكرين المتناهضين ففي البند الخامس من النقطة العاشرة التي تم الاتفاق عليها ورد اعتراف بسياسة الاحلاف وسياسة الانحياز اذ جاء في هذا البند (( احترام حق كل دولة في الدفاع عن نفسها انفرادياً او جماعياً وفقاً لميثاق الامم المتحدة )) وذلك يعني اباحة الدخول في الاحلاف العسكرية ما دامت الدولة محتاجة اليها . اما النقطة السادسة فيتضمن عكس هذا المعنى اذ جاء فيها ((الامتناع عن استخدام التنظيمات الدفاعية الجماعية لخدمة المصالح الذاتية لدى دولة من الدول الكبرى (وبما ان اية دولة صغيرة كانت او كبيرة لا تدخل في حلف عسكري او تنظيم دفاعي جماعي الا اذا كانت لها مصلحة ذاتية في ذلك فمعنى ذلك عدم اباحة الدخول في الاحلاف العسكرية ومع ما في هاتين النقطتين من تناقض فقد استراح اليهما كل المجتمعين في المؤتمر … ونتيجة لانعقاد مؤتمر باندونغ فيما بين 18و24 نيسان سنة 1955 ظهر ما يسمى بالمجموعة الاسيوية الافريقية والتي سارت على مبادئ تضمنها البيان الرسمي الذي صدر عقب المؤتمر بالاجماع ومن اهم هذه المبادئ تلك التي تتصل بالتعاون الاقتصادي فقد اوصى المؤتمر كل الدول الاعضاء لتحقيق هذا التعاون عن طريق المعونة الفنية لبعضها وانشاء مركز للتدريب الفني ومعاهد للابحاث ومعارض على نمط دولي ومحلي وانشاء مصارف وشركات تأمين قومية واقليمية وانشاء هيئة مالية دولية جديدة لاستثمار رؤوس الاموال - وتوصية البنك الدولي ان يخصص جزءاً اكبر من موارده لتنمية اقتصاديات هذه البلاد . اما التعاون الثقافي فقد اصدر المؤتمر عدة توصيات لتنميته . واما التعاون السياسي فقد صدرت بشأنه عدة توصيات تحت بنود مختلفة من البيان الذي اصدره المؤتمر منها ماهو تحت عنوان (حقوق الانسان) وتقدير المصير )) ومنها ماهو تحت عنوان ((مشكلة الشعوب التابعة )) ومنها ما عنوانه (دعم السلام والتعاون الدولي) فقد اعترف المؤتمر بمبادئ دولية وسجلها في قراراته واتخذها اساساً لتأييد مطالب سياسية معينة لبعض الدول الاسيوية الافريقية اما المبادئ الدولية التي اعترف بها المؤتمر فهي مبادئ الامم المتحدة ومبادئ حقوق الانسان ومبدأ حق تقرير المصير ومبدأ تحديد التسلح وتحريم انتاج الاسلحة الذرية ومبدأ فض المنازعات بالطرق السلمية وقد طالب المؤتمر بضم مجموعة من الدول الاسيوية الافريقية . الى الامم المتحدة وطلب اعادة النظر في توزيع مقاعد مجلس الامن غير الدائمة تعديلاً يكفل المجموعة الاسيوية الافريقية (مجموعة عدم الانحياز) تمثيلاً عادلاً . وكان لمؤتمر باندونغ صدى مدو في كل الدوائر السياسية العالمية وكثرت عنه التقارير الدبلوماسية وزادت المقالات السياسية في الصحف وتناولت اخباره محطات الاذاعة في شتى الانحاء وتناوله المعلقون السياسيون بالنقد والتحليل ومن هؤلاء واولئك من رأى فيه فاتحة عهد جديد في تاريخ الانسانية ومنهم من رآه يقظة جديدة لأسيا وافريقيا . ومنهم من قال انه نصر للدبلوماسية السوفيتية ومنهم راه دويا لا اثر له وكثرة ما دار حوله من متناقضات تجعل الانسان لايستطيع الحكم له او عليه في يسر وسهولة ولهذا اكتفينا بان نعرض التيارات التي دارت حوله مبسطة ومقسمة الى ثلاثة اتجاهات : الدائرة الشيوعية . و الدائرة الغربية والدوائر المحايدة اما صدى المؤتمر في نظر الدوائر الشيوعية فقد رأت فيه انتصاراً باهراً لقضية الشيوعية اذ اعترفت بالصين الشيوعية ثمان وعشرون دولة اعترافاً ان لم يكن قانونياً فهو واقعي واثره العملي اقوى وافضل - وقد عبرت عن هذا مجلة (نيو تيمس) الصادرة في موسكو اذ صرحت في مقال في عدد 15 ايار 1955 بقولها : هناك نتيجة واحدة مهمة لمؤتمر باندونغ وهي وان لم تكن قد