تعليق
كثيرة هي الكتابات التي عالجت موضوع العلاقة بين المعرفة والإيمان لكنّ قليلا من الدراسات من تدفعك لقراءتها مرّات عديدة وتتمنى لو أنّ مباحثها لا تنضب فهي تقودك في خطّ منهجي متين ومادة علمية ثرية وأسلوب أدبي مميز إلى رحلت فلسفية في أغوار النفس البشرية مستكشفا خباياها ومطّلعا على مفاتيح [فهمها] و الغاية من وجودها
والكتاب المقصود هو كتاب [ أصول الإيمان بالغيب وآثاره ] للدكتورة فوز بنت عبد اللطيف بن كامل الكردي حفظها الله وحيث أنّ الكتاب أعجبني ووددت لو انّ لي قوة وعزما لنسخ كثير من مباحثه لكنّ الوقت قد بدأ يتضاءل شيئل فشيئا فلم أجد بدا من مشاركتكم هذا المبحث الرائع فلتتفضّلوه مشكورين
الإرشاد إلى منهج طلب المعرفة اليقينية
البحث وراء المعرفة مطلب عامّ للبشر ينبع من حاجتهم إلى فهم أسرار الكون والوجود والكشف عن الحقائق وإدراك عللها للوصول إلى تفسير يبنون عليه تصوّراتهم وقيمهم وأخلاقهم ونظام معاشهم ولذا كان من مهمات الوحي تقديم معرفة شاملة لما ينفع الناس في أمر الدنيا والدين فأوضح لهم الحقائق التي لا يمكن أن يصلوا إليها بفكرهم وملكاتهم وهداهم إلى الحقّ عقيدة وعملا كما دعا إلى العلم ورغّب فيه وحذّر من الجهل وعابه ودعا لنبذه وأرشد إلى مصادر المعرفة المختلفة وبيّن مجالاتها وقيمة المعرفة الصادرة عنها والعلاقة فيما بينهما ودعا إلى استعمال نعم الله عليهم من قوى ومواهب في مجالها بحثا واستدلالا مما له أعظم الأثر في الحصول على المعرفة الصحيحة اليقينية لا في مجال الغيب فقط وإنما في مجال الشهادة كذلك ولكن لم يستفد منها إلاّ أتباع الأنبياء الذين آمنوا بالغيب وصدّقوا به .
أمّا من لم يكن لهم نصيب من الإيمان بالغيب على منهج الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فقد حاولوا أن يحدّدوا بأنفسهم منهج البحث عن الحقيقة ويعيّنوا المصادر الموصلة إليها [1] فنشأت من محاولاتهم الفلسفية بتياراتها ومذاهبها المتنوّعة منذ الفلاسفة القدامى في الهند والصين واليونان وقد كان من الطبيعي أن تختلف نزعات الفلاسفة وتفسيراتهم إذ إنّ قصارى ما يفعلونه هو وضع افتراضات مطبوعة بفكرهم صادرة عن قواهم وملكاتهم من تأمّل أو تحليل أو حدس أو تخيّل أو غير ذلك من المواهب التي يتفاوت الناس فيها ويتنازعون في مدى اقتناعهم بالمعرفة الصادرة عنها لذا لم يكن نتاج هذه الفلسفات إلاّ إخفاقا في تقديم تفسير مقنع متكامل لما يدور حول الإنسان في الوجود وعجز عن الدلالة على منهج صلاح الدنيا والآخرة عقيدة وعملا .
