كلمة من الحجر: حكم غلق المساجد في زمن الوباء .. رد على علي بن حاج وشمس الدين - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الفقه و أصوله

قسم الفقه و أصوله تعرض فيه جميع ما يتعلق بالمسائل الفقهية أو الأصولية و تندرج تحتها المقاصد الاسلامية ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

كلمة من الحجر: حكم غلق المساجد في زمن الوباء .. رد على علي بن حاج وشمس الدين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2020-04-24, 18:05   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عبد الحفيظ بن علي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية عبد الحفيظ بن علي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي كلمة من الحجر: حكم غلق المساجد في زمن الوباء .. رد على علي بن حاج وشمس الدين

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وصحبه وسلم.
نسأل الله عز وجل أن يرفع عنا البلاء والوباء، وأن يجعل لكل داء دواء، أما بعد:
فهذه كلمة مختصرة بخصوص هذا الوباء الذي أخذ تفكيرنا وشغل بالنا، إذ ليس هناك أحد وهو ماكث في بيته إلا وطالع أو بحث في أنواع الوباء والطواعين، متى وقع؟ وكيف تعاملت معه الأمم السابقة؟ خاصة ما تعلق منه بالعبادات، ثم وأنا أتجول عبر قنوات اليوتوب وجدت كلمة للشيخ علي بن حاج وأخرى للمدعو شمس الدين اعترضا فيها على ما أقدمت عليه السلطة في بلادنا من غلق المساجد، واعتبر الأول "علي بن حاج" بأن ذلك من عظائم الأمور، وأنه لم يقع في التاريخ الإسلامي أن أغلقت المساجد لأجل الوباء، وذهب الثاني "شمس الدين" إلى أنّ فتوى غلق المساجد في زمن الوباء باطلة ولا أساس لها. وأنّ الصحابة رضي الله عنهم لما وقع طاعون عمواس لم يثبت عنهم أنهم أغلقوا المساجد.
لهذا وذاك قررت جمع ما كنت قد طالعته من قبل، حتى تكونت عندي مادة رأيت من المفيد أن أنشرها، ملتزما في كلّ ذلك بتوثيق الأقوال، وبيان المصدر والصفحة.
بداية يعرف الجميع الآن أنّ هذا الوباء المعروف بفيروس كورونا هو وباء يصيب الإنسان في رئته، حتى يقضي على جهاز التنفس لديه، ولأجل ذلك نجد أنّ كل الدول جعلت همّها الأول والأخير في هذه الجائحة هو السعي بكل ما تملك من قوة ومال للحصول على أكبر عدد من أجهزة التنفس الإصطناعي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وهذا الوباء الذي يصيب الرئة قد عُرف قديما بأنّه من أشد أنواع الطاعون.
قال ابن خلدون المتوفى سنة 808هـ في مقدمة تاريخه ص376 .... وقوع الوباء وسببه في الغالب فساد الهواء .. فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرّئة وهذه هي الطّواعين، وأمراضها مخصوصة بالرّئة"
ولما كان المكان الذي يعشعش فيه هذا الفيروس هو الرئتين فإنّه يصعب على الأطباء اكتشافه من أول وهلة، ولذلك قد يحمل الإنسان هذا المرض ولا تظهر عليه أثاره إلا بعد أيام، وقد أشار إلى ذلك العالم الجزائري حمدان بن عثمان خوجة المتوفى حوالي سنة 1841م في كتابه: إتحاف المنصفين والأدباء بمباحث الاحتراز عن الوباء حيث قال في ص29: إن هذا المرض لما كان بتقدير الله ناشئا عن تغير الأهوية وسمية العفونات فهي تؤثر أولا في باطن الإنسان، ولا يظهر أثرها في الخارج إلا بعد أيام عديدة، فلو رخص في الخروج لما كان ذلك الخروج سببا للسلامة"
ولهذا وجدنا الدول كلها من دون استثناء قد اتخذت إجراءات صارمة للحد من انتشار هذا الوباء الذي ينتقل بإذن الله عبر الهواء والتنفس والسعال والعطاس والبزاق والاحتكاك بالمصاب سواء بالمصافحة أو التسليم أوالمعانقة، وحسب الدراسات الأخيرة فإنّ هذا الفيروس يعيش خارج جسم الإنسان على أسطح مختلفة حتى في الهواء، ومعنى ذلك أن هذا الفيروس ينتقل بسرعة كبيرة من حامل المرض لا تظهر عليه أعراض، إلى شخص آخر سليم.
