أحلى الحكايات من كتاب الاذكياء لابن الجوزي - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > منتدى الثّقافة العامّة

منتدى الثّقافة العامّة منتدى تـثـقـيـفيٌّ عام، يتناول كُلَّ معرفةٍ وعلمٍ نافعٍ، في شتّى مجالات الحياة.

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

أحلى الحكايات من كتاب الاذكياء لابن الجوزي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2009-04-04, 10:28   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
barbaruse
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية barbaruse
 

 

 
إحصائية العضو










Bounce أحلى الحكايات من كتاب الاذكياء لابن الجوزي

أحلى الحكايات

الفصل الأوّل
من ذكاء الأنبياء

·قال ابن عباس: لمّا شبّ اسماعيل تزوّج امرأة من جرهم, فجاء ابراهيم فلم يجد اسماعيل, فسألأ عنه امرأته فقالت:
خرج يبتغي لنا.
ثم سألها عن عيشهم فقالت:
نحن بشر في ضيق وشدّة, وشكت اليه, فقال:
فاذا جاء زوجك فاقرأي عليه السلام وقولي له:
يغيّر عتبة بابه.
فلما جاء أخبرته فقال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك, الحقي بأهلك.


·ومن المنقول عن سليمان عليه السلام:
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
خرجت امرأتان ومعهما صبيّان, فعدا الذئب على أحدهما, فأخذتا تختصمان في الصبي الباقي, فاختصمتا الى داود عليه السلام, فقضى به للكبرى منهما, فمرّتا على سليمان عليه السلام, فقال ما أمركما؟
فقصّتا القصّة.
فقال: ائتوني بالسكين أشق الغلام بينكما.
فقالت الصغرى: أتشقه؟
قال: نعم.
قالت: لا تفعل, حظي منه لها.
فقال: هو ابنك. فقضى به لها.


·وعن محمد بن كعب القرظي قال:
جاء رجل الى سليمان النبي عليه السلام فقال: يا نبيّ الله! ان لي جيرانا يسرقون أوزي.
فنادى الصلاة جامعة.
ثم خطبهم, فقال في خطبته: واحدكم يسرق اوز جاره, ثم يدخل المسجد والريش على رأسه!
فمسح رجل برأسه, فقال سليمان: خذوه فانه صاحبكم.

·ومن المنقول عن عيسى عليه السلام: أن ابليس جاء اليه, فقال له: ألست تزعم أنه لا يصيبك الا ما كتب الله لك؟
قال: بلى.
قال: فارم بنفسك من هذه الجبل, فانه ان قدر لك السلامة تسلم.
فقال له: يا ملعون, ان لله عز وجلّ أن يختبر عباده, وليس للعبد أن يختبر ربّه عز وجلّ.


·وعن علي رضي الله عنه قال:
لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم الى بدر وجدنا عندها رجلين: رجلا من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط. فأما القرشي فأفلت, وأما مولى عقبة فأخذناه, فجعلنا نقول له: كم القوم؟ فيقول:هو والله كثير عددهم, شديد بأسهم.
فجعل المسلمون اذا قال ذلك ضربوه, حتى انتهوا به الى النبي صلى الله عليه وسلّم, ثم ان النبي صلى الله عليه وسلّم سأله: كم ينحرون من الجزر؟
فقال: عشرا لكل يوم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: القوم ألف, كل جزور لمئة وتبعها.


·وعن أبي هريرة قال:
قال رجل: يا رسول الله, ان لي جارا يؤذيني.
فقال: انطلق وأخرج متاعك الى الطريق.
فانطلق وأخرج متاعه فاجتمع الناس عليه, فقالوا ما شأنك؟
قال: لي جار يؤذيني, فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلّم فقال:" انطلق وأخرج متاعك الى الطريق".
فجعلوا يقولون: اللهم العنه, اللهم اخزه.
فبلغه فأتاه, فقال: ارجع الى منزلك فوالله لا أؤذيك.


·وعن الحسن أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم برجل قد قتل حميما له, فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم:" أتأخذ الدية؟"
قال: لا
قال: أفتعفوا؟
قال: لا.
قال: اذهب فاقتله!
فلما جاوزه الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ان قتله فهو مثله.
فلحق الرجل رجلا فقال له: ان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال كذا, فتركه وهو يجر نسعه في عنقه.

قال ابن قتيبة: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه مثله في المأثم واستيجاب النار ان قتله. وكيف يريد هذه وقد أباح الله عز زجلّ قتله بالقصاص, ولكن كره رسول الله أن يقتص وأحب له العفو, فعرّض تعريضا أوهمه به أنه ان هو قتله كان مثله في الاثم ليعفو عنه, وكان مراده أن يقتل نفسا كما قتل الأوّل نفسا, فهذا قاتل وهذ قاتل, فقد استويا في قاتل وقاتل, الا أ، الأوّل ظالم والآخر مقتصّ.


·وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم من هذا كثير خصوصا في المعاريض, فمن ذلك روي عن سعيد بن المسيّب أ، عائشة رضي الله عنها سئلت:
·هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمزح؟
قالت نعم. كان عندي عجوز, فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت:" ادع الله أن يجعلني من أهل الجنّة".
فقال:" ان الجنّة لا تدخلها العجائز."
وسمع النداء, فخرج ودخل وهي تبكي, فقال: ما لها؟
قالوا: انك حدّثتها أن الجنة لا يدخلها العجائز.
قال:" ان الله يحوّلهن أبكارا عربا أترابا".


·وحدّثنا القرشيّ قال: دخلت امرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال:" من زوّجك"؟
فسمّته له, فقال:" الذي في عينيه بياض"؟
فرجعت فجعلت تنظر الى زوجها, فقال: ما لك؟
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:" زوجك فلان"؟
قلت: نعم. قال:" الذي في عينيه بياض"؟
قال: أوليس البياض في عيني أكثر من السواد؟


·حدّثنا أنس بن مالك قال: جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلّم ليستحمله فقال: "أنا حاملك على ولد ناقة".
قال: يا رسول الله, وما أصنع بولد ناقة؟
قال:" وهل تلد الابل الا النوق؟".




الفصل الثاني

من ذكاء الصحابة
·فمن المنقول عن أبي بكر رضي الله عنه:
لمّاهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم يركب, وأبو بكر رديفه. وكان أبو بكر يعرف الطريق لاختلافه الى الشام.
فكان يمرّ بالقوم فيقولون: من هذا بين يديك يا أبا بكر؟
فيقول: هاد يهديني.


·وعن الحسن قال:
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من الغار لم يستقبلهما أحد يعرف أبا بكر الا قال له: من هذا معك يا أبا بكر؟ فيقول: دليل يدلّني الطريق.
وصدق والله أبو بكر.


·وعن الحسن قال:
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يصلي بالناس, فقال:" ان الله خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله عز وجلّ".
قال: فبكى أبو بكر. فعجبنا من بكائه أن خبّر رسول الله صلى الله عن عبد خيّر. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو المخيّر, وكان أبو بكر أخبرنا به.



·وعو ابن عمر قال:
بينما عمر رضي الله عنهجالس اذ رأى رجلا, فقال: قد كنت مرّة ذا فراسة, وليس لي رأي ان لم يكن هذا الرجل ينظر ويقول في الكهانة شيئا.. ادعوه لي.
فدعوه فقال: هل كنت تنظر وتقول في الكهانة شيئا؟
قال: نعم.



·وقد روّينا عن عمر رضي الله عنه أنه خرج يعسّ المدينة بالليل, فرأى نارا موقدة في خباء.
فوقف وقال: يا أهل الضوء.
وكره أن يقول: "يا أهل النار". وهذا من غاية الذكاء.



·ومن المنقول عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه, عن البحتري قال:
جاء رجل الى عليّ ابن أبي طالب, فأطراه وكان يبغضه, فقال له:
اني ليس كما تقول, وأنا فوق ما في نفسك.



·أخبرنا سمّاك بن حرب, عن خبش بن المعتمر أن رجلين أتيا امرأة من قريش, فاستودعاها مئة دينار وقالا: لا تدفعيها الى واحد منا دون صاحبه حتى نجتمع.
فلبثا حولا, فجاء أحدهما اليها, فقال: ان صاحبي قد مات, فادفعي اليّ الدنانير, فأبت وقالت: انكما قلتما لا تدفعيها الى واحد منا دون صاحبه, فلست بدافعتها اليك.
فتثقل عليها بأهلها وجيرانها فلم يزالوا بها حتى دفعتها اليه.
ثم لبثت حولا فجاء الآخر, فقال: ادفعي اليّ الدنانير.
فقالت: ان صاحبك جاءني, فزعم أنك مت فدفعتها اليه.
فاختصما الى عمر بن الخطاب, فأراد أن يقضي عليها, فقالت: أنشدك الله أن لا تقضي بيننا, ارفعنا الى عليّ.
فرفعهما الى علي, فعرف أنهما قد مكرا بها, فقال للرجل: أليس قد قلتما: لا تدفعيها الى واحد منا دون صاحبه؟
قال: بلى.
قال: فان مالك عندما, فاذهب فجئ بصاحبك حتى ندفعها اليهما.



·ومن المنقول عن الحسن بن علي رضي الله عنهما:
لمل جيء بابن ملجم الى الحسن قال له: أريد أن أسارّك بكلمة.
فأبى لبحسن وقال: انه يريد ان يعض أذني.
فقال ابن ملجم: والله لو مكّنني منها لأخذتها من صماخه.

ومن المنقول عن الحسين رضي الله عنه أن رجلا ادّعى عليه مالا وقدّمه الى القاضي, فقال الحسين:
ليحلف على ما ادّعى ويأخذه.
فقال الرجل: والله الذي لا اله الا هو.
فقال: قل والله والله والل ان هذا الذي تدّعيه لك قبلي.
ففعل الرجل وقام, فاختلفت رجلاه وسقط ميّتا.
فقيل للحسين في ذلك فقال:
كرهت أن يمجّد الله فيحلم عنه!



·ومن المنقول عن العباس رضي الله عنه أنه سئل:
أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلّم؟
فقال: هو أكبر مني, وأنا ولدت قبله.



·وعن مجاهد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحابه أذ وجد ريحا, فقال: ليقم صاحب هذا الريح فليتوضأ, فاستحيا الرجل.
ثم قال: ليقم صاحب هذه الريح فليتوضأ, فان الله لا يستحي من الحق.
فقال العباس: ألا نقوم جميعا؟
وقد جرى مثل هذه القضيّة عند عمر رضي الله عنه, عن الشعبي: أن عمر كان في بيت ومعه جرير بن عبدالله, فوجد عمر ريحا فقال: عزمت على صاحب هذه الريح أن قام فتوضأ.
فقال جرير: يا أمير المؤمنين: أو يتوضأ القوم جميعا.
فقال عمر: رحمك الله, نعم السيّد كنت في الجاهلية, ونعم السيّد أنت في الاسلام.



·خرج أبو بكر في تجارة الى بصرى قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعام, ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة, وكانا قد شهدا بدرا, وكان نعيمان على الزاد, وكان سويطا رجلا مزاحا.
فقال لنعيمان: أطعمني.
قال: حتى يجئ أبو بكر.
قال: أمّا لأغيظنّك.
فمرّوا بقوم فقال لهم سويبط: أتشترون مني عبدا لي؟
قالوا: نعم.
قال: انه عبد له كلام, وهو قائل لكم: اني حر, فان كنتم اذا قال لكم هذه المقالة تركتموه, فلا تفسدوا عليّ عبدي.
قالوا: لا, بل نشتريه منك.
فاشتروه بعشر قلائص, ثم أتوه فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلا, فقال نعيمان: ان هذا يستهزئ بكم, اني حر ولست بعبد.
فقالوا: أخبرنا بخبرك.
فانطلقوا به, فجاء أبو بكر فأخبره بذلك, فاتبع القوم فرد عليهم القلائص, وأخذ نعيمان, فلمّا قدموا على النبي صلى الله عليه وسلّم أخبروه, فضحك النبي وأصحابه منه حولا.



·وبلغنا أ، رجلا جاء الى حاجب معاوية فقال له: قل له: على الباب أخوك لأبيك وأمك.
فقال: ما أعرف هذا. ثم قال: ائذن له.
فدخل: فقال: أي الاخوة أنت؟
فقال: ابن آدم وحوّاء.
فقال: يا غلام أعطه درهما.
فقال: تعطي أخاك لأبيك وأمك درهما؟
فقال معاوية: لو أعطيت كل أخ لي من آدم وحوّاء ما بلغ اليك هذا!



·وعن زيد بن أسلم, عن أبيه أ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل المغيرة بن شعبة على البحرين فكرهوه وأبغضوه, فعزل عنهم, فقال دهقانهم: ان فعلتم ما آمركم به لم يردّ علينا.
قالوا: أمرنا بأمرك.
قال: تجمعون مئة ألف درهم حتى أذهب بها الى عمر, وأقول: ان المغيرة اختار هذا فدفعه اليّ.
فدعا عمر المغيرة فقال: ما يقول هذا؟
قال: كذب أصلحك الله, انما كانت مئتي ألف .
قال: فما حملك على ذلك؟
قال: العيال والحاجة.
فقال عمر للعلج: ما تقول؟
قال: لا والله, لأصدّقنّك أصلحك الله, والله ما دفع اليّ قليلا ولا كثيرا.
فقال عمر للمغيرة: ما أردت الى هذا العلج؟
قال: الخبيث كذب عليّ فأحببت أن أخزيه.



·ولما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل على غزة, فبعث اليه علجها أن أرسل اليّ رجلا من أصحابك أكلّمه, ففكر عمرو وقال: ما لهذا العلج أحد غيري.
فقام حتى دخل على العلج فكلّمه, فسمع كلاما لم يسمع مثله قط.
فقال له العلج: حدّثني, هل من أصحابك من أحد مثلك؟
قال لا تسأل عن هواني عندهم اذ بعثوني اليك وعرّضوني لما عرّضوني, فلا يدرون ما تصنع بي.
فأمر له بجاشزة وكسوة, وبعث الى البوّاب: اذا مرّ بك فاضرب عنقه وخذ ما معه.
فمرّ برجل من النصارى من غسان فعرفه, فقال: يا عمرو, قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج.
فرجع, فقال له الملك: ما ردّك الينا؟
قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك ليسع بني عمّي, فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطيّة, فيكون معروفك عند عشرة خيرا من أن يكون عند واحد.
قال صدقت, أعجل بهم.. وبعث الى البوّاب أن خل سبيله. فخرج عمرو وهو يلتفت, حتى اذا أمن قال: لا عدت لمثلها أبدا.
فلما صالحه عمرو ودخل عليه العلج فقال له: أنت هو؟ قال: على ما كان من غدرك.



·ومن المنقول عن خزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلّم ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه, فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم في المشي, وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي, فيساومون الفرس لا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم للأعرابي في السّوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلّم, فنادى الأعرابي النبي فقال:
ان كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه والا بعته.
فقام النبي فقال: أليس قد ابتعته منك؟
قال لا.
فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلّم والأعرابي وهما يتراجعان. فطفق الأعرابي يقول: هلمّ شهيدا يشهد أني قد بايعتك.
فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك, ان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يقول الا حقا, حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي ومراجعة الأعرابي. فطفق الأعرابي يقول: هلمّ شهيدا يشهد اني قد بايعتك.
فقال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته.
فأقبل النبي صلى الله عليه وسلّم على خزيمة فقال: بما تشهد؟
فقال: بتصديقك يا رسول الله.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لخزيمة: لم تشهد ولم تكن معنا؟ قال: يا رسول الله أنا أصدّقك بخبر السماء, أفلا أصدّقك بما تقول؟



·ومن المنقول عن نعيم بن مسعود: بينما الناس على خوفهم يوم الأحزاب أتى نعيم بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله, اني قد أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي, مرني أمرك.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: انما أنت منا رجل واحد, فخذّل عنا ما استطعت فانما الحرب خدعة.
فانطلق نعيم حتى أتى بني قريظة فقال لهم: يا معشر قريظة _ وكان لهم نديما في الجاهلية _ اني لكم نديم وصديق, قد عرفتم ذلك. قالوا صدقت, قال: تعلمون والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد بمنزلة واحدة, ان البلد لبلدكم, به أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم, وان قريشا وغطفان بلادهم غيرها, وانما جاؤوا حتى نزلوا معكم, فان رأوا فرصة انتهزوها, وان رأوا غير ذلك رجعوا الى بلادهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم, وخلوا بينكم وبين الرجل فلا طاقة لكم به, فان هم فعلوا ذلك فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم تستوثقون به, ولا تبرحوا حتى تناجزوا محمدا.
فقالوا: لقد أشرت برأي ونصح.
ثم ذهب الى قريش فأتى أبا سفيان وأشراف قريش, فقال: يا معشر قريش, انكم قد عرفتم ودّي ايّاكم وفراقي محمدا ودينه, واني قد جئتكم بنصيحة فاكتموا علي.
فقالوا: نفعل, ما أنت عندما بمتهم.
فقال: تعلمون أن بني قريظة من يهود قد ندمواعلى ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد, فبعثوا اليه: ألا يرضيك أن نأخذ لك من القوم رهنا من أشرافهم, فندفعهم اليك, فتضرب أعناقهم ثم نكون معك حتى نخرجهم من بلادك؟ فقال: بلى, فان بعثوا اليكم يسألونكم نفرا من رجالكم, فلا تعطوهم رجلا واحدا فاحذروا.
ثم جاء غطفان فقال: يا معشر غطفان, قد علمتم أني رجل منكم.
قالوا: صدقت.
قال لهم كما قال لهذا الحي من قريش.
فلما أصبحوا بعث اليهم أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش: ان أبا سفيان يقول لكم يا معشر يهود ان الكراع والخف قد هلكا, انا لسنا بدار مقام, فاخرجوا الى محمد حتى نناجزه, فبعثوا اليه أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا, ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم نستوثق بهم, لا تذهبوا وتدعونا نناجز محمدا.
فقال أبو سفيان: قد والله حذرنا نعيم. فبعث اليهم أبو سفيان: انا لا نعطيكم رجلا واحدا, فان شئتم أن تخرجوا فتقاتلوا وان شئتم فاقعدوا, فقالت يهود: هذا والله الذي قال لنا نعيم. والله ما أراد القوم الا أن يقاتلوا محمدا فان أصابوا فرصة انتهزوها والا مضوا بلادهم وخلوا بيننا وبين الرجل, فبعثوا اليهم: انا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا, فأبوا, فبعث الله تعالى الريح على أبي سفيان وأصحابه وغطفان فخذلهم الله عز وجلّ.


الفصل الثالث
من ذكاء الخلفاء والوزراء
·وجّه عبد الملك بن مروان عامرا الشعيبي الى ملك الروم في بعض الأمر له, فاستكثر الشعبي فقال له:
من أهل بيت الملك أنت؟
قال: لا.
فلما أراد الرجوع الى عبد الملك حمّله رقعة لطيفة وقال: اذا رجعت الى صاحبك, فأبلغته جميع ما يحتاج الى معرفته من ناحيتنا, فادفع اليه هذه الرقعة.
فلما صار الشعبي الى عبد الملك ذكر ما احتاج الى ذكره ونهض من عنده, فلما ذكر الرقعة, فرجع فقال: يا أمير المؤمنين, انه حمّلني اليك رقعة نسيتها حتى خرجت, وكانت آخر ما حمّلني فدفعها اليه ونهض.
فقرأها عبد الملك فأمر بردّه, فقال: أعلمت ما في هذه الرقعة؟
قال: لا.
قال: فانه قال فيها:" عجبت من العرب كيف ملّكت غير هذا!". أفتدري لم كتب الي بمثل هذا؟
فقال: لا.
فقال: حسدني عليك, فأراد أن يغريني بقتلك.
فقال الشعبي: لو كان رآك يا أمير المؤمنين ما استكثرني.
فبلغ ذلك ملك الروم, ففكّر في عبد الملك, فقال: لله أبوه, والله ما أردت الا ذلك.



·وبلغنا عن المنصور أنه جلس في احدى قباب مدينته, فرأآ رجلا ملهوفا مهموما يجول في الطرقات, فأرسل من أتاه به, فسأله عن حاله, فأخبره الرجل أنه خرج في تجارة فأفاده مالا وأنه رجع بالمال الى منزله, فدفعه الى أهله, فذكرت امرأـه أ، المال سرق من بيتها ولم تر نقبا ولا تسليقا.
فقال له المنصور: منذ كم تزوّجتها؟
قال: منذ سنة.
قال: أفبكر هي تزوّجتها؟
قال: لا.
قال: فلها ولد من سواك؟
قال: لا.

قال: فشابّة هي أم مسنّة؟
قال: بل حديثة.
فدعا له المنصور بقارورة طيب كان يتخذه له حادّ الرائحة, غريب النوع, فدفعها اليه وقال له: نطيّب من هذا الطيب, فانه يذهب همّك.
فلما خرج الرجل من عند المنصور قال لأربعة من ثقاته: ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحد منكم, فمن مرّ بكم فشممتم منه رائحة هذا الطيب فليأتني به.
وخرج الرجل بالطيب, فدفعه الى امرأته وقال لها: وهبه لي أمير المؤمنين.
فلمّا شمّته بعثت الى رجل كانت تحبّه, وقد كانت دفعت المال اليه, فقالت له: تطيّب من هذا الطيب, فان أمير المؤمنين وهبه لزوجي.
فتطيّب منه الرجل ومرّ مجتازا ببعض أبواب المدينة, فشمّ الموكل بالباب رائحة الطيب منه, فأخذه فأتى به المنصور, فقال له المنصور: من أين استفدت هذا الطيب فان رائحته غريبة معجبة؟
قال: اشتريته.
قال: أخبرنا ممن اشتريته؟!
فتلجلج الرجل وخلط كلامه.
فدعا المنصور صاحب شرطته, فقال له: خذ هذا الرجل اليك, فامن أحضر كذا وكذا من الدنانير فخلّه يذهب حيث شاء, وان امتنع فاضربه ألف سوط من غير مؤامرة.
فلما خرج من عنده دعا صاحب شرطته, فقال: هوّل عليه وجرّده ولا تقدمن بضربه حتى تؤامرني.
فخرج صاحب شرطته, فلمّا جرّده وسجنه أذعن بردّ الدنانير وأحضرها بهيئتها, فأعلم المنصور بذلك, فدعا صاحب الدنانير فقال له:
رأيتك ان رددت عليك الدنانير بهيئتها أتحكمني في امرأتك؟
قال: نعم.
قال: فهذه دنانيرك, وقد طلقت المرأة عليك.
وخبّره خبرها.



·قعد المهدي قعودا عامّا للناس, فدخل رجل, وفي يده نعل ملفوفة في منديل, فقال:
يا أمير المؤمنين, هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أهديتها لك.
فقال: هاتها.
فدفعها اليه, فقبّل باطنها ووضعها على عينيه وأمر للرجل بعشرة آلاف درهم.
فلما أخذها وانصرف قال لجلسائه:
أترون أني لم أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يرها فضلا عن أن يكون لبسها؟ ولو كذبناه قال للناس: " أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فردّها عليّ" وكام من يصدقه أكثر ممن يدفع خبره, اذ كان من شأن العامّة ميلها الى أشكالها والنصرة للضعيف على القوي, وان كان ظالما اشترينا لسانه وقبلنا هديّته وصدّقنا قوله, ورأينا الذي فعلنا أنجح وأرجح.



·ومن المنقول عن المأمون: قال عمارة بن عقيل: قال لي ابن أبي حفصة الشاعر: أعلمت أن أمير المؤمنين _ يعني المأمون_ لا يبصر الشعر؟
فقلت من ذا يكون أفرس منه وانّا لننشد أوّل البيت فيسبق آخره من غير أن يكون سمعه؟
قال: فاني أنشدته بيتا أجدت فيه, فلم أره تحرّك له, وهذا البيت فاسمعه:
أضحى امام الهدى المأمون منشغلا
بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
فقلت له: ما زدته على أن جعلته عجوزا في محرابها في يدها مسبحة, فمن يقوم بأمر الدنيا اذا كان مشغولا عنها, وهو المطوق لها. ألا قلت كما قال عمّك جرير لعبد العزيز بن الوليد:
فلا هو في الدنيا مضيّع نصيبه
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله.