وإنّ تتبّع منهج الإيمان بالغيب في إرشاد المؤمنين به عن طريق المعرفة اليقينية وتبصيرهم بحقائق الأمور في عالمي الغيب والشهادة ليكشف الأثر العظيم لهذا الإيمان في حياة الناس وصلاح دينهم ودنياهم لو عرفوه واتّبعوه ومن ابرز معالم هذا المنهج ما يلي :
أوّلا : التأكيد على أنّ الوحي هو المصدر الرئيس للمعرفة الصحيحة :
فعقيدة الإيمان بالغيب التي جاءت بها الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - تقتضي من المؤمنين بها أولا التسليم بالوحي وتصديقه وقد كان التأكيد على صدق خبر الوحي والبرهنة على أنه الحقّ من عند الله - عزّ وجل - من أهمّ المسائل التي قرّرها الرسل قال تعالى : [ قل يأيّها النّاس قد جاءكم الحق من ربّكم ] [يونس : 108] وقال - عزّ وجل - : [ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحقّ وإنّك لمن المرسلين ] [البقرة : 252]
لذا فإنّ كل ما يعرف من طريق الوحي فهو علم يقيني سواء أكان ذلك فيما أخبر به ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا أم كان من حقائق العالم الغيبي أم من سنن العالم المشهود فقد قدّم الوحي للمؤمنين به علما واسعا في مجالات كثيرة عجزت جميع مصادر المعرفة حيالها عن تقديم شيء يقيني تتفق عليه كلمة أهلها ومن أعظم هذه المجالات مجال الغيب أو ماوراء الطبيعة الذي تخبّطت فيه الفلسفة كثيرا وانتهت إلى اعتراف كثير من أساطينها بالعجز عن إدراكه أو اللجوء إلى إنكاره فالمؤمنون بالغيب لتلقّيهم كلّ ما جاء به الوحي من العلم والعمل باليقين التامّ وصلوا إلى معارف جليلة فاهتدوا إلى ربّهم - عزّ وجلّ - وصدّقوا بوجوده وأثبتوا له الأسماء الحسنى والصفات العلا وعلموا بوجود الملائكة الأبرار وعرفوا كثيرا من أعمال الملائكة وصفاتهم وعرفوا حقائق عن عالم الجنّ والشياطين وعرفوا عداوة إبليس بهم وتربّصه بهم كما عرفوا كيف يدفعون كيده ووساوسه وآمنوا بالأنبياء وعصمتهم وأدركوا جزاء من اتّبع هداهم وعقاب من خالفهم وكذّبهم وعرفوا تفاصيل كثيرة عن البعث والجزاء في اليوم الآخر كصفة الجنة والنار والصراط والميزان وغير ذلك
كذلك عرفوا من طريق الوحي معارف مهمة عن النفس ونوازعها وطرق تزكيتها وعن كثير مما يصلح معاشهم وحياتهم الدنيا ما جعلهم أهدأ نفسا وأقوم منهجا ممن جعلوا عقولهم مقدّمة على الوحي وتخبّطوا بفلسفاتهم في متاهات الشكّ والضلال .
فعقيدة الإيمان بالغيب لها بالغ الأثر في إرشاد المؤمنين إلى مصادر العلم الصحيح الذي لا يتوصّل إليه بالعقل والحواس من الحقائق الوجودية والأحكام الجازمة في محتلف مجالات الحياة لكونها تقوم على التصديق بالوحي الذي أنزله الله - عزّ وجل - هدى ونورا وامتنّ به على المؤمنين فقال : [ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنّك تهدي إلى صراط مستقيم ] [ الشورى : 52 ] وأكّد لهم صحّة خبره بما يرونه في أنفسهم ومن حولهم قال جلّ جلاله : [ سنريهم آيتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنّه الحق ] [ فصّلت : 53 ] ومن وجه آخر فهذه العقيدة تتضمّن تحذير المؤمنين من اتّباع الهوى والظنون بعدما جاءهم من العلم الحقّ قال تعالى : [ ولئن اتّبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ] [البقرة : 130]
وهكذا يعرف المؤمنون بالغيب منهج طلب الحقيقة بضوليطه ومحاذيره فتتكامل عندهم المعرفة الصحيحة .
أمّا من انحرفوا عن طريق الإيمان وصمّوا آذانهم عن الهدى فقد تقلّبوا في ظلمات الجهالة والكفر في المجال الذي لا تصله العقول لأنهم عدّوا الوحي نوعا من الهذيان والجنون وقابلوا أنبياء الله بالتكذيب والتسفيه كما أخبرنا الله في القرآن الكريم : [ وقالوا يأيّها الذي أنزل عليه الذكر إنّك لمجنون ] [الحجر : 06] [إن هو إلاّ رجل به جنّة فتربّصوا به إلى حين ] [المؤمنون : 25] وقال - عز وجل - : [ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون ] [الذاريات : 52] ومن الكفار من رفض الوحي - كبرا وبطرا - للجهل بحكمة الله في الإصطفاء والإجتباء فقالوا : [ وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ] [ الزخرف : 31] وقالوا : [ أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذّاب أشر ][ القمر : 25]
ومن نظر إلى الوحي وما يأتي به على أنه مجموعة أساطير ابتدعها خيال الإنسان الخصب في حقب مضت في محاولات تفسيره للكون و الحياة : [وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ] [ الفرقان : 05] لذا ظنّ المتأخّرون منهم أنه من الواجب كلّما تقدّم الزمان أن تستبدل بتلك الأساطير أفكار جديدة أكثر عقلانية لتفسير الكون والحياة .