وكان أفضل طريق لمواجهة هذا الوباء هو التفرق وترك الاجتماع والمكوث في البيوت، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فقال: ...فَلَيْسَ مِنْ رَجُلٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَيْتِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ"
رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح. طبعة الرسالة (43/ 235)
وروى أيضا عن عمرو بن العاص لما وقع طاعون عمواس حيث خطب الناس فقال: "إن هذا الطاعون رجس، فتفرقوا عنه في هذه الشعاب وفي هذه الأودية"
فالعلاج الطبيعي لمثل هذه الأوبئة من الطواعين هو التفرق وعدم الاختلاط والاحتكاك بالناس سواء بلزوم البيوت أو التفرق في الجبال والصحارى. لأنّه من المعلوم أنّ كلّ وباء سبب انتشاره هو مخالطة المريض. قال العالم الجزائري حمدان بن عثمان خوجة في كتابه: إتحاف المنصفين والأدباء بمباحث الاحتراز عن الوباء ص29: أكثر من أصابته الوباء فسببه مخالطة المريض ... كلّ تضرر وبائي فهو عن مخالطة مريض"
لذلك فعلى كل من كان في مكان ظهر فيه مثل هذا الوباء، ولو في حيّ من الأحياء، أو بيت من البيوت، أن لا يخرج منه، ويبقى ملتزما ببيته، وإن كان له عرس وزِفاف أخّره إلى ما بعدَ هذه الجائحة.
ذكر أبو العباس الونشريسي المتوفى سنة 914هـ في المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب3/248 "وقد اتفق لنا زمان الوباء أن صاحبنِا الفقيه أبا محمد المقري تحدثنا معه في مصاهرة بعض الأصحاب وقَبِلَ و سَمَّى كلّ ما ينبغي أن يُسَمّى ، و سألناه أن يشهد عليه فقال : و الله لا أفعل حتى يقرب وقت البناء، و يزول هذا العارضُ من الوباء"
إذا عرفت ما ذكرنا ـ أخي القارئ ـ أيقنت بأنّ هذا الوباء الذي ينتقل بإذن الله في الهواء، هو عدوّ لذود لكل ما له صفة اجتماع، وهنا نسأل، هل وقع في التاريخ الإسلامي أن أغلقت المساجد لأجل الحد من انتشار هذا الوباء. لأنناّ وجدنا البعض قد اعترض على ما أقدمت عليه السلطة عندنا من إغلاقها المساجد للحد من الاجتماعات والاحتكاكات المسببة بإذن الله لانتشار هذا الوباء.

قال علي بن حاج في كلمة مؤرجة بتاريخ 20 مارس: لم يحدث في تاريخ الأمة الإسلامية أن شهدت مرض معدي غلقت فيه المساجد"
والجواب على كلامه هذا، أنّ هناك الكثير من الأوبئة تسببت بغلق المساجد سيأتي الكلام عنها. أما إن كان قصده أنه لم يحدث في التاريخ أن أقدمت الحكومات على غلق المساجد ِلتَحُدّ من انتشار الوباء، فهذا صحيح، حيث لم يثبت تاريخيا أنّ مرسوما صدر بذلك من قبل، أمّا وقد وقع الآن في هذا العصر الذي سيبقى خالدا في التاريخ، ووقف العلماء كلهم على اختلافهم، كلمة واحدة، متفقة غير مختلفة، بوجوب غلق المساجد مع البقاء على شعيرة الآذان، لأنها عباد ة مستقلة ليس لديها أي علاقة بالاجتماع، واتفقوا كلهم على أنّ الاختلاط والاجتماع والتساوي في الصفوف والتراص فيها كل ذلك يساعد على انتشار هذا الوباء، وقولهم هذا في حكم الإجماع، ولا تجتمع أمتي على ضلالة كما قال صلى الله عليه وسلم، وستأتي أزمنة في المستقبل يجعلون ما وقع لنا في هذه الجائحة مرجعا لهم يواجهون به ما يقع لهم من وباء وبلاء.
