بحث شامل عن الامبراطورية الفارسية حاتم هشام
مقدمة
الفرس أمة متجذِّرة في التاريخ، لهم في الحضارة الإنسانية أصالة يشهد لها تراثهم، وفي الحرب دراية وخبرة وفنون أثبتتها حروبهم مع العرب والروم والهياطلة، وهي حروب وُصِفت بأنها "استولت على عقول ملوك آل ساسان، فلم يستريحوا منها ولم يريحوا الشعب حتى أنّ الملك الواحد كان يحارب الروم سنوات، ثم تعلن الهدنة ربما يستجمع قواه ويعدّ لها وقودًا جديدة"(1).
أولاً: تنظيم الدولة العسكري
كان الفرس في تاريخهم القديم "أمّة مسلحة" وشعبًا محاربًا، ولذلك تمكّن الأشكانيون "نظرًا إلى تربيتهم العسكرية من الاستيلاء على "بارتا"، ثم خلقوا بالغزو دولة إيرانية جديدة"(2) أسموها "الدولة البرتية".
ويبدو أنّ الإمبراطورية الفارسية نظَّمت المجتمع الفارسي ليكون مجتمع حرب، فاعتمدت نظامًا أسريًا وإقليميًا يرتكز على أربع وحدات "البيت (غانة) والقرية (ويس) والقبيلة (زنتو) والإقليم(دهيو)"(3). كان رؤساء القرى يضطلعون بدور أساسي في هذا التنظيم، "فهم كانوا كبار أمراء الملك...، وكانوا يُنشّئون رعاياهم على الحرب"(4).
وخضع تركيب المجتمع الفارسي إلى النظم الاقطاعية والطبقية لكي يأتي متوافقًا مع النظم الحربية للدولة. ويشير تنسر إلى تقسيم الهيكل الإجتماعي الذي كان سائدًا أيام الساسانين "إلى أعضاء أربعة منهم الملك: العضو الأول هو أهل الدين (آثروان Athravan)، والعضو الثاني المقاتلة (إرتشتاران Rathaestar) والعضو الثالث الكتَّاب (دبيران) والعضو الرابع المهنة (الفلاحون (وستريوشان) والصناع (هو تخشان)(5)".
وظهرت في الدولة الساسانية تقسيمات إجتماعية أخرى منها ما أورده الجاحظ في كتابه "التاج" بقوله: "جعل أزدشير الناس على أقسام أربعة، وحصر كل طبقة على قِسْمَتِها: فالأول الأساورة من أبناء الملوك، والقسم الثاني النسّاك وسدنة بيوت النيران، والقسم الثالث الأطباء والكتاب والمنجِّمون، والقسم الرابع الزرّاع والمهان وأضرابهم"(6). ويقول المسعودي أن أزدشير رتَّب ندماءه في طبقات "وكان يرى أن ذلك من السياسة ومما يرمُّ عمود الرئاسة، فالأولى الأساورة وأبناء الملوك، وكانت الطبقة الثانية وجوه المرازبة وملوك الكور المقيمين بباب أزدشير والأصبهبذية ممن كانت له مملكة الكور في أيامه، وأهل الطبقة الثالثة المضحكون وأهل البطالة وأهل الهزل"(7).
ومهما كانت تسمية الطبقات التي اعْتُمِدَتْ في فارس فإنّ هذا التنظيم أوحى بالطبيعة الحربية التي بُنِيَتْ عليها دولة الفرس. فالملك الذي كان يقف على رأس هذه الطبقات، كان عسكريًا بطبعه وتربيته، ويقول كريستنسن "إن أكثر ملوك الساسانيين شغوفون بالحرب واشتركوا فعلاً في أعمالها"(8). إلاّ أنّ الذي يثير الإستغراب هذا التضارب في أولويات تصنيف الطبقات، فكتاب "تنسر" يجعل المقاتلة في الطبقة الثانية بعد أهل الدين، ويحصر تكوينها بالفرسان والرجّالة برتبهم وموظفيهم كافة، أما الجاحظ فيجعل الأساورة من أبناء الملوك في المقدمة. ومصطلح الأساورة يرد في كتاب كريستنسن في سياقين، الأوّل "أنّ ضباط الجيش كانوا يسمّون الأساورة"(9)، والثاني يُحَدِّدُه بسلاح الفرسان ويصفهم "بصفوة الجيش من الأساورة (الفرسان) المصفّحين"(10). أما تنسر فيجعل في الطبقة الرابعة من تقسيمه الزرّاع والرعاة والتجار وأصحاب المهن، وهي طبقه ليست في وجهها الآخر سوى "مصدر الرجال للحرب"(11)، الذين وصفهم كريستنسن بأنهم "طبقة سيئة التكوين ومؤلفة من جند غير أكفياء"(12).
وفيما تبدو صورة المجتمع الحربي الفارسي ظاهرة في ترتيب طبقاته، يأخذ التقسيم الإداري لبلاد فارس طابعًا عسكريًا واضحًا باعتماده "نظام المرازبة الأربعة". وفي هذا الإطار حفظ لنا تنسر تنظيم الدفاع عن فارس بتطبيق "نظام الثغور" مستندًا إلى قول أزدشير: "لا يجوز أن يُطْلَق لقب المَلِك على أحد من غير أهل بيتنا عدا أصحاب الثغور، وهي آلان وناحية المغرب وخوارزم وكابل"(13). ويطلق المسعودي على حكام الثغور لقب "أصبهبذ" و"جعل الأصبهبذين أربعة "الأول بخراسان والثاني في المغرب، والثالث ببلاد الجنوب، والرابع ببلاد الشمال، فهؤلاء هم أصحاب تدبير الملك، كل واحد منهم قد أُفْرِدَ بتدبير جزء من أجزاء المملكة، وكل واحد منهم صاحب ربع، ولكل واحد من هؤلاء مرزبان وهم خلفاء هؤلاء الأربعة"(14).