فصل
الشرك نوعان : أكبر وأصغر .
وقال بعضهم : وخفي .
ولكن الصحيح : اندراج الشرك الخفي ضمن الأصغر فالشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة . وصاحبة إن لقي الله به فهو مخلد في النار .
قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) النساء: 48.
وقد تقدم بعض أنواع الشرك الأكبر ، وهذه الرسالة مختصرة لا تتسع لذكر تفاصيل أنواع ا لشرك الأكبر وما يتعلق به ولكن تقدمت إشارات إلى بعض أنواعه مع شيء من البيان وقع على سبيل الاختصار وغالب من يقع في الشرك سببه إعراضهم عن تعلم أصل الدين وتساهلهم في جانب التوحيد وعدم الوقوف على حقيقته وما يرشد إليه ويدل عليه ، وإعراضهم عن تعلم نواقض التوحيد – وقد كتبت رسالة مختصرة في شرح نواقض الإسلام العشرة التي ذكرها الشيخ محمد بن عبالوهاب – رحمه الله - . فليرجع إليها من أراد الوقوف على نواقض الإسلام ليدرك خطورتها ، ويعلم محل كثير من أهل هذا الزمان منها - ومفسداته التي : متى دخلت عليه أفسدته وأحبطت عمل صاحبه وإن كانت الأعمال أمثال الجبال كما قال تعالى : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الزمر65.
وفي القرآن والسنة مما يبين التوحيد ويبطل الشرك ما يستنفد المرء عمره لمعرفته ، فحري لمن نصح نفسه أن يقبل على معرفة التوحيد والوقوف على أسراره ومعرفة الشرك والبعد عن أوضاره ومجانبة أهله فإنهم أعوان الشيطان وأولياؤه وحزبه أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ المجادلة19.
وأما الشرك الأصغر فلا يخلد صاحبه في النار ولكنه معرض للوعيد وصاحبه على خطر عظيم فلا تستهن به فما أكثر الواقعين فيه ممن يدعي العلم فضلا عن غيرهم من العامة وأشباههم وقد يترقى بصاحبه إلى الشرك الأكبر فيجب التحرز منه والحرص كل الحرص على تحقيق التوحيد .
والسير على منهاج خيار الأمة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وحققوا توحيدهم ولم يشوبوه بشرك ولا بدع الذين إمامهم ومقدمهم إلى رب العالمين محمد الأمين عليه صلاة وسلام إلى يوم الدين .
فإن الحرص على تحقيق التوحيد مما يباعد المؤمن عن الشرك أكبره وأصغره وقد خاف النبي – صلى الله عليه وسلم – على أصحابه من الشرك الأصغر فمن بعدهم من باب أولى أن يخافه على نفسه .
ففي مسند الإمام أحمد (5/428) بسند حسن عن محمود بن لبيد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء ) .
وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه - .
وأنواع الشرك الأصغر كثيرة وأكثرها وقوعا وانتشارا الحلف بغير الله كالحلف بالنبي – صلى الله عليه وسلم – ، والأمانة ، والكعبة ، والأب ، والأم ، ونحو ذلك كالحلف بعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه - ، والبدوي وغيرهما .
وكون الحلف بغير الله شركا أصغر محله إذا لم يرد تعظيم المحلوف به أما لو كان معظما للمحلوف به بحيث لو قيل : له احلف بالله كاذبا ؛ لحلف ، وإذا قيل له : احلف بالبدوي ونحوه كاذبا ؛ لما حلف : فهذا شرك أكبر .
وفي سنن أبي داود ، وجامع الترمذي من طريق الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة أن ابن عمر سمع رجلا يقول : لا والكعبة . فقال ابن عمر : لا يحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) .
هذا لفظ الترمذي . ولفظ أبي داود : ( من حلف بغير الله فقد أشرك )).
وفي ((الصحيحين)) وغيرهما من طريق نافع مولى ابن عمر عن عبد الله عن رسول الله -- أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه فناداهم رسول الله --: ((ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت )).وفي ((صحيح مسلم)) من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله ابن دينار أنه سمع ابن عمر قال: قال رسول الله --( من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله )) . وكانت قريش تحلف بآبائها فقال ( لا تحلفوا بآبائكم )) .فهذا تأكيد أكيد من النبي -- في النهي عن الحلف بغير الله وقد تقدم أنه شرك . وقد قال عبد الله بن مسعود--( لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أحلف بغيره صادقا)) رواه عبد الرزاق في ((المصنف ))،والطبراني في ((المعجم الكبير)) من حديث وبرة عن عبد الله . ووقع الشك عند عبد الرزاق في عبد الله هل هو ابن مسعود أم عبد الله بن عمر ، والأثر سنده صحيح .
ومعنى قول عبد الله ظاهر فإن الحلف بغير الله مع الصدق أعظم جرما وإثما من الحلف بالله مع الكذب. فالحلف بغير الله شرك والحلف بالله مع الكذب معصية . فليعلم ذلك فإنهما لا يستويان . وأما من استدل بحديث ( أفلح وأبيه إن صدق)) المخرج في ((صحيح مسلم)) من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عن أبيه عن طلحه بن عبيد الله عن النبي -- به . على جواز الحلف بغير الله فقد قال ما لا علم له به، وخالف النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصريحة بالمنع من الحلف بغير الله . واستدل بما لا تقوم به حجة ، والاستدلال بالمتشابه وترك المحكم الصريح من أفعال الذين في قلوبهم زيغ ومرض . فالواجب أخذ المحكم الصريح وترك المتشابه المحتمل .
وللعلماء - رحمهم الله- عدة أجوبة عن حديث ((أفلح وأبيه)) :
فمنهم من قال بعدم صحة هذه اللفظة لتفرد إسماعيل بن جعفر به ا. وقد جاء هذا الحديث في ((الصحيحين)) من طريق مالك بن أنس عن أبي سهيل به وليست فيه هذه اللفظة ، ورووه بلفظ ((أفلح إن صدق)) . قال ابن عبد البر-رحمه الله- في لفظة ((أفلح وأبيه)) إنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح- انظر فتح الباري (11/533) .
ومن الأجوبة ما قيل : إن هذه اللفظة تجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا القسم ، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف ، وإلى هذا القول ذهب النووي في شرحه لصحيح مسلم وقال : هذا هو الجواب المرضي .
ولكن ليعلم أنه ليس لأي إنسان أن يحلف بغير الله زاعما أنه لا يقصد حقيقة القسم والقول المتقدم إنما قيل جوابا عن إشكال ورد لكونه يخالف الآيات والأحاديث في النهي عن الحلف بغير الله فلو أن امرءا حلف بغير الله كفر ولو لم يقصد حقيقة القسم .
فليعلم ذلك فـإن الأمر عظيم , والخطب جسيم فلا يجعل المسلم الشبه مكان اليقين , ولا الباطل محل الحق ، فإن للحق نورا وللباطل ظلمة . فالحق أبلج . والباطل لجلج. ويبصر ذلك البصير الذي جعل كتاب الله وسنه رسوله – صلى الله عليه وسلم- حكما على قول كل أحد والله الهادي إلى سواء السبيل .
ومن الأجوبة على الحديث أيضا : ما قيل إن في الجواب حذفا تقديره أفلح ورب أبيه إن صدق .
وقيل : إن ذلك خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم- دون غيره من الأمة وهذا القول ضعيف , فلا يلتفت إليه. فالأصل التشريع دون الخصوصية فلا تثبت الخصوصية إلا على وفق دليل شرعي , ولم يثبت في هذا شيء . فظهر بطلان هذا القول . وما تقدم من الأجوبة كاف في إبطال قول من جوز الحلف بغير الله وترك المحكم وتبع المتشابه .
والله اعلم .
ومن أنواع الشرك الأصغر: قول الرجل : " ماشاء الله وشئت", وقول :
"لولا الله وفلان" , لأن الواو تقتضي المساواة ومساواة الخالق بالمخلوق شرك .
ومن ذلك قول ..لولا البط في الدار لأتى اللصوص . وقد قال ابن أبي حاتم في تفسيره على قوله تعالى : (فلا تجعلوا لله أندادا ً) .
حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد حدثني أبي عمرو حدثني أبو عاصم أنبأنا شبيب بن بشر ثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) قال : الأنداد هو الشرك أخفي من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص , ولولا البط في الدار لأتى اللصوص وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت, وقول الرجل: لولا الله وفلان لا تجعل فيها " فلان " فإن هذا كله به شرك .
وقال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي ثنا شعبة عن منصور عن عبدالله بن يسار عن حذيفة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " لاتقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ".
ورواه الإمام أحمد, والطيالسي, وابن السني, والطحاوي وغيرهم من طريق شعبة به , وسنده صحيح.
ومن أنواع الشرك الأصغر أيضا : طلب العلم لغير الله ، كطلبه لتحصيل الوظيفة والشهادة ، أو طلبه لأجل الرياء والسمعة ، ونحو ذلك مما ينافي الإخلاص .
وفي صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( قال الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) .
وفي صحيح البخاري من حديث عبدالله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة : إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش . طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع ) .
وفي سنن أبي داود من طريق فليح بن سليمان عن أبي طوالة عبدالله بن عبدالرحمن بن معمر عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :
( من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) .
يعني : ريحها .
وفليح بن سليمان فيه كلام . وقد خرج له البخاري ومسلم .
والحديث رواه أيضا : ابن ماجه ، والحاكم وصححه ، وسكت عنه الذهبي . وللحديث شاهد من حديث ابن عمر بلفظ : ( من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار ) . رواه الترمذي من طريق أيوب السختياني عن خالد بن دريك عن ابن عمر به . وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
وهذا الصنف ، أعني : طلاب الدنيا بالدين ، مرضى مرض قلوب ، باعوا دينهم وإخلاصهم لتحصيل منافع عاجلة ، وهذا بلاء عظيم ، ومرض متوغل في القلوب ، ومسلك منحرف ، صاحبه كأنه لا يعيش إلا ليأكل ، وهذا مسلك اليهود الذين عبدوا الدنيا وهجروا ما وراءها .
والأمراض القلبية من حب الجاه ، والعلو في الأرض ، وتطلب مدح الناس : عقوبات يصاب بها كثير من العباد الذين يؤثرون الدنيا على الآخرة ، وهذه الأمراض تسلب المسلم دينه وكرامته ، فقبحها فوق ما يتصوره الكثير ، فما أسوأ مغبتها ، وأعظم خطرها ، وأسرع عقوبتها ، وما أهون صاحبها على الله .
ووراء هذه الأمراض الفتاكة ( العلم المغشوش ) ، الذي هو عقبة على العلم الشرعي المستمد من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – .
فأصحاب العلم المغشوش يرفرف الجهل على قلوبهم ويظنون أنهم حازوا العلم المنشود ؛ لأن صاحب الهوى قد أعماه هواه عن معرفة الحق ، ومن أرشدهم إلى خطر هذا العلم ، وبعده عن تعاليم الدين ، رموه عن قوس واحدة بالجهل والتخلف ، وربما نسبوه إلى الخوارج المارقين . فالله المستعان .