استدلّ علي بن حاج على ما ذهب إليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: فِر من المجذوم فرارك من الأسد، ثم قال: والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغلق المساجد. لمّا حَلَّ الجُذَام.
والجواب على هذا الاستدلال منه أنه قياس مع الفارق، لأنّ الجذام مرض معدي معروف، يُرى ويُشاهد، ويستطيع الإنسان منع المصابين به من الدخول إلى المسجد متى شاء، وهو بخلاف هذا الوباء الفتّاك الذي لا يُرى ولا يشاهد، ولا يُعرف من قبل، وقد ذكر العلماء في كتب الفقه والحديث ما يتعلق بالجذام، وحتى أنه يجوز أن يؤم الناس إذا كان مرضه خفيفا، جاء في الدر الثمين والمورد المعين للشيخ ميارة ص381 قال ابْنُ رُشْدٍ: إمَامَةُ الْمَجْذُومِ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ إلَّا إنْ تَفَاحَشَ جُذَامُهُ وَعُلِمَ مِنْ جِيرَانِهِ أَنَّهُمْ يَتَأَذَّوْنَ بِهِ فِي مَخَالِطِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ الْإِمَامَةِ. فإن ابى أجبر"
وجاء في الذخيرة للقرافي (13/ 310) قَالَ مُطَرِّفٌ: إِنْ كَانَ الْمَرْضَى كَالْمَجْذُومِينَ وَنَحْوِهِمْ، مَرَضُهُمْ يَسِيرٌ، لَا يُخْرَجُونَ مِنَ الْقُرَى وَالْحَوَاضِرِ، وَإِنْ كَثُرَ، اتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ موضعا.. وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْأَسْوَاقِ لِحَاجَاتِهِمْ .. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَيُمْنَعُ الْمَجْذُومُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَمِنَ الْجُمُعَةِ"
ثم قد ثبت أنّ الجذام من الأمراض التي لا تضر كل الناس، قال حمدان خوجة في اتحاف المنصفين والأدباء بمباحث الاحتراز عن الوباء ص13: إن كثيرا من الأمراض المأمور باجتنابها، كالجذام مثلا قد لا يتضرر به كثير ممن لا يجتنبه"
وما ذكرتُ هذا إلا لنعلم أن هناك فرق واضح بين ما جاء في الجذام الذي هو مرض معروف ومشاهد، وما بين هذا الوباء الذي لا يُرى ولا يُشاهد. وبهذا نعلم أنّ هذا الاستدلال من الشيخ ليس في محله.
ثم قد استدل الآخر "شمس الدين" بما وقع في طاعون عمواس فقال: مات فيه ثلاث مائة صحابي ولا أحد منع الصلاة ولا أحد منع الجمعة، بل كانوا يهرعون إلى الصلاة وإلى الجمعة.
وهذا الاستدلال منه أيضا ليس في محله، لأنّه قد ثبت أنّ سبب انتشار الطاعون بين الصحابة رضي الله عنهم في عمواس هو اجتماعهم واحتكاكهم ببعضهم، ولو تفرقوا وتركوا الاجتماعات لخفّ ذلك عنهم، ولذلك أوّل ما بدأ به عمرو بن العاص رضي الله عنه لما استُخلف عليهم أمرهم بالتفرق وعدم الاجتماع.
وحتى نعرف الأمور على حقيقتها، فطاعون عمواس وقع في الشام سنة 18 هجري، قال ابن الجوزي المتوفي سنة 597هـ في المنتظَم في تاريخ الملوك والأمم 4/247: "طاعون عمواس تفانى فيه الناس ومات فيه خمسة وعشرون ألفا"
وهذا الطاعون هو الذي استشار عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في شأنه الصحابة في القدوم على أرض الوباء من عدمه، وقد كان الأمير عليهم في الشام آنذاك أبو عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه، فتوفي بذلك الطاعون، ثم استخلفه معاذ بن جبل رضي الله عنه فتوفي أيضا بذلك الطاعون، عندها استُخلف على الناس عمرو بن العاص. ذكر الطبري المتوفى سنة 310هـ في تاريخه 4/62 قال: فَلَمَّا مَاتَ معاذ بن جبل اسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَامَ خَطِيبًا فِي النَّاسِ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّمَا يَشْتَعِلُ اشْتِعَالَ النَّارِ، فتجبلوا منه في الجبال "أي فرو منه إلى الجبال" فعارضه بعض الصحابة فردّ عمرو بن العاص: وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ مَا تَقُولُ، وَايْمِ اللَّهِ لا نُقِيمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجَ النَّاسُ فَتَفَرَّقُوا، وَرَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْ رَأَيِ عَمْرَو بْنِ العاص، فو الله مَا كَرِهَهُ.