·وكان المعتضد بالله يوما جالسا في بيت يبنى له يشاهد الصنّاع, فرأى في جملتهم غلاما أسود, منكر الخلقة, يصعد السلاليم مرقاتين مرقاتين, ويحمل ضعق ما يحملونه, فأنكر أمره فأحضره وسأله عن سبب ذلك, فلجلج, فقال لابن حمدون _وكان حاضرا_: أي شيء يقع لك في أمره؟
فقال: ومن هذا حتى صرفت فكرك اليه, ولعلّه لا عيال له, فهو خالي القلب.
قال: ويحك قد خمّنت في أمره تخمينا ما أحسبه باطلا.. اما أن يكون معه دنانير قد ظفر بها دفعة من غير وجهها, أ, يكون لصّا يتستر بالعمل في الطين.
فلاحاه ابن حمدون في ذلك, فقال: عليّ بالأسود.
فأحضر, ونادى بالمقارع فضربه نحو مئة مقرعة وقرّره وحلف ان لم يصدقه ضرب عنقه وأحضر السيف والنطع.
فقال الأسود: لي الأمان.
فقال: لك الأمان الا ما يجب عليك فيه من حدّ.
فلم يفهم ما قال له, وظنّ أنّه قد أمّنه فقال:
أنا كنت أعمل في أتاتين الآجر سنين وكنت منذ شهور هناك جالسا فاجتاز بي رجل في وسطه هميان فتبعته فجاء الى بعض الأتاتين, فجلس وهو لا يعلم مكاني, فحلّ الهيمان وأخرج منه دينارا فتأمّلته فاذا كلّه دنانير فثاورته وكتفته وسددت فاه, وأخذت تاهيمان, وحملت الرجل على كتفي وطرحته في نقرة الأتون وطيّنته, فلما كان بعد ذلك أخرجت عظامه, فطرحتها في دجلة والدنانير معي يقوى بها قلبي.
فأمر المعتضد من أحضر الدنانير من منزله, واذا على الهيمان مكتوب لفلان ابن فلان, فنودي في البلدة باسمه, فجاءت امرأته فقالت: هذا زوجي ولي منه هذا الطفل خرج في وقت كذا ومعه هميان فيه ألف دينار, فغاب الى الآن.
فسلّم الدنانير اليها, وأمرها أن تعتدّ, وضرب عنق الأسود وأمر أن تحمل جثته الى الأتون.



·قال المحسن: وبلغني أن المعتضد بالله قام في الليل لحاجة, فرأى بعض الغلمان المردان قد نهضوا من ظهر غلام أمرد, ودبّ على أربعته حتى اندّس بين الغلمان, فجاء المعتضد فجعل يضع يده على فؤاد واحد بعد واحد الى أن وضع يده على فؤاد ذلك الفاعل, فاذا به يخفق خفقانا شديدا, فوكزه برجله فقعد واستدعى آلات العقوبة, فأقرّه فقتله.



·قال المحسن: وبلغنا عن المعتضد بالله أن خادما من خدمه جاء يوما فأخبره أنه كان قائما على شاطئ الدجلة في دار الخليفة, فرأى صيّادا وقد طرح شبكته, فثقلت بشيء , فجذبها فأخرجها فاذا فيها جراب, وأنه قدّره مالا فأخذه وفتحه, فاذا فيه آجر وبين الآجر كف مخضوبة بحنّاء. فأحضر الجراب والكف والآجر.
فهال المعتضد ذلك, وقال: قل للصياد يعاود طرح الشبكة فوق الموضع وأسفله وما قاربه. قال: ففعل فخرج جراب آخر فيه رجل.
فطلبوا فلم يخرج شيء آخر, فاغتمّ المعتضد وقال:
معي في البلد من يقتل انسانا ويقطع أعضاءه ويفرّقه ولا أعرف به؟ ما هذا ملك!
وأقام يومه كله ما طعم طعاما, فلما كان من الغد أحضر ثقة له, وأعطاه الجراب فارغا وقال له: صف به على كل من يعمل الجرب في بغداد, فان عرفه منهم رجل, فسله لمن باعه, فاذا دلّك عليه, فسل المشتري من اشتراه منه ولا تقر على خبره أحدا.
فغاب الرجل وجاء بعد ثلاثة أيّام, فزعم أ،ه لم يزل يطلب في الدبّاغين وأصحاب الجرب الى أن عرف صانعه, وسأل عنه فذكر أنه باعه لعطّار بسوق يحيى, وأنه مضى الى العطّار وعرضه عليه, فقال: ويحك, كيف وقع هذا الجراب في يدك؟
فقلت: أو تعرفه؟
قال: نعم اشترى مني فلان الهاشمي منذ ثلاثة أيام عشرة جرب لا أدري لأي شيء أرادها وهذا منها.
فقلت له: ومن فلان الهاشمي؟
فقال: رجل من ولد علي بن ريطة من ولد المهدي يقال له: فلان عظيم, الا أنه شر الناس وأظلمهم وأفسدهم لحوم المسلمين وأشدّهم تشوّقا الى مكائدهم, وليس في الدنيا من ينهي خبره الى الكعتضد خوفا من شرّه ولفرط تمكّنه من الدولة والمال.
ولم يزل يحدّثني وأنا أسمع أحاديث له قبيحة الى أن قال:
فحسبك أنه كان يعشق منذ سنين فلانة المغنية جارة فلانة المغنية, وكانت كالدينار المنقوش وكالقمر الطالع في غاية حسن الغناء, فساوم مولاتها فيها, فلم تقاربه, فلما كان منذ أيام بلغه أن سيدتها تريد بيعها لمشتر بذل فيها ألوف الدنانير, فوجه اليها: لا أقلّ من أن تنفذيها اليّ لتودعني, فأنفذتها اليه بعد أن أنفذ اليها جذورها لثلاثة أيّام, فلما انقضت الأيام الثلاثة غصبها عليها وغيّبها عنها, فما يعرف لها خبر, وادّعى أنها هربت من داره. وقالت الجيران: انه قتلها, وقال قوم: لا بل هي عنده. وقد أقامت سيدتها عليها المأتم وجاءت وصاحت على بابه وسوّدت وجهها, فلم ينفعها سيء.
فلما سمع المعتضد سجد لله شكرا لله تعالى على انكشاف الأمر له, وبعث في الحال من كبس على الهاشميّ وأحضر المغنّية, وأخرج اليد والرجل الى الهاشمي, فلما رآهما امتقع لونه وأيقن بالهلاك واعترف, فأمر المعتضد بدفع ثمن الجارية الى مولاتها من بيت المال, وصرفها, ثم حبس الهاشمي, فيقال: انه قتله, ويقال: مات في الحبس.



·روي عن الرشيد أنه رأى يوما في داره حزمة خيزران, فقال لوزيره الفضل بن الربيع: ما هذه؟ فقال: عروق الرماح يا أمير المؤمنين. ولم يرد أن يقول الخيزران لموافقته اسم أم الرشيد.
وقال الفضل: ايّاكم ومخاطبة الملوك بما يقتضي الجواب, فانهم ان أجابوكم شق عليهم, وان لم يجيبوكم شق عليكم.
قال ثعلب: قلت للحسن بن سهل: وقد كثر عطاؤه على اختلال حاله: ليس في السرف خير, فقال: بل ليس في الخير سرف. فرد اللفظ واستوفى المعنى.



·ورأى الفتح بن خاقان في لحية المتوكّل شيئا فلم يمسه بيده, ولا قال له شيئا, ولكنه نادى:
يا غلام مرآة أمير المؤمنين.
فجيء بها حتى أخذ المتوكّل ذلك الشيء بيده.



·حدثنا أبو علي بن مقلة قال: كنت أكتب لأبي الحسن بن الفرات أخدم بين يديه, فكنت كذلك معه الى أن تقلّد الوزارة الأولى, فلمّا وقعت فتنة ابن المعتز أمر بقبض ما في دور المخالفين الذين بايعوا ابن المعتز, وكانت أمتعتهم تقبض ونحمل اليه فيراها وينفذها الى خزائن المقتدر.
فجاؤوه يوما بصندوقين, فقالوا له: هذان وجدناهما في دار ابن المعتز.
فقال: أفعلمتم ما فيهما؟
قالوا: نعم, جرائد من بايعه من الناس بأسنائهم وأنسابهم.
فقال: لا تفتح.
ثم قال: يا غلمان هاتوا نارا, فجاء الفرّاشون بفحم, وأمرهم فأججوا النار, وأقبل عليّ وعلى من كان حاضرا, فقال: والله لو رأيت من هذين الصندوقين ورقة واحدة لظن كل من له فيها اسم أني قد عرفته, فتفسد نيّات العالم كلهم عليّ وعلى الخليفة, وما هذا رأي, حرّقوهما.
قال: فطرحا بأقفالهما الى النار, فلما احترقا بحضرته أقبل عليّ فقال: يا أبا علي, قد أمّنت كل من جنى وبايع ابن المعتز, وأمرني الخليفة بأمانة, فاكتب للناس الأمان مني, ولا يلتمس منك أحد أمانا _كائنا من كان_ الا كتبته له وجثني به لأوقع فيه, فقد أفردتك لهذا العمل.
ثم قال: لمن حضر: أشيعوا ما قلته حتى يأنس المستترون بأبي علي ويكاتبوه في طلب الأمان, فشكرناه. ودعت الجماعة له وشاع الخبر وكتبت الأمانات, فكتب في ذلك مئة ألأف أو نحوها.



·وكان أبو علي بن مقلة يوما يأكل, فلما رفعت المائدة وغسل يده رأى على ثوبه نقطة صفراء من الحلوى التي كان يأكلها, ففتح الدواة واستمد منها نقطة على الصفرة حتى لم يبقى لها أثر, وقال: ذلك أثر شهوة, وهذا أثر صناعتي, ثم أنشد:
انّما الزعفران عطر العذارى ومداد الدواة عطر الرجال


الفصل الرابع
من ذكاء الأمراء والولاة
·قال المؤلّف: بلغني أن رجلا من خراسان قدم الى بغداد للحج, وكان معه عقد من الجواهر يساوي ألف دينار, فاجتهد في بيعه, فلم يوفق, فجاء الى عطّار موصوف بالخير, فأودعه ايّاه, ثم حج وعاد فأتاه بهديّة.
فقال له العطار: من أنت وما هذا؟
فقال: أنا صاحب العقد الذي أودعتك.
فما كلّمه حتى رفسه رفسة رماه بها عن دكّانه, وقال: تدّعيب عليّ مثل هذه الدعوى؟
فاجتمع بالناس وقالوا للحاج: ويلك, هذا رجل خير, ما لحقت من تدّعي عليه الا هذا؟
فتحيّر الحاج وتردد اليه, فما زاده الا شتما وضربا, فقيل له: لو ذهبت الى عضد الدولة, فله في هذه الأشياء فراسة.
فكتب قصّته وجعلها على قصبة ورفعها لعضد الدولة, فصاح به, فجاء, فسأله عن حاله, فأخبره بالقصّة, فقال:
اذهب الى العطار غدا, واقعد على دكّانه, فان منعك فاقعد على دكان تقابله, من الصبح الى المغرب, ولا تكلّمه, وافعل هذا ثلاثة أيّام, فاني أمرّ عليك في اليوم الرابع وأقف وأسلّم عليك, فلا تقم لي ولا تزدني على ردّ السلام وجواب ما أسألك عنه, فاذا انصرفت فأعد على ذكر العقد, ثم أعلمني ما يقول لك, فان أعطاكه فجىء به اليّ.
فجاء الى دكّان العطّار ليجلس فمنعه, فجلس بمقابلته ثلاثة أيّام, فلما كان اليوم الرابع اجتاز عضد الدولة في موكبه العظيم, فلما رأى الخراساني وقف وقال: السلام عليك.
فقال الخراساني ولم يتحرّك: وعليكم السلام.
فقال: يا أخي تقدم فلا تأتي الينا ولا تعرض حوائجك علينا؟
فقال كما اتفق ولم يشبعه الكلام, وعضد الدولة يسألأه ويستخفي وقد وقف ووقف العسكر كله, والعطار قد أغمي عليه من الخوف.
فلما انصرف التفت العطار الى الحاج فقال: ويحك متى أودعتني هذا العقد؟ وفي أي شيء كان ملفوفا؟ ذكّرني لعلي أذكره.
فقال: من صفته كذا وكذا.
فقام وفتش, ثم نقض جرّة عنده فوقع العقد, فقال: قد كنت نسيت, ولو لم تذكّرني الحال ما ذكرت.
فأخذ العقد وذهب. ثم قال: وأي فائدة لي في أن أ‘لم عضد الدولة, ثم قال في نفسه: لعلّه يريد أن يشتريه.
فذهب اليه فأعلمه, فبعث به مع الحاجب الى دكّان العطّار, فعلّق العقد في عنق العطار وصلبه بباب الدكان ونودي عليه: هذا جزاء من استودع فجحد.



·وذكر محمد بن عبد الملك الهمداني في تاريخه أنه بلغ الى عضد الدولة خبر قوم من الأكراد يقطعون الطريق, ويقيمون في جبال شاقة, فلا يقدر عليهم, فاستدعى أحد التجار ودفع اليه بغلا عليه صندوقان فيهما حلوى قد شيبت بالسم, وأكثر طيبها, وأعطاه دنانير, وأمره أن يسير مع القافلة, ويظهر أن هذه هدية لاحدى نساء أمراء الأطراف.
ففعل التاجر ذلك وسار أمام القافلة, فنزل القوم وأخذوا الأمتعة والأموال وانفرد أحدهم بالبغل وصعد به مع جماعتهم الى الجبل, وبقي المسافرون عراة, فلما فتح الصندوق وجد الحلوى يضوع طيبها, ويدهش منظرها ويعجب ريحها, وعلم أنه لا يمكنه الاستبداد بها, فدعا أصحابه, فرأوا ما لم يروه أبدا قبل ذلك, فأمعنوا في الأكل عقيب مجاعة, فانقلبوا فهلكوا عن آخرهم, فبادر التجار الى أخذ أموالهم وأمتعتهم ويلاحهم, واستردوا المأخوذ عن آخره.
فلم أسمع بأعجب من هذه المكيدة, محت أثر العاتين وحصدت شوكة المفسدين.



·قدم بعض التجار من خراسان ليحج, فتأهب للحج وبقي معه ألف دينار لا يحتاج اليها, فقال: ان حملتها خاطرت بها, وان أودعتها خفت جحد المودع.
فمضى الى الصحراء, فرأى شجرة خروع, فحفر تحتها ودفنها ولم يره أحد, ثم خرج الى الحج وعاد, فحفر المكان فلم يجد شيئا, فجعل يبكي ويلطم وجهه, فاذا سئل عن حاله قال: الأرض سرقت مالي.
فلما كثر ذلك منه قيل له: لو قصدت عضد الدولة فان له فطنة.
فقال: أويعلم الغيب؟
فقيل له: لا بأس بقصده.
فأخبره بقصّته, فجمع الأطباء وقال لهم: هل داويتم في هذه السنة أحد بعروق الخروع؟
فقال أحدهم: أنا داويت فلانا وهو من خواصّك.
فقال: عليّ به.
فجاء فقال له: هل تداويت هذه السنة بعروق الخروع؟
قال: نعم.
قال: من جاءك به؟
قال: فلان الفرّاش.
قال: عليّ به.
فلما جاء قال: من أين أخذت عروق الخروع؟
فقال: من المكان الفلاني.
فقال: اذهب بهذا معك فأره المكان الذي أخذت منه.
فذهب معه بصاحب المال الى تلك الشجرة, وقال: من هذه الشجرة أخذت.
فقال الرجل: ههنا والله تركت مالي, فرجع الى عضد الدولة فأخبره, فقال للفرّاش: هلمّ بالمال, فتلكأ, فأوعده وهدّده فأحضر المال.



·حكى السلامي الشاعر قال: دخلت على عضد الدولة, فمدحته فأجزل عطيّتي من الثياب والدنانير وبين يديه حسام خرواني فرآني ألحظه, فرمى به اليّ وقال: خذه.
فقلت: وكل خير عندنا من عنده.
فقال عضد الدولة: ذاك أبوك!
فبقيت متحيّرا لا أدري ما أراد, فجئت أستاذي فشرحت له الحال, فقال:
ويحك! قد أخطأت عظيمة, لأن هذه الكلمة لأبي نوّاس يصف كلبا حيث يقول:
أنعت كليا أهله في كدّه قد سعدت جدودهم بجدّه
وكل خير عندنا من عنده
قال: فعدت متوشحا بكساء فوقفت بين يدي عضد الدولة فقال: ما بك؟
فقلت: حممت الساعة.
فقال: هل تعرف سبب حمّاك؟
قلت: نظرت في ديوان أبي نوّاس.
فقال: لا تخف, لا بأس عليك من هذه الحمّى.
فشكرته وانصرفت.



·وروى أبو الحسن بن هلال بن المحسن الصابي في تاريخه قال: حدّثني بعض التجار, قال: كنت في المعسكر, واتفق أن ركب السلطان جلال الدولة يوما الى الصيد على عادته, فلقيه سوادي يبكي, فقال: ما لك؟
فقال: لقيني ثلاثة غلمان أخذوا حمل بطيّخ معي وهو بضاعتي.
فقال: امض الى المعسكر فهناك قبّة حمراء, فاقعد عندها ولا تبرح الى آخر النهار, فأنا أرجع وأعطيك ما يغنيك.
فلما عاد السلطان, قال لبعض شرّائه: قد اشتهيت بطيّخا ففتش العسكر وخيمهم على شيء منه.
ففعل وأحضر البطيّخ, فقال: عند من رأيتموه؟
فقيل: في خيمة فلان الحاجب.
فقال: أحضروه. فقال له: من أين هذا البطيخ؟
فقال: الغلمان جاؤوا به.
فقال: أريدهم الساعة.
فمضى وقد أحسّ بالشر, فهرب الغلمان خوفا من أن يقتلوا, وعاد فقال: قد هربوا لما علموا بطلب السلطان لهم.
فقال: أحضروا السوادي.
قال: نعم.
قال: فخذه وامض مصاحبا السلامة.



·نزل أمير بقرية, فاحتاج الى المزيّن يمسح شعره, فجاء الأمير وحده اليه, وقال:
أنا حاجب هذا الأمير الذي قد نزل بكم, فامسح شعري, فان كنت حاذقا جاء الأمير فمسحت شعره.
وانما فعل ذلك لئلا يعلم أنه الأمير فينزعج ويجرحه.



·روي أن معن بن زائدة دخل على أبي جعفر أمير المؤمنين, فقارب في خطوه, فقال له أبو جعفر: كبرت سنّك يا معن.
فقال: في طاعتك يا أمير المؤمنين.
قال: وانك لجلد.
قال: على أعدائك.
قال: وان فيك لبقيّة.
قال: هي لك.



·قال المأمون لعبد الله بن طاهر: أيهما أطيب مجلسي أو منزلك؟
قال: ما عدلت به يا أمير المؤمنين.
قال: ليس لي الى هذا, انما ذهبت الى الموافقة في العيش واللذة.
قال: منزلي يا أمير المؤمنين.
قال: ولم ذلك؟
قال: لأني فيه مالك وأنا ههنا مملوك.




·ورأى ابن طولون يوما حمّالا يحمل صندوقا وهو يضطرب تحته, فقال: لو كان هذا الاضطراب من ثقل المحمول لغاصت عنقه وأنا أرى عنقه بارزة, وما هذا الا من خوف ما يحمل.
فأمر بحطّ الصندوق, فوجد فيه جارية قد قتلت وقطّعت, فقال: اصدقني عن حالها.
فقال: أربعة نفر في الدار الفلانيّة أعطوني هذه الدنانير وأمروني بحمل هذه المقتولة.
فضرب الحمّال مئتي ضربة بعصا, وأمر بقتل الأربعة.



·وكان ابن طولون يبكر ويخرج, فسمع قراءة الأئمة في المحاريب, فدعا بعض أصحابه يوما وقال: امض الى المسجد الفلاني, وأعط امامه هذه الدنانير.
قال: فمضيت فجلست مع الامام وباسطته حتى شكا أن زوجته ضربها الطلق, ولم يكن معه ما يصلح به شأنها, وأنه صلى فغلط مرارا في القراءة,
فعدت الى ابن طولون فأخبرته.
فقال: لقد صدق, لقد وقفت أمس,, فرأيته يغلط كثيرا فعلمت أ، شيئا شغل قلبه.



·نظر بعض العمّال في ديوانه الى رجل يصغي الى سرّه, فأمر بضربه وحبسه.
فقال كاتب الحبس: كيف أكتب قصّته؟
قال: اكتب استرق السمع فأتبعه شهاب ثاقب.



·قال الحسين بن الحسن بن أحمد بن يحيى الواثقي, قال: كان جدّي يتقلبّد شرطة بغداد للمكتفي بالله, فعمل اللصوص في أيامه عملة عظيمة, فاجتمع التجار وتظلموا الى المكتفي بالله, فألزمه باحضار اللصوص أو غرامة المال, فتحيّر حتى كان يركب وحده ويطوف بالليل والنهار, الى أن اجتاز يوما في زقاق خال في بعض أطراف بغداد, فدخله فرأى على بعض أبواب دور الزقاق شوكة سمكة كبيرة, وعظم الصلب, وتقدير ذلك أن تكون السمكة فيها مئة وعشرون رطلا, فقال لواحد من أصحاب المسالخ:
ويحك, ما ترى عظام هذه السمكة كم تقدّر ثمنها؟
قال: دينار.
فقال: أهل هذا الزقاق لا تحمل أحوالهم شراء مثل هذه السمكة لأنه زقاق الى جانب الصحراء لا ينزله من معه شيء يخافه, أو له مال ينفق منه مثل هذه النفقة, وما هي الا بليّة يجب أن يكشف عنها.
فاستبعد الرجل هذا, وقال: هذا فكر بعيد.
فقال: اطلبوا امرأة من الدرب أكلمها.
فدق بابا غير الباب الذي عليه الشوك واستسقى ماء, فخرجت عجوز ضعيفة, فما زال يطلب شربة بعد شربية وهي تسقيهم, والواثقي من خلال ذلك يسأل عن الدرب وأهله, وهي تخبره غير عارفة بعواقب ذلك الى أن قال لها: فهذه الدار من يسكنها؟ وأومأ الى التي عليها عظام السمك.
فقالت: والله ما ندري على الحقيقة من سكّانها الا أن فيها خمسة شباب أعفار, كأنهم تجار قد نزلوا منذ شهر لا نرتهم يخرجون نهارا الا كل مدة طويلة, وانا نرى الواحد منهم يخرج في الحاجة ويعود سريعا, وهم طول النهار يجتمعون فيأكلون ويشربون ويلعبون بالشطرنج والنرد, ولهم صبي يخدمهم, واذا كان الليل انصرفوا الى دار لهم في الكرخ, ويدعون الصبي في الدار يحفظها, فاذا كان سحرا بليل جاؤوا ونحن نيام لا نعقل بهم وقت مجيئهم.
قال: فقطع الوالي استسقاء الماء ودخلت العجوز, وقال للرجل: هذه صفة لصوص أم لا؟
فقال: توكلوا بحوالي الدار ودعوني على بابها.
وأنفذ في الحال واستدعى عشرة من الرجال, وأدخلهم الى سطوح الجيران, ودق هو الباب, فجاء الصبي ففتح فدخل والرجال معه, فما فاتهم من القوم أحد, وحملهم الى مجلس الشرطة وقرّرهم, فكانوا هم أصحاب الخيانة بعينها, ودلوا على باقي أصحابهم فتبعهم الواثقي, وكان يفتخر بهذه القصة.



·وبلغنا عن بعض ولاة مصر أنه كان يلعب بالحمام فتسابق هو وخادم له فسبقه الخادم, فبعث الأمير الى وزيره ليعلم الحال, فكره الوزير أن يكتب اليه أنك قد سبقت, ولم يدر كيف يكني عن ذلك, فكان ثمّ كاتب فقال: ان رأيت أن تكتب شعرا:
يا أيها الملك الذي جدّه لكل جد قاهر غالب
طائرك السابق لكنّه أتى وفي خدمته حاجب
فاستحسن ذلك وأمر له بجائزة.



·وجيء الى ابن النسوي برجلين قد اتهما بالسرقة فأقامهما بين يديه, ثم قال: شربة ماء, فجاء بها, فأخذ يشرب ثم ألقاها من يده عمدا فوقعت فانكسرت, فانزعج أحد الرجلين لانكسارها وثبت الآخر, فقال للمنزعج: اذهب أنت, وقال للآخر: ردّ ما أخذت.
فقيل له: من أين علمت؟
فقال: اللص قوي القلب لا ينزعج, وهذا المنزعج بريء, لأنه لو تحرّكت في البيت فأرة لأزعجته ومنعته من أن يسرق.



·وذكر أن رجلا من جيران ابن النسوي كان يصلي بالناس دخل على ابن النسوي في شفاعة, وبين يديه صحن فيه قطائف فقال له: كل, فامتنع, فقال: كأنني بك وأنت تقول: من أين لابن النسوي شيء حلال؟ ولكن كل, فما أكلت قط أحلّ من هذا.
فقال بحكم المداعبة: من أين لك شيء لا يكون فيه شبهة؟
فقال: ان أخبرتك تأكل؟
قال: نعم.
فقال: كنت منذ ليال في مثل هذا الوقت, فاذا الباب يدق, فقالت الجارية: من؟ فقالت: امرأة تستأذن, فأذنت لها, فدخلت, فأكبّت على قدمي تقبّلها, فقلت: ما حاجتك؟ قالت: لي زوج وليب منه ابنتان لواحدة اثنا عشرة سنة والأخرى أربع عشرة سنة, وقد تزوّج عليّ وما يقربني والأولاد يطلبونه, فيضيق صدري لأجلهم, وأريد أن يجعل ليلة لي وليلة لتلك, فقلت لها: ما صناعته؟ فقالت: خبّاز, قلت: وأين دكّانه؟ قالت: بالكرخ. ويعرف بفلان بن قللان. فقلت: وأنت بنت من؟ فقالت: بنت فلانة, قلت: فما اسم بناتك؟ قالت: فلانة وفلانة... قلت: أنا أردّه اليك ان شاء الله تعالى, فقالت: هذه شقة قد غزلتها أنا وابنتاي, وأنت في حل منها. قلت: خذي شقتك وانصرفي.
فمضت, فبعثت اليه اثنين وقلت: أحضراه ولا تزعجاه. فأحضراه وقد طار عقله, فقلت: لا بألأس عليك انما استدعيتك لأعطيك كرا طعام وعمالته تقيمه خبزا للرحّالة.
فسكن روعه وقال: ما أريد لي عمالة.
قلت: بلى. صديق مخسر عدو مبين. أنت منّي واليّ. كيف هي زوجتك فلانة؟ تلك بنت عمّي, وكيف بناتها فلانة وفلانة؟
فقال: بكل خير.
قلت: الله الله, لا أحتاج أن أوصيك لا تضيق صدرها.
فقبّل يدي, فقلت: امض الى دكّانك وان كان لك حاجة فالموضوع بحكمك, فانصرف.
فلما كان في هذه الليلة جاءت المرأة فدخلت وهذا الصحن معها, وأقسمت عليّ ألا أردّها, وقالت: قد جمعت شملي وشمل أولادي, وهذا والله من ثمن غزلي, فبالله لا ترده, فقبلته. هل هو حلال؟
فقال: والله ما في الدنيا أحل من هذا.
فقال: كل, فأكل.



·كان بعض العمّال واقفا على رأس أمير, فأخذه البول. فخرج, فلما جاء قال: أين كنت؟ قال: أصوب الرأي. يعني أنه لا رأي لحاقن.



·حدّثني بعض الشيوخ قال: سرق من رجل خمسمئة دينار, فحمل المتهمون الى الوالي.
فقال الوالي: أنا ما أضرب أحدا منكم. بل عندي خيط ممدود في بيت مظلم, فادخلوا فليمرّ كل منكم يده عليه من اوّل الخيط الى آخره ويلف يده في كمّه ويخرج, فان الخيط يلف على يد الذي سرق.
وكان قد سوّد الخيط بسخام, فدخلوا, فكلهم جرّ يده على الخيط في الظلمة الا واحدا منهم, فلما خرجوا نظر الى أيديهم مسودّة الا وحدا فألزمه بالمال, فأقرّ به.


الفصل الخامس
من ذكاء القضاة
·حدثنا الشعبي قال: جاءت امرأة الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: أشكو اليك خير أهل الدنيا الا رجل سبقه بعمل أو عمل مثل عمله: يقوم الليل حتى يصبح, ويصوم النهار حتى يمسي.
ثم أخذها الحياء فقالت: أقلني يا أمير المؤمنين.
فقال: جزاك الله خيرا فقد أحسنت الثناء, قد أقلتك.
فلما ولّت قال كعب بن سور: يا أمير المؤمنين: قد أبلغت اليك في الشكوى.
فقال: ما اشتكت؟
قال: زوجها.
قال: عليّ بالمرأة وزوجها.
فجيء بهما, فقال لكعب: اقض بينهما.
قال: أأقضي وأنت شاهد؟
قال: انك قد فطنت لما لم أفطن اليه.
قال: فان الله يقول:" انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع", صم ثلاثة أيام وأفطر عندها يوما, وقم ثلاث ليال وبت عندها ليلة.
فقال عمر: لهذا أعجب اليّ من الأوّل, فرحّله بدابة وبعثه قاضيا لأهل البصرة.



·أخبرنا مجالد بن سعيد قال: قلت للشعبي: يقال في المثل: ان شريحا أدهى من الثعلب وأحيل, فما هذا؟
فقال لي في ذلك: ان شريحا خرج أيام الطاعون الى النجف, وكان اذا قام يصلي يجيء ثعلب فيقف تجاهه, فيحاكيه ويخيل بين يديه, فيشغله عن صلاته, فلما طال ذلك عليه نزع قميصه, فجعله على قصبة, وأخرج كمّيه وجعل قلنسوته وعمامته عليه, فأقبل الثعلب, فوقف على عادته, فأتى شريح من خلفه, فأخذه بغتة, فلذلك يقال: هو أدهى من الثعلب وأحيل.



·حدّث الشعبي قال: شهدت شريحا وقد جاءته امرأة تخاصم رجلا, فأرسلت عينيها فبكت.
فقلت: يا أبا أميّة, ما أظن هذه البائسة الا مظلومة.
فقال: يا شعبي, ان اخوة يوسف " وجاؤوا أباهم عشاء يبكون".



·وقيل ان شريحا خرج من عند زياد وهو مريض, فأرسل اليه مسروق بن الأجدع رسولا يسأله: كيف وجدت الأمير؟
قال: تركته يأمر وينهي.
فقيل له: انه يعرّض.
فأعاد عليه السؤال فقال: يأمر بالوصيّة وينهى عن النياحة.


·وأتى عديّ بن أرطأة شريحا وهو في مجلس القضاء, فقال لشريح: أين أنت؟
قال: بينك وبين الحائط.
قال: اسمع مني.
قال: لهذا جلست مجلسي.
قال: اني رجل من أهل الشام.
قال: الحبيب القريب.
قال: وتزوّجت امرأة من قومي.
قال: بارك الله لك, بالرفاه والبنين.
قال: وشرطت لأهلها أن لا أخرجها.
قال: الشرط أملك.
قال: وأريد الخروج.
قال: في حفظ الله.
قال: اقض بيننا.
قال: قد فعلت.



·دخل على ايّاس بن معاوية ثلاثة نسوة, فقال: أما واحدة فمرضع, والأخرى بكر, والثالثة ثيّب.
فقيل: بم علمت؟
قال: أما المرضع فانها لما قعدت أمسكت ثديها بيدها, وأما البكر فلما دخلت لم تلتفت الى أحد, وأما الثيّب فلما دخلت رمقت بعينها يمينا وشمالا.



·استودع رجلا من أمناء اياس مالا, وكان أمينا لا بأس به, وخرج المستودع الى مكّة, فلما رجع طلبه فجحده, فأتى اياسا فأخبره.
فقال له اياس: أعلم أنك أتيتني؟
قال: لا.
قال: فنازعته عند أحد؟
قال: لا.لم يعلم أحد بهذا.
قال: فانصرف واكتم أمرك, ثم عد اليّ بعد يومين.
فمضى الرجل, فدعا اياس أمينه على ذلك, فقال: قد حضر مال كثير أريد أن أسلمه اليك, أفحصين منزلك؟
قال: نعم.
قال: فأعد موضعا للمال وقوما يحملونه.
وعاد الرجل الى اياس, فقال له: انطلق الى صاحبك, فاطلب المال, فان أعطال فذاك, وان جحدك فقل له: اني أخبر القاضي.
فأتى الرجل صاحبه فقال: مالي, والا أتيت القاضي وشكوت اليه, وأخبرته ما جرى, فدفع اليه ماله, فرجع الرجل الى اياس فقال: قد أعطاني المال.
وجاء الأمين الى اياس فزبره وانتهره, وقال: لا تقربني يا خائن.



·وذكر الجاحظ أن اياس بن معاوية نظر الى صدع في أرض فقال: تحت هذا دابة.
فنظروا فاذا هي حية, فقيل له: من أين علمت؟
قال: رأيت ما بين الآجرتين نديا من بين جميع تلك الرحبة, فعلمت أن تحتها شيئا يتنفس.



·قال الجاحظ: وحج اياس فسمع نباح كلب, فقال: هذا كلب مشدود, ثم سمع نباحه, فقال: قد أرسل.
فانتهوا الى القوم, فسألوهم فكان كما قال, فقيل له: من أين علمت؟
قال: كان نباحه وهوممسك يسمع من مكان واحد, ثم سمعته يقرب مرة ويبعد أخرى.



·ومرّ اياس ليلة بماء فقال: أسمع صوت كلب غريب.
فقيل له: كيف عرفته؟
قال: بخضوع صوته وشدّو نباح الآخرين.
فسألوا, فاذا كلب غريب والكلاب تنبحه.



·تقلّد القضاء في واسط رجل ثقة كثير الحديث, فجاء رجل فاستودع بعض الشهود كيسا مختوما ذكر أن فيه ألف دينار, فلما حصل الكيس عند الشاهد وطالت غيبة الرجل قدّر أنه قد هلك, فهمّ بانفاق المال, ثم دبّر وفتق الكيس من أسفله, وأخذ الدنانير, وجعل مكانها دراهم, وأعاد الخياطة كما كانت.
وقدّر أن الرجل وافى وطلب الشاهد بوديعته, فأعطاه الكيس بختمه, فلما حصل في منزله فضّ ختكه فصادف في الكيس دراهم, فرجع الى الشاهد, فقال له: عافاك الله, اردد عليّ مالي فاني استودعتك دنانير والذي وجدت دراهم مكانها.
فأنكره ذلك, فاستدعى عليه القاضي المقدّم ذكره, فأمر باحضار الشاهد مع خصمه, فلما حضرا سأل الحاكم: منذ كم أودعته هذا الكيس؟
قال: منذ خمسة عشر سنة.
فأخذ القاضي الدراهم وقرأ سككها, فاذا هي دراهم منها ما ضرب منذ سنتين وثلاث ونحوها, فأمره أن يدفع الدنانير اليه, فدفعها اليه وأسقطه وقال له: يا خائن.
ونادى مناديه: ألا ان فلان بن فلان القاضي قد أسقط فلان بن فلان الشاهد, فاعلموا ذلك ولا يغترنّ به أحد بعد اليوم.
فباع الشاهد أملاكه في واسط وخرج عنها هاربا, فلم يعلم له خبر ولا أحس منه أثر.



·استودع رجا رجلا مالا, ثم طلبه فجحده, فخاصمه الى اياس بن معاوية, فقال الطالب: اني دفعت المال اليه.
قال: ومن حضر؟
قال: دفعته في مكان كذا وكذا, ولم يحضرنا أحد.
قال: فأي شيء في ذلك الموضع؟
قال: شجرة.
قال: فانطلق الى ذلك الموضع وانظر الشجرة, فلعل الله تعال يوضح لك هناك ما يتبيّن به حقك, لعلك دفنتمال عند الشجرة ونسيت, فتتذكّر اذا رأيت الشجرة.
فلما مضى الرجل, قال اياس للمطلوب: اجلس حتى يرجع خصمك, فجلس واياس يقضي وينظر اليه ساعة, ثم قال له: يا هذا, أـرى صاحبك بلغ موضع الشجرة التي ذكر؟
قال: لا.
قال: يا عدوّ الله .. انك لخائن.
قال: أقلني أقالك الله.
فأمر من يحتفظ به حتى جاء الرجل, فقال له اياس: قد اقرّ لك بحقك فخذه.



·اختصم الى قاضي القضاة الشاميّ يوما رجلان وهو بجامع المنصور, فقال أحدهما: اني أسلمت الى هذا عشرة دنانير.
فقال للآخر: ما تقول؟
قال: ما أسلم اليّ شيئا.
فقال للطالب: هل لك بيّنة؟
قال: لا.
قال: ولا سلمتها اليه بعين أحد؟
قال: لا, لم يكن هناك الا الله عز وجل.
قال: فأين سلّمتها اليه؟
قال: بمسجد بالكرخ.
فقال للمطلوب: أتحلف؟
قال: نعم.
قال للطالب: قم الى ذلك المسجد الذي سلمتها اليه وائتني بورقة من مصحف لأحلّفه بها.
فمضى الرجل واعتقل القاضي الغريم, فلما مضت ساعة التفت القاضي اليه فقال: أتظن أنه بلغ ذلك المسجد؟
فقال: لا ما بلغ اليه.
فكان هذا كالاقرار, فأمره بالذهب فأقرّ به.



·ولي يحيى بن أكثم قضاة البصرة وسنّه عشرون أو نحوها, فقال له أحدهم: كم سنّ القاضي؟
فعلم أنه قد استصغره فقال له: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجّه به النبي صلى الله عليه وسلّم قاضيا على أهل مكّة يوم الفتح, وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجّه به النبي صلى الله عليه وسلّم قاضيا على أهل اليمن, وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجّه به عمر بن الخطّاب قاضيا على أهل البصرة.



·كان المطلب بن محمّد الحنظي على قضاء مكّة, وكان عنده امرأة قد مات عندها أربعة أزواج.
فمرض مرض الموت, فجلست عند رأسه تبكي, وقالت: الى من توصي بي؟
قال: الى السادس الشقي.



·وبلغنا أن رجلا جاء الى أبي حازم فقال له: ان الشيطان يأتيني فيقول: انّك قد طلّقت زوجتك, فيشكّكني.
فقال له: أوليس قد طلّقتها؟
قال: لا.
قال: ألم تأتني أمس فطلّقتها عندي؟
فقال: والله ما جئتك الا اليوم ولا طلّقتها بوجه من الوجوه.
قال: فاحلف للشيطان اذا جاءك كما حلفت لي وأنت في عافية.








الفصل السادس

من ذكاء العلماء والفقهاء
·قال الشعبي: دخلت على عبد الملك بن مروان فقال: كم عطاءك؟
فقلت: ألفي درهم, فجعل يسارّ أهل الشام ويفول: لحن العراقي!
ثم قال: كم عطاؤك؟ _ لأردّ قولي, فيغلظني_ فقلت: ألفا درهم.
فقال: ألم تقل: ألفي درهم؟
فقلت: لحنت يا أمير المؤمنين فلحنت, لأني كرهت أن تكون راجلا وأكون فارسا.
فقال: صدقت. واستحيا.



·أخبرنا جرير قال: جئنا الأعمش يوما, فوجدناه قاعدا في ناحية, فجلسنا في ناحية أخرى, وفي الموضع خليج من ماء المطر, فجاء رجل عليه سواد, فلما بصر بالأعمش وعليه فروة حقيرة قال:
قم عبّرني هذا الخليج.
وجذب بيده, فأقامه وركبه, وقال: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنّا له مقرنين}.
فمضى به الأعمش حتى توسّط به الخليج ثم رمى به وقال:{ وقل ربّ أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين}.
ثم خرج وترك المسود يتخبّط في الماء.



·ومن المنقول عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: أخبرنا ابن المبارك قال:
رأيت أبا حنيفة في طريق مكّة وشوي لهم فيصل ثمين, فاشتهوا أن يأكلوه بخل فلم يجدوا شيئا يصبّون فيه الخلّ, فتحيّروا, فرأيت أبا حنيفة وقد حفر في الرمل حفرة وبسط عليها السفرة, وسكب الخلّ على ذلك الموضع, فقالوا له: تحسن كل شيء. فقال: عليكم بالشكر فان هذا شيء ألهمته لكم فضلا من الله عليكم.



·حدّثنا محمّد بن الحسن قال: دخل اللصوص على رجل, فأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثا أن لا يعلم أحدا.
فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقد أن يتكلّم من أجل يمينه, فجاء يشاور أبا حنيفة, فقال له أبو حنيفة:
أحضرني امام حيّك والمؤذن والمستورين منهم.
فأحضره اياهم فقال لهم أبو حنيفة: هل تحبّون أن يرد الله على هذا متاعه؟
قالوا: نعم.
قال: فاجمعوا كل متهم فأدخلوهم في دار أو في مسجد, ثم أخرجوهم واحدا واحدا, فقولوا "هذا لصك؟", فان كان ليس بلصه فانه يردّ قائلا: "لا", وان كان لصه فيسكت, فاذا سكت فاقبضوا عليه.
ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة, فردّ الله عليه جميع ما سرق منه.



·حدثنا حسين الأشقر قال: كان بالكوفة رجل من الطالبين من خيارهم, فمرّ بأبي حنيفة, فقال له: أين تريد؟
قال: أريد ابن أبي ليلى.
قال: فاذا رجعت أحب أن أراك, وكانوا يتبرّكون بدعائه.
فمضى الى ابن أبي ليلى ثلاثة أيام, واذ رجع مرّ بأبي حنيفة, فدعاه وسلّم عليه, فقال له أبو حنيفة: ما جاء بك ثلاثة أيام الى ابن أبي ليلى؟
فقال: شيء كتمته الناس, فأملت أن يكون عنده فرج.
فقال أبو حنيفة: قل ما هو؟
قال: اني رجل موسر وليس لي من الدنيا الا ابن, كلما زوّجته امرأة طلقها, وان اشتريت لهجارية أعتقها.
فقال أبو حنيفة: اقعد عندي حتى أخرجك من ذلك. فقرّب اليه ما حضر عنده فتغذى عنده, ثم قال له:
ادخل أنت وابنك الى السوق, فأي جارية أعجبته ونالت يدك ثمنها, فاشترها لنفسك لا تشترها له, ثم زوّجها منه, فان طلقها رجعت اليك, وان أعتقها لم يجز عتقه, وان ولدت ثبت نسبه اليك.
قال: وهذا جائز؟
قال: نعم, وهو كما قلت.
فمرّ الرجل الى ابن أبي ليلى فأخبره فقال: هو كما قال لك.



·وعن أبي يوسف قال: دعا المنصور أبا حنيفة, فقال الربيع حاجب المنصور, وكان يعادي أبا حنيفة:
يا أمير المؤمنين, هذا أبو حنيفة يخالف جدّك. كان عبدالله بن عباس يقول:" اذا حلف على اليمين, ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو يومين جاز الاستثناء", وقال أبو حنيفة:" لا يجوز الاستثناء الا متصلا باليمين".
فقال أبو حنيفة:" يا أمير المؤمنين, ان الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب جندك بيعة!
قال: وكيف؟
قال: يحلفون لك ثم يرجعون الى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم.
فضحك المنصور وقال: يا ربيع لا تعرض لأبي حنيفة.



·حدثنا يحيى بن جعفر قال: سمعت أبا حنبفة يقول:
احتجت الى ماء بالبادية, فجاءني أعرابي ومعه قربة من ماء, فأبى أن يبيعنيها الا بخمسة دراهم, فدفعت اليه خمسة دراهم وقبضت القربة, ثم قلت: يا أعرابي, ما رأيك في السويق؟
فقال: هات.
فأعطيته سويقا ملتوتا بالزيت, فجعل يأكل حتى امتلأ ثم عطش, فقال: شربة؟
قلت: بخمسة دراهم.
فلم أنقصه من خمسة دراهم على شربة ماء, فاسترددت الخمسة وبقي معي الماء.



·وبلغنا أن رجلا جاء الى أبي حنيفة فشكا له أنه دفن مالا في موضع ولا يذكر الموضع, فقال أبو حنيفة:
ليس هذا فقها فأحتال لك فيه, ولكن اذهب فصلّ الليلة الى الغداة, فانك ستذكره ان شاء الله تعالى.
ففعل الرجل ذلك, فلم يمض الا أقل من ربع الليل حتى ذكر الموضع, فجاء الى أبي حنيفة فأخبره فقال:
قد علمت أن الشيطان لا يدعك تصلي حتى تذكر, فهلا أتممت ليلتك شكرا لله عز وجلّ.



·كان عند الرشيد جارية من جواريه وبحضرته عقد جوهر, فأخذ يقلّبه ففقده فاتهمها, فسألها عن ذلك, فأنكرت. فحلف بالطلاق والعتاق والحج لتصدقنه, فأقامت على الانكار وهو متهم لها.
وخاف أن يكون قد حنث في يمينه, فاستدعى أبا يوسف وقصّ عليه القصة, فقال أبو يوسف:
تخليني مع الجارية وخادم معنا حتى أخرجك من يمينك.
ففعل ذلك. فقال لها أبو يوسف:
اذا سألك أمير المؤمنين عن العقد فأنكريه, فاذا أعاد عليك السؤال فقولي: "قد أخذته", فاذا أعاد عليك الثالثة فأنكري, وخرج, وقال للخادم: لا تق لأمير المؤمنين ما جرى.
ثم قال للرشيد: سلها يا أمير المؤمنين ثلاث دفعات متواليات عن العقد, فانها تصدقك.
فدخل الرشيد فسألها, فأنكرت أول مرّة, وسألها الثانية, فقالت:" نعم قد أخذته", فقال:" أي شيء تقولين؟", فقالت: "والله ما أخذته ولكن هكذا قال لي أبو يوسف".
فخرج اليه فقال: ما هذا؟
قال: يا أمير المؤمنين, قد خرجت عن يمينك لأنها أخبرتك قد أخذته, وأخبرتك أنها لم تأخذه, فلا يخلو أن تكون صادقة في أحد القولين, وقد خرجت أنت من يمينك.
فسرّ ووصل أبا يوسف, فلما كان بعد مدة وجد العقد.



·وبلغنا أن الرشيد قال لأبي يوسف:
ما تقول في الفلوذج واللوزينج, أيهما أطيب؟
فقال: يا أمير المؤمنين, لا اقضي بين غائبين.
فأمر باحضارهما, فجعل أبو يوسف يأكل من هذه لقمة ومن ذاك أخرى حتى نصّف جاميهما, ثم قال: يا أمير المؤمنين, ما رأيت خصمين أجدل منهما, كلما أردت أن أسجل لأحدهما أدلى الآخر بحجة.



·وروي أن المتوكّل قال: رأيت الشافعي وقد جاءه رجل يسأله عن مسألة, فقال: من أهل صنعاء أنت؟ قال: نعم. قال: فلعلك حداد؟ قال: نعم.
حدثنا حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي وقد سأله رجل فقال: حلفت بالطلاق ان أكلت هذه الثمرة أو رميت بها. قال: تأكل نصفها وترمي نصفها.



·وروي أن المتوكّل قال:
أشتهي أن أنادم أبا العيناء, لولا أنه ضرير.
فقال أبو العيناء:
ان عفاني أمير المؤمنين من رؤية الهلال ونقش الخواتم, فاني أصلح.
وسئل أبو العيناء عن حماد بن زيد بن درهم, وعن حمّاد بن سلمة بن دينار فقال: بينهما في القدر ما بين أبوابهما في الصرف.



·جاء رجل الى ابن عقيل فقال: اني كلما أنغمس في النهر غمستين وثلاثا لا أتيقن أنه قد غمسني الماء, ولا أني قد تطهرت فكيف أصنع؟
فقال له: لا تصلي.
فقيل له: كيف قلت هذا؟
قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ, وعن النائم حتى ينتبه, وعن المجنون حتى يفيق", ومن ينغمس في النهر مرة أو مرتين أو ثلاثا ويظن أنه ما اغتسل فهو مجنون.



·ومن المنقول عن بعض الفقهاء, أن رجلا قال له: اذا نزعت ثيابي ودخلت النهر أغتسل, لأتوجه الى القبلة أم الى غيرها؟
قال: توجه الى ثيابك التي نزعتها.



الفصل السابع

من ذكاء الأعراب
·روى عمرو بن معديكرب أنه خرج يوما حتى انتهى الى حي, فاذل بفرس مشدود ورمح مركوز, واذا صاحبه في وهدة يقضي حاجته, قال: فقلت له:
خذ حذرك فاني قاتلك.
قال: ومن أنت؟
قلت: عمرو بن معديكرب.
قال: يا أبا ثور ما أنصفتني. أنت على ظهر فرسك وانا في بئرو فأعطني عهدا أنك لا تقتلني حتى أركب فرسي وآخذ حذري.
فأعطيته عهدا أن لا أقتله حتى يركب فرسه ويأخذ حذره, فخرج من الموضع الذي كان فيه حتى احتبى بسيفه وجلس.
فقلت له: ما هذا؟
قال: ما أنا براكب فرسي ولا مقاتلك, فان كنت نكثت عهدا فأنت أعلم.
فتركته ومضيت, فهذا أحيل من رأيت.



·قدم أعرابي من أهل البادية على رجل من أهل الحضر, وكان عنده دجاج كثير وله امرأة وابنان وابنتان, قال:
فقلت لامرأتي: اشوي لي دجاجة وقدّميها لنا نتغذى بها.
فلما حضر الغداء جلسنا جميعا, أنا وامرأتي وابناي وابنتاي والأعرابي, فدفعنا اليه الدجاجة, فقلنا: "اقسمها بيننا", نريد بذلك أن نضحك منه.
قال: لا أحسن القسمة, فان رضيتم بقسمي قسمت بينكم. قلنا: فاننا نرضى. فأخذ رأس الدجاجة, فقطعه ثم ناولنيه, وقال: الرأس للرئيس, ثم قطع الجناحين قال: والجناحان للابنان, ثم قطع الساقين فقال: والساقان للابنتين, ثم قطع الزمكي وقال: العجز للعجوز, ثم قال: الزور للزائر, فأخذ الدجاجة بأسرها!
فلما كان من الغد قلت لامرأتي: اشوي لنا خمس دجاجات. فلما حضر الغداء قلنا: اقسم بيننا.
قال: أظنكم وجدتم من قسمتي أمس.
قلنا: لا لم مجد, فاقسم بيننا.
فقال: شفعا أو وترا؟
قلنا: وتر.
قال: نعم. أنت وامرأتك ودجاجة ثلاثة, ورمى بدجاجة, ثم قال: وابناك دجاجة ثلاثة, ورمى الثانية. ثم قال: وابنتاك دجاجة ثلاثة, وركى الثالثة. ثم قال: وأنا ودجاجتان ثلاثة.
فأخذ الدجاجتين, فرآنا ونحن ننظر الى دجاجتيه, فقال: ما تنظرون, لعلكم كرهتك قسمتي؟ الوتر ما تجيء الا هكذا.
قلنا: فاقسمها شفعا.
فقبضهن اليه ثم قال: أنت وابناك دجاجة أربعة, ورمى الينا بدجاجة, والعجوز وابنتاها ودجاجة أربعة, ورمى اليهن بدجاجة. ثم قال: وأنا وثلاث دجاجات أربعة, وضم اليه ثلاث دجاجات. ثم رفعها رأسه الى السماء وقال:
الحمد لله أنت فهمتها لي!



·قيل لأعرابي: كيف أصبحت؟
قال: أصبحت وأرى كل شيء مني في ادبار, وادباري في اقبال.



·أقبل أعرابي يريد رجلا وبين يدي الرجل طبق تين, فلما أبصر الأعرابي غطى التين بكسائه, والأعرابي يلاحظه, فجلس بين يديه, فقال له الرجل:
هل تحسن من القرآن شيئا؟
قال: فاقرأ.
فقرأ: {والزيتون * وطور سينين}.
قال الرجل: فأين التين؟
قال: التين تحت كسائك.



·حدثنا عيسى بن عمر قال: ولي أعرابي البحرين, فجمع يهودها وقال:
ما تقولون في عيسى ابن مريم؟
قالوا: نحن قتلناه وصلبناه.
فقال الأعرابي: لا جرم, فهل أديتم ديته؟
فقالوا: لا.
فقال: والله لا تخرجون من عندي حتى تؤدّى اليّ ديته.
فما خرجوا حتى دفعوها له.



·حدثنا ابن قتيبة قال: كان أبو العاج على حوالي البصرة, فأتي برجل من النصارى, فقال: ما اسمك؟
قال: بندار شهر بندار.
فقال: أنتم ثلاثة وجزية واحدة.
لا والله العظيم, فأخذ منه ثلاث جزى.
وولي تبالة: فصعد المنبر فما حمد الله ولا أثنى عليه حتى قال: ان الأمير ولاني بلدكم واني والله ما أعرف من الحق موضع صوتي هذا, ولن أوتى بظالم ولا مظلوم الا أوجعتهما ضربا. فكانوا يتعاطون الحق بينهم ولا يرتفعون اليه.



·أنشد رجل أبا عثمان المازني شعرا له, ثم قال: كيف تراه؟
قال: أراك قد عملت عملا باخراج هذا من جوفك, لأنك لوتركته لأورثك الشك.



·قيل نزل أعرابي في سفينة, فاحتاج الى البزار, فصاح: "الصلاة الصلاة".
فقربوا الى الشط, فخرج فقضى حاجته, ثم رجع فقال:
ادفعوا, فصلاتكم بعد وقت.



·وقف أعرابي على قوم فسألهم عن أسمائهم.
فقال أحدهم: اسمي وثيق.
وقال الآخر: منيع.
وقال الآخر: اسمي ثابت.
فقال الأعرابي: ما أظن الأقفال عملت الا من أسمائكم.



·وقال الأصمعي:
سألت أعرابيّة عن ولدها _ وكنت أعرفه_ فقالت:
مات والله, وقد آمنني الله بفقده المصائب ثم قالت:
وكنت أخاف الدهر ما كان باقيا
فلما تولى مات خوفي من الدهر



الفصل الثامن

في ذكر من احتال بذكائه لبلوغ غرض
·قال المغيرة بن شعبة:
ما غدعني قط غير غلام من بني الحرث بن كعب, فاني ذكرت امرأة منهم وعندي شاب من بني الحرث, فقال:
أيها الأمير انه لا خير لك فيها.
فقلت: ولما.
قال: رأيت رجلا يقبلها.
فأقمت أياما, ثم بلغني أن الفتى تزوج بها, فأرسلت اليه فقلت: ألم تعلمني أنك رأيت رجلا يقبلها؟
قال: بلى, رأيت أباها يقبلها.
فاذا ذكرت الفتى وما صنع غمّني ذلك.



·خطب رجل الى قوم, فقالوا: ما تعالج؟
قال: أبيع الدواب.
فزوّجوه, ثم سألوا عنه, فاذا هو يبيع السنانير, فخاصموه الى شريح فقال: السنانير دواب.
وأنفذ تزويجه.



·أخبرنا الأصمعي أن محمد بن الحنفية أراد أن يقدم الكوفة أيام المختار, فقال المختار حين بلغه ذلك: ان في المهدي علامة يضربه رجل في السوق بالسيف فلا يضرّه.
فلما بلغ ذلك محمد أقام ولم يقدم الكوفة.



·أخبرنا داود بن الرشيد قال: قلت للهيثم بن عديّ: أي شيء استحق سعيد بن عثمان أن ولاه المهدي القضاء, وأنزله منه تلك المنزلة الرفيعة؟
قال: ان خبره في اتصاله بالمهدي ظريف, فان أحببت شرحته لك.
قال: قلت: والله ما أحببت ذلك.
قال: اعلم أنه وافى الربيع الحاجب حين أفضت الخلافة الى المهدي, فقال: استأذن على أمير المؤمنين.
فقال له الربيع: من أنت وما حاجتك؟
قال: أنا رجل قد رأيت لأمير المؤمنين رؤيا صالحة, وقد أحببت أن تذكروني له.
فقال له الربيع: يا هذا ان القوم لا يصدقون ما رأونه لأنفسهم, فكيف ما يراه لهم غيرهم؟
فقال له: ان لم تخبره بمكاني سألت من يوصلني اليه, فأخبرته أني سألتك الاذن عليه, فلم تفعل.
فدخل الربيع على المهدي فقال له: يا أمير المؤمنين, انكم قد أطعمتم الناس في أنفسكم, فقد احتالوا لكم بكل ضرب.
قال له: هكذا صنع المملوك, فما ذاك؟
قال: رجل بالباب يزعم أنه قد رأى لأمير المؤمنين رؤيا حسنة, وقد أحبّ أن يقصها عليه.
فقال له المهدي: ويحك يا ربيع, اني والله أرى الرؤيا لنفسي, فلا تصح لي, فكيف اذا دعاها من لعله قد افتعلها؟
قال: والله قلت له مثل هذا, فلم يقبل.
قال: هات الرجل.
فأدخل اليه سعيد بن عبد الرحمن وكان له رؤية وجمال ومروءة ظاهرة ولحية عظيمة ولسان, فقال له المهدي: هات بارك الله عليك, فماذا رأيت؟
قال: رأيت أمير المؤمنين آتيا أتاني في منامي, فقال لي: أخبر أمير المؤمنين المهدي أنه يعيش ثلاثين سنة في الخلافة, وآية ذلك أنه يرى في ليلته هذه في منامه كأنه يقلّب يواقيت, ثم يعدها, فيجدها ثلاثين ياقوتة, كأنها قد وهبت له.
فقال المهدي: ما أحسن ما رأيت, ونحن نمتحن رؤياك في ليلتك المقبلة على ما أخبرتنا به, فان كان الأمر على ما ذكرته أعطيناك ما تريد, وان كان الأمر بخلاف ذلك, لعلمنا أن الرؤيا ربما صدقت وربما اختلفت.
فقال له سعيد: يا أمير المؤمنين, فما أنا أصنع الساعة اذا صرت الى منزلي وعيالي, فأخبرتهم أني كنت عند أمير المؤمنين ثم رجعت صفرا؟
قال له المهدي: فكيف نعمل؟
قال: يعجّل لي أمير المؤمنين ما أحب وأحلف له بالطلاق أني قد صدقت.
فأمر له بعشرة آلاف درهم, وأمر أ، يؤخذ منه كفيل ليحضره من غد ذلك اليوم, فقبض المال, وقيل من يكفل بك؟
فمدّ عينيه الى خادم فرآه حسن الوجه والزي, فقال: هذا يكفل بي.
فقال له المهدي: أتكفل به؟
فاحمرّ وخجل وقال: نعم. وكفله, وانصرف.
فلما كان في تلك الليلة رأى المهدي ما ذكره له سعيد حرفا حرفا وأصبح سعيد في الباب واستأذن فأذن له, فلما وقعت عين المهدي عليه قال: أين مصداق ما قلت لنا؟
فقال سعيد: امرأتي طالق ان لم تكن رأيت شيئا.
قال له المهدي: ويحك, ما أجرأك على الحلف بالطلاق.
قال: لأنني أحلف على صدق.
قال له المهدي: فقد والله رأيت ذلك مبينا.
فقال له سعيد: الله أكبر! فأنجز يا أمير المؤمنين ما وعدتني.
قال له: حبّا وكرامة. ثم أمر له بثلاثة آلاف دينار, وعشرة تخوت ثياب من كل صنف, وثلاثة مراكب من أنفس دوابه محلاة.
فأخذ ذلك وانصرف, فلحق به الخادم الذي كان كفل به, وقال له: سألتك بالله هل كان لهذه الرؤيا التي ذكرتها من أصل؟
قال له سعيد: لا والله.
قال الخادم: كيف وقد رأى أمير المؤمنين ما ذكرته له؟
قال: هذه من المخاريق الكبار التي لا يأبه لها أمثالكم, وذلك أني لما ألقيت اليه هذا الكلام خطر بباله, وحدّث به نفسه, وأسرّ به قلبه, وشغل به فكره, فساعة نام خيّل له ما حلّ في قلبه, وما كان شغل به فكره في المنام.
قال له الخادم: قد حلفت بالطلاق!
قال: طلقت واحدة, وبقيت معي ثننتين فأرد في مهر عشرة دراهم, وأتخلّص وأتحصّل على عشرة آلاف درهم, وثلاثة آلاف دينار, وعشرة تخوت من أصناف الثياب, وثلاثة مراكب.
فبهت الخادم في وجهه وتعجّب من ذلك, فقال له سعيد: قد صدقتك وجعلت صدقي لك فكافأتك على كفالتك بي, فاستر عليّ ذلك.
ففعل ذلك, فطلبه المهدي لمنادمته, فنادمه وحظي عنده وقلّده القضاء على عسكر المهدي, فلم يزل كذلك حتى مات المهدي.



·قال المحسن بن عليّ التنوخي, عن أبيه قال:
حججت في موسم اثنتين وأربعين, فرأيت مالا عظيما وثيابا كثيرة تفرّق في المسجد الحرام, فقلت: ما هذا؟
فقالوا: بخراسان رجل صالح عظيم النعمة والمال يقال له:"عليّ الزرّاد", أنفذ عام أول مالا وثيابا الى ههنا مع ثقة له, وأمره أن يعتبر قريشا, فمن وجده منها حافظا للقرآن دفع اليه كذا وكذا ثوبا.
قال: فحضر الرجل عام أول, فلم يجد في قريش ألبتة فلم يجد في قريش ألبتة أحدا يحفظ القرآن الا رجلا واحدا من بني هاشم, فأعطاه قسطه, وتحدّث الناس بالحديث, وردّ باقي المال الى صاحبه.
فلما كان في هذه السنة عاد بالمال والثياب, فوجد خلقا عظيما من جميع بطون قريش قد حفظوا القرآن, وتسابقوا الى تلاوته بحضرته, وأخذوا الثياب والدراهم, فقد فنيت وبقي منهم من لم يأخذ, وهم يطالبونه.
قال: فقلت: لقد توصل هذا الرجل الى رد فضائل قريش عليها بما يشكره الله سبحانه له.



·أخبرنا علي بن المحسن, عن أبيه قال:
أخبرني جماعة من شيوخ بغداد أنه كان بها في طرف الجسر سائلان أعميان, أحدهما يتوسّل بأمير المؤمنين عليّ, والآخر بمعاوية, ويتعصّب لهما الناس, ويجمعان القطع, فاذا انصرفا فيقتسمان القطع, وكانا يحتالان بذلك على الناس.



·حدثنا عبد الواحد بن محمد الموصلي, حدثنا بعض فتيان الموصلي قال:
لما قتل ناصر الدولة أبا بكر بن رايق الموصلي نهب الناس داره بالموصل, فدخلت لأنهب, فوجدت كيسا فيه أكثر من ألف دينار, فأخذته وخفت أن أخرج وهو معي كذلك, فيبصرني بعض الجند, فيأخذه مني, فطفت الدار, فوقعت على المطبخ, فعمدت الى قدرة كبيرة فيها سكباج, فطرحت الكيس فيها, وحملتها على يدي, فكل من استقبلني نظر أني ضعيف قد حملني الجوع على أخذ تلك القدرة التي سلمت الى منزلي.



·وحدثني أبو حسن بن عباس القاضي قال:
رأيت صديقا على بعض زوارق الجسر ببغداد جالسا في يوم شديد الريح وهويكتب رقعة, فقلت:
ويحك, في هذا الموضع وهذا الوقت؟!.
قال: أريد أن أزوّر على رجل مرتعش ويدي لا تساعدني, فتعمّدت الجلوس ههنا لتحرك الزورق بالموج في هذه الريح فيجيء خطي مرتعشا فيشبه خطّه.



·دخل أبو دلامة على المهدي, فأنشده قصيدة فقال له: سلني حاجتك.
فقال: يا أمير المؤمنين, تهب لي كلبا.
فغضب وقال: أقول لك, سلني حاجتك فتقول:" هب لي كلبا"؟
فقال: يا أمير المؤمنين, الحاجة لي أم لك.
قال: لا, بل لك.
قال: فاني أسألك أن تهب لي كلب صيد.
فأمر له بكلب, فقال:
يا أمير المؤمنين, هبني خرجت الى الصيد, أأعدو على رجلي؟
فأمر له بدابة.
فقال: يا أمير المؤمنين, فمن يقوم عليها؟
فأمر له بغلام.
فقال: يا أمير المؤمنين, فهبني قصدت صيدا وأتيت به المنزل, فمن يطبخه؟
فأمر له بجارية.
فقال: يا أمير المؤمنين, هؤلاء أين يبيتون؟
فأمر له بدار.
فقال: يا أمير المؤمنين, قد صيّرت في عنقي كفا (أي جمعا من عيال) , فمن أين ما يتقوّت به هؤلاء؟
قال: فان أمير المؤمنين قد أقطعك ألف جريب عامرا وألف جريب غامرا.
فقال: أما العامر فقد عرفته, فما الغامر؟
قال: الخراب الذي لا شيء فيه.
قال: ولكنني أسأل أمير المؤمنين من ألفي جريب جريبا واحدا عامرا.
قال: من أين؟
قال: من بيت المال.
فقال المهدي: حوّلوا المال وأعطوه جريبا.
فقال: يا أمير المؤمنين! اذا حوّلوا منه المال صار غامرا.
فضحك منه وأرضاه.



·كان نصراني يختلف الى الضحاك بن مزاحم, فقال له يوما:
لم لا تسلم؟
قال: لأني أحب الخمر ولا أصبر عليها.
قال: فأسلم واشربها.
فأسلم, فقال له الضحاك:
انك قد أسلمت الآن, فان شربت حددناك, وان رجعت عن الاسلام قتلناك.



·وروي عن ضمرة بن شوذب قال: كان لرجل جارية فوطئها سرا, ثم قال لأهله: ان مريم كانت تغتسل في هذه الليلة, فاغتسلوا, فاغتسل هو واغتسل أهله.



·قال الجاحظ: كان رجل يرقي الضرس يسخر بالناس ليأخذ مه شيئا, وكان يقول للذي يرقيه:
ايّاك أن يخطر على قلبك الليلة ذكر القرد.
فيبيت وجعا فيبكّر اليه, فيقول: لعلك ذكرت القرد؟
فيقول نعم.
فيقول: ثم لم تنفع الرقيّة.



·وقف بعض الحاكّة على طبيب, فرآه يصف لهذا النقوع ولهذا التمر هندي, فقال: من لا يحسن مثل هذا؟
فرجع الى زوجته فقال: اجعلي عمامتي كبيرة.
فقالت: ويحك أي شيء قد طرأ لك؟
قال: أريد أن أكون طبيبا.
قالت: لا تفعل, فانك تقتل الناس فيقتلوك.
قال: لا بد.
فخرج أول يوم فقعد يصف الناس, قحصّل قراريط, فجاء فقال لزوجته: أنا كنت أعمل كل يوم بحبة, فانظري ايش يحصل؟
فقالت: لا تفعل.
قال: لا بد.
فلما كان في اليوم الثاني اجتازت جارية, فرأته فقالت لسيدتها, وكانت شديدة المرض: اشتهيت هذا الطبيب الجديد يداويك, فقالت: ابعثي اليه. فجاء, وكانت المريضة قد انتهى مرضها ومعها ضعف, فقال:
عليّ بدجاجة مطبوخة, فجيء بها, فأكلت, فقويت ثم استقامت.
فبلغ هذا الى السلطان, فجاء به فشكا اليه مرضا يشتكيه, فاتفق أنه وصف له شيئا أصلح به, فاجتمع الى السلطان جماعة يعرفون ذلك الحائك, فقالوا له:
هذا رجل حائك لا يدري شيئا.
فقال السلطان: هذا قد صلحت على يديه وصلحت الجارية على يديه, فلا أقبل قولكم.
قالوا: فنجرّبه بمسائل.
قال: فافعلوا.
فوضعوا له مسائل وسألوه عنها, فقال: ان أجبتكم عن هذه المسائل لم تعلموا جوابها, لأن الجواب لهذه المسائل لا يعرفه الا طبيب, ولكن أليس عندكم مارستان (مستشفى) ؟
قالوا بلى.
قال: أليس فيه مرضى لهم مد ة.
قالوا بلى.
قال: فأنا أداويهم حتى ينهض الكل في عافية في ساعة واحدة, فهل يكون دليل على علمي أقوى من ذلك؟
قالوا: لا.
فجاء الى باب المارستان وقال: ادخلوا لا يأتي معي أحد.
ثم دخل وحده وليس معه الا قيّم المارستان, فقال للقيّم: انك والله ان تحدثت بما أعمل صلبتك, وان سكتّ أغنيتك.
قال: ما أنطق.
فأحلفه بالطلاق, ثم قال: عندك في هذا المارستان زيت؟
قال: نعم.
قال: هاته.
فجاء منه بشيء كثير, فصبّه في قدر كبير, ثم أوقد تحته, فلما اشتد غليانه صاح بجماعة المرضى, فقال لأحدهم:
انه لا يصلح لمرضك الا أن تنزل هذا القدر, فتقعد في هذا الزيت.
فقال المريض: الله الله في أمري!
قال: لا بد.
قال: أنا شفيت, وانما كان بي قليل من صداع.
قال: ايش يقعدك في المارستان وأنت معافى؟
قال: لا شيء.
قال: فاخرج وأخبرهم.
فخرج وأخبرهم, فخرج يعدو ويقول: شفيت باقبال هذا الحكيم.
ثم جاء الى آخر فقال: لا يصلح لمرضك الا أن تقعد في هذا الزيت.
فقال: الله الله, أنا في عافية.
قال: لا بد.
قال: لا تفعل, فاني من أمس أرددت أن أخرج.
قال: قان كنت في عافية فاخرج, وأخبر الناس أنك في عافية.
فخرج يعدو ويقول: شفيت ببركة الحكيم.
وما زال على هذا الوصف حتى أخرج الكل شاكرين له, والله الموفق.


الفصل التاسع
في ذكر من احتال فانعكس عليه مقصوده
·روي أن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري كان في حبس الحجاج, وكان يعذبه, وكان كل من مات من الحبس رفع خبره الى الحجاج, فيأمر باخراجه وتسليمه الى أهله, فقال بلال للسجان:
خذ مني عشرة آلاف درهم وأخرج اسمي الى الحجاج في الموتى, فاذا أمرك بتسليمي الى أهلي هربت في الأرض, فلم يعرف الحجاج خبري, وان شئت أن تهرب معي فافعل وعليّ غناك أبدا.
فأخذ السجان المال ورفع اسمه في الموتى.
فقال الحجاج: مثل هذا لا يجوز أن يخرج الى أهله حتى أراه, هاته.
فعاد الى بلال فقال: اعهد.
قال: وما الخبر؟
قال: ان الحجاج قال كيت وكيت, فان لم أحضرك اليه ميتا قتلني, وعلم أني أردت الحيلة عليه, ولا بد أن أقتلك خنقا.
فبكى بلال وسأله أن لا يفعل, فلم يكن الى ذلك طريق. فأوصى وصلّى, فأخذه السجان وخنقه, وأخرجه الى الحجاج فلما رآه ميتا قال:
سلّمه الى أهله.
فأخذوه, وقد اشترى الموت لنفسه بعشرة آلاف درهم, ورجعت الحيلة عليه.



·روي أن عضد الدولة بعث القاضي أبا بكر الباقلاني في رسالة الى ملك الروم, فلما ورد مدينته عرف الملك خبره ومحلّه من العلم, ففكر الملك في أمره, وعلم أنه لا يفكر له اذا دخل عليه كما جرى رسم الرعيّة أن يقبّل الأرض بين يدي الملك, فتجنبت له الفكرة أن يضع سريره الذي يجلس عليه وراء باب لطيف لا يمكن أن يدخل أحد منه الا راكعا ليدخل القاضي منه على تلك الحال.
فلما وصل القاضي الى المكان فطن بالقصّة, فأدار ظهره وحنى رأسه, ودخل من الباب وهو يمشي الى خلفه, وقد استقبل الملك بدبره حتى صار بين يديه, ثم رفع رأسه وأدار وجهه حينئذ الى الملك, فعلم الملك من فطنته وهابه.



·وقد روينا أن مزينة أسرت ثابتا أبا حسان الأنصاري, وقالوا: لا نأخذ فداءه الا تيسا.
فغضب قومه وقالوا: لا نفعل هذا.
فأرسل اليهم أن أعطوهم ما طلبوا. فلما جاؤوا بالتيس قال:
أعطوهم أخاهم وخذوا أخاكم.
فسموا مزينة التيس, فصار لهم لقبا وعبثا.



·حدثني أبو بكر الخطاط قال:
كان رجل فقيه خطه في غاية الرداءة, فكان الفقهاء يعيبونه بخطه, ويقولون: لا يكون خط أردأ من خطّك.
فيضجر من عيبهم اياه, فمرّ! يوما بمجلّد يباع فيه خط أردأ من خطه, فبالغ في ثمنه, فاشتراه بدينار وقيراط, وجاء به ليحتج عليهم اذا قؤوه.
فلما حضر معهم أخذوا يذكرون قبح خطه, فقال لهم: قد وجدت أقبح من خطي وبالغت في ثمنه, حتى أتخلّص من عيبكم.
فأخرجه فتصفحوه, واذا في آخره اسمه وأنه كتبه في شبابه, فخجل من ذلك.



الفصل العاشر
في ذكر من وقع في آفة فتخلص منها بالحيلة
ومن استخدم بذكائه المعاريض
·وعن الأصمعي عن أبيه قال: أتي عبد الملك بن مروان برجل كان مع بعض من خرج عليه, فقال: اضربوا عنقه.
فقال: يا أمير المؤمنين, ما كان هذا جزائي منك.
قال: وما جزاؤك؟
قال: والله ما خرجت مع فلان الا بالنظر لك, وذلك أني رجل مشؤوم, ما كنت مع رجل قط الا غلب وهزم, وقد بان لك صحة ما ادّعيت, وكنت لك خيرا من مئة ألف معك.
فضحك وخلّى سبيله.



*حدّث القاضي أبو الحسين بن عتبة قال:
كانت لي ابنة عم موسرة تزوّجتها, فلم أوثرها لشيء من جمالها, ولكني كنت أستعين بمالها وأتزوّج سرّا, فاذا فطنت بذلك هجرتني وطرحتني وضيّقت عليّ الى أن أطلّق من تزوجتها, ثم تعود اليّ.
فطال ذلك علي, وتزوجت صبيّة حسناء موافقة لطباعي مساعدة على اختياري, فمكثت معي مدة يسيرة, وسعي بها الى ابنة عمي, فأخذت في المناكدة والتضييق عليّ, فلم يسهل عليّ فراق تلك الصبيّة فقلت لها:
استعيري من كل جارة قطعة من أفخر ثيابها, حتى يتكامل لك خلعة تامّة الجمال, وتبخري بالعنبر, واذهبي الى ابنة عمي فابكي بين يديها, وأكثري من الدعاء لها والتضرّع اليها الى أن تضجريها, فاذا سألتك عن حالك, فقولي لها: "ان ابن عمي قد تزوّجني, وفي كل وقت يتزوّج عليّ واحدة, وينفق مالي عليها, وأريد أن تسألي القاضي معونتي وانصافي منه", فانها سترفعك اليّ.
ففعلت, فلما دخلت عليها واتصل بكاؤها رحمتها, وقالت لها: فالقاضي شرّ من زوجك, وهكذا يفعل بي.
وقامت فدخلت عليّ, وأنا في مجلس لي, وهي غضبى ويد الصبيّة في يدها, فقالت:
هذه المشؤومة حالها مثل حالي, فاسمع مقالها واعتمد انصافها.
فقلت: ادخلا.
فدخلتا جميعا, فقلت لها: ما شأنك؟
فذكرت ما وافقتها عليه, فقلت لها: هل اعترف ابن عمّك بأنه قد تزوّج عليك؟
فقالت: لا, والله, وكيف يعترف بما يعلم لا أني لا أقاره عليه؟
قلت: فشاهدت أنت هذه المرأة ووقفت على مكانها وصورتها؟
فقالت: لا والله.

فقلت: يا هذه اتقي الله ولا تقبلي شيئا سمعته, فان الحسّاد كثير والطلاب كثير لافساد النساء كثيرو الحيل والتكذيب, فهذه زوجتي قد ذكر لها أني قد تزوجت عليها, وكل زوجة لي وراء هذا الباب طالق ثلاثا.
فقامت ابنة عمي فقبّلت رأسي وقالت: قد علمت أنه مكذوب عليك أيها القاضي.
ولم يلزمني حنث لاجتماعها بحضرتي.



·حدثنا الأصمعي قال: أتي المنصور برجل ليعاقبه على شيء بلغه عنه, فقال له:
يا أمير المؤمنين, الانتقام عدل, والتجاوز فضل, ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين.
فعفا عنه.



·أخذ زياد رجلا من الخوارج, فأفلت منه, فأخذ أخا له فقال:
ان جئت بأخيك والا ضربت عنقك.
قال: أرأيت ان جئت بكتاب من أمير المؤمنين, تخلي سبيلي؟
قال: نعم.
قال: فأنا آتيك بكتاب من العزيز الرحيم, وأقيم عليه شاهدين: ابراهيم وموسى عليهما السلام:{ أم لم ينبّأ بما في صحف موسى * وابراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى }.
قال زياد: خلوا سبيله, هذا رجل لقن حجته.



·أتى الحجاج برجل ليقتله وبيده لقمة, فقال: والله لا أكلتها حتى أقتلك.
قال: أو خير من ذلك, تطعمنيها ولا تقتلني, فتكون قد بررت في يمينك ومننت علي.
فقال: ادن مني. فأطعمه اياه وخلاه.



·وأتي الحجاج برجل من الخوارج, فأمر بضرب عنقه, فاستنظره يوما, فقال: ما تريد بذلك؟
قال: أؤمل عفو الأمير مع ما تجري به المقادير.
فاستحسن قوله وخلاه.



·خرج واصل بن عطاء يريد سفرا في رهط, فاعترضهم جيش من الخوارج, فقال واصل:
لا ينطقن أحد ودعوني معهم.
فقصدهم واصل, فلما قربوا بدأ الخوارج ليوقعوا, فقال:
كيف تستحلون هذا وما تدرون من نحن ولا لأي شيء جئنا؟
فقالوا: نعم. فما أنتم؟
قال: قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله.
فكفوا عنهم, وبدأ رجل منهم يقرأ عليهم القرآ،, فلما أمسك قال واصل:
قد سمعنا كلام الله, فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه, وكيف ندخل في الدين؟
فقال: هذا واجب. سيروا.
فسرنا والخوارج والله معنا يحموننا فراسخ, حتى قربنا الى بلد لا سلطان لهم عليه, فانصرفوا.



·روي أن الحجاج قال لغلام له: تعال نتنكّر وننظر ما لنا عند الناس.
فتنكّرا وخرجا, فمرّا على المطلب غلام أبي لهب, فقالا:
يا هذا, أي شيء على الحجاج؟
قال: على الحجاج لعنة الله.
قالا: فمتى يخرج؟
قال: أخرج الله روحه من بين جنبيه, ما يدريني؟
قال: أتعرفني؟
قال: لا.
قال: أنا الحجاج بن يوسف.
قال المطلب: أتعرفني أنت.
قال: لا.
قال: أنا المطلب غلام أبي لهب, أصرع في كل شهر ثلاثة أيام أولها اليوم, فتركه ومضى.



·وبلغنا أن الحجاج انفرد يوما عن عسكره, فلقي أعرابيا فقال:
يا وجه العرب, كيف الحجاج؟
قال: ظالم غاشم.
قال: فهلا شكوته الى عبد الملك؟
فقال: لعنه الله, وهو أظلم منه وأغشم.
فأحاط به العسكر, فقال: أركبوا البدوي.
فأركبوه, فسأل عنه, فقالوا: هو الحجاج, فركض من الفرس خلفه, وقال: يا حجاج !
قال: ما لك؟
قال: السر الذي بيني وبينك لا يطلع عليه أحد.
فضحك وخلاه.



·كان أبو الحسين بن السمّاك يتكلّم على الناس بجامع المدينة, وكان لا يحسن من العلوم شيئا الا ما شاء الله, وكان مطبوعا يتكلّم على مذهب الصوفية, فكتبت اليه رقعة:" ما يقول السادة الفقهاء في رجل مات وخلف كذا وكذا؟".
ففتحها فتأمّلها فقرأ: ما تقول السادة الفقهاء في رجل مات؟
فلما رآها في الفرائض رماها من يده, وقال: أنا أتكلم على مذاهب قوم اذا ماتوا لم يخلفوا شيئا.

فعجب الحاضرون من حدّة خاطره.



·قال ابن عرّابة المؤدّب:
حكى لي محمد بن عمر الضبي أنه حفّظ ابن المعتز وهو يؤدبه سورة (والنازعات)
وقال له:
اذا سألك أمير المؤمنين أبوك " في أي شيء أنت؟" فقل له: في السورة التي تلي (عبس), ولا تقل أنا في النازعات.
فسأله أبوه: في أي شيء أنت؟
قال: في السورة التي تلي عبس.
فقال: من علّمك هذا؟
قال: مؤدّبي.
فأمر له بعشرة آلاف درهم.



·قال عبد الواحد بن ناصر المخزومي:
أخبرني من أثق به أنه خرج في طريق الشام مسافرا يمشي وعليه مرقعة, وهو في جماعة نحو الثلاثين رجلا كلهم على هذه الصفة, قال:
فصحبنا في بعض الطريق رجل شيخ حسن الهيئة ومعه حمار فاره يركبه, ومعه بغلان عليهما رجل وقماش ومتاع فاخر, فقلنا له:
يا هذا انك لا تفكر في خروج الأعراب علينا, فانه لا شيء معنا يؤخذ, وأنت لا تصلح لك صحبتنا مع ما معك.
فقال: يكفينا الله.
ثم سار ولم يقبل منا, وكان اذا نزل يأكل استدعى أكثرنا فأطعمه وسقاه, واذا عيي الواحد منا أركبه على أحد بغليه, وكانت جماعة تخدمه وتكرمه وتتدبر برأيه, الى أن بلغنا موضعا, فخرج علينا نحو ثلاثين فارسا من الأعراب, فتفرّقنا عليهم ومانعناهم.
فقال الشيخ: لا تفعلوا.
فتركناهم, ونزل فجلس وبين يديه سفرته, ففرشها وجلس يأكل, وأظلتنا الخيل, فلما رأوا الطعام دعاهم اليه, فجلسوا يأكلون, ثم حلّ رحله وأخرج منه حلوى كثيرة وتركها بين يدي الأعراب, فلما أكلوا وشبعوا جمدت أيديهم وخدرت أرجلهم ولم يتحرّكوا.

فقال لنا: ان الحلو مبنّج, أعدتته لمثل هذا وقد تمكن منهم وتمّت الحيلة. ولكن لا يفك البنج الا أن تصفعوهم, فافعلوا فانهم لا يقدرون لكم على ضرر ونسير.
ففعلوا, فما قدروا على الامتناع, فعلمنا صدق قوله, وأخذنا أسلحتهم وركبنا دوابهم وسرنا حواليه في موكب, ورماحهم على أكتافنا, وسلاحهم علينا, فما نجتاز بقوم الا يظنونا من أهل البادية فيطلبون النجاة منا, حتى بلغنا مأمننا.



·حدثنا أبو محمد عبد الله بن علي المقري قال:
دفن رجل مالا في مكان وترك عليه طابقا وترابا كثيرا, ثم ترك فوق ذلك خرقة فيها عشرون دينارا, وترك عليها ترابا كثيرا ومضى, فلما احتاج الى الذهب كشف عن العشرين, فلم يجدها, فكشف عن الباقي فوجده, فحمد الله على سلامة ماله. وانما فهل ذلك خوفا أن يكون قد رآه أحد, وكذلك كان, فانه لما جاءه الذي رآه وجد العشرين, فأخذها ولم يعتقد أن ثمّ شيئا آخر.



·وقال بعضهم:
خرجت في الليل لحاجة, فاذا أعمى على عاتقه جرّة, وفي يده سراج, فلم يزل يمشي حتى أتى النهر وملأ جرّته وانصرف راجعا.
فقلت: يا هذا, أنت أعمى والليل والنهار عندك سواء.
فقال: يا فضولي, حملتها معي لأعمى القلب مثلك يستضيء بها, فلا يعثر بي في الظلمة فيقع علي فيكسر جرّتي.



·وروى أبو جعفر المديني قال:
خرج قوم من الخوارج بالبصرة, فلقوا شيخا أبيض الرأس واللحية, فقالوا له: من أنت؟
قال: أعهد اليكم من اليهود بشيء أو بدا لكم في قتل أهل الديّة؟
قالوا: اذهب عنا الى النار. وتركوه.



·قال رجل لهشام بن عمرو القوطي: كم تعد؟
قال: من واحد الى ألف وأكثر.
قال: لم أرد هذا!
قال: فما أردت؟
قال: كم تعد من السن؟
قال: اثنين وثلاثين, ستة عشر من أعلى وستة عشر من أسفل.
قال: لم أرد هذا.
قال: فما أردت؟
قال: كم لك من السنين؟
قال: ما لي منها شيء كلها لله عز وجلّ.
قال: فما سنّك؟
قال: عظم.
قال: فابن كم أنت؟
قال: ابن اثنين, أب وأم.
قال: فكم أتى عليك؟
قال: لو أتى عليّ شيء لقتلني.
قال: فكيف أقول؟
قال: قل:" كم مضى من عمرك".



·روي أن رجلين من آل فرعون سعيا برجل مؤمن الى فرعون, فأحضره فرعون وأحضرهما وقال للساعيين: من ربّكما؟
قالا: أنت.
فقال للمؤمن: من ربّك.
قال: ربّي ربهما.
فقال فرعون: سعيتما برجل على ديني لأقتله, فقتلهما.
قالوا: فذلك قوله تعالى:" فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب".



·حدثنا اسحاق بن هانىء قال: كنا عند أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه في منزله ومعنا المروزي, ومهنّى بن يحيى الشامي, فدق داق الباب وقال: المروزي ههنا؟
فكأن المروزي كره أن يعلم موضعه, فوضع مهنّى بن يحيى اصبعه في راحته وقال: ليس المروزي ههنا.
فضحك أحمد ولم ينكر عليه ذلك.



·وقال أبو بكر المروزي: جاء مهنّى بن يحيى الشامي الى أبي عبد الله أحمد بن حنبل ومعه أحاديث, فقال: يا أبا عبد الله, معي هذه الأحاديث, وأريد أن أخرج, فحدّثني بها.
فقال: متى تريد أن تخرج ؟
قال: الساعة أخرج.
فحدّثه بها وخرج, فلما كان من الغد أو بعد ذلك جاء الى أبي عبد الله, فقال له أبو عبد الله:
أليس قلت لي أخرج الساعة؟
قال: قلت لك: اني أخرج الساعة من بغداد؟ انما قلت أخرج من زقاقك.



الفصل الحادي عشر
في ذكر من أفحم خصمه في المناظرة بالجواب المسكت
·كان حويطب بن عبد العزى قد بلغ مئة وعشرين سنة, ستين في الجاهلية, وستين في الاسلام, فلما ولي مروان بن الحكم المدينة دخل عليها حويطب, فقال له مروان:
تأخر اسلامك أيها الشيخ حتى سبقك الأحداث.
فقال: والله لقد هممت بالاسلام غير مرّة, وكل ذلك يعوقني عنه أبوك, وينهاني, ويقول:" تدع دين آبائك لدين محمد؟".
فأسكت مروان وندم على ما كان.



·حدثنا محمد بن زكريا قال: حضرت مجلسا فيه عبيد الله بن محمد بن عائشة التميمي, وفيه جعفر بن قاسم الهاشمي, فقال لابن عائشة:
ههنا آية نزلت في بني هاشم خصوصا.
قال: وما هي؟
قال: قوله تعالى:{ وانه لذكر لك ولقومك}.
قال ابن عائشة: قومه قريش, وهي لنا معكم.
قال: بل هي لنا خصوصا.
قال: فخذ معها:{ وكذب به قومك وهو الحق}.
فسكت جعفر فلم يجد جوابا.



·وروي أن معاوية قال لعبد الله بن عامر: ان لي عندك حاجة, أتقضيها؟
قال: نعم. ولي اليك حاجة أتقضيها؟
قال معاوية: نعم.
قال: سل حاجتك.
قال: أريد أن تهب لي دورك وضياعك بالطائف.
قال عبد الله: فعلت.
فقال معاوية: فسل حاجتك. قال: أن تردّها عليّ.
قال: قد فعلت.



·وافتخر قوم من اليمن عند هشام بن عبد الملك, فقال لخالد بن صفوان: أجبهم.
فقال: هم بين حائك برد, ودابغ جلد, وسائس قرد. ملكتهم امرأ’, دلّ عليهم هدهد, وغرّقتهم فأرة.



·قال المتوكل يوما لجلسائه: أتدرون ما الذي نقم المسلمون من عثمان؟
قالوا: لا.
قال: أشياء, منها أنه قام أبو بكر دون مقام الرسول بمرقاة, ثم قام عمر دون مقام أبي بكر بمرقاة, فصعد عثمان ذروة المنبر.
فقال رجل: ما أحد أعظم منّة عليك يا أمير المؤمنين من عثمان.
قال: وكيف؟ ويلك!
قال: لأنه صعد ذروة المنبر, فلو أنه كلما قام خليفة نزل عمّن تقدّمه كنت أنت تخطبنا من بئر جلولاء.
فضحك المتوكّل ومن حوله.



·قال: كان أصحاب المبرّد اذا اجتمعوا واستأذنوا يخرج الاذن فيقول: ان كان فيكم أبو العباس الزجاج, والا انصرفوا.
فحضروا مرّة, ولم يكن الزجاج فيهم, فقال لهم ذلك, فانصرفوا, وثبت رجل منهم اسمه عثمان فقال للآذن:
قل لأبي العباس: انصرف القوم كلهم الا عثمان, فانه لا ينصرف.
فعاد الآذن اليه وأخبره, فقال له: ان عثمان اذا كان نكرة انصرف, ونحن لا نعرفك فانصرف راشدا.



·قال: تكلّم شاب يوما عند الشعبي, فقال الشعبي: ما سمعنا بهذا.
فقال الشاب: كل العلم سمعت؟
قال: لا.
قال: فشطره؟
قال: لا.
قال: فاجعل هذا في الشطر الذي لم تسمعه.
فأفحم الشعبي.



·وقال عبد الله بن سليمان بن أشعث: سمعت أبي يقول:
كان هارون الأعور يهوديا, فأسلم وحسن اسلامه, وحفظ القرآن وضبطه, وحفظ النحو, فناظره انسان يوما في مسألة, فغلبه هارون فلم يدر المغلوب ما يصنع, فقال له:
أنت كنت يهوديا فأسلمت.
فقال له هارون: أفبئس ما صنعت؟
فغلبه أيضا, والله الموفق.



·كان لابراهيم بن طهمان جراية من بيت المال, فسئل عن مسألة في مجلس الخليفة, فقال: لا أدري.
فقالوا له: تأخذ في كل شهر كذا وكذا, ولا تحسن مسألة؟
فقال: انما آخذ على ما أحسن, ولو أخذت على ما لا أحسن لفني بيت المال, ولا يفنى ما لا أحسن.
فأعجب الخليفة جوابه, وأمر له بجائزة فاخرة, وزاد في جرايته.



·قال أبو العباس المبرد: ضاف رجلا قوما فكرهوه, فقال الرجل لامرأته: كيف لنا أن نعلم مقدار مقامه؟
فقالت: ألق بيننا شرا حتى نتحاكم اليه.
ففعلا, فقالت للضيف: بالذي بارك لك في غدوّك غدا, أينا أظلم؟
فقال الضيف: والذي يبارك لي في مقامي عندكم شهرا ما أعلم.



·روى يعقوب الشحّام قال: قال لي أبو الهذيل: بلغني أن رجلا يهوديا قدم البصرة, وقد قطع وغلب عامة متكلميهم, فقلت لعمّي:
امض بي الى هذا اليهودي أكلّمه.
فقال: يا بني, هذا قد غلب جماعة متكلمي البصرة.
فقلت: لا بد.
فأخذ بيدي, فدخلنا على اليهودي, فوجدته يقرر الناس الذين يكلمونه نبوّة موسى عليه السلام, ثم يجحد نبوة نبينا صلى الله عليه وسلّم فيقول: نحن على ما اتفقنا عليه من نبوة موسى الى ما أن نتفق على غيره فنقرّ به.
فدخلت اليه, فقلت له: أسألك أو تسألني؟
فقال: يا بني, أو ما ترى ما أفعله بمشايخك؟
فقال: دع عنك هذا واختر.
قال: بل أسألك. أخبرني أليس موسى نبيا من أنبياء الله قد صحّت نبوّته, وثبت دليله؟ تقرّ بهذا أو تجحده, فتخالف صاحبك؟
فقلت له: ان الذي سألتني عنه من أمر موسى عندي على أمرين: أحدهما: أني أقرّ بنبوّة موسى الذي أخبر بصحّة نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمرنا باتباعه وبشّر بنبوته, فان كان عن هذا تسألني, فأنا مقرّ بنبوّته, وان كان الذي سألتني عنه لا يقرّ بنبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولم يأمر باتباعه, ولا بشّر به, فلست أعرفه ولا أقرّ بنبوّته, وهو عندي شيطان مخزي.
فتحيّر مما قلت له. فقال لي: فما تقول في التوراة؟
فقلت: أمر التوراة أيضا عندي على وجهين: ان كانت التوراة التي أنزلت على موسى الذي أقرّ بنبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, فهي التوراة الحق, وان كانت الذي تدّعيه فباطل, وأنا غير مصدّق بها.
فقال: أحتاج أن أقول لك شيئا بيني وبينك, فظننت أنه يقول شيئا من الخير, فتقدّمت اليه فسارّني وشاتمني, وقد رأى أني أثب به, فيقول:" وثبوا علي".
فأقبلت على من كان في المجلس, فقلت: أعزكم الله, أليس قد أجبته؟
فقالوا: بلى.
فقلت: أليس عليه أن يردّ جوابي؟
فقالوا: بلى.
فقلت: انه لما سارّني شتمني بالشتم الذي يوجب الحد, وشتم من علّمني, وظن أني أثب به, فيدّعي أنا أثبناه, وقد عرّفتكم شأنه.
فأخذته الأيادي بالنعال, فخرج هاربا من البصرة, وقد كان له بها دين كثير, فتركه وخرج هاربا لما لحقه من الانقطاع.



·ناظر يهودي مسلما في مجلس المرتضى, فقال اليهودي:
ايش أقول في قوم سمّاهم الله مدبرين؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم حنين.
فقال المسلم: فقد كان موسى أدبر منهم.
قال له: كيف؟
قال: لأن الله تعالى قال:{ ولّى مدبرا ولم يعقّب}.
وهؤلاء ما قال فيهم: ولم يعقّبوا.
فسكت اليهودي.



·قال نصر بن سيّار: قلت لأعرابي: هل اتخمت قط؟
فقال: أما من طعامك وطعام أبيك, فلا.
فيقال: ان نصرا حمّ من هذا الجواب أياما.



·قال رجل من اليهود لعلي بن أبي طالب: ما دفنتم نبيكم حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير.
فقال له عليّ رضي الله عنه: أنتم ما جفّت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم:{ اجعل لنا الها كما لهم آلهة}.



·حبلت امرأة يزيد, فقالت له وكان قبيح الصورة: الويل لك ان كان يشبهك.
فقال لها: الويل لك ان لم يشبهني.


الفصل الثاني عشر
من فطنة ونباهة العوام
·صلّى بعض الشطّار خلف رجل, فلما قرأ أرتج عليه, فلم يدر ما يقول, فجعل يقول:" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:, يردّد ذلك مرارا, فقال الشاطر من خلفه:
ما للشيطان ذنب الا أنك ما تحسن تقرأ.



·حكى جعفر البرني قال:
مررت بسائل على الجسر وهو يقول: مسكينا ضريرا, فدفعت اليه قطعة وقلت: يا هذا لما نصبت؟
قال: فديتك باضمار (ارحموا).



·روى سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه قال: كان فتيان من قريش يرمون, فرمى منهم رجل من ولد أبي بكر وطلحة فأصاب فقال: أنا ابن القرنين.
فرمى آخر من ولد عثمان فأصاب, فقال: أنا ابن الشهيد.
ورمى رجل من الموالي فأصاب, فقال: أنا ابن من سجدت له الملائكة.
فقالوا: من هو؟ فقال: آدم.



·شكا أصحاب هاشم الى أسلم بن الأحنف احتباس أرزاقهم, فدخل على هاشم, فقال:
يا أمير المؤمنين, لو أن مناديا نادى:" يا مفلس" ما بقي أحد من أصحابك الا التفت.
فضحك, وأمر بصلة أرزاقهم.



·وحدثنا أبو الحسن المدايني: قال بعض العلماء:
كان لنا صديق من أهل البصرة, وكان ظريفا أديبا, فوعدنا أن يدعونا الى منزله, فكان يمرّ بنا, فكلما رأيناه قلنا:
{ متى هذا الوعد ان كنتم صادقين}.
فيسكت, الى أن اجتمع ما يريده, فمرّ بنا, فأعدنا عليه القول فقال:
{انطلقوا الى ما كنتم به تكذبون}.



·تظلّم أهل الكوفة من عاملها الى المأمون, فقال: ما علمت من عمّالي أعدل منه.
فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين, فقد لزمك أن تجعل لسائر البلدان نصيبا من عدله حتى تكون قد ساويت بين رعاياك في حسن النظر, فأما نحن, فلا تخصنا منه بأكثر من ثلاث سنين.
فضحك المأمون, وأمر بصرفه.



·قال يموت بن المزرع: قال لي سهل بن صدقة يوما, وكانت بيننا مداعبة: ضربك الله باسمك.
فقلت له مسرعا: أحوجك الله الى اسم أبيك.



·مرّ رجل من الأذكياء برجل قائم في الطريق فقال: ما وقوفك؟
قال: أنتظر انسانا.
فقال: يطول قيامك اذن.



·تزوّج أعمى امرأة, فقالت له:
لو رأيت حسنى وبياضي لعجبت.
فقال: لو كنت كما تقولين ما تركك لي البصراء.



·كان رجل بدار باجرة, وكان خشب السقف يتفرقع كثيرا, فلما جاء رب الدار يطالبه بالأجرة قال له:
أصلح هذا السقف, فانه يتفرقع.
قال: لا بأس عليك انه يسبّح الله.
قال: أخشى أن تدركه الرأفة فيسجد.



·دخل مخنّث على العريان بن هيثم, وهو أمير بالكوفة, فقال:
يا عدو الله, أتتخنث وأنت شيخ.
فقال: مكذوب عليّ كما كذب على أمير المؤمنين أعزه الله.
فاستوى جالسا وقال: ما قيل فيّ؟
قال: يسمّونك العريان, وأنت صاحب عشرين جبّة.
فضحك وخلّى سبيله.



·رمى رجل عصفورا فأخطأه, فقال له رجل أحسنت.
فغضب وقال: أتهزأ بي؟
قال: لا, ولكن أحسنت الى العصفور.



·دخل رجل ذكي الى المسجد يصلي, فسرقوا نعله, فتركوها في كنيسة بجوار المسجد, فجعل يفتش عليها, فرآها في الكنيسة فقال:
ويحك, لمّا أسلمت أنا ننصّرت أنت!



·قال بعض الأذكياء: اذا رأيت رجلا في صلاة الغداة على باب داره, وهو يقول:{ وما عند الله خير وأبقى}, فاعلم أن في جواره وليمة لم يدع اليها.
واذا رأيت قوما يخرجون من مجلس القاضي وهم يقولون:{ وما شهدنا الا بما علمنا}, فاعلم أن شهادتهم لم تقبل.
واذا تزوّج الرجل, فسئل عن حاله, فان قال: ما رغبنا الا في الاصلاح, فاعلم أن زوجته قبيحة.



·قال الشيخ: حكي لنا أن بعض الناس ضاف رجلا, فانتبه صاحب الدار بالليل, فسمع ضحك الرجل من الغرفة, فصاح به: فلان:
قال: لبّيك.
قال: أنت كنت في الدار, فما الذي رقاك الى الغرفة؟
قال: تدحرجت.
قال: الناس يتحدرجون من فوق الى أسفل, فكيف تدحرجت أنت من أسفل الى فوق؟
قال: فمن هذا أضحك.



·قال رجل لرجل:
ان لطمتك لأبلغن بك المدينة.
فقال له: أحب أن تردفها بأخرى لعلّ الله تعالى أن يرزقني الحج على يديك.



·رؤي فقير في قرية فقيل له: ما تصنع؟ فقال: ما صنع موسى والخضر عليهما السلام. يعني:{ استطعما أهلها}.

·وسئل بعض السوقة عن سوقهم, فقال: مثل سوق الجنة. يعني أنه: لا بيع فيه ولا شراء.


الفصل الثالث عشر

من ذكاء الأطبّاء

·حدّثنا بعض الأطباء الثقات أن رجلا من بغداد قدم الريظو فلحقه في طريقه أنه كان ينفث الدم, فاستدعى أبا بكر الرازي الطبيب المشهور بالحذق, فأراه ما ينفث ووصف له ما يجد, فنظر الى نبضه وقارورته, واستوصف حاله, فلم يقم له دليل على سل ولا قرحة, ولم يعرف العلّة, فاستنظر العليل لينظر في حاله, فاشتدّ امر على المريض, وزاد ألمه.
وفكّر الرازي, ثم عاد اليه فسأله عن المياه التي شرب. فقال: انها من صهاريج ومسقفات, فثبت في نفس الرازي بحدّة خاطره وجودة ذكائه أن علقة كانت في الماء, وقد حصلت في معدته, وذلك الدم من فعلها. فقال:
اذا كان في غد عالجتك, ولكن بشرط أن تأمر غلمانك أن يطيعوني فيك بما آمرهم.
قال: نعم.
فانصرف الرازي, فجمع مركنين كبيرين من طحلب, فأحضرهما في غد معه, لإاراه اياهما وقال: ابلع جميع ما في هذين المركنين.
فبلع شيئا يسيرا, ثم وقف.
قال: ابلع.
قال: لا أستطيع.
فقال للغلمان: خذوه فأقيموه.
ففعلوا به ذلك وطرحوه على قفاه وفتحوا فاه, فأقبل الرازي يدس الطحلب في حلقه ويكبسه كبسا شديدا ويأمره ببلعه ويتهدده بأن يضرب الى أن بلع كارها أحد المركنين بأسره والرجل يستغيث.
فذرعه القيء, فتأمّل الرازي ما قذف به فاذا فيه علقة, واذا هي لما وصل اليها الطحلب قربت اليه بالطبع وتركت موضعها, فالتفّت على الطحلب, ونهض العليل معافى.



·حدثنا علي بن الحسن الصيدلاني قال:
كان عندنا غلام حدث, فلحقه وجع في معدته شديد بلا سبب يعرفه, فكانت تضرب عليه أكثر الأوقات ضربا عظيما حتى يكاد يتلف, وقلّ أكله, ونحل جسمه, فحمل الى الأهواز, فعولج بكل شيء, فلم ينجح فيه, وردّ الى بيته وقد يئس منه.
فجاز بعض الأطباء فعرف حاله, فقال للعليل: اشرح لي حالك في زمن الصحة.
فشرح الى أن قال: دخلت بستانا فكان في بيت البقر رمّان كثير للبيع, فأكلت منه كثيرا.
قال: كيف كنت تأكله؟
قال: كنت أعض على رأس الرمّانة بفمي, وأرمي به واكسرها قطعا وآكل.
فقال الطبيب: غدا أعالجك باذن الله تعالى.
فلما كان من الغد جاء بقدر اسفيداج قد طبخهما من لحم جرو سمين, فقال للعليل: كل هذا.
قال العليل: ما هو؟
قال: ان أكلت عرّفتك.
فأكل العليل, فقال له: امتلىء منه, فامتلأ, ثم قال له:
أتدري أيّ شيء أكلت؟
قال: لا.
قال: لحم كلب!
فاندفع يقذف, فتأمّل القذف الى أن طرح العليل شيئا أسود كالنواة يتحرّك, فأخذه الطبيب وقال:
ارفع رأسك, فقد برأت.
فرفع رأسه, فسقاه شيئا يقطع الغثيان, وصبّ على وجهه ماء ورد, ثم أراه الذي وقع فيه فاذا هو قراد, فقال:
ان الموضع الذي كان فيه الرمّان كان فيه قردان من البقر, وأنه حصلت منهم واحدة في رأس احدى الرمّانات التي اقتلعت رؤوسها بفيك, فنزل القرد الى حلقك وعلق بمعدتك يمتصّها, وعلمت أن القراد تهش الى لحم الكلب, فان لم يصح الظن لم يضرّك ما أكلت, فصحّ, فلا تدخل فمك شيئا لا تدري ما فيه, والله الموفق.



·كان ملك في الزمان الأوّل, وكان مثقلا كثير الشحم لا ينتفع بنفسه, فجمع المتطببين وقال:
احتاوا اليّ بحيلة يخفّ عني لحمي هذا قليلا.
فما قدروا له على شيء, فبعث له رجل عاقل أديب متطبّب فاره, فبعث اليه وأشخصه فقال له: عالجني ولك الغنى.
قال: أصلح الله الملك, أنا متطبّب منجّم. دعني أنظر الليلة في طالعك: أي دواء يوافق طالعك فأسقيك.
فغدا عليه, فقال: أيها الملك, الأمان؟
قال: لك الأمان.
قال: رأيت طالعك يدلّ على أن الباقي من عمرك شهر, فان أحببت عالجتك, وان أردت بيان ذلك, فاحبسني عندك, فان كان لقولي حقيقة فخلّ عني, والا فاستقص مني.
فحبسه, ثم رفع الملك الملاهي واحتجب عن الناس, وخلا وحده مهتما كلما انسلخ يوم ازداد غمّا حتى هزل وخف لحمه, ومضى لذلك ثمانية وعشرون يوما, فبعث اليه وأخرجه. فقال: ما ترى؟
قال: أعز الله المك. أنا أهون على الله عز وجلّ من أن أعلم الغيب, والله ما أعرف عمري, فكيف أعرف عمرك؟ انما لم يكن عندي دواء الا الغمّ, فلم أقدر أن أجلب اليك الغمّ الا بهذه العلّة.

فأجازه وأحسن اليه.



·حدّثنا أبو الحسن بن الحسن بن محمّد الصالحي الكاتب قال:
رأيت بمصر طبيبا كان بها مشهورا يعرف بالقطيعي يكسب في كل شهر ألف دينار من جرايات يجريها عليه قوم من رؤساء العسكر, ومن السلطان, ومما يأخذه من العامّة. وكان له دار قد جعلها شبه المرستان من جملة داره يأوي اليها الضعفاء والمرضى فيداويهم ويقوم بأغذيتهم وأدويتهم وخدمتهم, وينفق أكثر كسبه على ذلك.
فاتفق أن بعض فتيان الرؤساء بمصر أسكت, فجعل اليه أهل الطب, وفيهم القطيعي, فأجمعوا على موته الا القطيعي. وعمل أهله على غسله ودفنه, فقال القطيعي:
أعالجه وليس يلحقه أكثر من الموت الذي قد أجمع هؤلاء عليه.
فخلاه أهله معه, فقال: هات غلاما جلدا.
فأتي بذلك, فأمر به, فمدّ وضربه عشر مقارع أشدّ الضرب ثم مسّ جسده, ثم ضربه عشرا أخر, ثم جسّ مجسّه, ثم ضربه عشراأخر, ثم جسّ مجسّه, وقال: أيكون للميّت نبض؟
قالوا: لا.
قال: فجسّوا هذا النبض.
فجسّوه فأجمعوا أنه نبض متحرّك.
فضربه عشر مقارع أخر, ثم قال: جسّوه.
فجسّوه, فقالوا قد زاد نبضه.
فضربه عشرا أخر, فتقلّب, فضربه عشرا فتأوّه, فضربه عشرا فصاح, فقطع عنه الضرب. فجلس العليل يتأوّه, فقال له: ما تجد؟
قال: أنا جائع.
فقال: أطعموه.
فجاؤوا بما أكله, فرجعت قوّته, وقمنا وقد برئ.
فقال له الأطباء: من أين لك هذا؟
قال: كنت مسافرا في قافلة فيها أعراب يخفروننا, فسقط منهم فرس عن فرسه, فأسكت, فقالوا: قد مات؟ قال: فعمد شيخ منهم فضربه ضربا شديدا عظيما, وما رفع الضرب عنه حتى أفاق, فعلمت أن الضرب جلب اليه حرارة أزالت سكتته, فقست عليه أمر هذا العليل.



·حدّثنا أبو الحسن المهدي القزويني قال:
كان عندنا طبيب يقال له ابن نوح, فلحقتني سكتة, فلم يشك أهلي في موتي, وغسّلوني وكفنوني وحملوني عل ىالجنازة, فمرّت الجنازة عليه ونساء خلفي يصرخن, فقال لهم:
ان صاحبكم حي فدعوني أعلجه. فصاحوا عليه, فقال لهم الناس:
دعوه يعالجه, فان عاش والا فلا ضرر عليكم.
فقالوا: نخاف أن تصير فضيحة.
فقال: عليّ أن لا تصير فضيحة.
قالوا فان صرنا؟
قال: حكم السلطان في أمري, وان برئ فأي شيئ لي؟
قالوا: ما شئت.
قال: ديته.
قالوا: لا نملك ذلك.
فرضي منهم بمال أجابه الورثة اليه, وحملني فأدخلني الحمام وعالجني, وأفقت في الساعة الرابعة والعشرين من ذلك الوقت, ووقعت البشائر, ودفع اليه المال, فقلت للطبيب بعد ذلك:
من أين عرفت هذا؟
قال: رأيت رجليك في الكفن منتصبتين وأرجل الموتى منبسطة ولا يجوز انتصابها, فعلمت أنك حيّ, وخمّنت أنك أسكت وجربت عليك, فصحّت تجربتي.



·روى بشر بن الفضل قال:
خرجنا حجاجا, فمررنا بمياه من مياه العرب, فوصف لنا فيه ثلاث أخوات بالجمال وقيل لنا: انهن يتطببن ويعالجن.
فأحببنا أن نراهنّ, فعمدنا الى صاحب لنا, فحككنا ساقه بعود حتى أدميناه, ثم رفعناه على أيدينا وقلنا: هذا سليم (اللديغ الذي لدغته أفعى أو عقرب) فهل من راق؟
فخرجت أصغرهن, فاذا هي جارية كالشمس الطالعة, فجاءت حتى وقفت عليه, فقالت: ليس بسليم.
قلنا: وكيف؟
قالت:لأنه خدشه عود بالت عليه حيّة ذكر, والدليل أنه اذا طلعت عليه الشمس مات.
فلما طلعت الشمس مات. فعجبنا من ذلك.



·شكا رجل الى طبيب وجع بطنه فقال: ما الذي أكلت؟
قال: أكلت رغيفا محترقا.
فدعا الطبيب بكحل ليكحله, فقال الرجل:
انما أشتكي من وجع بطني لا عيني.
قال: قد عرفت, ولكن أكحلك لتبصر المحترق, فلا تأكله.



الفصل الرابع عشر

من نباهة المتطفلين
·مر بنان بعرس فأراد الدخول, فلم يقدر, فذهب الى بقال فوضع خاتمه عنده على عشرة أقداح, وجاء الى باب العرس فقال:
يا بوّاب, افتح لي.
فقال له البواب: من أنت؟
قال: أراك ليس تعرفني؟ أنا الذي بعثوني أشتري لهم الأقداح.
ففتح له الباب, فدخل فأكل وشرب مع القوم, فلما فرغ أخذ الأقداح فقال:
يا بوّاب, افتح لي حتى أرد هذه.
فخرج فردها على البقال وأخذ خاتمه.



·وجاء بنان الى وليمة لرجل, فأغلق الباب دونه, فاكترى سلّما ووضعه على حائط للرجل, فأشرف على عيال الرجل وبناته,, فقال له الرجل:
يا هذا أما تخاف الله؟ رأيت أهلي وبناتي؟
فقال: يا شيخ, {لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وانك لتعلم ما نريد}.
فضحك الرجل وقال له: انزل فكل.



·جاء طفيلي الى عرس فمنع من الدخول, وكان يعلم أن أخا للعروس غائب, فأخذ ورقة كاغد فطواها وختمها وليس في بطنها شيء, وجعل في ظاهرها: من الأخ الى العروس.
وجاء فقال: معي كتاب من أخ العروس.
فأذن له, فدخل فدفع اليهم الكتاب.
فقالوا: ما رأينا مثل هذا العنوان, ليس عليه اسم أحد.
فقال: وأعجب من هذا أنه ليس في بطن الكتاب ولا حرف واحد لأنه كان مستعجلا!
فضحكوا منه وعرفوا أنه احتال لدخوله, فقبلوه.



·قال منصور بن علي الجهضمي:
كان لي جار طفيلي, وكان من أحسن الناس منظرا وأعذبهم منطقا وأطيبهم رائحة وأجملهم ملبوسا, وكان من شأنه أني اذا دعيت الى دعوة تبعني, فيكرمه الناس من أجلي, ويظنون أنه صاحب لي.
فاتفق يوما أن جعفر بن القاسم الهاشمي أمير البصرة أراد أن يختن بعض أولاده, فقلت في نفسي: كأني برسوله وقد جاء, وكأني بهذا الرجل قد تبعني, والله لئن تبعني لأفضحنّه.
فأنا على ذلك اذ جاء الرسول يدعوني, فما زدت على أن لبست ثيابي وخرجت, فاذا أنا بالطفيلي واقف على باب داره وقد سبقني للتأهب, فتقدمت وتبعني, فلما دخلنا دار الأمير جلسنا ساعة, ودعي بالطعام, وحضرت الموائد, وكان كل جماعة على مائدة والطفيلي معي, فلما مدّ يده لتناول الطعام قلت:
حدثنا درست بن زياد, عن ابان بن طارق, عن نافع, عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:" من دخل دار قوم بغير اذنهم فأكل طعامهم دخل سارقا وخرج مغيرا".
فلما سمع ذلك قال: ما من أحد من الجماعة الا وهو يظن أنك تعرّض به دون صاحبه. أولا تستحي أن تحدث بهذا الكلام على مائدة سيّد من أطعم الطعام, وتبخل بطعام غيرك على من سواك؟ ثم لاتستحي أن تحدث عن درست بن زياد وهو ضعيف, وعن أبان بن طارق وهو متروك الحديثىيحكم برفعه الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمون على خلافه, لأن حكم السارق القطع, وحكم المغير أن يعزر على ما يراه الامام؟ وأين أنت من حديث: حدثنا أبو عاصم النبيل, عن ابن جريج, عن أبي الزبير, عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:" طعام الواحد يكفي اثنين, وطعام الاثنين يكفي الأربعة, وطعام الأربعة يكفي الثمانية", وهواسناد صحيح.
قال منصور بن علي: فأفحمني, فلم يحضرني له جواب, فلما خرجنا من الموضع للانصراف فارقني من جانب الطريق الى الجانب الآخر بعد أن يمشي ورائي وسمعته يقول:
ومن ظنّ ممن يلاقي الحروب
بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا



·صحب طفيلي رجلا في سفر, فقال له الرجل: امض فاشتر لنا لحما.
قال: لا والله ما أقدر.
فمضى هو واشترى.
ثم قال له: قم فاطبخ.
قال: لا أحسن.
فطبخ الرجل.
ثم قال له: قم فاثرد.
قال: أنا والله كسلان.
فثرد الرجل.
ثم قال له: قم فاغرف.
قال: أخشى أن ينقلب على ثيابي.
فغرف الرجل.
ثم قال له: الآن فكل.
قال الطفيلي: قد والله استحييت من كثرة خلافي لك.
وتقدّم فأكل.



·وتطفل رجل مرة على رجل, فقال له صاحب المنزل: من أنت؟
قال: أنا الذي لم احوجك الى رسول.



·جاء طفيلي الى بيت رجل مع جماعة فقال له الرجل: من أنت؟
فقال: اذا كنت لا تدعونا ونحن لا نأتي صار في هذا نوع جفاء.



·عرّس طفيلي, فأتاه طفيليّان في أوّل الناس, فأدخلهما وجاء الى غرفة له يرتقي اليها بسلّم, فوضع السلّم وقال:
اصعدا لتبعدا من الأذى, وأخصكما بفائق الطعام.
فصعدا فلما حصّلا في الغرفة نحّى السلّم ووضع المائدة, وأطعم أصدقاءه وجيرانه, وهما مطّلعان عليه.
فلما فرغ القوم وضع السلم, وقال: انزلا. فدفع في أقفائهما, وقال: انصرفا راشدين قد قضيتما حق أخيكما.



·وقال طفيلي: اياك والكلام على الطعام الا أن تقول: نعم, فانها مضغة.
·وأوصى طفيلي غلامه, فقال: اذا ضاق بك الموضع, فقل للذي الى جانبك:" لعلي ضيّقت عليك, فانه سيوسّع لك المكان كموضع رجل آخر.
·وقال بنان: حفظت القرآن كله ثم أنسيته الا حرفين:{ ءاتنا غداءنا}.
وعطش رجل الى جنب بنان في دعوة, فقال بنان: ارفع نفسك الى فوق وتنفس ثلاثا, فانه ينزل ما أكلته من الطعام.



الفصل الخامس عشر

في ذكر حيل اللصوص
وأخبار عن ذكائهم

·عن المبرّد قال: حدثني أحمد بن المعدل البصري قال:
كنت جالسا عند عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون, فجاءه بعض جلسائه فقال:
أعجوبة!
قال: ما هي؟
قال: خرجت الى حائطي بالغابة, فلما أن أصحرت وبعدت عن بيوت المدينة تعرّض لي رجل, فقال:
اخلع ثيابك.
فقلت: وما يدعوني الى خلع ثيابي؟
قال: أنا أولى بها منك.
قلت: ومن أين؟
قال: لأني أخوك وأنا عريان وأت مكتس.

قلت: فالمواساة؟
قال: كلا. قد لبستها برهة, وأنا أريد أن ألبسها كما لبستها.
فلت: فتعريني وتبدي عورتي؟
قال: لا بأس بذلك. قد روينا عن مالك أنه قال: " لا بأس للرجل أن يغتسل عريانا".
قلت: فيرون الناس فيرون عورتي؟
قال: لو كان الناس يرونك في هذه الطريق ما عرضت لك فيها.
فقلت: أراك ظريفا, فدعني حتى أمضي الى حائطي وأنزع هذه الثياب, فأوجه بها اليك.
قال: كلا. أردت أن توجه الي أربعة من عبيدك, فيحملوني الى السلطان, فيحبسني ويمزق جلدي, ويطرح في رجليّ القيد.
قلت: كلا. أحلف لك ايمانا أني أوافي لك بما وعدتك ولا أسؤوك.
قال: كلا. روينا عن مالك أنه قال:" لا تلتزم الايمان التي يحلف بها اللصوص".
قلت: فأحلف أني لا أحتال في أيماني هذه.
قال: هذه يمين مركبة على اللصوص.
قلت: فدع المناظرة بيننا, فوالله لأوجهن لك هذه الثياب طيبة بها نفسي.
فأطرق, ثم رفع رأسه وقال: تدري فيم فكرت؟
قلت: لا.
قال: تصفحت أمر اللصوص من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الى وقتنا هذا, فلما أجد لصا أخذ نسيئة, وأكره أن أبتدع في الاسلام يكون عليّ وزرها ووزر من عمل بها بعدي الى يوم القيامة. اخلع ثيابك.
قال: فخلعتها ودفعتها اليه, فأخذها وانصرف.



·حدّث رجل من الدقاقين قال:
أورد علي رجل غريب سفتجة بأجل, فكان يتردد علي الى أن حلّت السفتجة, ثم قال لي:
أدعها عندك آخذها متفرّقة.
فكان يجيء كل يوم, فيأخذ بقدر نفقته, الى أن نفدت. فصارت بيننا معرفة, وألف الجلوس عندي, وكان يراني أخرج من صندوق لي, فأعطيه منه.
فقال لي يوما: ان قفل الرجل صاحبه في سفره, وأمينه في حضره, وخليفته على حفظ ماله, والذي ينفي الظنة على أهله وعياله. وان لم يكن وثيقا تطرقت الحيل اليه, وأرى قفلك هذا وثيقا, فقل لي: ممن ابتعته لأبتاع مثله لنفسي؟
قلت: من فلان الأقفالي.
قال: فما شعلات يوما وقد جئت الى دكاني, فطلبت صندوقي لأخرج منه شيئا من الدراهم, فحمل الي ففتحته, واذا ليس فيه شيء من الدراهم, فقلت لغلامي وكان غير متهم عندي:
هل انكسر من الدراب شيء؟
قال: لا.
قلت: ففتش هل ترى في الدكان نقبا؟
ففتش, فقال: لا.

فقلت: فمن السقف حيلة؟
قال: لا.
قلت: فاعلم أن دراهمي قد ذهبت.
فقلق الغلام, فسكته وأقمت من يومي لا أدري أي شيء أعمل, وتأخر الرجل عني, فاتهمته. وتذكرت مسألته لي عن القفل, فقلت للغلام:
أخبرني كيف تفتح دكاني وتقفله؟
قال: أحمل الدراب من المسجد دفعتين ثلاثة ثلاثة, فأقفلها ثم هكذا أفتحها.
قلت: فعلى من تخلي الدكان اذا حملت الدراب؟
قال: خاليا.
قلت: من ههنا دهيت.
فذهبت الى الصانع الذي ابتعت منه القفل فقلت له: جاءك انسان منذ أيام اشترى منك مثل هذا القفل؟
قال: نعم, رجل من صفته كيت وكيت.
فأعطاني صفة صاحبي, فعلمت أنه احتال على الغلام وقت المساء لما انصرفت أنا وبقي الغلام يحمل الدراب, فدخل هو الى الدكان فاختبأ فيه ومعه مفتاح القفل الذي اشتراه يقع على قفلي, وأنه أخذ الدراهم وجلس طوال الليل خلف الدراب, فلما جاء الغلام ففتح درابين وحملها ليرفعها خرج, وأنه ما فعل ذلك الا وقد خرج من بغداد.
قال: فخرجت ومعي قفلي ومفتاحه, فقلت: أبتدىء بطلب الرجل بواسطة, فلما صعدت من السميرية طلبت خانا أنزله, فصعدت فاذا بقفل مثل قفلي سواء على بيت, فقلت لقيّم الخان:
هذا البيت من ينزله؟
قال: رجل قدم من البصرة أمس.
قلت: ما صفته؟
فوصف صفة صاحبي, فلم أشك أنه هو وأن الدراهم في بيته.
فاكتريت بيتا الى جانبه ورصدت حتى انصرف قيّم الخان, ففتحت القفل, ودخلت, فوجدت كيسي بعينه, فأخذته وخرجت, وأقفلت الباب ونزلت في الوقت, وانحدرت الى البصرة, وما أقمت بواسط الا ساعتين من النهار, ورجعت الى منزلي بمالي بعينه.




·روى ابن الدنانير النمّار قال: حدثني غلام قال لي:
كنت ناقدا بالأبلة لرجل تاجر, فاقتضيت له من البصرة نحو خمسمئة دينار وورقا ولففتها في فوطة, وأمسيت على المسير الى الابلة, فما زلت أطلب ملاحا فلا أجد, الى أن رأيت ملاحا مجتازا في خيطيّة خفيفة فارغة, فسألته أن يجملني, فخفف علي بالأجرة وقال:
أنا أرجع ال ىمنزلي بالابلة, فانزل.
فنزلت, وجعلت الفوطة بين يدي وسرنا, فاذا رجل ضرير على الشط يقرأ أحسن قراءة تكون, فلما رآه الملاح كبّر, فصاح هو بالملاح:
احملني, فقد جنّني الليل وأخاف على نفسي.

فشتمه الملاح, فقلت له احمله.
فدخل الى الشط فحمله, فرجع الى قراءته, فخلب عقلي بطيبها, فلما قربنا من الابلة قطع القراءة, وقام ليخرج في بعض المشارع بالأبلة, فلم أر الفوطة, فاضطربت وصحت واستغاث الملاح, وقال:
الساعة تنقلب الخيطية.
وخاطبني خطاب من لا يعلم حالي, فقلت:
يا هذا, كانت بين يدي فوطة فيها خمسمئة دينار!
فلما سمع ذلك الملاح لطم وبكى وتعرّى من ثيابه وقال:
لم أدجل الشط ولا لي موضع أخبئ فيه شيئا فتتهمني بسرقة, ولي أطفال وأنا ضعيف, فالله الله في أمري.
وفعل الضرير مثل ذلك, وفتشت الخيطية فلم أجد فيها شيئا, فرحمتهما وقلت: هذه محنة لا أدري كيف التخلص منها.
وخرجنا, فعملت على الهرب, وأخذ كل واحد منا طريقا, وبت في بيت ولم أمض الى صاحبي, فلما أصبحت عملت على الرجوع الى البصرة لأستخفي بها أياما, ثم أخرج الى بلد شاسع, فانحدرت وخرجت في مشرعة بالبصرة, وأنا أمشي وأتعثر وأبكي قلقا على فراق أهلي وولدي, وذهاب معيشي وجاهي.
فاعترضني رجل, فقال: ما لك؟
فأخبرته. فقال: أنا أرد عليك مالك.
فقلت: يا هذا, أنا في شغل عن طنزك بي.
قال: ما أقول الا حقا. امض الى السجن ببني نمير, واشتر معك خبزا كثيرا وشواء جيّدا وحلوا, وسل السجان أن يوصلك الى رجل محبوس هناك يقال له:" أبو بكر النقاش". قل له: أنا زائره, فانك لا تمنع, فان منعت فهب للسجان شيئا يسيرا يدخلك اليه, فاذا رأيته فسلم عليه ولا تخاطبه حتى تجعل بين يديه ما معك, فاا أكل وغسل يديه, فانه يسألك عن حاجتك, فأخبره خبرك, فانه سيدلك على من أخذ مالك ويرتجعه لك.
ففعلت ذلك ووصلت الى الرجل, فاذا شيخ مكبّل بالحديد, فسلمت وطرحت ما معي بين يديه, فدعا رفقاء له, فأكلوا, فلما غسل يديه قال:
ما أنت وما حاجتك؟
فشرحت له قصتي.
فقال: امض الساعة الى بني هلال, فادخل الدرب الفلاني حتى تنتهي الى آخره, فانك تشاهد بابا شعثا, فافتحه وادخله بلا استئذان, فتجد دهليزا طويلا يؤدي الى بابين, فادخل الأيمن منها فسيدخلك الى دار فيها بيت فيه أوتاد, وعلى كل وتد واترز بالمئزر واتشح بالازار واجلس, فسيجيء قوم يفعلون كما فعلت, ثم يئتون بطعام فكل معهم, وتعمّد موافقتهم في سائر أفعالهم, فاذا أوتي النبيذ فاشرب, وخذ قدحا كبيرا واملأه وقم قائما وقل: هذا ساري لخالي أبي بكر النقاش, فسيفرحون, ويقولون: أهو خالك؟ فقل: نعم, فسيقومون ويشربون لي, فاذا جلسوا فقل لهم: خالي يقرأ عليكم السلام ويقول:" يا فتيان, بحياتي ردوا على ابن اختي المئزر الذي أخذتموه بألمس في السفينة بنهر الابلة", فانهم يردونه عليك.
فخرجت من عنده ففعلت ما أمر, فردّت الفوطة بعينها وما حلّ شدّها, فلما حصلت لي قلت:
يا فتيان هذا الذي فعلتموه معي هو قضاء لحق خالي, ولي أنا حاجة تخصني.
قالوا: مقضيّة.
قلت: عرّفوني ميف أخذتم الفوطة؟
فامتنعوا ساعة, فأقسمت عليهم بحياة أبي بكر النقاش, فقال لي واحد منهم: أتعرفني؟
فتأملته جيدا فاذا هو الضرير الذي كان يقرأ, وانما كان متعاميا.
وأومأ الى آخر فقال: أتعرف هذا؟
فتأملته فاذا هو الملاح, فقلت:
كيف فعلتما؟
فقال الملاح: أنا أدور المشارع في أول أوقات المساء, وقد سبقت بهذا المتعامي, فأجلسته حيث حيث رأيت, فاذا رأيت من معه شيء له قدر ناديته, وأرخصت له الأجرة وحملته, فاذا بلغت الى القاري وصاح بي شتمته حتى لا يشك الراكب في براءة الساحة, فان حملت الراكب فذاك والا رققته عليه حتى يحمله, فاذا حمله وجلس يقرأ ذهل الرجل كما ذهلت, فاذا بلغنا الموضع الفلاني, فان فيه رجلا متوقعا لنا يسبح حتى يلاصق السفينة, وعلى رأسه قوصرة, فلا يفطن الراكب به, فيسلب هذا المتعامي الشيء بخفية, فيلقيه الى الرجل الذي عليه القوصرة, فيأخذه ويسبح الى الشط, واذا أراد الراكب الصعود وافتقد ما معه عملنا كما رأيت, فلا يتهمنا ونفترق, فاذا كان منغد اجتمعنا واقتسمناه, فلما جئت برسالة أستاذنا خالك سلمنا اليك الفوطة.
قال: فأخذتها ورجعت.



·حدثنا سهل الخلاطي قال:
بلغني أن محتالين سرقا حمارا ومضى أحدهما ليبيعه, فلقيه رجل معه طبق فيه سمك, فقال له:
تبيع هذا الحمار؟
قال: نعم.
قال: أمسك هذا الطبق حتى أركبه, وأنظر اليه.
فدفع اليه طبق السمك, فركبه ورجع ثم ركبه ودخل به زقاقا ففرّ به. فلم يدر أين ذهب. فلقيه رفيقه, فقال: ما فقل الحمار؟
قال: بعناه بما اشتريناه وربحنا هذا الطبق من السمك.



·وقد روينا أن رجلا سرق حمارا فأتى السوق ليبيعه فسرق منه, فعاد الى منزله, فقالت له امرأته: بكم بعته؟
قال: برأس ماله.



·كان ببغداد رجل يطلب التلصص في حداثته, ثم تاب فصار بزازا. فانصرف ليلة من دكانه وقد غلقه, فجاءه لص محتال متزيّ بزي صاحب الدكان في كمه شمعة صغيرة ومفاتيح, فصاح بالحارس, فأعطاه الشمعة في الظلمة, وقال:
أشعلها وجئني بها, فان لي الليلة بدكاني شفلا.
فمضى الحارس يشعل الشمعة, وركب اللص على الأقفال, ففتحها ودخل الدكان, وجاء الحارس بالشمعة, فأخذها من يده, فجعلها بين يديه, وفتح سفط الحساب, وأخرج ما فيه وجعل ينظر الدفاتر ويرى بيده أنه يحسب والحارس يتردد ويطالعه, ولا يشك في أنه صاحب الدكان, الى أن قارب السحر, فاستدعى اللص الحارس, وكلمه من بعيد وقال:
اطلب لي حمالا.
فجاء بحمال, فحمل عليه أربع رزم مثمنة, وقفل الدكان وانصرف ومعه الحمال وأعطى الحارس درهمين.
فلما أصبح الناس جاء صاحب الدكان ليفتح دكانه, فقام اليه الحارس يدعو له ويقول: فعل الله بك وصنع كما أعطيتني البارحة درهمين.
فأنكر الرجل ما سمعه, وفتح دكانه, فوجد سيلان الشمعة وحسابه مطروحا وفقد الأربع رزم, فاستدعى الحارس, وقال له:
من كان حمل الرزم معي من دكاني؟
قال: أما استدعيت مني حمالا فجئتك به؟
قال: بلى, ولكن كنت ناعسا وأريد الحمال فجئني به.
فمضى الحارس فجاء بالحمّال. وأغلق الرجل الدكان وأخذ الحمّال ومضى, فقال له:
الى أين حملت الرزم معي البارحة؟
قال: الى المشرعة الفلانية, واستدعيت لك فلانا الملاح, فركبت معه.
فقصد الرجل المشرعة, وسال عن الملاح, فحضر وركب معه, وقال:
أين رقيت أخي الذي كان معه الأربع رزم؟
قال: الى المشرعة الفلانية.
قال: اطرحني اليها.
فطرحه.
قال: من حملها معه؟
قال: فلان الحمال.
فدعا به, فقال له: امش بين يدي.
فمشى فأعطاه شيئا واستدله برفق الى الموضع الذي حمل اليه الرزم, قجاء به الى باب غرفة في موضع بعيد من الشط قريب من الصحراء, فوجد الباب مقفلا, فاستوقف الحمال وفش القفل ودخل, فوجد الرزم بحالها! واذا في البيت برّكان معلق على حبل, فلف الرزم فيه ودعا بالحمال, فحملها عليه وقصد المشرعة.
فحين خرج من الغرفة استقبله اللص, فرآه وما معه, فأبلس فأتبعه الى الشط, فجاء الى المشرعة ودعا الملاح ليعبر, فطلب الحمّال من يحط عنه, فجاء اللص فحط الكساء كأنه مجتاز مقطوع, فأدخل الرزم الى السفينة مع صاحبها, وجعل البرّكان على كتفه وقال له:
يا أخي استودعك الله, فقد ارتجعت رزمك, فدع كسائي.
فضحك وقال: انزل فلا خوف عليك.
فنزل معه واستتابه ووهب له شيئا وصرفه ولم يسيء اليه.



·أنبأنا محمد بن أبي طاهر, عن أبي القاسم التنوخي, عن أبيه:
أن رجلا من بني عقيل مضى ليسرق دابة.
قال: فدخلت الحي, فما زلت أتعرّف مكان الدابة فاحتلت حتى دخلت البيت, فجلس الرجل وامرأته يأكلان في الظلمة, فأهويت بيدي الى القصعة وكنت جائعا, فأنكر الرجل يدي وقبض عليها, فقبضت على يد المرأة بيدي الأخرى, فقالت المرأة:
ما لك ويدي؟
فظن أنه قابض عل يد امرأته فخلى يدي, فخليت يدي, فخليت يد المرأة وأكلنا.
ثم أنكرت المرأة يدي فقبضت عليها, فقبضت على يد الرجل, فقال لها:
ما لك ويدي.
فخلت عن يدي, فخليت عن يده, ثم نام وقمت, فأخذت الفرس.



·أنبأنا أبو القاسم التنوخي, عن أبيه: أن رجلا نام في مسجد وتحت رأسه كيس فيه ألف وخمسمئة دينار.
·قال: فما شعرت الا بانسان قد جذبه من تحت رأسي فانتبهت, فاذا شاب قد أخذ الكيس ومرّ يعدو, فقمت لأعدو خلفه, فاذا رجلي مشدودة بجيط قنّب في وتد مضروب في آخر المسجد.



·أنبأنا محمد بن أبي طاهر, أنبأنا أبو القاسم التنوخي, عن أبيه قال: حدثني أبو الحسين عبد الله بن محمد البصري, حدثني أبي قال: كان بالبصرة رجل من اللصوص يلص بالليل, فاره جدا مقدام, يقال له عباس بن الخياطة, قد غلب الأمراءوأشجى أهل البلد, فلم يزالوا يحتالون عليه الى أن وقع وكبّل بمئة رطل حديد وحبس.
فلما كان بعد سنة من حبسه أو أكثر, دخل قوم بالابلة على رجل تاجر وكان عنده مجوهرات بعشرات ألوف الدنانير فسرقوه, وكان مستيقظا جلدا, فجاء الى البصرة يتظلم, وأعانه خلق من التجار, وقال للأمير:
أنت دست على جوهري وما خصمي سواك.
فورد عليه أمر عظيم وخلا بالبوّابين وتوعّدهم, فاستنظروه فأنظرهم, وطلبوا واجتهدوا, فما عرفوا فاعل ذلك, فعنفهم الرجل فاستجابوا مرة أخرى.
فجاء أحد البوابي نالى الحبس, فتخادم لابن الخياطة ولزمه نحو شهر, وتذلل له في الحبس فقال له:
قد وجب حقك عليّ, فما حاجتك؟
قال: جوهر فلان المأخوذ بالبلة, لا بد أن يكون عندك منه خبر, فان دماؤنا مرتهنة به. وحدثه الحديث.
فرفع ذيله, واذا سفط الجوهر تحته, فسلمه اليه وقال:
قد وهبته لك.
فاستعظم ذلك وجاء بالسفط الى الأمير, فسألأه عن القصة, فأخبره بها.
فقال: عليّ بعباس.
فجاؤوا به, فأمر بالفراج عنه وازالة قيوده وادخاله الحمام وخلع عليه وأجلسه في مجلسه مكرما واستدعى الطعام, فواكله وبيّته عنده, فلما كان من الغد خلا به, وقال:
أنا أعلم أنك لو ضربت مئة ألف سوط ما أقررت كيف كانت صورة أخذ الجوهر, وقد عاملتك بالجميل ليجب حقي عليك من طريق الفتوة, وأريد أن تصدقني حديث هذا الجوهر.
قال: انني ومن عاونني عليه آمنون, وانك لا تطالبنا بالذين أخذوه؟
قال: نعم.
فاستحلفه. فقال له:
ان جماعة اللصوص جاؤوني الحبس, وذكروا حال هذا الجوهر, وأن دار هذا التاجرلا يجوز أن يتطرق عليها نقب ولا تسليق, وعليها باب حديد, والرجل متيقظ وقد راعوه سنة, فما أمكنهم. وسألوني, فساعدتهم, فدفعت الى السجان مئة دينار وحلفت له بالشطارة والأيمان الغليظة, أنه ان أطلقني عدت اليه من غد, وأنه ان لم يفعل ذلك اغتلته, فقتلته في الحبس. فأطلقني.
فنزعنا الحديد وتركته وخرجت المغرب, فوصلنا الى الابلة العتمة, وخرجنا الى دار الرجل, فاذا هو في المسجد وبابه مغلق, فقلت لأحدهم: تصدق من الباب. فتصدق, فلما جاؤوا ليفتحوا قلت له: اختف. ففعل ذلك مرّات, والجارية تخرج, فاذا لم تر أحدا عادت, الى أن خرجت من الباب, ومشت خطوات تطلب السائل, فتشاغلت بدفع الصدقة اليه, فدخلت أنا الى الدار, فاذا في الدهليز بيت فيه حمار, فدخلته. ووقفت تحت الحمار وطرحت الجل عليّ وعليه.
وجاء الرجل فغلق الأبواب وفتش ونام على سرير عال والجوهر تحته, فلما انتصف الليل قمت الى شاة في الدار, فعركت أذنها فصاحت, فقال: ويلك أقول لك افتقديها. قالت: قد فعلت. قال: كذبت, وقام بنفسه ليطرح لها علفا, فجلست مكانه على السرير, وفتحت الخزانة, وأخذت السفط وعدت الى موضعي وعاد الرجل, فنام.
فاجتهدت أن أجد حيلة أن أنقب الى دار بعض الجيران, فأخرج فما قدرت, لأن جميع الدار مؤزرة بالساج, ورمت صعود السطح, فما قدرت, لأن الممارق مقفلة بثلاثة أقفال, فعملت على ذبح الرجل, ثم استقبحت ذلك, وقلت: هذا بين يدي ان لم أجد حيلة غيره. فلما كان السحر عدت الى موضعي تحت الحمار, وانتبه الرجل يريد الخروج, فقال للجارية: افتحي الأقفال من الباب ودعيه متربسا, ففعلت وقربت من الحمار فرفس, فصاحت, فخرجت أنا ففتحت المترس وخرجت أعدو حتى جئت المشرعة, فنزلت في الخيطيّة ووقعت الصيحة في دار الرجل, فطالبني أصحابي أن أعطيهم شيئا منه, فقلت لا, هذهقصة عظيمة, وأخاف أن ينتبه عليها, ولكن دعوه عندي, فان مضى على الحديث ثلاثة أشهر, فصيروا الي أعطيكم النصف, وان ظهر خفت عليكم وعلى نفسي, وجعلته حقنا لدمائكم. فرضوا بذلك, فأرسل الله هذا البواب بليلة يخدمني, فاستحييت منه وخفت أن يقتل هو وأصحابه, وقد كنت وضعت في نفسي الصبر على كل عذاب, فدخلتم عليّ من طريق أخرى لم أستحسن في الفتوة معها الا الصدق.
فقال له الأمير: جزاء هذا الفعل أن أطلقك, ولكن تتوب.
فتاب, وجعله الأمير من بعض أصحابه وأسنى له الرزق, فاستقامت طريقته.



·قال أبو الحسين: وحدثني أبي عن طالوت بن عباد لبصيرفي قال:
كنت ليلة نائما بالبصرة في فراشي وأحراسي يحرسونني وأبوابي مقفلة, فاذا أنا بابن الخيّاطة ينبهني من فراشي.
فانبهت فزعا. فقلت: من أنت؟
فقال: ابن الخياطة.
فتلفت فقال:
لا تجزع. قد قمرت الساعة خمسمئة دينار. أقرضني اياها لأردّها عليك.
فأخرجت خمشمئة دينار, فدفعتها اليه فقال:
نم ولا تتبعني لأخرج من حيث جئت, والا قتلتك.
قال: وأنا والله أسمع صوت حراسي ولا أدري من حيث دخل, ولا من أين خرج, وكتمت الحديث خوفا منه, وزدت في الحرس.
ومضت ليال, فاذا أنا به قد أنبهني على تلك الصورة, فقلت:
مرحبا, ما تريد؟
قال: جئت بتلك الدنانير تأخذها مني.
فقلت: أنت في حل منها, فان أردت شيئا آخر فخذ.
فقال: لا أريد من نصح التجار أشاركهم في أموالهم, ولو كنت أردت أخذ مالك باللصوصية فعلت, ولكنك رئيس بلدك ولا أريد أذيتك, فان ذلك يخرج عن الفتوّة, ولكن خذها, فان احتجت الى شيء بعد هذا أخذت منك.
فقلت: ان عودك لا يفزعني, ولكن اذا أردت شيئا فتعال الي نهارا أو رسولك.
فقال: أفعل.
فأخذت الدنانير منه وانصرف, وكان رسوله يجيئني بعلامة بعد ذلك, فيأخذ ما يريده ثم يردّه بعد مدة, فما انكسر لي عنده شيء الى أن قبض عليه.



·دخل لص دار قوم, فلم يجد ما يسرق غير دواة مكسورة, فكتب على الحائط:
عز عليّ فقركم وغناي.



·حدثني أبو الفتح البصري قال:
اجتمع جماعة من اللصوص اجتاز عليهم شيخ صيرفي معه كيسه, فقال أحدهم:
ما تقولون فيمن يأخذ كيس هذا؟
قالوا كيف تفعل؟
قال: انظروا.
ثم تبعه الى منزله, فدخل الشيخ, فرمى كيسه على الضفة وقال للجارية: أنا حاقن, فألحقيني بماء في الغرفة.
وصعدت فدخل اللص فأخذ الكيس, وجاء الى أصحابه, فحدثهم, فقالوا:
ما عملت شيئا. تركته يضرب الجارية ويعذبها, وما ذا مليح.
قال: فكيف تريدون؟
قالوا: تخلص الجارية من الضرب وتأخذ الكيس.
قال: نعم.
فمضى فطرق الباب, فاذا به يضرب الجارية, فقال: من؟
قال: غلام جارك في الدكان.
فخرج, فقال: ماذا تقول؟
فقال: سيدي يسلم عليك ويقول لك: قد تغيّرت: ترمي كيسك في الدكان وتمضي؟ ولولا أننا قد رأيناه كان قد أخذ.
وأخرج الكيس, وقال: أليس هذا هو؟
قال: بلى والله صدق.
ثم أخذه فقال له: بل أعطنيه وادخل فاكتب في رقعة أنك قد تسلمت الكيس, حتى أتخلص أنا ويرجع اليك مالك.
فناوله اياه ودخل ليكتب فأخذه ومضى.