ذكرت صراحة في قراراته الا انها نتيجة صحيحة لا مرية فيها وتلك هي انه عزز نفوذ جمهورية الصين الشعبية ودعم مركزها : وقد اهتمت الدوائر الغربية بهذا المؤتمر وتشعبت آراؤها فيه فالولايات المتحدة اقنعت نفسها بانها كسبت من هذا المؤتمر وبريطانيا قابلتها بهدوء اما فرنسا فقد ثارت عليه اما حقيقة ما كسبت من هذا المؤتمر وبريطانيا قابلتها بهدوء اما فرنسا فقد ثارت عليه اما حقيقة ما كسبته الولايات المتحدة من مؤتمر باندونغ فظهر في عبارة ديبلوماسية قصيرة جاءت في صحيفة (نيويورك) في عددها الصادر في 24 تشرين الاول 1955 فقالت : ان الولايات المتحدة ظفرت من مؤتمر باندونغ بتأييد وظهر لها فيه نفوذ اكثر مما يظن لها قبل انعقاد المؤتمر ونتائجه والواقع ان بريطانيا كان قد استقبلت نتائج المؤتمر بالترحيب فعلقت صحيفة التايمز في عدد 25 نيسان 1955 على اهمية المؤتمر واشادت بنجاح وقالت ان المؤتمر تجنب مواطن الخلاف وركن الى التعميم في قراراته جمعاً للصفوف اما الدوائر الفرنسية فقد ظهر الحنق والغضب في كثير مما نشرته صحفها وما صرح به الناطقون بلسان الدوائر الرسمية فيها . واشد ما اثار حنق فرنسا هو القرارات الخاصة بشمال افريقيا ولاسيما الجزائر التي كانوا يعدونها جزءاً اصيلاً من دولتهم فامتلات الصحف الفرنسية بنقد المؤتمر وتصرفاته وقراراته اما الدوائر الرسمية الفرنسية فقد صرحت باستنكارها لقرارات المؤتمر وصدر ذلك على لسان رئيس الوزراء الذي قال في حديث له في مؤتمر صحفي : ان المؤتمرين في باندونغ خالفوا ميثاق الامم المتحدة اذ تدخلوا في صميم الشؤون الداخلية لدولتنا . اما صدى المؤتمر في الدوائر المحايدة فكان ان انقسمت هذه الدول على نفسها وحدثت بينهما خلافات واشارت جريدة (هندستان تايمز) الى نتائج المؤتمر بقولها : انه على الرغم من بعض الخلافات فان المؤتمر الاسيوية الافريقية قد سجل نجاحاً بينا . اما جريدة (هندستان شاندرد) فقد اشارت الى عدم نجاح فكرة الحيادية بقولها . ان مؤتمر باندونغ ان لم يكن قد حقق معجزة الاجتماع فقد اتيح له انشاء جو من التفاهم وحسن النية . وعندما عقد مؤتمر باندونغ في نيسان 1955 كانت الاقطار العربية معسكرين الاول تقوده مصر ويدعو لمقاومة الاحلاف والثاني يقوده العراق - العضو الرئيس في حلف بغداد - ويدعو لقبول الاحلاف وظهر هذا القسم في المؤتمر نفسه واضحاً جلياً . وقد تولت اربع دول من دول الشرق الاوسط العشر المشتركة في المؤتمر قيادة الحملة للتعاون مع الغرب وهي تركيا والعراق ولبنان وايران . كما يمكن القول ايضاً ان الاقطار العربية وصلت في مؤتمر باندونغ الى المطالب الاقليمية الخاصة بها اي قضية فلسطين والمغرب العربي ولكنها ظلت منقسمة على نفسها في شؤون الدفاع عن الشرق الاوسط فظهر العراق علناً في تأييد الدفاع الشرقي ووقف الى جانبه ممثل تركيا (فطين زورلو) وكذلك رئيس الوفد الايراني (جلال عبدو) وكان من اثر باندونغ ان طلبت الجامعة العربية توثيق علاقات الدول الاسوية والافريقية وارسال السفراء والمفوضين لتقوية هذه الاواصر وتبادل البعثات السياسية والثقافية والاقتصادية كما طبلت الجامعة من سكرتيرها العام درس كل الرسائل التي تحقق توثيق العلاقات بين مختلف البلاد الاسيوية والاقطار العربية . وكان من آثار مؤتمر باندونغ الذي انعقد هو التقريب بين العرب وبين شعوب اسيا وافريقيا لقد وكان مؤتمر باندونغ الذي انعقد بعد اقل من شهرين من عقد حلف بغداد . والحدث التاريخي الذي انعكس فيه رغبة شعوب اسيا وافريقيا . ولقد افاد العرب من مؤتمر باندونغ قوة جديدة لمقاومة حلف بغداد . وفي باندونغ يمكن السبب في فشل حلف بغداد .
منقول