وجاء في مسند الإمام أحمد من رواية شُرَحْبِيلَ ابْنِ شُفْعَةَ قَالَ: (لَمَّا وَقَعَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ) ... اسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه فَقَامَ فِينَا خَطِيبًا, فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ:إِنَّ هَذَا الطَّاعُونُ رِجْسٌ مِثْلُ السَّيْلِ, مَنْ يَنْكُبْهُ (أي يتنحى عنه) أَخْطَأَهُ، وَمِثْلُ النَّارِ, مَنْ يَنْكُبْهَا (أي يتنحى عنها) أَخْطَأَتْهُ، وَمَنْ أَقَامَ أَحْرَقَتْهُ وَآذَتْهُ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ فِي الْجِبَالِ ... ثُمَّ خَرَجَ عمرو بن العاص, وَخَرَجَ النَّاسُ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ , فَدَفَعَهُ اللهُ عَنْهُمْ.
وفي رواية أخرى أنه خطب الناس فقال: "إن هذا الطاعون رجس، فتفرقوا عنه في هذه الشعاب وفي هذه الأودية" وفي رواية الحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الكبير عن عبد الرحمن بن غنم قال : وقع الطاعون بالشام فخطبنا عمرو بن العاص فقال : إن هذا الطاعون رجس ففروا منه في الأودية والشعاب"
فكلّ الصيغ: تفرقوا .. ابتعدوا .. فِروا .. تجبلوا .. كلها أوامر تخالف الاجتماع والاحتكاك، وبهذا تدرك أنّ الوباء لم يرتفع عنهم إلا بعد أن تفرقوا في الجبال والشعاب، وهنا يُطرح السؤال، كيف كان هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم يفعلون في وقت الصلاة وهم متفرقون في الجبال والأودية؟؟ هل يجتمعون لأدائها، أم يصلون فرادى في أماكنهم متفرقين؟؟
والآن نعود إلى مسألة غلق المساجد في أزمنة الوباء، فقد ثبت تاريخيا أنّ المساجد قد أغلقت ليس لأجل الحفاظ على حياة الناس كما هو واقع الآن في هذا العصر، بل لسبب أنّ الوباء قد قضى على معظم السكان وأصبحت المساجد مغلقة لأنّه لا يوجد من يصلي فيها.
ذكر ابن عِذَارِى المرّاكُشي المتوفى سنة 695 هـ في كتابه البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب (1/ 257) وفي سنة 395 هـ : وباء طاعون هلك فيه أكثر الناس من غَنِيّ ومحتاج، فلا تَرى متصرفا إلا في علاج أو عيادة مريض أو آخذا في جهاز ميت أو تشيع جنازة .. وكان الضعفاء يُجمَعون فتُحفر لهم أخاديد، ويدفن المائة والأكثر في الأخدود الواحد، فمات من طبقات الناس وأهل العلم والتجار والنساء والصبيان ما لا يُحصِي عددهم إلا خالقهم تعالى، وخلت المساجد بمدينة القيروان"
قال الحافظ الذهبي المتوفى سنة 748هـ في تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام 30/25 عن أحداث سنة 448 هـ عام الجوع الكبير بالأندلس: وفيها كان القحط العظيم بالَأندلس والوباء. ومات الخلق بإشبيلية، بحيث أن المساجد بقيت مُغلقة ما لها من يصلي بها.
وذكر أيضا في سير أعلام النبلاء 18/311: وكان القحط عظيما بمصر وبالأندلس، وما عهد قحط ولا وباء مثله بقرطبة، حتى بقيت المساجد مغلقة بلا مصل.
