ماذا تفعل بنعجة واحدة ؟؟ أبو جره سلطاني
أبو جره سلطاني :
أن الطاعة في المنشط أمرها ميسور، لأنها لا تطلب منك شيئا كان ملكا لك ثم طالبتك برده إلى المؤسسات، وإنما تطلب منك الطاعة الإلتزام بالقرار
- أما الطاعة في المكره فهي تطلب منك النزول على ما تكرهه النفس، وهو"نزع" ما بيدك (وربما ما في قلبك) من "مغنم" هو قاب قوسين أو أدنى من يديك ليوضع بيد غيرك، وقد شرحنا أحوال الناس خلال ابتلائهم بما لم يكونوا يتوقعون، ولفتنا الإنتباه إلى "مرارة" الصبر على ما حفت به الجنة من مكاره.
هي قصة طريفة وذات إمتاع ومغزى، وهي أيضا درس تربوي عظيم أسوقها مختصرة، وأضع بين يديك خلاصات دروسها التي تجعلك مصدوما جراء ما سوف تستشعره من انزلاق في مهاوي شهوة النفس التي لو أعطاها الله نهرا من فضة لتمنت أن يحوله ذهبا، فإذا صارت أمنية الأمس حقيقة اليوم تمنت النفس أن يصير النهر نهرين، فإذا تحققت هذه الأمنية زادت أطماع النفس لتصل إلى "شهوة" امتلاك الشمس والقمر:"ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب"
خلاصة فقه الخلطة ساقها القرآن الكريم في مثَل رجل كان يملك تسعا وتسعين(99) نعجة، وله أخ كان لا يملك من الأغنام إلا رأسا واحدا(01) فطمع صاحب 99 نعجة في صاحب الواحدة، وجادله بحجج كثيرة ليقنعه بضرورة التخلي عنها وضمها إلى القطيع تحقيقا لمصلحة مشتركة..بزعم الخليط الأوفر حظا !؟
والنص القرآني بليغ في تربية نفوس الخلطاء بوضع هذه القصة الرمزية في سياق الحديث عن الذين هم"في عزة وشقاق" ديدنهم تسخير جميع الوسائل لخدمة مصالحهم الشخصية وتطويع الحق ليتماشي مع هواهم، ولذلك تجدهم بارعين في ثلاث:
- البراعة في رد كل ما لا يخدم مصالحهم ولو كان دينا
- القدرة على حشد الحجج لجعل الباطل حقا
- والقدرة على الجدل طمعا في الإقناع بما لا يمكن الإقناع به، كونه ظاهر البطلان و الفساد متهافت من تلقاء نفسه، ولكنهم لا يملون من المحاولة للضغط بكل وسيلة لعل الجدل يحيل الباطل حقا: "يجادلونك في الحق بعدما تبين".
ولكي تدرك قدرة النفس البشرية على الجدال عن نفسها أضعك في صورة هذه القصة الرمزية كما وردت، ثم أسبَح معك في أفيائها التربوية لعلني وإياك نفقه شيئا من معنى "الخلطة" فنجتهد-قدر المستطاع-لتجنب البغي على بعضنا إذا فرضت علينا ظروف أداء الواجب أن نقطع معا جزءا من مسافة السير نحو الهدف بمنطق فقه الخلطة.
جاءت هذه القصة في سياق حث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على المزيد من الصبر أمام موجة الإشاعات والدعايات والأراجيف التي كان يشنها معسكر الشرك ضد الصفوة القليلة من أصحاب الرسالة الخاتمة، فخاطبه ربه بالقول:
- فاصبر على ما يقولون
- واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب
وفي هذه الإحالة على داود عليه السلام تسلية للنفس، وتربية للعقل، وربط على القلب..ليمضي صاحب الرسالة إلى نهاية "مشواره" دون أن يلتفت إلى ما يقال: "فاصبر على ما يقولون" لأنهم قالوا من قبل..وهم يقولون الآن وسوف يقولون غدا وبعد غد..ولن يتوقفوا عن الهرف أبدا..لأن صناعتهم القول وبضاعتهم الإشاعة، وحياتهم كلها صراعات وخصومات وفتن..فتأمل معي في الحركات "المشبوهة" في فقه الخلطة :
- وهل أتاك نبأ الخصم
- إذ تسوروا المحراب
- إذ دخلوا على داود ففزع منهم
- قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض
- فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط
- واهدنا سواء الصراط
ما أعظم هذا التصوير الدال على خفايا طبيعة المتخاصمين حول شيء مادي يفترض ألا تقوم حوله خصومة، ولكن الخلطة الباغية هذه طبيعتها، فتعلم أنت من حديثها سبعة(07) دروس بليغة في فقه الخلطة :
- أحاديث الخصوم كلها باطل يحتمل الحق وخطأ يحتمل الصواب، فلا تتسرع في إصدار الحكم قبل أن تستمع إلى الطرفين-أو لجميع الأطراف-ولا تأخذك بلاغة طرف مستبد على حساب طرف مستضعف تعوزه البلاغة وتنقصه الحجة..
- طرق الخصوم في رفع مظالمهم يعوزها الأدب، فهم من أجل تحقيق مصالحهم لا يدخلون من الأبواب المعلومة ولا يراعون حرمة مواقيت الصلاة، والأكل، والقيلولة والراحة، والوجود مع الخاصة، أو الخلوة في المحاريب..المهم أن يدخلوا بغير موعد و"يفرضوا" أنفسهم بطرح انشغالاتهم على حساب قضايا قد تكون أكثر نفعا وأوسع أهمية، ومن واجبك أنت أن تتفرغ لهم حتى ولو"تسوروا المحراب" فالدخول عليك-في نظرهم-لا يحتاج إلى استئذان!؟ ما دامت "حويجاتهم" مبلغ علمهم!؟
- دخولهم فيه رعونة وخشونة إلى درجة بث الفزع في نفس من لم يكن يعلم بقدومهم، كونهم لم يلتزموا بآداب الزيارة ولم يستأذنوا بالدخول :"إذ دخلوا على داود ففزع منهم".