ومنهم من عدّ ما يأتي به الأنبياء من جنس المعرفة الباطنية أو الإشراقية فنظروا إلى ما تضمّنته أخبار الوحي في جميع الرسالات على أنه نوع من ال حكم والإلهامات لا أكثر وهذه المعرفة - عندهم - ليست خاصة بالأنبياء أئمة البشرية وقدواتهم تلقّيا من الله - عزّ وجل - وإنّما هي نتاج عقل الإنسان المتعالي [02]
وقد أثّرت جميع هذه الإنحرافات سلبا على المعرفة الإنسانية إلاّ أنّ هذا الأخير من أخطر أنواع الإنحراف في باب الإيمان بالغيب لكونه لا يفصح عن صريح كفر معتنقيه بالأنبياء وتكذيبهم لهم مما يخدع أغرار المؤمنين يدقّ على أفهامهم ما يفضي إليه هذا القول من التكذيب وإنكار الوحي والنظر إلى الشريعة التي جاء بها النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّها أمور خاضعة للنقد والنظر والإنتقاء فليست - حسب قولهم - وحيا سماويا منزّلا من عند الله - عزّ وجل - والنبيّ فيها واسطة ورسول يبلّغ رسالة الله - عزّ وجل - وإنما هي فكر إنساني ملهم يهدف إلى سياسة الناس بمنهج يقوم على وعد ووعيد غيبيين .
ومنهم الذين يقرّون ظاهريا بأنّ الوحي منزّل من عند الله ثمّ يعمدون إلى تكذيب المعاني والحقائق فيجعلون الوحي مجرّد نصوص مقدّسة يمكن فهمها وتفسيرها على غير ما فسّرها به الأنبياء وهؤلاء لا يخرجون عن أصناف ثلاثة سمّاهم شيخ الإسلام ابن تيمية : أهل التخييل وأهل التأويل وأهل التجهيل
فأهل التخييل يزعمون أنّ ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلّم من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل وتمثيل لا تبيين للحقّ وهدى للخلق وإيضاح للحقائق
وأهل التأويل يزعمون أنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم لم يبين المعاني ولا دلّ عليها إنّما دعا الناس أن ينظروا بعقولهم ويجتهدوا في صرف النصوص عن مدلولاتها بإخراج اللغات عن طريقتها المعروفة والإستعانة بغرائب الإستعارات
أمّا أهل التجهيل فهم الذين يقولون بأنّ هذه النصوص غير معروفة المعنى لأحد إلاّ الله فمعانيها مجهولة حتى عند الأنبياء أنفسهم [03]
وقد علت أصوات أصحاب هذه الإنحرافات في العصر الحديث فأصبح هذا التكذيب الباطني أكثر ظهورا من التكذيب الصريح بالوحي نظرا لتبني فلسفة [ نسبية الحقيقة ] تلك الفلسفة التي تدعوا حقيقتها إلى أنواعى من النفاق الإعتقادي والعملي ووقع في هذه الإنحرافات كثير من أتباع الملل السماوية ومن جملتهم بعض من ينتسب إلى الإسلام ويدّعي الإيمان بالله ورسله جهلا منهم بدينهم الحق وعصمة رسوبهم صلى الله عليه وسلم وعلوّ كتابهم الكريم أو محاربة منهم للحق وأهله وموالاة للباطل وأهله فأكثر الرافضين للوحي اليوم ليسوا ممن بتّهم الأنبياء بالكذب بل ربّما يدّعون إجلال الأنبياء وتقدير كلامهم ويعترفون بأنّهم أخبروا عمّا وراء العالم المّادي ولكنّهم برفضون الإعتراف بأنّ ما أخبروا به هو وحي من عند الله - عزّ وجل - أو أنه معصوم محفوظ بحفظه تعالى وإنّما يعدّونه نوعا من [ تراث الحكمة المنقولة ] التي هي مجموع الموروث النقلي في الديانات بصرف النظر عن كونها حقا أو باطلا ونتج عن هذه الإنحرافات في تمييز حقيقى الوحي والإيمان به إتجاهان واضحان في عصرنا :
الأوّل : يقلّل من قيمة الوحي وأثره في بيان الحقّ والدلالة عليه ويزعم أنّ النّصوص المقدّسة - المعصوم منها وغير المعصوم - مجرّد تراتيل وأساطير نافعة تتلى وتتوارث لتضمّنها بعض الفوائد التربوية أو النفسية للمؤمنين بها
لذا لا ينبغي أن يتّخذ الوحي مرجعا يتحاكم إليه أو قصصا حقا يتّعظ به وإنّما يفحص على أنه نتاج بشري متميز يمكن أن يضاف إليه ويحذف منه أو بحسب ما يرى الناس صلاحه لزمانهم ومكانهم [04] ونتج عن هذا التوجّه مذاهب متنوعة من الإلحاد والعلمانية .