وذكر يوسف أبو المحاسن المتوفى سنة 874هـ في كتابه النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 10/164 - 165 قال بعد أن ذكر ما أحدث الوباء: وصار الناس يبيتون بموتاهم فى التّرب لعجزهم عن تواريهم، وكان أهل البيت يموتون جميعا وهم عشرات، فلا يوجد لهم سوى نعش واحد ينقلون فيه شيئا بعد شىء .. وبطل الأذان من عدّة مواضع، وبقى فى المواضع المشهورة يُؤذِّن مؤذّن واحد .. وغلّقت أكثر المساجد والزوايا"
وإذا تدبرت ما وقع "أخي القارئ" وجدت أنّه حتى الأذان قد أبطل ولم يبقى يُسمع إلا أذان واحد في المدائن الكبيرة. وقد أشار إلى مثل هذا المؤرخ عبد الرحمان الجبرتي في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار 3/172 عند ذكره أحداث سنة 1215هـ: حيث نقل عن الشيخ العطار: وقد انتشر هذا البلاء في جميع البلاد شرقا وغربا أباد معظم أهل البلاد .. وأغلقت الأسواق وعزّت الأكفان وصار المعظم من الناس بين ميت ومُشيِّع ومريض وعائد حتى أن الإنسان لا يدري بموت صاحبه أو قريبه إلا بعد أيام، ويتعطل الميت في بيته من أجل تجهيزه فلا يوجد النعش ولا المغسل ولا من يحمل الميت إلا بعد المشقة الشديدة .. وصار الإنسان إذا خرج من بيته لا يرى إلا جنازة أو مريضا أو مشتغلا بتجهيز ميت ولا يُسمع إلا ناحية أو باكية وتعطلت المساجد من الأذان والإمامة لموت أرباب الوظائف واشتغال من بقي منهم بالمشي أمام الجنائز"
كما تابعت معي "أخي القارئ" هذه أمثلة لبعض الأوبئة التي فتكت بأرواح الناس وأدّت إلى غلق المساجد وتعطيلها، حتى تعلم لماذا أفتى علماء العصر على اختلافهم بغلق المساجد عن الجماعات والجمعات، وكلّ ذلك حفاظا على أرواح الناس من الهلاك والتلف، وحتى لا يقع لنا ما وقع لهم، لأنّ مثل هذه الأوبئة التي لا تُرى ولا تُشاهد، لم يكن أطباؤهم يعرفون كيفية التعامل معها، لذلك لم يأخذوا احتياطاتهم.
قال العالم الجزائري حمدان بن عثمان خوجة في كتابه: إتحاف المنصفين والأدباء بمباحث الاحتراز عن الوباء ص40-41: "وأطباء الإسلام ومن تقدمهم، لم يقع لهم ممارسة الوباء ولا استقراء ما تشبث به، فلم يُصَرِّحوا إلا بكونها من الأمراض العادية، ولم يتحققوا بماذا تُعدي، ولا بأنه إذا لم تقع مماسة للمريض، أو لبعض ما مسه، أو مس ما مسه من الصوف ونحوه، فإنها لا تعدي"
والمعلوم أنّ المسلمين لإيمانهم بالله تعالى كانوا إذا أصابهم وباء أو بلاء فأول ما يفزعون ويهرعون إليه الصلاة والدعاء، ويتضرعون إلى الله تعالى أن يرفع عنهم هذا الوباء، ولكن لما كانت هناك أوبئة تنتشر بالاجتماع والاحتكاك أصبح ذلك الاجتماع حتى ولو كان للصلاة والدعاء بإذن الله سببا في انتشار الوباء وتوسعه، ولأنهم لم يكونوا يعرفون بأنه ينتشر بذلك لم يحتاطوا له.
وقد ثبت تاريخيا أنّه إذا كانت الأوبئة مثل التي نتكلم عنها فإنها تنتشر حتى ولو كان الاجتماع في المساجد للدعاء.
قال ابن الجوزي المُتوفَّى سنة 597هـ في تاريخه المنتظَم في تاريخ الملوك والأمم (16/ 17-18) عند ذكره أحداث 449هـ قال: ووقع وباء بالأهواز وأعمالها وبواسط، وبالنيل، ثم ذكر عدة أماكن أخرى وبعض ما خلفه الوباء ثم قال: وتاب الناس كلهم، وتصدقوا بمعظم أموالهم، وأراقوا الخمور، وكسروا المعازف، ولزموا المساجد لقراءة القرآن .. ثم ذكر تفاصيل عن الموت الذي وقع، ثم قال: وخلت أكثر المساجد من الجماعات.
إذن كانوا يجتمعون في المساجد للصلاة والدعاء ثم خلت منهم وأصبحت فارغة، لأن الوباء انتشر بينهم فأخذهم.
وذكر الحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852هـ في كتابة بدل الماعون في فضل الطاعون ص329: حدث الطاعون سنة 749 هـ وخرج الناس إلى الصحراء ومعظم أكابر البلد، فدعوا واستغاثوا، فعظم الطاعون بعد ذلك وكثر، وكان قبل دعائهم أخف.
ثم قال: ووقع هذا في زماننا، حين وقع أول الطاعون بالقاهرة سنة 833هـ، فكان عدد من يموت بها دون الأربعين، فخرجوا إلى الصحراء .. واجتمعوا ودعوا وأقاموا ساعة ثم رجعوا، فما انسلخ الشهر حتى صار عدد من يموت في كل يوم بالقاهرة فوق الألف. ثم تزايد.
وذكر يوسف أبو المحاسن المتوفى سنة 874هـ في كتابه النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (14/ 171 - 172) عند أحداث 833 هـ فقال: نودي بالقاهرة بصيام ثلاثة أيّام، وأن يتوبوا إلى الله تعالى من معاصيهم، وأن يخرجوا من المظالم .. فلما كان يوم الأحد خرج قاضى القضاة علم الدين صالح البُلقينىّ في جمع موفور إلى الصّحراء خارج القاهرة .. ووعظ الناس فكثر ضجيج النّاس وبكاؤهم فى دعائهم وتضرّعهم، ثم انفضوا فتزايدت عدّة الأموات فى هذا اليوم عمّا كانت فى أمسه"
وكان هذا الوباء الذي انتشر عندهم يُعدّ من أشد الأوبئة فتكا، لسبب أنه لا يُرى ولا يُشاهد ولم يُعرف من قبل، وقد وصفه زين الدين بن شاهين المتوفى سنة 920 هـ في تاريخه نيل الأمل في ذيل الدول (4/267-268) فقال: "ثم فشا جدّا حتى كان يّعد ذلك من نوادر الطواعين والأوبئة، وصار له ذكر وشهرة فيما بعد ذلك، وسمّي الفصل الكبير، وأرّخ به .. كثر الإرجاف بأمر الطاعون وأخذ في الظهور، فصار يموت الناس زيادة على ما كان قبل ذا اليوم، نودي في الناس بصيام ثلاثة أيام، وبالتوبة إلى الله تعالى من الذنوب والآثام، وأن يتهيّأوا بعد الثلاثة أيام للخروج إلى الصحراء للدعاء برفع الطاعون والوباء عنهم، ثم خرج في رابعه العلم البلقيني .. فقام في الناس واعظا في عمل الميعاد، فضجّ الناس وبكوا وهم يدعون ويتضرّعون إلى قبيل الزوال، ثم انصرفوا، فزادت عدّة الأموات عمّا كانت وبلغت ثلاثماية نفر يرد اسمهم الديوان بخلاف من لا يردُ اسمَه، فذهل الناس وكثرت الأراجيف بشدّة الطاعون"
ويظهر أنّ هذا الوباء الذي اجتاحهم وقضى عليهم هو مثل الوباء الذي نعيشه الآن، ولكن نحن الحمد لله مع تطوّر العلم أصبح الأطباء يفرقون بين الأوبئة الخطيرة والفتاكة من غيرها، ولهذا يجب على كلّ المسلمين اتباع العلماء الذين أفتوا بغلق المساجد، والاجتهاد في إقامتها في وقتها في البيوت، حتى تنتهي هذه الجائحة المرهبة، وبهذا تدرك أخي القارئ بأنّ النوازل لها أهلها، ولا يحقّ لأي كان أن يدلي بدلوه في حضور العلماء وكذلك لا يحق لأيّ كان أن يتسرع بالإنكار إلا بعد البحث والتحقيق، والتفتيش والتدقيق، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا أله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.









 


رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 09:05

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc