التوسل بالنبي صلى الله عليه عند الإمام أحمد
السؤال
ما صحة ما يقال عن الإمام أحمد أنه يجيز التوسل بمنبر النبي أو ذات النبي بعد وفاته؟ وربما ذكره الألباني في كتابه "التوسل وأنواعه"؟ وما معنى هذا قال أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد ابن مفلح الحنبلي (المتوفى سنة 884 هـ) في الجزء الثاني من "کتاب المبدع شرح المقنع": قال أحمد في منسکه الذي كتبه للمروذي: إنه يتوسل بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في دعائه وجزم به في المستوعب وغيره ".
الجواب
الحمد لله.
أولا:
يشرع التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، وبالعمل الصالح ، كالإيمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وبدعاء الرجل الصالح، وهذه الثلاثة متفق عليها.
وينظر: جواب السؤال رقم979)، ورقم3297).
وأما التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بجاهه ؛ يقول الداعي: اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم، فهذا مختلف فيه، ولم يرد ما يدل عليه، والأصل في العبادة التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما دل عليه الدليل.
وقد منع غير واحد من أهل العلم من التوسل بالحق والجاه.
قال الحصكفي في "الدر المختار" (5/715): "في التاترخانية ، معزيا للمنتقى عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)" انتهى.
وقال الكاساني رحمه الله في "بدائع الصنائع" (5/126): " وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ أَسْأَلُك بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك ، وَبِحَقِّ فُلَانٍ ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ" انتهى.
ومثله في "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" ، للزيلعي (6/31) ونسب القول بذلك إلى الثلاثة ، يعني : أبا حنيفة ، وصاحبيه : أبا يوسف ، ومحمد بن الحسن ، و"العناية شرح الهداية "للبابرتي (10/64) ، و"فتح القدير" لابن الهمام (10/64) ، وفي "درر الحكام" (1/321) ، و"مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر"(2554).
قال السيد نعمان خير الدين الآلوسي الحنفي ، رحمه الله في "جلاء العينين"، ص516: "وفي جميع متونهم: أن قول الداعي المتوسل : بحق الأنبياء والأولياء ، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام : مكروه كراهة تحريم ، وهي كالحرام في العقوبة بالنار عند محمد ، وعللوا ذلك بقولهم : لأنه لا حق للمخلوق على الخالق " انتهى .
ثانيا:
الرواية المنقولة عن الإمام أحمد في تجويز ذلك، قاسها رحمه الله على جواز الحلف به- وهي رواية عنه أيضا-، والرواية الأخرى تحريم الحلف به، وهي الموافقة لقول جمهور الفقهاء.
قال ابن مفلح رحمه الله: " ويجوز التوسل بصالح، وقيل: يستحب، قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروذي: إنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه، وجزم به في المستوعب وغيره، وجعلها شيخنا كمسألة اليمين به" انتهى من "الفروع" (3/ 229).
أي جعلها ابن تيمية رحمه الله مَقِيسة على جواز الحلف به.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟
فأجاب:
، أما التوسل بالإيمان به ، ومحبته وطاعته ، والصلاة والسلام عليه ، وبدعائه وشفاعته ونحو ذلك ، مما هو من أفعاله ، وأفعال العباد المأمور بها في حقه : فهو مشروع باتفاق المسلمين.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون به في حياته.
وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه ، كما كانوا يتوسلون به.
وأما قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك به. فللعلماء فيه قولان: كما لهم في الحلف به قولان: وجمهور الأئمة كمالك؛ والشافعي؛ وأبي حنيفة: على أنه لا يسوغ الحلف بغيره ؛ من الأنبياء والملائكة ، ولا تنعقد اليمين بذلك باتفاق العلماء.
وهذا إحدى الروايتين عن أحمد.
والرواية الأخرى : تنعقد اليمين به خاصة ، دون غيره؛ ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروذي صاحبه: إنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه.
ولكن غير أحمد قال: إن هذا إقسام على الله به ، ولا يُقْسَم على الله بمخلوق.
وأحمد ، في إحدى الروايتين : قد جوز القسم به ؛ فلذلك جوز التوسل به.
ولكن الرواية الأخرى عنه: هي قول جمهور العلماء ؛ أنه لا يقسم به .
فلا يقسم على الله به، كسائر الملائكة والأنبياء؛ فإنا لا نعلم أحدا من السلف والأئمة قال إنه يقسم به على الله؛ كما لم يقولوا إنه يقسم بهم مطلقا؛ ولهذا أفتى أبو محمد ابن عبد السلام: أنه لا يقسم على الله بأحد من الملائكة والأنبياء وغيرهم؛ لكن ذُكر له أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في الإقسام به ؟ فقال: إن صح الحديث ، كان خاصا به .
والحديث المذكور لا يدل على الإقسام به ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان حالفا فليحلف بالله ، وإلا فليصمت وقال: من حلف بغير الله فقد أشرك .
والدعاء عبادة ، والعبادة مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع. والله أعلم" انتهى من مجموع الفتاوى (1/ 140).
ثالثا:
يجب التفريق بين هذا التوسل المختلف فيه ، وبين الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ودعائه بعد وفاته، فهذا شرك لا خلاف فيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط ؛ يدعوهم ، ويتوكل عليهم ، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار ، مثل أن يسألهم غفران الذنب ، وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات : فهو كافر بإجماع المسلمين " انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/ 124).
وهذا الإجماع نقله غير واحد من أهل العلم مقرين له، وانظر في ذلك: "الفروع" لابن مفلح (6/ 165)، "الإنصاف" (10/ 327)، "كشاف القناع" (6/ 169)، "مطالب أولي النهى" (6/ 279).
وقال الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله: " وأما دعاؤه هو ، وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته، فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين ، لا من الأئمة الأربعة ولا غيرهم؛ بل الأدعية التي ذكروها خالية من ذلك" انتهى من "الصارم المنكي في الرد على السبكي"، ص136
والله أعلم.
منقول اسلام سؤال