- يدخلون على الناس في بيوتهم بغير استئذان وبغير تحديد مواعيد، ثم يقولون:"لا تخف" فأين هم من قوله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها.."
- هم يعرفون أن في الخصومة بغي، وكل طرف يدرك أنه حريص على اقتطاع جزء من حق صاحبه ليضمه إليه: "خصمان بغى بعضنا على بعض" والإعتراف بالبغي شجاعة لكنها ملبسة بالظنون. وكأن البغي متبادل!؟
- الخصوم عادة لهم جرأة على الحق, فهم يهاجمون الآخر كأفضل وسيلة للدفاع "فاحكم بيننا بالحق ولاتشطط" كأنهم يفترضون في من جاؤوه بغير موعد وارتضوه حكما، أنه غير عادل "ولا تشطط" أي لا تسرف في الحكم، وهذه جرأة المتخاصمين على من يختارونه حكما بينهم؟
- وكل خصيم يزين كلامه بأبدع الحجج الباحثة –في ظاهر القول- عن الحق والعدل والمصلحة العامة...بل عن الصراط المستقيم :"واهدنا إلى سواء الصراط".
ما هو موضوع الخصومة؟ وما هو أعظم درس نستخلصه من هذه القصة؟
إنه حظ النفس من كل قسمة فيها شريك، فمائة (100) نعجة كان يفترض أن يتقاسمها الإخوان بالسوية ،أو حسب الحاجة ،أو بالتوافق القائم على تحقيق المصلحة المتبادلة بين الطرفين، والمندرجة في ثلاثة مستويات:
- مستوى العدل: الذي يقتضي المناصفة50 % لكل طرف.
- مستوى الإحسان : الذي يقتضي مراعاة ظروف كل طرف وكده وتعبه وسبقه وحضوره في مساحات الفعل..الخ.
- مستوى الإنصاف : الذي يقتضي التوافق المحقق للمصلحة المشتركة من غير لجوء إلى منطق الرياضيات الجاف.
لكن هذه الخصومة انحرفت عن العدل ؛والإحسان والإنصاف إلى البغي :"إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب".
سبحان الله :أخذ من المئة (100)تسعا وتسعين (99) وظلت عينه على النعجة الوحيدة المتبقية خارج "حيازته" لأن أخاه أخذها ورضي بها قسمة ونصيبا.. فجادله عليها ليضمها إلى نعاجه ويجرد أخاه من "نصيب" قليل يبدو أن أخاه كان مقتنعا به رغم قلته (نعجة واحدة) بدليل اعترافه بأحقية أخيه في بسط نفوذه على 99 نعجة ورضاه هو بنعجة واحدة ومع ذلك خاصمه فيها، وحاجّه، أمام داود (عليه السلام).
- إن أخي له 99 نعجة
- ولي نعجة واحدة
- فقال أكفلنيها
- وعزني في الخطاب، ومعناه: أن أخاه قدم له من المبررات والحجج ما جعلنه عاجزا عن إقناعه بخطإ ما يريده من ضم نعجتيه الوحيدة إلى قطيعه الكبير :"وعزني في الخطاب "غلبه بكثرة جدله وشدة حرصه على ضم نعجته الوحيدة إلى نعاجه الكثيرة حتى صار معتقدا أن من مصلحته التنازل عن الواحدة لصالح صاحب التسع والتسعين؟
فائدة عظيمة : هذه قصة حقيقية حدثت مع داود (عليه السلام ) وقد عالجها بطريقته التربوية المربية –لأنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب –فقدر أن صاحب القطيع باغ على أخيه، ومسرف في الجشع، ومبالغ في الظلم :"قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه" فمجرد طرح السؤال بصيغة : "أكفلنيها" فيه جرأة على صاحب الحق، وفيه تطاول على المروءة وظلم للمستضعفين وتجاوز للعدل والإحسان والإنصاف، لأنه سؤال لا رائحة فيه للرجولة ولا طعم فيه للمروءة ولا مسكة فيه للخلق، ولا يصدر مثله عن صاحب عقل ناهيك أن يكون صاحب دين، لكن البغي بين الخلطاء لا حدود له :"وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض".
والحمد لله أن النص لم يعمم البغي ليستغرق جميع الخلطاء ،وإنما إتهم الكثيرين منهم ليفيد أن هناك شرفاء ،وهناك متنازلون، وهناك حريصون على المصلحة العامة" ولكنهم قليلون بين الخلطاء من أهل الإيمان والعمل الصالح :"إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم..." هم قلة في زماننا كما في زمان داود (عليه السلام) ولكنها قلة نافعة..هم دائما في الصف قليلون ولكنه قليل صانع للقدوة وقليل لا تهمه القسمة ولا نسبتها المئوية إذا تحقق ركنا فقه الخلطة وهما : الإيمان الصانع للمعجزات، والعمل الصالح العاصم – بعد الله تعالى- من البغي الناسف للمشاريع الكبرى. ومع ذلك نحتاج الى دق جرس : "وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض" لندرك أن البغي إنحراف خُلقي لا يخدم المشاريع الكبرى.