أمّا الثاني : فيدعوا إلى العودة إلى هذا الموروث المنقول بالعمل على إحياء الفلسفات القديمة التي تتضمنها كتب فلاسفة اليونان والهند والصين وغيرهم وطقوس الشعوب الوثنية ومحاولة فهمها والتقريب بين أساطيرها وبين مخرجات العلم وقوانينه وقد تبنى هذا التوجّه كثير من العلماء الحيارى في الغرب والشرق اليوم بعدما رأوا عجز العقول عن الوصول إلى تفسير كامل للوجود والكون والحياة ونتج عن هذا إنتكاسة كبيرة للعلم أدت إلى نشر أنواع الشرك والكفر بزعم أنها أمور علمية معروفة منذ القدم في موروث الحكمة التي تشترك فيها البشرية وليست أمور تتعلّق بدين معين
ولا يعجب المؤمن بالغيب وهو يرى تشابه أقوال المنحرفين وأفعالهم منذ القدم حتى الآن بل إنه يزداد إيمانا ويقينا بحقائق الغيب التي عرفها من الوحي المعصوم ويعلم أنّ من ضلّل السابقين هو الذي يضلّل أتباعهم اليوم دون كلل ولا ملل : [ قال فبعزّتك لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين ] [ ] فيستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويستمسك بالحبل المتين .
ثانيا - الدعوة إلى الإستفادة من كافة مصادر المعرفة المشروعة في مجالاتها :
لما كانت المعارف تختلف في خصائصها وتتنوّع في مصادرها فإنّ الوصول إلى الحقّ في كلّ أمر يتطلّب الإلمام بمصادر المعرفة المتنوعة ومعرفة مجال كلّ مصدر وما يمكن أن يتلقى منه وقد وضّح منهج المعرفة القائم على الإيمان بالغيب هذه المصادر ودعا إلى الإستفادة منها في مجالاتها فكما دعا الإنسان إلى التسليم للوحي والتلقي عنه وأكّد كونه مصدرا صادقا للمعرفة لكونه من ربّ العالمين فقد دلّ على الفطرة التي جعلها الله عزّ وجل ميزانا للحق في داخل النفس ودعا إلى النظر في دلالتها قال تعالى : [ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ] [الروم : 30] والفطرة هي الإسلام [05] وهي الدليل الأوّل على الخالق - سبحانه وتعالى - وهي تلك الجبلة التي تدعو كلّ إنسان إلى أصول الخير إجمالا إلاّ إذا تعرّضت للإفساد من خارجها فلم تميّز الخير من الشرّ كما بيّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقوله : [ كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما تنتج البهيمة يهيمة جمعاء فهل تحسّون فيها جدعاء ] [06] وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه : [ خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ] [07]
كذلك فإنّ نصوص الوحي تدعو المؤمن إلى استخدام منافذ الحس التي زوّده بها في تحصيل المعرفة وتذكّره بأنّ هذه الحواس منه من الخالق - عزّ وجل - دعاه إلى الإفادة منها بالنظر والتفكّر وعدم تعطيلها بالغفلة قال تعالى : [ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ ألئك هم الغافلون ] [الأعراف : 179]
وتبيّن نصوص الوحي للمؤمن مجال هذه الحواس وتنبّهه إلى أنها ليست الطريق اليقينية الوحيدة للمعرفة لئلاّ يغترّ بها ويروم أن توصله إلى الحقائق المغيبة وراء عالم الشهادة قال تعالى : [ ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ ألئك كان عنه مسؤولا] [الإسراء : 36]
وكذلك وقف منهج المعرفة المعتمد على الإيمان بالغيب من العقل موقف الإنصاف فالعقل وسيلة يصل بها الإنسان إلى معرفة حقائق كليّة عامة يدرك بها كثيرا من أسرار الحياة وبه يستطيع الوصول إلى معرفة طرف من السنن الكونية التي يكشف بها بعض المغيبات النسبية لذا تضمّن الوحي أحكاما - وجوبا وندبا وكراهة - تضمن صحّة العقول وبقاء تمييزها وإدراكها ففيه الأمر بالنظر والتفكّير والتدبّر للهداية والمعرفة وفيه النهي عن المسكرات ومنع شربها والإنكار على شاربها وغير ذلك مما يكون وسيلة إلى حفظ العقل الذي هو محلّ معرفة الإله ومناط خطابه وتكليفه [08]
وهكذا فإنّ منهج الوحي الفريد يوصل المؤمن بالغيب إلى صحيح الحقائق الفطرية والحسيّة والعقلية بدعوته إلى الإستفادة من كافة مصادر المعرفة المشروعة في مجالاتها والتحذير من إهمالها أو الغلوّ فيها بينما يتخبّط في رحلة البحث عن الحقيقة كلّ من انحرفوا عن هذا الإيمان وضلّوا عن منهجه فمنهم من فتنوا بقدرة الحواس فلم يثبتوا إلاّ التجربة الحسية مصدرا وحيدا للمعرفة وبنوا على ذلك نظرياتهم المادية في المعرفة [09]
ومنهم الذين افتتنوا بالعقل وجعلوه حكما فالحق ما قبله والباطل ما رفضه أو حار فيه وأعطوا المعرفة العقلية قيمة الحقيقة المطلقة متجاهلين تفاوت العقول وقصور مدركاتها
وقد أخذ الإفتتان بالعقل اليوم منحى جديدا في شكله وتطبيقاته وإن كان قديما في أصل ضلالاته فقدّس طوائف من الناس العقل الذي هو قوة غريزية وملكة تكتسب وتستفاد بالنظر العلمي والكشف التجريبي وقدّسوا ما يسمى العقل الكلي أو العقل الفعال الذي هو - كما يعرّفونه - جوهر قائم بنفسه منه تفيض الصور ومنه يستمدّ الإنسان معرفته [10] ولكنهم استخدموا لهذه الضلالات القديمة مصطلحات حديثة تتعلّق بالدراسات النفسية والتطبيقات التدريبية فأصبح العقل المقدّس اليوم هو ما يسمى [ العقل الباطن] [11]
ثالثا - الأمر بالتثبّت من صحّة الأخبار
إنّ التسليم بالخبر الصادق و الاعتداد به مصدرا للعلم لا يعني أبدا تصديق كلّ ناقل خبر فيما يروي وينقل والتسليم لكلّ مدّع أو صاحب فكرة أو ظنّ فالمؤمن بالغيب لا يقبل ولا يردّ من الأخبار إلاّ ببينة من النقل الصريح أو العقل الصحيح فإيمانه بالغيب يدعوه إلى التثبت ومعرفة الدليل وطلبه قال تعالى : [ قل هاتوا برهانكم ] [البقرة : 111] وينهاه عن تصديق الكذبة والفسقة قال تعالى : [يأبّها الذين ءآمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا] [ الحجرات : 06] فالفاسق قد يكذب أو يحرّف ويزوّر لذا ينبغي أن توضع روايته موضع الشكّ والريبة حتى تمحّص ويتثبّت منها لتمييز الحقّ من الباطل الذي قد يشتبه به أحيانا فيعتقده المتعجّل ويدعوا إليه فالوصية ب [ فتبيّنوا] تدعو إلى الروية والتؤدة وتتبع الأمر حتى يظهر الحقّ وينكشف زيف الباطل قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : [ إنّها ستكون أمور مشتبهة فعليكم بالتؤدة فإن يكن الرجل تابعا بالخير خير من أن يكون رأسا في الشرّ ] [12]
وما يردّده بعض المهزومين من أنّ الإيمان بالغيب يربّي المؤمنين به على التسليم بأمور خرافية ميتافيزيقية لا تخضع للعلم التجريبي فيكون سببا في فشوّ الخرافات وتخلّف المجتمعات إنّما هو زعم باطل قائم على الجهل بالغيب الحقّ وبما يقتضيه الإيمان به من الهداية إلى المعرفة الصحيحة فالغيب الذي أمرنا بتصديقه هو حقّ متثبّت من مصدره وصدق المخبر به مبرهن على صحّته وليس أساطير متوارثة أو خرافة ذائعة أو وحي محرّف والفرق بين تصديق الحقّ وتصديق الباطل كبير جدا سواء فيما يتعلّق بالغيب أو بالشهادة لذا وجب التحذير من جمع الحقّ مع الباطل الفلسفي أو المحرّف باسم الحكمة المنقولة أو الكتاب المقدّس لبالغ ضرره على المعرفة الإنسانية [13]
وقد كان إخوان الصفا رأسا في هذا الباطل كما صرّحوا في أكثر من موضع في رسائلهم بأنّها مجموع مأخوذ [ من أربعة كتب : أحدها الكتب المصنعة على ألسنة الحكماء والفلاسفة من الرياضيات والطبيعيات والآخر : الكتب المنزلة التي جاء بها الأنبياء - صلوات الله عليهم - مثل التوراة والإنجيل والفرقان وغيرها من صحف الأنبياء المأخوذة معانيها بالوحي من الملائكة وما فيها من الأسرار الخفية والثالث : الكتب الطبيعية وهي صور وأشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك وأقسام البروج وحركات الكواكب ومقادير أجرامها وتصاريف الزمان واستحالة الأركان وفنون الكائنات من المعادن والحيوان والنبات وأصناف المصنوعات على أيدي البشر كلّ هذه صور وكنايات تدلّ على معان لطيفة وأسرار دقيقة يرى الناس ظاهرها ولا يعرفون معاني بواطنها من لطيف صفة الباري جلّ ثناؤه والنوع الرابع : الكتب الإلهية التي لا يمسّها إلاّ الملائكة المطهّرون التي هي بأيدي سفرة كرام بررة ] [14]
فهذا الصنيع الذي يجمع الحقّ مع المحرّف الذي فيه بعض حقّ مع الطبيعيات التي فيها شيء من الحقّ وبعض من الظنّ في مجال الغيب إضافة إلى التكهّنات والتنجيم هو ما يفعله بعض المنتسبين للإسلام اليوم من جديد بإصدار كتب ورسائل ظاهرها الموضوعية والحياد وحقيقتها تلبيس الحقّ بالباطل
وقد نجح إخوان الصفا قديما في توطين الفلسفة اليونانية في بلاد الإسلام فأفسدوا عقيدة كثير من الناس وكانوا نواة الفرق الباطنية المتنوعة بعدهم واليوم يعمل فريق من الناس على ترجمة الفلسفة الصينية والهندية [15] وتوطينها بالتدريب على طقوسها واتباع منهجها في الحياة ولعلّ خطر فلسفة الصين والهند أكثر من الفلسفة اليونانية - وإن كانت وجها آخر لها - لكون فلسفة الصين والهند تترجم وتوطن في بلاد الإسلام بظاهر تطبيقي عملي يتعلّق بالصحّة البدنية والنفسية والوصول إلى السعادة [16] ولا تهتم بالتنظير كثيرا فينخرط في تطبيقاتها كثير من الناس دون وعي منهم بأنها مقتضى فلسفة ملحدة
رابعا - الدعوة إلى سؤال أهل الذكر :
يضلّ كثير من الناس ويتخبّطون في متاهات الشكّ والحيرة عندما تشتبه عليهم الأمور أو تختفي عنهم بعض الحقائق أما المؤمنون بالغيب فإنّ منهجهم المعرفي القائم على الإسترشاد بخبر الوحي إضافة إلى ما ساق لهم من حقائق ما يهمهم من الأمور الغيبية دعاهم إلى طلب ما خفي عنهم من العلم عند أهله قال تعالى : [وماأرسلنا من قبلك إلاّ رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم مؤمنين] [الأنبياء : 07] ففي الآية دعا الله -عزّ وجل - المؤمنين إلى سؤال أهل الكتاب عما خفي عنهم من حال الرسل المتقدمين ليعلموا يقينا أنّ رسل الله - عزّ وجل - للناس كانوا كلّهم من جنس البشر وهو توجيه عام للمؤمنين في كلّ مسألة من المسائل يخفى عليهم علمها أو يشتبه عليهم أمرها [17]
وأهل الذكر في مسائل الدين وأصوله وفروعه هم أهل القرآن [18] فقد جعله الله هدى ونورا للذين آمنوا فيه بيان لكلّ ما ينفعهم من أمر الدين وكلّ ما تشتدّ حاجتهم إليه من أمر الدنيا فأغناهم الله به عن غيره لذا حفظه لهم وجعله نورا وفرقانا للمؤمنين إلى يوم الدين وأمر بالرجوع إليه وتدبّر آياته وقد تعجّب ابن عباس - رضي الله عنهما - من طلب يعض المسلمين سؤال أهل الكتاب في أمور بيّن كتاب الله - عزّ وجل - ما يغني عنها قال : [ يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب ؟ وكتابكم الذي أنزله الله على نبيّه صلى الله عليه وسلّم أحدث الأخبار بالله وتقرؤونه لم يشب وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب بدّلوا ما كتب الله وغيّروا بأيديهم الكتاب فقالوا : هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ ولا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم ] [19]
أمّا مسائل الدنيا فأهل الذكر هم المتخصّصون في بحثها ودراستها بمناهج العلم الصحيح ولو كانوا غير عالمين بالقرآن والسنة أو كانوا غير منتبهين لما قد يحدثوه من خلط العلم الصحيح مع باطل فلسفاتهم ومعتقداتهم فكثيرا من الضلالات إنّما تنشر اليوم تحت اسم العلم
وقد جمع في زماننا تحت اسم [علوم الماورائيات ] أو [ العلوم الباطنية ] كثير من تراث الدجل والفلسفات الباطلة وأصبحت تعدّ تخصّصات علمية يمنح دارسيها شهادات عالية وألقابا علمية [20] .
.................................................. .................................................. ..
[] - نشأ عن البحث في هذه المصادر ما سميّ ب [نظرية المعرفة] التي عدّت وسيلة الفيلسوف في البحث عن الحقيقة وقدّمت على سائر المباحث في الفلسفة المعاصرة بعد أن كان الوجود مقدّم عليها في الفلسفى القديمة ومباحث الفلسفة هي : المعرفة والوجود والقيم أو ما يعرف يعبّر عنه ب [ الإبستمولوجيا والأنطولوجيا والإكسيوبوجيا] ينظر : مقدمات في الفلسفة لعلي عبد المعطي: 07 من المقدمة .
[] - ينظر : مصادر المعرفة للزنيدي : 152
[] - الإنسان المتعالي في الفلسفة الإشراقية هو الإنسان الذي بلغ ما يسمونه درجة الإستنارة أو السمو إما بالمجاهدة الشديدة كالسهر والجوع والصمت أو من خلال جولان الروح وتطهرها في الأجساد المختلفة حسب معتقد الديانات الوثنية في تناسخ الأرواح ينظر : أسرار الآلهة والديانات ترجمة حسان إسحق : 276
[] - ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية : 05/31-35
[] - ساق الدكتور ناصر العقل كثيرا من أقوالهم وردّ عليهم ينظر كتابه [ الإتجاهات العقلية الحديثة] ص : 159 وما بعدها
قلت : أعدكم بنقل المبحث المتعلّق بمسألة الإيمان بالغيب في القريب العاجل إن شاء الله
[] - هذا تفسير جمهور السلف ينظر : درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 07/501 وفتح القدير للشوكاني : 004/224 وليست الفطرة مجرّد حاجة للتدين أو ما يسمى [ الغريزة الدينية ] التي تسكن باعتناق أي دين كما يزعم يغض الباحثين في علم الإجتماع الديني بل إن اعتناق الأديان المحرّفة يعدّ انحرافا عن الفطرة كما يخبر النبي صلى الله عليه وسلم فلا تسكن به النفس ولا تطمئن
[] - سبق تخريجه
[] - سبق تخريجه
[] - ينظر : شجرة المعارف للعز بن عبد السلام : 43
[] - ينظر : النظرة المادية في المعرفة لجارودي : 259
[] - ينظر : المعجم الفلسفي لجميل صليبا : 02/75
[] - سبق التعريف به
[] - أخرجه ابن وضّاح القرطبي ما جاء في البدع : 169 وإسناده صحيح
[] - يطلق هذه الدعوى كثير ممن لا بصيرة لهم على إمتداد التاريخ وفي عصرنا من هؤلاء :
صادق العظم ومن مؤلفاته : النقد الذاتي بعد الهزيمة ونقد الفكر الديني وزكي نجيب محمود ومن كتبه : خرافة الميتافيزيقا وتجديد الفكر العربي الذي يدعوا فيه إلى قبول ألفاظ التراث فقط مفرّغة من محتواها ومضامينها مزودة بمفاهيم حديثية مستمدة من الوضعية المعاصرة وممن أسرف في تعصبه لهذه الدعوى مؤخّرا المدعو سيد القميني فألّف الكتب وملأ الصفحات الإلكترونية بشبهه وأباطيله ومن كتبه : ربّ الزمان والأسطورة والتراث وقصة الخلق
[] - وفي عصرنا يدعوا لذلك بطريقة مبطنة صلاح الراشد ففي النشرة عدد 22 بتاريخ 1 - 15 يونيو 2003 م يورد حوارا مع من وصفه بالعلامة يؤكد فيه أنّ الكتاب المقدس مكون من ثلاثة أجزاء هي : العهد القديم والعهد الجديد والقرآن الكريم يقول : [ الجزء الثالث من الكتاب المقدس أكمل به محمد صلى الله عليه وسلم وهو العهد الأخير وهو القرآن الكريم ] ص 62 من العدد 117 من مجلة فواصل وفي موطن آخر يؤكد عند حديثه العجيب عن علامات الساعة وتفسيرها أن كتب الكهانة مصدر علمي يعضد خبر الأنبياء فيقول: [ لقد جاء التسلسل الإنجيلي موافقا لما ذكرناه - من أحداث آخر الزمان - وموافقا للحديث النبوي وموافقا لتربيعات ناستراداموس] ص 22 من العدد 121 النشرة 25 بتاريخ 15 يوليو 2003 م
[] - رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا : 10/42
[] - ينظر : تاريخ الفلسفة في الإسلام ترجمة محمد أبو ريدة : 113
[] - من سيل الكتب المترجمة والمصنفة في هذا المجال : سلسلة مكتبة الماكروبيوتيك من إعداد يوسف البدر وسبسبة نادي السعادة بإشراف صلاح الراشد وكتاب العلاج بالطاقة الحيوية لعبد التواب حسين والإستشفاء الطبيعي بالماكروبيوتيك ترجمة أسامة مأمون والتنفس أسلوب حياة جديد ترجمة : نورة الشهيل وغير ذلك كثير من الكتب التي أظهرت دراستها أنها مأخوذة من نفس المصادر التي إعتمدت عليها رسائل إخوان الصفا وإن إختلفت النسب وطرائق العرض كما أنها تؤدي إلى نفس الطريق التي تدعو إليه تلك
[] - يؤكد ذاك أستاذ علم الإجتماع الطاوي ........... فيذكر عددا من الممارسات المنتشرة تحت اسم الطب الصيني وحقيقتها تطبيق فلسفة الطاوية يقول : [ كقير من الناس يمارسون الشي كونغو التاي شي والإبر الصينية يوميا دون أن يعرفوا أنهم يمارسون الطاوية ينظر : ..............................
كما تبين دراسة قامت بها جمعية السرطان الأمريكية حقيقة [المايكروبيوتيك] الذي ينتشر بصورة كبيرة كمنهج تغذية وطريقة علاج ونظام حياة : [ المايكروبيوتيك يجمع بين عناصر البوذية ومباديء الحمية وقد طوره الفيلسوف الياباني
جورج أوشاوا جامعا بين بوذية زن مع الطب الآسيوي وتعاليم النصرانية مع بعض سمات الطب الغربي ] ينظر الموقع الإلكتروني للجمعية : ................................
[] - ينظر تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي
[] - ينظر جامع البيان للطبري : 17/05 والمحرر الوجيز لابن عطية : 11/124
[] - أخرجه البخاري كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ] رقم 7363
[] - مثال هذا جمعية [ أمريكان باسيفيك ] للعلوم الباطنية بالولايات المتحدة الأمريكية التي تمنح درجة الباكالوريوس والدكتوراه في التخصصات التالية : السحر وتشريح الروح والمانترا وتانترا التبت والرمل والكهانة والعرافة والماكروبيوتيك والبرمجة اللغوية العصبية والطاقة والريكي والتاي شي والفون شوي ينظر موقع الجامعة الإلكتروني : ............
وتجمع هذه التخصصات كلّ ما عرفته البشرية الوثنية والدجل والشرك والكفر والإلحاد لذا ربما كان من الصواب تسميتها جامعة الشيطان