·قال أبو جعفر محمد بن الفضل الضميري:
كان في بلدنا عجوز صالحة كثيرة الصيام والصلاة, وكان لها ابن صيرفي منهمك على الشرب و اللعب, وكان يتشاغل بدكانه أكثر نهاره, ثم يعود الى منزله, فيخبئ كيسه عند والدته.
فدخل الى الدار لص وهو لا يعلم, فاختبأ فيها, وسلم الابن كيسه الى أمه وخرج وبقيت هي وحدها في الدار, وكان لها في دارها بيت مؤزر بالساج عليه باب حديد تجعل قماشها فيه والكيس, فخبأت الكيس فيه خلف الباب وجلست فأفطرت بين يديه.
فقال اللص: الساعة تقفله وتنام, وأنزل وأقلع الباب وآخذ الكيس.
فلما أفطرت قامت تصلي, ومدت الصلاة, ومضى نصف الليل وتحيّر اللص, وخاف أن يدركه الصبح, فطاف في الدار فوجد ازارا جديدا وبخورا, فاتزر بالازار, وأوقد البخور وأقبل ينزل على الدرجة, ويصيح بصوت غليظ ليفزع العجوز, وكانت جلدة, فظنت أنه لص, فقالت:
من هذا؟ بارتعاد وفزع.
فقال: أنا جبريل رسول رب العالمين, أرسلني الى ابنك هذا الفاسق لاعظه وأعامله بما يمنعه عن ارتكاب المعاصي.
فأظهرت أنه قد غشي عليها من الفزع, وأقبلت تقول:
يا جبريل, سألتك ألا رفقت به, فانه واحدي.
فقال اللص: ما أرسلت لقتله.
قالت: فيما أرسلت؟
قال: لآخذ كيسه وأؤلم قلبه بذلك, فاذا تاب رددته عليه.
فقالت: يا جبريل, شأنك وما أمرت به.
فقال: تنحي عن باب البيت.
وفتح هو الباب ودخل ليأخذ الكيس والقماش, واشتغل في تكويره, فمشت العجوز قليلا قليلا وجذبت الباب وجعلت الحلقة في الرزة, وجاءت بقفل فقفلته.
فنظر اللص الى الموقف ورام حيلة, نقبا أو منفذا, فلم يجد, فقال:
افتحي لأخرج, فقد اتعظ ابنك.
فقالت: يا جبريل ما يعوزك أن تخرج من السقف أو تخرق الحائط بريشة من جناحك, ولا تكلفني أنا لتغوير بصري؟
فأحس اللص أنها جلدة, فأخذ يرفق بها ويداريها ويبذل التوبة, فقالت:
دع عنك هذا. لا سبيل الى الخروج الا بالنهار.
وقامت فصلت وهو يسألها حتى طلعت الشمس, وجاء ابنها وعرف خبرها, وحدثته الحديث, فأحضر صاحب الشرطة وفتح الباب وقبض على اللص.



الفصل السادس عشر

في ذكر طرف
من أخبار فطن الصبيان
·عن محمد بن الضحاك أن عبد الملك بن مروان قال لرأس الجالوت, أو لابن رأس الجالوت:
ما عندكم من من الفراسة في الصبيان؟
قال: عندنا فيهم شيء, لأنهم يخلقون خلقا بعد خلق, غير أنا نرمقهم, فان سمعنا منهم من يقول في لعبه: " من يكون معي؟" رأيناه ذا همّة وحنو وصدق فيه, وان سمعناه يقول:" مع من أكون؟"" كرهناه.
فكان أول ما علم من ابن الزبير أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان, وهو صبي, فمرّ رجل, فصاح عليهم فروا ومشى ابن الزبير القهقرى وقال:
يا صبيان اجعلوني أميركم وشدّوا بنا عليه.
ومرّ به عمر بن الخطاب, وهو صبي يلعب مع الصبيان, ففروا ووقف, فقال له:
ما لك لم تفر مع أصحابك؟
قال: يا أمير المؤمنين, لم أجرم فأخاف, ولم تكن الطريق ضيّقة, فأوسع لك.




·عن سنان بن مسلمة_ وكان أميرا على البحرين_ قال:
كنا أغيلمة بالمدينة في أصول النخل نلتقط البلح الذي يسمونه الخلال, فخرج الينا عمر بن الخطاب, فتفرّق الغلمان وثبت مكاني, فلما غشيني قلت:
يا أمير المؤمنين, انما هذا ما ألقت الريح.
قال: أرني أنظر, فانه لا يخفى عليّ.
فنظر في حجري, فقال: صدقت.
فقلت: يا أمير المؤمنين, ترى هؤلاء الغلمان, والله لئن انطلقت لأغاروا عليّ, فانتزعوا ما في يدي.
قال: فمشى معي حتى بلّغني مأمني.



·حدثنا عبيد الله بن المأمون قال:
غضب المأمون على أمي أم موسى, فقصدني لذلك, حتى كاد يتلفني, فقلت له يوما:
يا أمير المؤمنين, ان كنت غضبانا على ابنة عمك فعاقبها بغيري, فاني منك قبلها, ولك دونها.
قال: صدقت والله يا عبيد الله, انك مني قبلها ولي دونها, والحمد لله الذي أظهر هذا منك وبيّن لي هذا الفضل فيك, لا ترى والله بعد يومك هذا مني سوءا, ولا ترى الا ما تحب.
فكان ذلك سبب رضاه عن أمي.



·قال الأصمعي:
بينا أنا في بعض البوادي اذا أنا بصبي معه قربة قد غلبته, فيها ماء, وهو ينادي:
يا أبت أدرك فاها, غلبني فوها, لا طاقة لي بفيها
قال: فوالله لقد جمع العربيّة في ثلاث.



·قال الجاحظ: قال ثمامة:
دخلت الى صديق لي أعوده وتركت حماري على الباب, ولم يكن معي غلام, ثم خرجت, واذا فوقه صبي, فقلت:
أتركب حماري بغير اذني؟
قال: خفت أن يذهب فحفظته لك.
قلت: لو ذهب كان أحب الي من بقائه.
قال: فان كان هذا رأيك في الحمار, فاعمل على أنه قد ذهب وهبه لي, واربح شكري. فلم أر ما أقول.



·قال رجل من أهل الشام:
قدمت المدينة, فقصدت منزل ابراهيم بن هرمة, فاذا بنيّة له صغيرة تلعب بالطين, فقلت لها:
ما فعل أبوك؟
قالت: وفد الى بعض الأجواد, فما لنا به علم منذ مدة.
فقلت: انحري لنا ناقة, فانا أضيافك.
قالت: والله ما عندنا.
قلت: فشاة.
قالت: والله ما عندنا.
قلت: فدجاجة.
قالت: والله ما عندنا.
قلت: فبيضة.
قالت: والله ما عندنا.
قلت: فباطل ما قال أبوك:
كم ناقة قد وجأت منحرها بمستهل الشؤبوب أو جمل
قالت: فذاك الفعل من أبي هو الذي أصارنا الى أن ليس عندنا شيء.



·قال بشر بن الحرث:
أتيت باب المعافى بن عمران, فدققت الباب فقيل لي: من؟
فقلت: بشر الحافي.

قالت لي بينيّة من داخل الدار: لو اشتريت نعلا بدانقين ذهب عنك اسم الحافي.



·وبلغنا أن المعتصم ركب الى خاقان يعوده, والفتح صبي يومئذ, فقال له المعتصم:
أيما أحسن: دار أمير المؤمنين أو دار أبيك؟
قال: اذا كان أمير المؤمنين في دار أبي فهي أحسن.
فأراه فصّا في يده, فقال: هل رأيت يا فتح أحسن من هذا الفص؟
فقال: نعم, اليد التي هو فيها.



·بلغنا أن اياس بن معاوية تقدم وهو صبي الى قاضي دمشق ومعه شيخ فقال:
أصلح الله القاضي, هذا الشيخ ظلمني واعتدى عليّ وأخذ مالي.
فقال القاضي: ارفق به ولا تستقبل الشيخ بمثل هذا الكلام.
فقال اياس: أصلح الله القاضي, ان الحق أكبر مني ومنه ومنك.
قال: اسكت.
قال: ان سكت فمن يقوم بحجتي؟
قال: تكلّم بخير.

فقال: لا اله الا الله وحده لا شريك له.
فرفع صاحب الخبر هذا الخبر, فعزل القاضي وتولى اياس مكانه.



·قعد صبي مع قوم يأكلون, فبكى, قالوا:
ما لك تبكي؟
قال: الطعام حار.
قالوا فدعه حتى يبرد.
قال: أنتم لا تدعونه.



·قال الأصمعي:
قلت لغلام حدث السن من أولاد العرب:
أيسرّك أن يكون لك مئة ألف درهم وأنك أحمق؟
فقال: لا والله.
قلت: ولم؟
قال: أخاف أن يجني عليّ حمقي جناية تذهب مالي ويبقى عليّ حمقي.



·أدخل على الرشيد صبي له أربع سنين, فقال له:
ما تحب أن أهب لك؟
قال: حسن رأيك.


الفصل السابع عشر
أخبار متفرّقة في ذكاء النساء
·حدثنا هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة قالت:
قلت يا رسول الله, أرأيت لو نزلت واديا فيه شجر أكل منها, ووجدت شجرا لم يؤكل منها, في أيها كنت ترتع بعيرك؟
قال: "في التي لم يرتع منها".
تعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها.



·عن عبد الله بن مصعب قال: قال عمر بن الخطاب:
لا تزيدوا في مهر النساء على أربعين أوقية, وان كانت بنت ذي الغصة_ يعني يزيد بن الحصين الصحابي الحارثي_ فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال.
فقالت امرأ’ من صف النساء: ما ذاك لك.
قال: ولم؟
قالت: لأن الله عز وجل قال:{ وءاتيتم احداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا, أتأخذونه بهتانا واثما مبينا}.
قال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ.



·عن عبد الله بن الزبير, عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم قالت:
لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة ومعه أبو بكر حمّل أبو بكر معه جميع ماله, خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم, فأتاني جدي أبو قحافة, وقد ذهب بصره, فقال:
أرى هذا والله قد فجعكم بماله مع نفسه.
فقالت: كلا يا أبت, قد ترك لنا خيرا كثيرا.
فعمدت الى أحجار جعلتها في كوة البيت كان أبو كبر يحصّل ماله فيها, وغطيت على الأحجار بثوب, ثم جئت به فأخذت بيده ووضعتها على الثوب, وقلت ترك لنا هذا.
فجعل يجد مس الحجارة من وراء الثوب, فقال:
أما اذا ترك لكم هذا, فنعم.
ولا والله ما ترك لنا قليلا ولا كثيرا.



·قال أبو الحسن المدائني:
دخل عمران بن حطان يوما على امرأته _ وكان عمران قبيحا دميما قصيرا_ وكانت امرأة حسناء, فلما نظر اليها ازدادت في عينه جمالا وحسنا, فلم يتمالك أن يديم النظر اليها, فقالت:
ما شأنك؟
قال: لقد أصبحت والله جميلة.
فقالت: أبشر, فاني واياك في الجنة.
قال: ومن أين علمت ذلك؟
قالت: لأانك أعطيت مثلي فشكرت, وابتليت بمثلك فصبرت, والصابر والشاكر في الجنة.



·قال اسماعيل بن حمادة بن أبي حنيفة:
ما ورد عليّ مثل امرأة تقدمت, فقالت:
أيها القاضي, ابن عمي زوّجني من هذا ولم أعلم, فلما علمت رددت.
فقلت لها: ومتى رددت؟
قالت: وقت ما علمت.
قلت: ومتى علمت؟
قالت: وقت ما رددت.
فما رأيت مثلها.



·حدثنا عليّ بن القسم القاضي, قال: سمعت أبي يقول:
كان موسى بن اسحاق لا يرى مبتسما قط, فقالت له امرأ’:
أيها القاضي, لا يحل أنت تحكم بين اثنين وأنت غضبان.
قال: ولم؟
قالت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان".
فتبسّم.




·قال الجاحظ:
رأيت بالعسكر امرأة طويلة القامة جدا, ونحن على طعام, فأردت أن أمازحها, فقلت:
انزلي حتى تأكلي معنا.
فقالت: وأنت فاصعد حتى ترى الدنيا.



·قال الجاحظ:
رأيت جارية بسوق النخاسين ببغداد ينادي عليها وعلى خدّها خال, فدعوت بها وجعلت أقلبها, فقلت لها: ما اسمك؟
قالت: مكة.
فقلت: الله أكبر! قرب الحج, أتأذنين أن أقبّل الحجر الأسود؟
قالت له: اليك عني, ألم تسمع قول الله تعالى:{ لم تكونوا بالغيه الا بشق الأنفس}.



·قال الأصمعي:
أتي المنصور بسارق, فأمر بقطع يده, فأنشأ يقول:
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها
بحقويك من عار عليها يشبنها
فلا خير في الدنيا ولا في نعيمها
اذا ما شمال فارقتها يمينها
فقال: يا غلام, اقطع. هذا حد من حدود الله, وحق من حقوقه لا سبيل الى تعطيله.
فقالت أم السارق:واحدي وكادي وكاسبي.
قال: بئس الواحد واحدك, وبئس الكاد كادك. وبئس الكاسب كاسبك. يا غلام! اقطع.
فقالت أم السارق: يا أمير المؤمنين, أما لك ذنوب تستغفر الله منها؟
قال: بلى.
قالت: هبه لي, واجعل هذا من ذنوبك التي تستغفر الله منها.



·حدثنا رجل من تغلب قال:
كان فينا رجل له ابنة شابة, وكان له ابن أخ يهواها وتهواه, فمكثا كذلك دهرا, ثم ان الجارية خطبها بعض الأشراف فأرغب في المهر, فأنعم أبو الجارية, واجتمع القوم للخطبة, فقالت الجارية لأمها:
يا أماه ما يمنع أن يزوجني من ابن عمي؟
قالت: أمرا كان مقضيا.
قالت: والله ما أحسن. رباه صغيرا, ثم تدعوه كبيرا؟
ثم قالت لها: يا أماه, اني والله حامل, فاكتمي ان شئت أو نوّحي.
فأرسلت الأم الى الأب, فأخبرته الخبر, فقال: اكتمي هذا الأمر.
ثم خرج الى القوم, فقال: يا هؤلاء, اني كنت أجبتكم, وأنه قد حدث أمر رجوت أن يكون فيه الأجر وأنا أشهدكم أني قد زوّجت ابنتي فلانة من ابن أخي فلان.
فلما انقضى ذلك قال الشيخ: أدخلوها عليه.
فقالت الجارية: انها بالرحمن كافرة ان دخل عليها من سنة أو تبيّن حملها.
قال: فمادخل عليها الا بعد حول, فعلم أبوها أنها احتالت عليه.



·قال الصولي: قال العتبي:
رأيت امرأة أعجبتني صورتها, فقلت: ألك بعل؟
قالت: لا.
قلت: أفترغبين في التزويج؟
قالت: نعم, ولكن لي خصلة أظنك لا ترضاها.
قلت: وما هي.
قالت: بياض برأسي.
قال: فثنيت عنان فرسي وسرت قليلا, فنادتني: أقسمت عليك لتقفن.
ثم أتت موضعا خاليا, فكشفت عن شعر كأنه العناقيد, فقالت:
والله ما بلغت العشرين, ولكنني عرّفتك أنّا نكره منك ما تكره منا.
قال: فخجلت وسرت وأنا أٌول:
فجعلت أطلب وصلها بتملق
والشيب يغمزها بأن لا تفعلي



·حدثنا العتيبي قال:
قال رجل لامرأته: أمرك بيدك.
ثم ندم فقالت:
أما والله لقد كان بيدك عشرين سنة, فأحسنت حفظه وصحبه, فلن أضيعه اذا كان بيدي ساعة من نهار, وقد رددته اليك.
فأعجب بذلك من قولها وأمسكها.



·مرّ شاعر بنسوة فأعجبه شأنهن, فجعل يقول:
ان النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شرّ الشياطين
فأجابته واحدة منهن, وجعلت تقول:
ان النساء رياحين خلقن لكم
وكلكم يشتهي شمّ الرياحين



·كان شنّ من دهاة العرب, فقال:
والله لأطوفنّ حتى أجد امرأة مثلي, فأتزوجها.
فسار حتى لقي رجلا يريد قرية يريدها شنّ, فصحبه, فلما انطلقا قال له شنّ:
أتحملني أم أحملك؟

فقال الرجل: يا جاهل كيف يحمل الراكب الراكب؟
فسارا حتى رأيا زرعا قد استحصد, فقال شنّ:
أترى هذا الزرع قد أكل أم لا؟
فقال: يا جاهل, أما تراه قائما.
فمرّا بجنازة فقال:
أترى صاحبها حيا أو ميتا؟
فقال: ما رأيت أجهل منك, أتراهم حملوا الى القبور حيا؟
ثم سار به الرجل الى منزله, وكانت له ابنة تسمى طبقة, فقصّ عليها القصّة, فقالت:
أما قوله:" أتحملني أم أجملك", فأراد: "تحدثني أم أحدثك حتى نقطع طريقنا", وأما قوله:" أترى هذا الزرع قد أكل أم لا", فأراد:" باعه أهله فأكلوا ثمنه أم لا", وأما قوله في الميّت, فانه أراد:" أترك عقبا يحيا به ذكره أم لا".
فخرج الرجل فحادثه, ثم أخبره بقول ابنته, فخطبها اليه فزوّجه اياها, فحملها الى أهله, فلما عرفوا عقلها ودهاءها, قالوا:" وافق شنّ طبق".



·كان بعض قضاة الحنفية من مذهبه أنه اذا ارتاب بالشهود فرّقهم.
فشهد عنده رجل وامرأتان فيما يشهد فيه النساء, فأراد أن يفرّق بين المرأتين على عادته, فقالت احداهما: أخطأت, لأن الله تعالى قال:" {فتذكر احاهما الأخرى}. فاذا فرّقت زال المعنى الذي قصده الشرع.
فأمسك.



·ذكر أن رجلا دعا المبرّد بالبصرة مع جماعة, فغنّت جارية من وراء الستار, وأنشأت تقول:
وقالوا لها هذا حبيبك معرضا
فقالت ألا اعراضه أيسر الخطب
فما هي الا نظرة بتبسّم
فتصطك رجلاه ويسقط للجنب
فطرب كل من حضر الا المبرد, فقال له صاحب المجلس:
كنت أحق الناس بالطرب.
فقالت الجارية: دعه يا مولاي, فانه سمعني أقول:" حبيبك معرضا", فظنني لحنت, ولم يعلم أن ابن مسعود قرأ (وهذا بعلي شيخا).
فطرب المبرّد الى أن شق ثوبه.



·غضب المأمون يوما على عبد الله بن طاهر, فأراد طاهر أن يقصده, فورد عليه كتاب من صديق له مقصور على السلام, وفي حاشيته "يا موسى". فجعل يتأمله, ولا يعلم معنى ذلك, فقالت له جارية وكانت فطنة:
أراد:{ يا موسى ان الملأ يأتمرون بك ليقتلوك}.
فتيقظ عن قصد المأمون.



·خاصمت امرأة زوجها في تضييقه عليها وعلى نفسه, فقالت:
والله ما يقيم الفأر في بيتك الا لحب الوطن, والا فهو يسترزق من بيوت الجيران.



·أعطت امرأة جاريتها درهما, وقالت: اشتري هريسة, فرجعت, فقالت:
يا سيّدتي سقط الدرهم مني فضاع.
فقالت: يا فاعلة, تكلميني بفمك كله وتقولين: ذهب الدرهم؟
فأمسكت الجارية نصف فمها بيدها, وقالت بالنصف الآخر:
وانكسرت يا سيّدتي الزبدية.



·بكت عجوز على ميّت فقيل لها:
بماذا استحق هذه منك؟
فقالت: جاورنا وما فينا الا من تحل له الصدقة, ومات وما منا الا من تجب عليه الزكاة.



·قال ابن قتيبة:
جاءتني جارية بهديّة فقلت لها:
قد علم مولاك أني لا أقبل الهدية.
قالت: ولم؟
قلت: أخشى أن يستمد مني علما لأجل هديته.
فقالت: استمد الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر, وقد كان يقبل الهديّة.
فقبلتها, فكانت الجارية أفقه مني.



·روى بعض التجار المسافرين قال:
كنا نجتمع من بلاد شتى في جامع عمرو بن العاص نتحدث, فبينما نحن جلوس يوما نتحدّث, واذا بامرأة بقربنا في أصل سارية, فقال لها رجل من التجار من البغداديين:
ما شأنك؟
فقالت: أنا امرأ’ وحيدة, غاب عني زوجي منذ عشر سنين, ولم أسمع له خبرا, فقصدت القاضي ليزوّجني, فامتنع, وما ترك لي زوجي نفقة, وأريد رجلا غريبا يشهد لي هو وأصحابه أن زوجي مات أو طلقني لأتزوّج, أو يقول:" أنا زوجها", ويطلقني عند القاضي لأصبر مدة العدة وأتزوّج.
فقال لها الرجل: تعطيني دينارا حتى أصير معك الى القاضي وأذكر له أني زوجك, وأطلقك؟
فبكت وقالت: والله ما أملك غير هذه, وأخرجت أربع رباعيات.
فأخذها منها ومضى معها الى القاضي, وأبطأ علينا, فلما كان من الغد لقيناه, فقلنا: ما أبطأك؟
فقال: دعوني, فاني حصلت في أمر ذكره فضيحة.
قلنا: أخبرنا.
قال: حضرت معها الى القاضي فادعت عليّ الزوجية والغيبة عشرة سنين, وسألت أن أخلي سبيلها, فصدقتها على ذلك, فقال لها القاضي: أتبرئينه؟ قالت: لا والله, لي عليه صداق ونفقة عشر سنين, وأنا أحق بذلك, فقال لي القاضي: ادّها حقها ولك الخيار في طلاقها أو امساكها. فورد عليّ ما بلسني, ولم أتجاسر أن أحكي صورتها معي, فلا أصدّق, فتقدم القاضي بتسليمي الى صاحب الشرطة, فاستقرّ الأمر على عشرة دنانير أخذتها مني وغرمت للوكلاء وأعوان القاضي الأربع رباعيات التي أعطتني, ومثلها من يدي.
فضحكنا منه, فخجل وخرج من مصر ولم يعرف له خبر.



·قال الشيخ أبو الوفاء بن عقيل:
حكى لي بعض الأصدقاء أن امرأة جلست على باب دكان بزاز أعزب الى أن أمست, فلما أراد غلق الدكان تراءت له, فقال لها:
ما هذا المساء؟
فقالت: والله ما لي مكان أبيت فيه.
فقال لها: تمضين معي الى البيت؟
فقالت: نعم.
فمضى بها الى بيته, وعرض عليها التزويج, فأجابت, فتزوجها.
وبقيت عنده أياما, واذا قد جاء في اليوم الرابع رجل ومعه نسوة, فطلبوها, فأدخلهم وأكرمهم, وقال: من أنتم منها؟
فقالوا: أقاربها: ابن عم وبنات عم, وقد سررنا بما سمعنا من الوصلة, غير أنا نسالك أن تتركها وتزورنا لعرس بعض أقاربنا.
فدخل اليها فقالت:
لا تجبهم الى ذلك, واحلف بطلاقي أني لا خرجت من الدار شهرا ليمضي زمن العرس, فانه أصلح لي ولك, والا أخذوني وأفسدوا قلبي عليك, فاني كنت غضبى وتزوّجت اليك بغير مشاورتهم, ولا أدري من دلّهم اليك؟
فخرج فحلف كما ذكرت له, فخرجوا مأيوسين, وأغلق الباب وخرج الى الدكان وقد علق قلبه بالمرأة. فخرجت ولم تستصحب من الدار شيئا, فجاء فلم يجدها, فقال قائل: ترى ما الذي قصدت؟
قال أبو الوفاء: لعلها مستحلة به لأجل زوج طلقها ثلاثا, فليتخوّف الانسان من مثل هذا, وليطلع به على غوامض حيل الناس.








 


رد مع اقتباس
قديم 2009-06-01, 17:06   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
نصرالدين عمر
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

اشكرك اخي جزيل الشكر عن هده الحكاية الطويلة بارك الله فيك احسنت










رد مع اقتباس
قديم 2009-06-15, 02:10   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
hdaoud
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

شكرا جزيلا وبارك الله فيك










رد مع اقتباس
قديم 2011-11-02, 16:27   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
الباديسي
عضو ماسي
 
الصورة الرمزية الباديسي
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام صاحب أفضل موضوع سنة 2014 الموضوع المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

شكرا جزيلا على هذه ابلجواهر










رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 23:14

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc