جواز الصلاة في المساجد التي بها قبور - الصفحة 2 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > خيمة الجلفة > الجلفة للنقاش الجاد

الجلفة للنقاش الجاد قسم يعتني بالمواضيع الحوارية الجادة و الحصرية ...و تمنع المواضيع المنقولة ***لن يتم نشر المواضيع إلا بعد موافقة المشرفين عليها ***

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

جواز الصلاة في المساجد التي بها قبور

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2014-09-05, 10:37   رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
احمد الطيباوي
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قادة بلعيد مشاهدة المشاركة
الصلاة في المساجد التي بها قبور
وقد اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم ذلك ، ومنهم من صرح بأنه كبيرة ، وإليك تفاصيل المذاهب في ذلك :
1. مذهب الشافعية انه كبيرة
قال الفقيه ابن حجر الهيتمي في « الزواجر عن اقتراف الكبائر » ( 1 / 120 ) : " الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون : اتخاذ القبور مساجد ، وإيقاد السرج عليها ، واتخاذها أوثاناً ، والطواف بها ، واستلامها ، والصلاة إليها "
ثم ساق بعض الأحاديث المتقدمة وغيرها ثم قال ( ص 111 ) :
" ( تنبيه ) : عد هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية ، وكأنه
أخذ ذلك مما ذكرته من الأحاديث ، ووجه اتخاذ القبر مسجدا منها واضح ؛ لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه ، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله تعالى يوم القيامة ، ففيه تحذير لنا كما في رواية : « يحذر ما صنعوا » أي يحذر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك ، فيلعنوا كما لعنوا ، ومن ثم قال أصحابنا : تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً ، ومثلها الصلاة عليه للتبرك والإعظام ، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهرة من الأحاديث المذكورة لما علمت ، فقال بعض الحنابلة :
" قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركاً به عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وابتداع دين لم يأذن به الله ، للنهي عنها ثم إجماعاً ، فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد ، أو بناؤها عليها ، والقول بالكراهة محمول على غير ذلك ، إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم لعن فاعله ، ويجب المبادرة لهدمها ، وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه و سلم ، لأنه نهى عن ذلك ، وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بهدم القبور المشرفة ، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر ، ولا يصح وقفه ونذره . انتهى " .
هذا كله كلام الفقيه ابن حجر الهيتمي وأقره عليه المحقق الآلوسي في « روح المعاني » ( 5 / 31 ) ، وهو كلام يدل على فهم وفقه في الدين ، وقوله فيما نقله عن بعض الحنابلة :
" والقول بالكراهة محمول على غير ذلك " .
كأنه يشير إلى قول الشافعي " وأكره أن يبنى على القبر مسجد . . " الخ كلامه الذي نقلته بتمامه فيما سبق (ص 24 ) .
وعلى هذا أتباعه من الشافعية كما في « التهذيب » وشرحه « المجموع » ، ومن الغريب أنهم يحتجون على ذلك ببعض الأحاديث المتقدمة ، مع أنها صريحة في تحريم ذلك ، ولعن فاعله ، ولو أن الكراهة كانت عندهم للتحريم لقرب الأمر ، ولكنها لديهم للتنزيه ، فكيف يتفق القول بـ ( الكراهة ) مع تلك الأحاديث التي يستدلون بها عليها ؟!
أقول هذا وإن كنت لا أستبعد حمل الكراهة في عبارة الشافعي المتقدمة خاصة على الكراهة التحريمية ؛ لأنه هو المعنى الشرعي المقصود في الاستعمال القرآني ولا شك أن الشافعي متأثر بأسلوب القرآن غاية التأثر ، فإذا وقفنا في كلامه على لفظ له معنى خاص في القرآن الكريم وجب حمله عليه لا على المعنى المصطلح عليه عند المتأخرين ، فقد قال تعالى ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ وهذه كلها محرمات ، فهذا المعنى - والله اعلم - هو الذي أراده الشافعي رحمه الله بقوله المتقدم " وأكره " ، ويؤيده انه قال عقب ذلك : " وإن صلى إليه أجزأه ، وقد أساء " فإن قوله " أساء " معناه ارتكب سيئة أي حراما فإنه هو المراد بالسيئة في أسلوب القرآن أيضا فقد قال تعالى في سورة ( الإسراء ) بعد أن نهى عن قتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس وغير ذلك : ﴿ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴾ أي محرماً .
ويؤكد أن هذا المعنى هو المراد من الكراهة في كلام الشافعي في هذه المسألة أن مذهبه أن الأصل في النهي التحريم إلا ما دل الدليل على أنه لمعنى آخر ، كما صرح بذلك في رسالته « جماع العلم » ( ص 125 ) ونحوه في كتابه « الرسالة » ( ص 343 ) .
ومن المعلوم لدى كل من درس هذه المسألة بأدلتها أنه لا يوجد أي دليل يصرف النهي الوارد في بعض الأحاديث المتقدمة إلى غير التحريم كيف والأحاديث تؤكد أنه للتحريم كما سبق ؟ ولذلك فإني أقطع بأن التحريم هو مذهب الشافعي ، لا سيما وقد صرح بالكراهة بعد أن ذكر حديث « قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » كما تقدم فلا غرابة إذن إذا صرح الحافظ العراقي - وهو شافعي المذهب - بتحريم بناء المسجد على القبر كما تقدم (ص 22 ) والله أعلم .
ولهذا نقول : لقد اخطأ من نسب إلى الإمام الشافعي القول بإباحة تزوج الرجل بنته من الزنا بحجة أنه صرح بكراهة ذلك ، والكراهة لا تنافي الجواز إذا كانت للتنزيه ! قال ابن القيم في « إعلام الموقعين » ( 1 / 4748 ) :
" نص الشافعي على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنا ولم يقل قط أنه مباح ولا جائز ، والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه الذي أحله الله به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه الله ورسوله صلى الله عليه و سلم وقد قال تعالى عقب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ... ﴾ إلى قوله : ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ... ﴾ إلى قوله ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ... ﴾ إلى آخر الآيات ثم قال : ﴿ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴾ .
وفي الصحيح « إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال » . فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله ، ولكن المتأخرين اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم وتركه أرجح من فعله ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث فغلط في ذلك وأقبح غلطاً منه من حمل لفظ الكراهة أو لفظ لا ينبغي في كلام الله ورسوله صلى الله عليه و سلم على المعنى الاصطلاحي الحادث ! " .
وبهذه المناسبة نقول :
إن من الواجب على أهل العلم أن ينتبهوا للمعاني الحديثة التي طرأت على الألفاظ العربية التي تحمل معاني خاصة معروفة عند العرب هي غير هذه المعاني الحديثة ، لأن القرآن نزل بلغة العرب فيجب أن تفهم مفرداته وجمله في حدود ما كان يفهم العرب الذين أنزل عليهم القرآن ولا يجوز أن تفسر بهذه المعاني الاصطلاحية الطارئة التي اصطلح عليها المتأخرون ، و إلا وقع المفسر بهذه المعاني في الخطأ والتقول على الله ورسوله من حيث يشعر و قد قدمت مثالاً على ذلك لفظ ( الكراهة ) .
وإليك مثالا آخر لفظ ( السنة ) : . فإنه في اللغة الطريقة وهذا يشمل كل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه و سلم من الهدى والنور فرضاً كان أو نفلاً وأما اصطلاحا فهو خاص بما ليس فرضاً من هديه صلى الله عليه و سلم فلا يجوز أن يفسر بهذا المعنى الاصطلاحي لفظ ( السنة ) الذي ورد في بعض الأحاديث الكريمة كقوله صلى الله عليه و سلم : « ... وعليكم بسنتي ... » وقوله صلى الله عليه و سلم « ... فمن رغب عن سنتي فليس مني » .
ومثله الحديث الذي يورده بعض المشايخ المتأخرين في الحض على التمسك بالسنة بمعناها الاصطلاحي وهو : " من ترك سنتي لم تنله شفاعتي " فأخطأوا مرتين :
الأولى : نسبتهم الحديث إلى النبي صلى الله عليه و سلم و لا أصل له فيما نعلم .
الثانية : تفسيرهم للسنة بالمعنى الاصطلاحي غفلة منهم عن معناها الشرعي ، وما أكثر ما يخطئ الناس فيما نحن فيه بسبب مثل هذه الغفلة !
ولهذا أكثر ما نبه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهم الله على ذلك ، وأمروا في تفسير الألفاظ الشرعية بالرجوع إلى اللغة لا العرف وهذا في الحقيقة أصل لما يسمونه اليوم ب « الدراسة التاريخية للألفاظ »
ويحسن بنا أن نشير إلى أن من أهم أغراض مجمع اللغة العربية في الجمهورية العربية المتحدة في مصر " وضع معجم تاريخي للغة العربية ، ونشر بحوث دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وما طرأ على مدلولاتها من تغيير " كما جاء في الفقرة الثانية من المادة الثانية من القانون ذي الرقم ( 434 ) ( 1955 ) الخاص بشأن تنظيم مجمع اللغة العربية ( انظر " مجلة المجتمع " ج8 ص5 ) . فعسى أن يقوم المجمع بهذا العمل العظيم ويعهد به إلى أيد عربية مسلمة فإن أهل مكة أدرى بشعابها وصاحب الدار أدرى بما فيها وبذلك يسلم هذا المشروع من كيد المستشرقين ومكر المستعمرين !
2. مذهب الحنفية الكراهة التحريمية
والكراهة بهذا المعنى الشرعي قد قال به هنا الحنفية فقال الإمام محمد تلميذ أبي حنيفة في كتابه « الآثار » ( ص 45 ) :
" لا نرى أن يزاد على ما خرج من القبر ، ونكره أن يجصص أو يطين أو يجعل عنده مسجداً " .
والكراهة عن الحنفية إذا أطلقت فهي للتحريم ، كما هو معروف لديهم ، وقد صرح بالتحريم في هذه المسألة ابن الملك منهم كما يأتي ( ص 91 ) .
3. مذهب المالكية التحريم
وقال القرطبي في تفسيره ( 10 / 38 ) بعد أن ذكر الحديث الخامس :
" قال علماؤنا : وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد "
4. مذهب الحنابلة التحريم
ومذهب الحنابلة التحريم أيضا كما في « شرح المنتهى » ( 1 / 353 ) وغيره ، بل نص بعضهم على بطلان الصلاة في المساجد المبنية على القبور ، ووجوب هدهما فقال ابن القيم في « زاد المعاد » ( 3 / 22 ) في صدد بيان ما تضمنته غزوة تبوك من الفقه والفوائد ، وبعد أن ذكر قصة مسجد الضرار الذي نهى الله تبارك وتعالى نبيه أن يصلي فيه وكيف أنه صلى الله عليه و سلم هدمه وحرقه قال :
" ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله صلى الله عليه و سلم فيها ، وهدمها ، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار ، وأمر بهدمه وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضرراً وتفريقاً بين المؤمنين ، ومأوى للمنافقين ، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم أو تحريق ، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له ، وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادا من دون الله أحق بذلك ، وأوجب ، وكذلك محال المعاصي والفسوق ، كالحانات وبيوت الخمارين وأرباب المنكرات ، وقد حرق عمر بن الخطاب قرية بكاملها يباع فيها الخمر ، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقاً ، وحرق قصر سعد لما احتجب فيه عن الرعية ، وهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة ، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم كما أخبر هو عن ذلك . ومنها أن الوقف لا يصح على غير برٍّ ، ولا قربة ، كما لم يصح وقف هذا المسجد ، وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره ، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر ، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه ، وكان الحكم للسابق فلو وضعا معاً لم يجز ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز ولا تصح الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجدا أو أوقد عليه سراجا فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه وغربته بين الناس كما ترى "
فتبين مما نقلناه عن العلماء أن المذاهب الأربعة متفقة على ما أفادته الأحاديث المتقدمة ، من تحريم بناء المساجد على القبور . وقد نقل اتفاق العلماء على ذلك اعلم الناس بأقوالهم ومواضع اتفاقهم واختلافهم ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد سئل رحمه الله بما نصه :
" هل تصح الصلاة على المسجد إذا كان فيه قبر والناس تجتمع فيه لصلاتي الجماعة والجمعة أم لا ؟ وهل يمهد القبر أو يعمل عليه حاجز أو حائط ؟ فأجاب :
" الحمد لله ، اتفق الأئمة أنه لا يُبنى مسجد على قبرٍ ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك » . وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر إما بتسوية القبر وإما بنبشه إن كان جديداً وإن كان المسجد بُنيَ بعد القبر فإما أن يزال المسجد وإما تزال صورة القبر فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل ، فإنه منهي عنه " كذا في الفتاوى له ( 1 / 107 و 2 / 192 ) .
وقد تبنت دار الإفتاء في الديار المصرية فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية هذه فنقلتها عنه في فتوى لها أصدرتها تنص على عدم جواز الدفن في المسجد فليراجعها من شاء في " مجلة الأزهر " ( ج 11 ص 501 - 503 ) .
وقال ابن تيمية في « الاختيارات العلمية » ( ص 52 ) :
" ويحرم الإسراج على القبور ، واتخاذ المساجد عليها ، وبينها ، ويتعين إزالتها ، ولا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين " .
ونقله ابن عروة الحنبلي في « الكواكب الدراري » ( 2 / 244 / 1 ) وأقره
وهكذا نرى أن العلماء كلهم اتفقوا على ما دلت عليه الأحاديث من تحريم اتخاذ المساجد على القبور ، فنحذر المؤمنين من مخالفتهم ، والخروج عن طريقتهم ، خشية أن يشملهم وعيد قوله عزّ وجل ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ .
و ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِي ﴾ .
الصلاة في المسجد الذي فيه قبر موضوع منقول

المقدمة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على مولانا وسيدنا محمد رسول الله الأمين، ورحمته للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،
فقد جاءت ثلة في هذا الزمان العصيب الذي تفرق فيه المسلمون أيما تفرق، تقول ببدعية الصلاة في المسجد الذي فيه قبر أو ضريح، مُحدثة نزاعا وشقاقا بين أبناء المسلمين، معللين كلامهم بالشرك والضلال وعبادة الأوثان، متخذين من هذه المسألة الفرعية أمورا عقائدية، ربما كفّروا المسلمين من أجلها، وهذه الثلة أخبر عنها الحبيب صلى الله عليه وسلم منذ ألف وأربعمائة عام.
هذا التقرير الموجز أو المقال أو البحث المتواضع جاء يعالج هذه القضية بتأصيل علمي بعيد عن التزمت لرأي من الآراء.
ابتدئ المقال بهذه المقدمة، تليها تعريفات مفردات هذه المسألة، ومن ثم توضيحها وبيناها، وبعدها بيان محل الاتفاق والاختلاف ومناقشة محل الاختلاف. وتلت ذلك مجموعة أدلة تجيز الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، وبعدها يأتي الترجيح. وفي نهاية البحث سُقنا ثماني فتاوى، وناقشناها بناء على المادة المتقدمة.
نسأل الحق سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم آمين.



المبحث الأول: تعريف مفردات المسألة

الصلاة
لغة: هي الركوع والسجود أو الدعاء والاستغفار.[1]
اصطلاحا: أقوال وأفعال مخصوصة تُفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم.[2]

المسجد
لغة: اسم جامع حيث سجد عليه وفيه.[3]
اصطلاحا: كل موضع من الأرض، لقوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا".[4]

القبر
لغة: مدفن الإنسان والمقبرة موضع القبور.[5]
اصطلاحا: المقبرة (بفتح الباء): مكان الفعل، وبضمها: مراد البقعة التي من شأنها أن يقبر فيها، أي التي هي متخذة لذلك، والتاء لإرادة البقعة أو المبالغة.[6]

الضريح
لغة: الشق في وسط القبر، وقيل هو القبر كله.[7]
اصطلاحا: هو القبر.[8]



المبحث الثاني: توضيح المسألة
قبل الخوص في هذه المسألة لا بد من توضيح يزيل اللبس الذي يُشكل على الكثيرين، فمسألتنا هذه هي مسألة جزئية أو فرعية من مسألة عامة، والمسألة العامة هي الصلاة في المقبرة، والمسألة الجزئية هي الصلاة في مسجد فيه قبر، وعلى هذا تم تفريع القضية إلى فرعين:

المطلب الأول:
الصلاة في المقبرة: على اعتبار أن المسجد بُني على قبر (أي القبر أسبق)، هذا إن صح تسمية القبر الواحد مقبرة، ففي مذهب الإمام أحمد لا يُعد القبر أو القبران مقبرة، وفي هذه الجزئية علينا أن ندرك أن القضية التي ستُبحث هي قضية فقهية، وسيتم البحث عنها في أبواب مكروهات الصلاة أو النجاسات... ولا تتعلق بمسائل العقيدة أبدا، يستدل لذلك أن الفقهاء صنفوها في كتبهم ضمن مكروهات الصلاة أو النجاسات.

المطلب الثاني:
الصلاة في مسجد أُدخل فيه قبر: أي المسجد أسبق (كالصلاة في المسجد النبوي، فقد أُدخل قبره صلى الله عليه وسلم، وقبرا صاحبيه رضي الله عنهما، وهذا الفرع سيُبيَّن خلال البحث).



المبحث الثالث: الصلاة في المقبرة

الحنفية
يقول الكاساني: "وأما المقبرة فقيل: إنما نهي عن ذلك لما فيه من التشبيه باليهود، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلا تتخذوا قبري بعدي مسجدا، وروي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا يصلي بالليل إلى قبر فناداه: القبر القبر، فظن الرجل أنه يقول: القمر القمر، فجعل ينظر إلى السماء، فما زال به حتى تنبه، فعلى هذا تجوز الصلاة وتكره، وقيل: معنى النهي أن المقابر لا تخلو عن النجاسات؛ لأن الجهال يستترون بما شرف من القبور فيبولون ويتغوطون خلفه".[9]
يقول السمرقندي: "وكذا يكره أن يصلى عند القبر على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تتخذوا قبري مسجدا كما اتخذت بنو إسرائيل قبور أنبيائهم مساجد".[10]
وفي تبيين الحقائق: "قوله: ونهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في المقبرة والمجزرة أي لاحتمال النجاسة".[11]

المالكية
في المدونة: "قلت لابن القاسم هل كان مالك يوسع أن يصلي الرجل وبين يديه قبر سترة له؟ قال: كان مالك لا يرى بأسا بالصلاة في المقابر وهو إذا صلى في المقبرة كانت القبور أمامه وخلفه وعن يمينه وعن يساره، قال: وقال مالك: لا بأس بالصلاة في المقابر...".[12]
يقول الحطاب: "ص (كمقبرة ولو لمشرك) ش قال في المدونة: وجائز أن يصلي في المقبرة".[13]
في التفريع: "ولا بأس بالصلاة في المقبرة الجديدة وتكره الصلاة في المقبرة القديمة، وقال ابن القاسم: لا بأس بالصلاة في المقبرة مطلقا، ولم يفرق بين القديمة والجديدة".[14]

الشافعية
يقول النووي: "فإن تحقق أن المقبرة منبوشة لم تصح صلاته فيها بلا خلاف إذا لم يبسط تحته شيء، وإن تحقق عدم نبشها صحت بلا خلاف، وهي مكروهة كراهة تنزيه، وإن شك في نبشها فقولان، أصحهما تصح الصلاة مع الكراهة والثاني لا تصح".[15]
يقول زكريا الأنصاري: "وتكره في المقبرة بتثليث الباء، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المذكورات خلا مراح الإبل رواه الترمذي، والمعنى في الكراهة في المزبلة والمجزرة والمقبرة نجاستها فيما يحاذي المصلي... واستثنى الشيخ بهاء الدين السبكي من المقابر مقبرة الأنبياء فلا كراهة فيها؛ لأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم، ولأنهم أحياء في قبورهم يصلون، قال الزركشي: وهذا باطل بل الكراهة فيها أشد، قلت: المتجه الأول؛ لأن العلة فيها النجاسة كما مر، وهي منتفية هنا بما ذكر، ثم ما كان نجسا من ذلك كالمقبرة المنبوشة بطلت الصلاة فيه ما لم يحل طاهر، وإذا شك في ذلك، أي في نبشها أو في النجس، لم تبطل صلاته، فإن بسط شيئا على نجس وصلى عليه كره له؛ لأنه في معنى المقبرة".[16]
يقول العمراني: "القبور على ثلاثة أضرب: الأول مقبرة قد تحقق أنها قد نبشت وجُعل أسفلها أعلاها، فهذه لا تصح الصلاة فوقها... الضرب الثاني مقبرة تحقق بأنها لم تنبش، فهذه تكره الصلاة عليها لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقبرة، ولأنها مدفن النجاسة... الضرب الثالث مقبرة شك فيها هل هي جديدة أم قد نبشت فهل تصح الصلاة عليها؟ فيه قولان: أحدهما لا تصح... والثاني تصح...".[17]

الحنابلة
يقول ابن قدامة: "(وكذلك إن صلى في المقبرة أو الحش أو الحمام أو في أعطان الإبل أعاد) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في الصلاة في هذه المواضع، فروي أن الصلاة لا تصح فيها بحال... نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في سبع مواطن... قال القاضي: المنع من هذه المواضع تعبد لا لعلة معقولة، فعلى هذا يتناول النهي كل ما وقع عليه الاسم، فلا فرق في المقبرة بين القديمة والحديثة، وما تقلبت أتربتها أو لم تتقلب، لتناول الاسم لها، فإن كان في الموضع قبر أو قبران لم يمنع من الصلاة فيها؛ لأنها لا يتناولها اسم المقبرة".[18]
يقول المرداوي: "قوله (ولا تصح الصلاة في المقبرة والحمام والحش وأعطان الإبل) هذا المذهب وعليه الأصحاب... لا يضر قبر ولا قبران على الصحيح من المذهب".[19]
يقول البهوتي: "ولا تصح الصلاة في مقبرة قديمة أو حديثة، تقلب ترابها أو لا... ولا يضر قبر ولا قبران، أي لا يمنع من صحة الصلاة".[20]

الظاهرية
يقول ابن حزم: "ولا تحل الصلاة في حمام... ولا في مقبرة، مقبرة مسلمين كانت أو مقبرة كفار، فإن نبشت وأخرج ما فيها من الموتى جازت الصلاة فيها".[21]


توضيح كلام الأئمة:
ذهب الحنفية إلى أن الصلاة في المقابر مكروهة؛ لأنها مظان النجاسة ولأنها تشبه باليهود، إلا إذا كان في المقبرة موضع أعد للصلاة ولا قبر ولا نجاسة فلا بأس.[22]
ذهب المالكية إلى جواز الصلاة في المقبرة قديمة كانت أو حديثة، لمسلم كانت أو مشرك.[23]
ذهب الشافعية إلى أن الصلاة في المقبرة التي تحقق نبشها لم تصح؛ لأن صديد الموتى قد اختلط بالأرض، وإذا بسط المصلي تحته شيئا تُكره، وأما إن تحقق عدم نبشها فهي صحيحة؛ لأن الجزء الذي باشره بالصلاة طاهر، ولكنها مكروهة كراهة تنزيه؛ لأنها مدفن النجاسة، وأما إن شك في نبشها فقولان، الأول أنها تصح، والثاني أنها لا تصح.[24]
ذهب الحنابلة إلى عدم صحة الصلاة في المقبرة، قديمة كانت أو حديثة، ولا يمنع من الصلاة قبر أو قبران؛ لأنه لا يتناولهما اسم المقبرة، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا[25]، وهذا ما ذهب إلى ابن حزم كذلك.
نفهم من كلام الأئمة باستثناء الإمام أحمد وابن حزم أن غاية ما في الأمر مظنة النجاسة، ولا علاقة لما نبحثه بمسائل العقيدة والشرك والكفر التي تبناها كثير ممن يفرقون الأمة جماعة وأحزابا. وعلى هذا، إذا أعد موضع للصلاة في المقبرة فهي صحيحة، ولا تعتريها الكراهة، كما هو الحال في المساجد التي فيها قبور أو أضرحة، فهي وُضعت في مكان منفصل أو في غرفة معزولة، وحتى لو وُضعت في المسجد بلا حائل (كالغرفة) فإن الصلاة صحيحة أيضا (باستثناء قول الحنابلة)، وحتى لو قلنا بقول الحنابلة فقد ذهبوا إلى أن القبر والقبرين لا يحملان اسم المقبرة حتى نقول بصحة الصلاة أو بطلانها، فالمساجد التي فيها أضرحة غالبا ما تشتمل على قبر واحد.



المبحث الرابع: محل الاتفاق ومحل الاختلاف

محل الاتفاق:
صحة الصلاة في المقبرة، غاية ما في الأمر الكراهة، هذا إن كان القبر داخل المسجد وبلا حائل، ويصلي المصلون فوقه، ولكن غالبا ما يُبنى بناء أو حائل على القبر، كالغرفة أو الجدار، فبذلك لا يصلي المصلي على القبر، أما إن وجد حائل كجدار أو غرفة ونحو ذلك (كما هو حال المساجد اليوم) فالصلاة صحيحة ولا تعتريها أية كراهة، وحتى لو لم يوجد الحائل فإن الإمام أحمد لم يعتبر القبر والقبرين مقبرة.

محل الاختلاف:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام البخاري في صحيحه: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"[26].
بعضهم فهم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد فهما خاطئا، فهل اتخاذ القبور مساجد هو اتخاذ المساجد على القبور؟!



المبحث الخامس: بيان محل الاختلاف
قال عليه الصلاة والسلام: ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).

وجه الاستدلال:
استدل بعضهم بهذا الحديث لتحريم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر أو ضريح.

الرد على هذا الاستدلال:
1) يُراد بهذا الحديث ”عين القبر“ لا ”ملحق القبر“، فإن الملحق بالقبر شيء غير القبر نفسه، ولهذا لا يُسمى المسجد قبرا، ولا القبر مسجدا، فعلى ذلك تكون الصلاة في المساجد الملحقة بالقبور خارجة من النهي؛ لأنها شيء غير القبر نفسه.[27]
2) لا يُراد من لفظ ”المساجد“ المسجد نفسه الذي يُصلى فيه، فلو كان ذلك لقال عليه الصلاة والسلام: ((اتخذوا على قبور أنبيائهم مساجد))، كما في قوله تعالى: ((لنتخذن عليهم مسجدا)).[28]
3) لذلك لم يفهم علماء الأمة من هذا الحديث أن المقصود النهي عن اتصال المسجد بضريح نبي أو صالح، وإنما فسروا اتخاذ القبر مسجدا التفسير الصحيح، وهو أن يُجعل القبر نفسه مكانا للسجود، ويُسجد عليه الساجد لمن في القبر عبادةً له، كما فعلت اليهود والنصارى، قال تعالى: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون))، فهذا هو معنى السجود الذي استوجب اللعن، أو جعل القبر قبلة دون القبلة المشروعة كما يفعل أهل الكتاب، حيث يتوجهون في الصلاة إلى قبور أحبارهم ورهبانهم، فتلك الصور التي فهمها علماء الأمة من النهي عن اتخاذ القبور مساجد. فكان ينبغي على المسلمين أن يعرفوا الصورة المنهي عنها، لا أن ينظروا إلى ما فعله المسلمون في مساجدهم، ثم يقولون: إن الحديث ورد في المسلمين، فهذا فعل الخوارج والعياذ بالله، إذ كانوا يذهبون إلى آيات نزلت في المشركين فجعلونها في المسلمين، فليست هناك كنيسة للنصارى ولا معبد لليهود على هيئة مساجد المسلمين التي بها أضرحة، والتي يصر بعضهم أن الحديث جاء في هذه الصورة.[29]
4) ولذا قال السندي في حاشيته على سنن النسائي: "ومراده بذلك أن يحذر أمته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتخاذهم تلك القبور مساجد، إما بالسجود إليها تعظيما لها، أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، قيل: ومجرد اتخاذ مسجد في جوار صالح تبركا غير ممنوع".[30]
5) ونقل ابن حجر العسقلاني في كتابه "فتح الباري" عن البيضاوي قال: "لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة ويتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا؛ لعنهم الله، ومنع المسلمين عن مثل ذلك، فأما من اتخذ مسجدا بجوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا التعظيم له ولا التوجه نحوه فلا يدخل في ذلك الوعيد".[31]



المبحث السادس: أدلة تجيز الصلاة في المسجد الذي فيه قبر أو ضريح
1) قوله تعالى: ((فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا)).
وجه الاستدلال: هذه الآية أشارت إلى قصة أصحاب الكهف، حينما عثر عليهم الناس فقال بعضهم: نبني عليهم بُنيانا، وقال آخرون: لنتّخذنّ عليهم مسجدا. فالسياق يدل على أن أصحاب القول الأول هو قول المشركين، وأن أصحاب القول الثاني هو قول الموحدين، فالآية طرحت القولين دون استنكار، ولو كان فيهما شيء من الباطل لكان من المناسب أن تشير إليه الآية وتدل على بطلانه بقرينة ما، وتقريرها للقولين يدل على إمضاء الشريعة لهما، بل إنها طرحت قول الموحدين بسياق يفيد المدح، وذلك بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المحفوف بالتشكيك، بينما جاء قول الموحدين قاطعا (لنتخذن) نابعا من رؤية إيمانية، فليس المطلوب عندهم مجرد البناء، وإنما المطلوب هو المسجد. فيدل هذا الكلام على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة.[32]
2) حديث أبي بصير الذي رواه عبد الرازق عن معمر عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: "إن أبا بصير انفلت من المشركين بعد صلح الحديبية، وذهب إلى سيف البحر، ولحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو، انفلت من المشركين أيضا، ولحق بهم أناس من المسلمين حتى بلغوا ثلاثمائة وكان يصلي بهم أبو بصير.
وكان يقول: الله العلي الأكبر، من ينصر الله ينصر، فلما لحق به أبو جندل، كان يؤمهم، وكان لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها، وقتلوا أصحابها، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم إلا أرسل إليهم، فمن أتاك منهم فهو آمن، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهم من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جندل، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وبنى على قبره مسجدا".[33]
3) كذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم يتضح في موقف دفن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلافهم فيه، وهو ما رواه الإمام مالك رضي الله في الموطأ، حيث قال ناس: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: يدفن بالبقيع، فجاء أبو بكر الصديق فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه"، فحفر له فيه.[34]
وجه الاستدلال: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقترحوا أن يدفن صلى الله عليه وسلم عند المنبر، وهو داخل المسجد قطعا، ولم ينكر عليهم أحد هذا الاقتراح، بل إن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه اعترض على هذا الاقتراح ليس لحرمة دفنه صلى الله عليه وسلم في المسجد، وإنما تطبيقا لأمره صلى الله عليه وسلم بأن يدفن في مكان قبض فيه صلى الله عليه وسلم. وبتأملنا في دفنه صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان نجد أنه صلى الله عليه وسلم قُبض في حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها، وهذه الحجرة كانت متصلة بالمسجد الذي يصلي فيه المسلمون، فوضع الحجرة بالنسبة للمسجد كان تقريبا هو نفس وضع المساجد المتصلة بحجرة فيها ضريح لأحد الأولياء في زماننا، بأن يكون ضريحه متصلا بالمسجد والناس يصلون في صحن المسجد بالخارج.[35]
4) هناك من يعترض على الدليل السابق، ويقول: "إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم".
والرد على ذلك أن الخصوصية في الأحكام بالنبي صلى الله عليه وسلم تحتاج إلى دليل، والأصل أن الحكم عام ما لم يرد دليل يثبت الخصوصية[36]، وحتى لو قلنا بالخصوصية بدون دليل، فهل انسحبت هذه الخصوصية إلى سيديْنا أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟! وقد ظل الصحابة يصلون في المسجد والسيدة عائشة رضي الله عنها تصلي في الحجرة نفسها، إذن فإن هذا يعتبر إجماعا عمليا للصحابة الكرام.
وهناك رد آخر، وهو إجماع الأمة الفعلي وإقرار علمائها صلاة المسلمين سلفا وخلفا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمساجد التي بها أضرحة من غير نكير، وكذلك إقرار العلماء من لدن الفقهاء السبعة بالمدينة الذين وافقوا على إدخال الحجرة الشريفة المحتوية على القبور الثلاثة إلى المسجد النبوي، ولم يعترض منهم إلا سيدنا سعيد بن المسيب رضي الله عنه، ولم يكن اعتراضه لأنه يرى حرمة الصلاة في المساجد التي فيها قبور، إنما اعترض لأنه يريد أن تبقى حجرات النبي صلى الله عليه وسلم كما هي يطّلع عليها المسلمون؛ حتى يزهدوا في الدنيا، ويعلموا كيف كان يعيش نبيهم صلى الله عليه وسلم.[37]
5) بعض الفتاوى الحديثة التي لا تجيز الصلاة في المسجد الذي فيه قبر تقول: "إذا سبق القبر المسجد فإذن يُهدم المسجد، وإذا المسجد سبق يُنبش القبر"، أما الحالة الأولى فقد بينّاها من خلال الأدلة السالفة الذكر، وأما الحالة الثانية فيجيب عنها الدليل الذي سقناه في دفن الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها المتصلة بالمسجد، والردان السابقان أيضا، وهما أن الخصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم لا تثبت إلا بدليل، وأن علماء الأمة سلفا وخلفا لم ينكروا الصلاة في المسجد النبوي أو المساجد التي فيها أضرحة. هذه الأدلة تدل دلالة قاطعة على جواز إدخال قبر إلى مسجد (أي المسجد أسبق)، وهذا يجيب عن الفرع الثاني من المسألة، وهو إدخال قبر إلى مسجد. ثم إن هذه الحالة بينها الدكتور عبد الملك السعدي في كتابه البدعة قائلا: "إذا كانت علة البطلان (أي بطلان الصلاة) وجود القبر في المسجد، فإنه لا فرق بين وجوده قبل المسجد أو بعده".[38]
6) إن التاريخ يؤكد أن قبر سيدنا إسماعيل عليه السلام موجود بالحطيم تحت جدار الكعبة المطهرة مع قبور أخرى، فلو كان القبر في المسجد ممنوعا لما صح الخبر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الصلاة في هذا المكان أفضل من كل مكان، ولكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بنبش القبر على الأقل[39]. وقد جاء أثر قبر سيدنا إسماعيل في "حلية الأولياء" للأصفهاني[40].
7) روى سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في مسجد الخيف قبر سبعين نبيا"[41]، وقد صلى به الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعون والسلف دون نكير.[42]



المبحث السابع: الترجيح
الصلاة في مسجد فيه ضريح أحد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو الصالحين صحيحة مشروعة، وقد تصل إلى درجة الاستحباب، لأن الأدلة قامت على جوازها، وإضافة على ذلك، فهي تذكر المسلمين بفضائل ذلك الشخص الصالح أو النبي، مما يعود عليهم بالخير حيث يقتدون بأخلاقه وشمائله.[43]
ومما ينبغي التنبيه إليه أن هذه المسألة بمجملها مسألة فقهية بحتة، ولا علاقة لها بقضايا العقيدة التي اتخذها البعض ذريعة لتكفير المسلمين وتفريقهم شيعا وأحزابا.
وحتى لو لم يقل أحد بصحة الصلاة (مع وجود الأدلة الكثيرة المفحمة) فلا ينبغي أن يكفر البعض البعض الآخر بسببها، إضافة على ذلك، لو قلنا بعدم صحة الصلاة في هذه المساجد (على قول البعض) لهدَمْنا مساجد عديدة ولنُبشت قبور كثيرة، أول هذه القبور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله. فنحن نقول بصحة الصلاة، بل باستحبابها، لما في ذلك من نفع يعود على هذا المصلي حين يعرف سيرة النبي أو الولي أو الصالح الذي دُفن في المسجد.



المبحث الثامن: فتاوى معاصرة في المسألة ومناقشتها

1) سُئل ابن عثيمين: ما حكم الصلاة في مسجد فيه قبر؟
أجاب: الصلاة في مسجد فيه قبر على نوعين: الأول أن يكون القبر سابقا على المسجد، بحيث يبنى المسجد على القبر، فالواجب هجر هذا المسجد وعدم الصلاة فيه، وعلى من بناه أن يهدمه، فإن لم يفعل وجب على ولي أمر المسلمين أن يهدمه، والنوع الثاني أن يكون المسجد سابقا على القبر بحيث يدفن الميت فيه بعد بناء المسجد، فالواجب نبش القبر وإخراج الميت منه ودفنه مع الناس. وأما المسجد فتجوز الصلاة فيه بشرط أن لا يكون القبر أمام المصلي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور. أما قبر النبي صلى الله عليه وسلم الذي شمله المسجد النبوي فمن المعلوم أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بني قبل موته، فلم يبن على القبر، ومن المعلوم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن فيه، وإنما دفن في بيته المنفصل عن المسجد، وفي عهد الوليد بن عبد الملك كتب إلى أميره على المدينة وهو عمر بن عبد العزيز في سنة 88 من الهجرة أن يهدم المسجد النبوي ويضيف إليه حجرات زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فجمع عمر وجوه الناس والفقهاء وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الوليد، فشق عليهم ذلك، وقالوا اتركها على حالها، أدعى للعبرة. ويُحكى أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة، كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجدا، فكتب عمر بذلك إلى الوليد فأرسل الوليد إليه يأمره بالتنفيذ، فلم يكن لعمر بد من ذلك. فأنت ترى أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يوضع في المسجد ولم يبن عليه، فلا حجة فيه لمحتج على الدفن في المساجد أو بنائها على القبور، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))...[44]

مناقشة الفتوى:
إن الفرع الأول الذي تحدث عنه ابن عثيمين مردود، وهو أن يُهجر المسجد إذا بُني على القبر، لأن الصلاة في المقبرة أصلا جائزة عند الأئمة الثلاثة، وعند الإمام أحمد لا يُعد القبر أو القبران مقبرة، فعلى ذلك الصلاة جائزة في هذا المسجد عند الأئمة الأربعة، وأما الفرع الثاني، وهو دفن ميت في مسجد، فهو مردود أيضا، إذ إن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبريْ صاحبيه أدخلت كلها إلى المسجد النبوي، وهذا الفرع أجبنا عنه ووضحناه في المبحث السادس في النقطة الخامسة، يمكنك مراجعتها تفصيلا. وأما اعتراض سيدنا سعيد بن المسيب فإنما كان حتى يزهد الناس في نظرهم إلى حجرات رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كما ذهب إليه ابن عثيمين، وهذا مُبين في المبحث السادس في النقطة الرابعة. وأما الحديث الذي استشهد به ابن عثيمين، وهو حديث اتخاذ القبور مساجد فإن كل البحث يدور حوله، وقد بينّا معنى الاتخاذ في المبحث الخامس كله، وهو أن يسجد الساجد على عين القبر تعظيما وعبادة لصاحب هذا القبر، أما الصلاة بجوار قبر فلا علاقة له بالحديث.


2) سئل ابن باز: هل تصح الصلاة في المساجد التي يوجد فيها قبور؟ فأجاب: المساجد التي فيها قبور لا يصلى فيها، ويجب أن تنبش القبور، وينقل رفاتها إلى المقابر العامة، كل قبر في حفرة خاصة كسائر القبور، ولا يجوز أن يبقى فيها قبور، لا قبر ولي ولا غيره، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى وحذر من ذلك، ولعن اليهود والنصارى على عملهم ذلك، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"... وقال صلى الله عليه وسلم لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة بكنيسة في الحبشة فيها تصاوير فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله"، وقال عليه الصلاة والسلام: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"، فنهى عن اتخاذ القبور مساجد عليه الصلاة والسلام ولعن من فعل ذلك وأخبر أنهم شرار الخلق، فالواجب الحذر من ذلك، ومعلوم أن من صلى عند قبر فقد اتخذ القبر مسجدا، ومن بنى عليه مسجدا فقد اتخذه مسجدا، فالواجب أن تبعد القبور عن المساجد، وألا يجعل فيها قبور امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم... لكن لو كانت القبور هي القديمة ثم بنى عليها المسجد فالواجب هدمه وإزالته لأنه هو المحدث، كما نص على ذلك أهل العلم حسما لأسباب الشرك وسدا للذريعة.[45]

مناقشة الفتوى:
أما حديث اتخاذ القبر مسجدا الذي استشهد به ابن باز فقد ناقشناه من خلال الفتوى السابقة، وأما الحديث الثاني الذي سألت فيه أم سلمة وأم حبيبة عن الكنيسة فرد عليهما عليه الصلاة والسلام بأن الرجل الصالح إذا مات فيهم بنوا على قبره مسجدا... ثم وصفهم بشرار الخلق، فوصفه لهم صلى الله عليه وسلم بشرار الخلق لا لأنهم بنوا المسجد وإنما لأنهم صوروا في ذلك المسجد تلك الصور والتماثيل، وهذا ما وضحه العسقلاني في فتح الباري عند شرحه لهذا الحديث، وقوله منقول سابقا في هذا البحث.


3) سئل ابن باز: ما حكم الصلاة في المسجد إذا كان فيه قبر أو بساحته أو في قبلته؟ فأجاب: إذا كان في المسجد قبر فالصلاة فيه غير صحيحة، سواء كان خلف المصلين أو أمامهم أو عن أيمانهم أو عن شمائلهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، ولقوله: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك". ولأن الصلاة عند القبر من وسائل الشرك والغلو في أهل القبور، فوجب منع ذلك عملا بالحديثين المذكورين، وما جاء في معناهما، وسدا لذريعة الشرك.[46]

مناقشة الفتوى:
إن ابن باز مرة أخرى يعتمد على اتخاذ القبر مسجدا، وقد وضحنا معنى اتخاذ القبر مسجدا في فتوى سابقة له، وفي المبحث الخامس بشكل مفصل.


4) سئل صالح الفوزان: ما حكم الصلاة في المساجد التي بها قبور؟ فأجاب: لا تجوز الصلاة في المساجد التي فيها قبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد، ولأن ذلك وسيلة إلى الشرك...[47]

مناقشة الفتوى:
الرد كما هو الحال في الفتاوى السابقة، فهم اعتمدوا على الفهم الخاطئ من الاتخاذ، وتفصيله في المبحث الخامس.


5) سئل عبد الحميد كشك: ما حكم الصلاة في مسجد أنشئ ثم وضع فيه قبر؟ فأجاب: هذا العمل محرم قطعا، ويجب نبش القبر وإخراج رفاته ليدفن في مقابر المسلمين، وهذا الفعل لا يصدر إلا من الصوفية، فإن أصروا على بقاء القبر بالمسجد حرمت الصلاة فيه، شأنه شأن المسجد الذي أقيم من أجل القبر ونبش القبر وإخراج الرفات لا يقوم به الأفراد ولكن ذلك واجب الأوقاف والمسئولين.[48]

مناقشة الفتوى:
أولا في هذه الفتوى لم يعتمد كشك على أي دليل يُذكر، وهذا مردود طبعا، بل وهاجم الصوفية بسياق يفيد الإنكار وبدون دليل أيضا.


6) سئل الشرباصي: هل تجوز الصلاة في مسجد به قبر لرجل مدفون فيه؟ فأجاب بالعلة وما يترتب عليها التي ذكرها الأئمة وهي النجاسة لا أكثر، ثم قال: "والذي ينبغي أن يفعله المسلم إذا احتاج إلى الصلاة في مسجد فيه قبر ألا يجعل القبر أمامه، بل يجعله من خلفه، حتى لا يظهر بمظهر من يصلي للقبر أو لمن فيه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولو كان هناك ضرورة لكي يصلي الإنسان والقبر أمامه فليجعل بينه وبين القبر فاصلا يصير عازلا للقبر عن مكان الصلاة".[49]

مناقشة الفتوى:
كما نرى في هذه الفتوى اعتدالا من صاحبها، فهو لم يتطرق أبدا إلى مسائل العقيدة كما فعل سابقوه، وإنما أصّل المسألة تأصيلا فقهيا كما فعل الفقهاء القدامى، وهو أن المسألة تندرج ضمن باب النجاسات أو صحة الصلاة وما إلى ذلك... وعلى هذه الفتوى فالصلاة في المسجد الذي فيه قبر صحيحة جائزة.


7) سئل عطية صقر عن رأي الدين في المساجد التي بها أضرحة، فعارض ذلك بالأدلة التي تحدث سابقوه عنها، ثم سئل عن حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، فأجاب: "إذا كان القبر في مكان منعزل عن المسجد أي لا يصلى فيه، فالصلاة في المسجد الذي يجاوره صحيحة ولا حرمة ولا كراهة فيها، أما إذا كان القبر في داخل المسجد فإن الصلاة باطلة ومحرمة على مذهب أحمد بن حنبل، جائزة وصحيحة عند الأئمة الثلاثة، غاية الأمر أنهم قالوا: يكره أن يكون القبر أمام المصلي، لما فيه من التشبه بالصلاة إليه، لكن إذا قصد بالصلاة أما القبر تقديسه واحترامه كان ذلك حراما وربما أدى إلى الشرك، فليكن القبر خلفه أو عن يمينه أو عن يساره".[50]

مناقشة الفتوى:
صاحب هذه الفتوى عارض المسألة من أساسها، ولكن الأدلة التي سقناها في هذا البحث من خلال المبحثين الخامس والسادس تجيز بناء المسجد على القبر أو القبر على المسجد، وبعد ذلك فإنه انتقل للحديث عن صحة صلاة المصلي في هذا المسجد، فساق المسألة كما فعل الفقهاء القدامى على أنها مسألة فقهية تتعلق بصحة أو بعدمها من خلال النجاسة...


8) سئل الشيخ الشعراوي رحمه الله: بعض الناس يقولون: إن الصلاة في المساجد التي فيها مقاصير للأولياء والصالحين حرام... ويذهب جانب آخر من الناس إلى أنها باطلة... بل أنها كفر وشرك بالله؛ لأن هذا تعظيم للقبور، فما هو حكم الصلاة في المساجد التي بها أضرحة؟ فأجاب: نقول لهؤلاء اذهبوا إذن واهدموا المسجد النبوي، فإذا قلتم: إن فيه النبي، فإني أقول لكم: إن فيه أيضا أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، والمسلمون يصلون، وهو على اليمين مرة وعلى الشمال مرة وفي الخلف مرة، بل وفي الأمام مرة. وهؤلاء لا يعرفون معنى كلمة "مقصورة" التي يدفن فيها النبي أو الولي الصالح... إن معناها "محبوسة"... أي إنها محجوزة عن المسجد، والقبر لا يتعداها... وعلى هذا فأنا لا أتخذ من القبر مسجدا.[51]

مناقشة الفتوى:
إن فتوى الشيخ الشعراوي تتوفر فيها كل العناصر الصحيحة التي سقناها في هذا البحث، وقد أدرك مكانة المسألة بنظره الثاقب حيث قال رحمه الله: إذن اهدموا المسجد النبوي، فإذا قلتم: إن النبي فيه فإني أقول لكم إن فيه أيضا أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وقد تطرق إلى نقطة مهمة، وهي كلمة "المقصورة"، فالغالبية العظمى من المساجد التي فيها أضرحة تكون في غرفة منفصلة عن مكان الصلاة، وحتى لو وضعت في صحن الصلاة فإننا نرى على الأقل جدارا يحيط بها ليفصلها عن مكان الصلاة، وحتى لو لم يحطها بها شيء فالصلاة أيضا صحيحة وجائزة.



[1] ابن منظور، جمال الدين. لسان العرب. 8ج. القاهرة: دار المعارف، د.س. ج55/2489-2490.
[2] الخن، مصطفى، مصطفى البغا. الفقه المنهجي. ج1. ط(8). دمشق: دار القلم، 2007. ج3. 1/99.
[3] ابن منظور، جمال الدين. لسان العرب. 22/1941.
[4] الزركشي، بدر الدين. إعلام الساجد بأحكام المساجد. بيروت: دار الكتب العلمية، 1995. ص13.
[5] ابن منظور، جمال الدين. لسان العرب. 40/3509.
[6] الكفوي، أيوب. الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية. ط(2). بيروت: مؤسسة الرسالة، 1998. ص828.
[7] ابن منظور، جمال الدين. لسان العرب. 29/2572.
[8] الهلالي، سعد الدين. أحكام دفن الموتى وأحكام قبورهم. ط(1). المنصورة: مكتبة الإيمان، 2006. ص16.
[9] الكاساني، علاء الدين. بدائع الصنائع. ج1. ط(2). بيروت: دار الكتاب العربي، 1982. ج7. ص115.
[10] السمرقندي، علاء الدين. تحفة الفقهاء. ج1. ط(2). بيروت: دار الكتب العلمية، 1993. ج4. ص257.
[11] الزيلعي، فخر الدين. تبيين الحقائق. ج1. ط(1). بيروت: دار الكتب العلمية، 2000. ج7. ص192-193.
[12] ابن أنس، مالك. المدونة الكبرى. ج1. ط(1). مكة المكرمة: مكتبة نزار، 1999. ج9. ص212.
[13] الحطاب، محمد. مواهب الجليل. ج1. ط(2). د.م: دار الفكر، 1978. ج6. ص418.
[14] ابن الجلاب، عبيد الله. التفريع. ج1. ط(1). بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1987. ج2. ص267.
[15] النووي، يحيى. المجموع. ج3. المدينة المنورة: المكتبة السلفية، د.س. ج20. ص158.
[16] الأنصاري، زكريا. أسنى المطالب. ج1. ط(1). بيروت: دار الكتب العلمية، 2001. ج9. ص493-494.
[17] العمراني، يحيى. البيان. ج2. ط(1). بيروت: دار الكتب العلمية، 2002. ج13. ص110-111.
[18] ابن قدامة، موفق الدين، شمس الدين المقدسي. المغني. ج1. بيروت: دار الكتاب العربي، 1972. ج12. ص716-718.
[19] المرداوي، علاء الدين. الإنصاف. ج1. ط(2). بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1980. ج9. ص489-490.
[20] البهوتي، منصور. كشاف القناع. ج1. بيروت: دار الفكر، 1982. ج6. ص293-294.
[21] ابن حزم، علي. المحلى. ج4. بيروت: المكتب التجاري، د.س. ج11. ص27.
[22] جمعة، علي. البيان القويم في تصحيح بعض المفاهيم. د.م: السندس، د.س. ص78 بتصرف.
[23] المصدر السابق.
[24] المصدر السابق.
[25] المصدر السابق ص 79 بتصرف.
[26] البخاري، محمد. الجامع الصحيح. ج1. ط(1). القاهرة: المطبعة السلفية، 1400هـ. ج4. ص157-158. كتاب الصلاة: باب حديث اتخاذ قبور الأنبياء مساجد. وقد روى الحديث آخرون باللفظ نفسه وبألفاظ أخرى.
[27] إبراهيم، محمد. قضايا الوسيلة والقبور. ط(5). القاهرة: مؤسسة إحياء التراث الصوفي، 2004. ص76.
[28] من كتاب البدعة للدكتور عبد الملك السعدي. نسخة إلكترونية.
[29] جمعة، علي. البيان القويم في تصحيح بعض المفاهيم. ص84.
[30] سنن النسائي بشرح السيوطي والسندي. ج2. بيروت: دار المعرفة، د.س. ج8. ص371.
[31] العسقلاني، أحمد. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. ج1. ط(1). الرياض: مكتبة الملك فهد، 2001. ج13. ص626.
[32] جمعة، علي. البيان القويم في تصحيح بعض المفاهيم. ص80-81.
[33] ابن عبد البر، يوسف. الاستيعاب في معرفة الأصحاب. ط(1). الأردن: دار الإعلام، 2002. ص781.
[34] ابن أنس، مالك. الموطأ. ج1. ط(2). بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1997. ج2. ص316.
[35] جمعة، علي. البيان القويم في تصحيح بعض المفاهيم. ص82.
[36] الزحيلي، وهبة. أصول الفقه الإسلامي. ج1. ط(1). دمشق: دار الفكر، 2007. ج2. ص270.
[37] جمعة، علي. البيان القويم في تصحيح بعض المفاهيم. ص82-83 بتصرف.
[38] من كتاب البدعة للدكتور عبد الملك السعدي. كتاب إلكتروني.
[39] إبراهيم، محمد. قضايا الوسيلة والقبور. ص78.
[40] الأصفهاني، أحمد. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. ج6. ط(1). بيروت: دار الكتب العلمية، 1988. ج10. ص13.
[41] الطبراني، سليمان. المعجم الكبير. ج12. ط(2). الموصل: مكتبة العلوم والحكم، 1983. 20ج. ص414.
[42] إبراهيم، محمد. قضايا الوسيلة والقبور. ص78 بتصرف.
[43] جمعة، علي. البيان القويم في تصحيح بعض المفاهيم. ص79 بتصرف.
[44] العثيمين، محمد. الفتاوى المهمة. د.م: مكتبة نور الهدى، د.س. ص303-304.
[45] ابن باز، عبد العزيز. مجموع الفتاوى. ط(1). الرياض: دار الوطن، د.س. ص163-164.
[46] ابن باز، عبد العزيز، وآخرون. فتاوى علماء البلد الحرام. القاهرة: دار ابن الهيثم، د.س. ص130-131.
[47] عبد الكريم، طه. أحمد بدر الدين. فتاوى كبار علماء الأمة. ط(2). القاهرة: المكتبة الإسلامية، 2004. ص60.
[48] كشك، عبد الحميد. فتاوى الشيخ كشك. القاهرة: المختار الإسلامي، د.س. ص264.
[49] الشرباصي، أحمد. يسألونك. ط(4). ج1. بيروت: دار الجيل، د.س. ج7. ص112-113.
[50] صقر، عطية. الفتاوى. ج1. القاهرة: المكتبة التوفيقية، د.س. ج2. ص574-577.
[51] الشعراوي، محمد. الجامع للفتاوى. ط(2). القاهرة: الدار العالمية للكتب والنشر، 1998. ص61-62.



فهرس المصادر
1) إبراهيم، محمد. قضايا الوسيلة والقبور. ط(5). القاهرة: مؤسسة إحياء التراث الصوفي، 2004.
2) ابن أنس، مالك. المدونة الكبرى. ج1. ط(1). مكة المكرمة: مكتبة نزار، 1999. ج9.
3) ابن أنس، مالك. الموطأ. ج1. ط(2). بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1997. ج2.
4) ابن الجلاب، عبيد الله. التفريع. ج1. ط(1). بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1987. ج2.
5) ابن باز، عبد العزيز. مجموع الفتاوى. ط(1). الرياض: دار الوطن، د.س.
6) ابن باز، عبد العزيز، وآخرون. فتاوى علماء البلد الحرام. القاهرة: دار ابن الهيثم، د.س.
7) ابن حزم، علي. المحلى. ج4. بيروت: المكتب التجاري، د.س. ج11.
8) ابن عبد البر، يوسف. الاستيعاب في معرفة الأصحاب. ط(1). الأردن: دار الإعلام، 2002.
9) ابن قدامة، موفق الدين، شمس الدين المقدسي. المغني. ج1. بيروت: دار الكتاب العربي، 1972. ج12.
10) ابن منظور، جمال الدين. لسان العرب. 8ج. القاهرة: دار المعارف، د.س.
11) الأصفهاني، أحمد. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. ج6. ط(1). بيروت: دار الكتب العلمية، 1988. ج10.
12) الأنصاري، زكريا. أسنى المطالب. ج1. ط(1). بيروت: دار الكتب العلمية، 2001. ج9.
13) البخاري، محمد. الجامع الصحيح. ج1. ط(1). القاهرة: المطبعة السلفية، 1400هـ. ج4.
14) البهوتي، منصور. كشاف القناع. ج1. بيروت: دار الفكر، 1982. ج6.
15) جمعة، علي. البيان القويم في تصحيح بعض المفاهيم. د.م: السندس، د.س.
16) الحطاب، محمد. مواهب الجليل. ج1. ط(2). د.م: دار الفكر، 1978. ج6.
17) الخن، مصطفى، مصطفى البغا. الفقه المنهجي. ج1. ط(8). دمشق: دار القلم، 2007. ج3.
18) الزحيلي، وهبة. أصول الفقه الإسلامي. ج1. ط(1). دمشق: دار الفكر، 2007. ج2.
19) الزركشي، بدر الدين. إعلام الساجد بأحكام المساجد. بيروت: دار الكتب العلمية، 1995.
20) الزيلعي، فخر الدين. تبيين الحقائق. ج1. ط(1). بيروت: دار الكتب العلمية، 2000. ج7.
21) السمرقندي، علاء الدين. تحفة الفقهاء. ج1. ط(2). بيروت: دار الكتب العلمية، 1993. ج4.
22) سنن النسائي بشرح السيوطي والسندي. ج2. بيروت: دار المعرفة، د.س. ج8.
23) الشرباصي، أحمد. يسألونك. ط(4). ج1. بيروت: دار الجيل، د.س. ج7.
24) الشعراوي، محمد. الجامع للفتاوى. ط(2). القاهرة: الدار العالمية للكتب والنشر، 1998.
25) صقر، عطية. الفتاوى. ج1. القاهرة: المكتبة التوفيقية، د.س. ج2.
26) الطبراني، سليمان. المعجم الكبير. ج12. ط(2). الموصل: مكتبة العلوم والحكم، 1983. 20ج.
27) عبد الكريم، طه. أحمد بدر الدين. فتاوى كبار علماء الأمة. ط(2). القاهرة: المكتبة الإسلامية، 2004.
28) العثيمين، محمد. الفتاوى المهمة. د.م: مكتبة نور الهدى، د.س.
29) العسقلاني، أحمد. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. ج1. ط(1). الرياض: مكتبة الملك فهد، 2001. ج13.
30) العمراني، يحيى. البيان. ج2. ط(1). بيروت: دار الكتب العلمية، 2002. ج13.
31) الكاساني، علاء الدين. بدائع الصنائع. ج1. ط(2). بيروت: دار الكتاب العربي، 1982. ج7.
32) كشك، عبد الحميد. فتاوى الشيخ كشك. القاهرة: المختار الإسلامي، د.س.
33) الكفوي، أيوب. الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية. ط(2). بيروت: مؤسسة الرسالة، 1998.
34) المرداوي، علاء الدين. الإنصاف. ج1. ط(2). بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1980. ج9.
35) النووي، يحيى. المجموع. ج3. المدينة المنورة: المكتبة السلفية، د.س. ج20.
36) الهلالي، سعد الدين. أحكام دفن الموتى وأحكام قبورهم. ط(1). المنصورة: مكتبة الإيمان، 2006.








 


رد مع اقتباس
قديم 2014-09-05, 10:51   رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
احمد الطيباوي
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

حكم الصلاة في المقبرة هو الجواز موضوع منقول
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه الأكرمين

بِكَ أَستَهدي فَسَدِّدني إِلى أَرشَدِ السُبلِ وَأَهدى السَنَنِ

رَبِّ وَفِّقني وَكُن عَوني عَلى شُكرِ ما أَولَيتَني مِن مِنَن

رَبِّ أَمِّني فَإِنّي عائِذٌ بِرَجاءِ الخائِفِ المُستَأمِنِ

ما لِنَفسي فيكَ ما تَملِكُهُ غَيرَ ما تَملِكُ نَفسُ المُؤمِنِ

ثِقَةٌ ما خالَطَتها ريبَةٌ وَيَقينٌ ما بِهِ مِن وَهَنِ

رَبِّ هَذا سَبَبي أُدلي بِهِ رَبِّ فَامدُد سَبَبي لا تُخزِني

وبعد،
فإنه مما وقع فيه الخلاف بين أهل العلم قديما حكمُ الصلاة في المقبرة، بين قائل بجوازها مطلقا، وقائل بالتحريم مطلقا، وذاهب إلى التفصيل بين المنبوشة وغير المنبوشة والبينة النجاسة من غيرها، مع اختلاف في صحة الصلاة فيها أو بطلانها، تبعا لاختلافهم في قاعدة "هل يقتضي النهي الفساد والبطلان أم لا يقتضيه؟...
واعتمد كلُّ واحدٍ منهم لقوله على دليل بعيد أو قريب، وما زالت هذه المسألة من الخلافيات المتداولة بينهم مما لا يقع بسببها نكيرٌ ولا تشغيب، كما هو أدبهم في كلِّ المباحث الاجتهادية.
إلى أن ظهرت طائفةٌ في الأزمنة المتأخرة، اختارت مذهبا في الفروع والأصول، وأرادت أن تحسم باختيارها مادة الخلاف الذي عاشه المسلمون ورضوا به وتسامحوا فيه قرونا طويلة، وادعت أن الصواب ما اختارته من الأقوال، والرأي الذي لا يصح غيرُه ما اعتمدته من الحجج والدلائل.
غيرَ عابئةٍ بعلل الأحكام ولا موقرة لكلام الأئمة الأعلام، فحكَّمت رأيَها في كل أصل وفرع، وأعلنته في الناس على أنه الدين الحق، ومخالفُه محروم من الأجر موزور ، مبتدع أثيم ملعون.
ومنها تشبثُهم بالقول الذي رأى المنع من الصلاة في المقبرة، وإذاعته بين الناس، ونشره بين الخاص والعام على أنه ما لا يصح غيرُه ولا يوجد في كتب الفقه قول يخالفُه، حتى تبناه العوامُّ، ودانوا الله به ظنا منهم تمام الإيمان، وخلافه شركٌ وكفران، وحصل بسبب ذلك من الفتن بين الناس ما الله به عليم، فتنازعوا وتسابوا وتشاتموا أثناء تشييع الجنائز إلى المقابر، وتماروا فيه في المجامع والمحافل، مع جهل مركب بنصوص الأحكام، وعلل التشريع ومقاصد الإسلام، وإساءة أدبٍ في حق الأئمة، وإنكار بالغٍ على من قال بالجواز من علماء الأمة، ورحم الله القائل:
لو سكت الجاهل لارتفع الخلاف.
هذا، وقد كنتُ ابتليتُ في يوم من الأيام، برجل غليظ الطبع بذيِّ الكلام، يجادل في المسألة مجادلةَ العوام، فأخبرته أنها خلافية بين الفقهاء، فإذا بالمسكين يجهل معنى الخلاف وحكمة وجوده في الأحكام؛ فتركته وانصرفتُ، باكيا على ما صار إليه الأمر في العلم والدين، لائما معاتبا بشدة مَن أنكر التقليد في الدين، وادعى الاجتهاد لعموم المسلمين، حتى صار البناؤون والسباكون والخياطون والأطبة والمهندسون والفلاحون والزراعون وغيرُهم يستدركون على مالك وأصحابه ويخطئون أبا حنيفة وأتباعه وينكرون مذهب الشافعي وأقواله.
فحسبنا الله ونعم الوكيل.
فلما علمتُ أن الأمر مما يصعب على آحاد الناس الوقوف عليه بين كتب الفقه والخلاف، وخفتُ أن يشتهر القول بالمنع من الصلاة في المقبرة حتى كأن عليه الإجماع، قصدت إلى تأليف هذه الرسالة لبيان ما رأيناه أصح الأقوال، وهو جواز الصلاة في المقابر على مذهب الإمام مالك، والتعريف بأدلة المانعين والجواب عنها.
ونظمتُها على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، أما المقدمة فالذي مرَّ، وأما الفصل الأول ففي بيان مذاهب السلف في المسألة، والثاني في ذكر أدلة المانعين والجواب عنها، والثالث في ذكر أدلة المجيزين وتقريرها، والرابع في بيان أقوال العلماء فيها، والخاتمة للفوائد والعبر.واللهَ أسأل التوفيق وحسن السداد.
[الفصل الأول: ذكر مذاهب السلف في المسألة وأهم أسباب الخلاف فيما بينهم]
اعلم أن الصلاة في المقبرة اختُلف فيها بين علماء الصحابة والسلف الصالح على أقوال.
قال ابن المنذر في كتاب "الأوسط"[1]: وقد اختلف أهلُ العلم في الصلاة في المقبرة، فكرهت طائفة ذلك؛ وممن رُوي عنه أنه كره ذلك: عليٌّ وابنُ عباس وابنُ عَمْرٍو بنِ العاص وعطاء والنخعي ...
ثم قال[2]: ورخصت طائفة في الصلاة في المقبرة، قال نافع مولى ابن عمر: صلينا على عائشة وأمِّ سلمة وسطَ البقيع، والإمامُ يومَ صلينا على عائشة أبو هريرة؛ وحضر ذلك ابنُ عمر. ورُوِّينا أن واثلة بنَ الأسقع كان يصلي الفريضة في المقبرة غير أنه لا يستتر بقبر...
وصلى الحسن البصري في المقابر. واخْتُلف في هذه المسألة عن مالك، فحكى ابن القاسم عنه أنه قال: لا بأس بالصلاة في المقابر، وحُكي عن أبي مصعب عن مالك أنه قال: لا أحب الصلاة في المقابر[3].اهـ
وكذا وقع الخلاف في المسألة بين أئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم إلى أقوال وآراء وتفصيلات[4]:
-فذهب الأحنافُ إلى القول بكراهة الصلاة في المقبرة إذا كان القبر بين يديِ المُصلي بحيث لو صلى صلاة الخاشعين وقع بصره عليه.أما إذا كان خلفه أو فوقه أو تحت ما هو واقف عليه فلا كراهة على التحقيق.
-وذهبت الحنابلة إلى أن الصلاة في المقبرة باطلة مطلقا إذا كانت تضم ثلاثة قبور فأكثر، وإلا فمكروهة.
وقال الشافعية بالكراهة في المقبرة غير المنبوشة سواء كانت القبور خلفه أم أمامه أو على يمينه أو شماله أو تحته.وأما إذا كانت المقبرة منبوشة بلا حائل فإنها باطلة.
وذهب المالكية إلى القول بجواز الصلاة في المقبرة بلا كراهة إن أمنت النجاسة.
فهذه مذاهب السلف وأقوالهم في المسألة، نستخلصُ منها أمورا:
!: أن المسألةَ خلافيةٌ بينَهم رحمهم الله، فليست هي مما وقع عليه إجماعُ الأمة حتى يُنكَرَ على القائل بأحد الأقوال منها ويشنع عليه، بل يجري عليها ما يجري على كل المباحث الخلافية، خاصة أن الخلاف فيها ثابتٌ بين كبار علماء الصحابة، إذ إن منهم من ثبت عنه القول بالجواز بل فعلَه أمام عامة الناس ليُعلِم الحاضرين جوازه ومشروعيته.
فما يفعله بعضُ المنتسبين إلى العلم من التهويل في قضية الصلاة في المقبرة والتشغيب على الناس فيها كأنها من القطعيات، بل وحملهم فاعليها على الشرك وأنواعه من الجهل المركب والتدليس المحرم، فهذه أقوال السلف بين يديك وذاك عملهم أمام عينيك، لم يبق إلا التعرف على مدارك آرائهم وعلل أحكامهم.
الثاني: أن الأدلة فيها متعارضة متباينة، لا يوجد فيها قطعي ثبوتا ولا دلالةً على ما اختاره البعضُ وصاروا يلزمون به الناس، بل الأدلة فيه متعارضةٌ قابلة للتأويل من الجهتين، وإن كان التأويل القاضي بالجواز أولى وأصح كما سنرى إن شاء الله، إلا أننا نجريه مجرى الخلاف المعتبر.
الثالث: أن أكثر المانعين للصلاة في المقبرة إنما قالوا بالكراهة فقط لا بالتحريم، اللهم ما كان من مذهب الإمام أحمد رحمه الله القاضي بالتحريم المطلق مع ثبوت القول عنه بالكراهة فيما إذا كانت الصلاة في مكان أقل من ثلاثة قبور.
وقولهم بالكراهة يشير إلى أمرين هامين:
-الأول: أن الأمر عندهم أهون مما تصوره بعضُ المتأخرين من كونه ذريعةً للوقوع في الشرك، وأخفُّ مما زعموا كونه تشبها بالكفار وتقليدا لليهود والنصارى.فالتهويل في مسألة الصلاة في المقابر مردود بالنظر إلى الحكم الذي اختاره أغلبُ المانعين وهو الكراهة، ومثل الذرائع الموقعة في الشرك لا يقال فيها بحال إنها مكروهة.فكيف إذا كان القول بالكراهة مرجوحا والراجح الجواز كما سنبينه مفصلا إن شاء الله.
-الثاني: أن القول بالكراهة يقتضي عدم بطلان الصلاة في المقبرة، كما سيتقرر فيما بعد إن شاء الله، وهذا خلافا لِمَن ألزم المصلي بالإعادة أبدا.
إذا تبيَّن هذا فلنلمِحْ إلى أهم الأسباب التي أوجدَت الخلاف في هذه المسألة الفقهية:
قال ابن رشد الحفيد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"[5] بعد ذكره أهم الأقوال في مواضع الصلاة المباحة والمنهي عنها:
وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب، وذلك أن هاهنا حديثين متفق على صحتهما، وحديثين مختلف فيهما.
فأما المتفق عليهما فقوله عليه الصلاة والسلام: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي"... وذكر فيها: "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأينما أدركتني الصلاة صليت"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا".
وأما الغيرُ المتفق عليهما فأحدهما ما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام "نهى أن يصلى في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله" خرجه الترمذي، والثاني ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل".فذهب الناس في هذه الأحاديث ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح والنسخ، والثاني مذهب البناء أعني بناء الخاص على العام، والثالث مذهب الجمع...اهـ المقصود منه
والمراد منه إيضاح أمور:
-الأول: أنه ليس في مسألة الصلاة في المقبرة دليلٌ من القرآن الكريم أصلا، لا قطعي الدلالة ولا ظنيها؛ ذلك أنها لو كانت من مظاهر الشرك أو مما يوقع فيه كما خافه على المسلمين مَن لا تحقيق عنده، لتعرض لها القرآن الكريم وحسم النزاع فيها، كعادته في سد ذرائع الشرك وأبوابه، خاصةً أن زيارة القبور وتعظيمها والتعبد عندها مما كان رائجا مشهورا في الجاهلية.
فكيف إذا علمت أن معنا من القرآن الكريم ما يشير إلى جواز الصلاة في المقبرة كما سيأتي إن شاء الله.
-الثاني: أن الأدلة المعتمدة من الفريقين غيرُ قطعية حتما، فإما هي أخبار معلولة لا تقوم بها حجةٌ، وإما هي استنباطات مما صح من الآثار فاسدةٌ مردودةٌ. وإلا فإن مدارك أكثر الأئمة في المنع موافقةٌ لمذهب المالكية في الجواز من جهة واحدة، وهي المنع اعتبارا لعلة الحكم، وهو مظنة وجود النجاسة في المقبرة المصلى فيها، فيرجع الأمر إلى قول واحد إن شاء الله وهو الجواز إذا أمنت النجاسة.
-الثالث: أن الإمام ابنَ رشد وغيرَه من المحققين[6] ممن كتب في الخلاف العالي، إنما ذكروا لعلة المنع المفهومة من بعض النصوص وجود النجاسة المانعة من الصلاة إجماعا، ولم يتعرض أحدٌ منهم إلى ادعاء أنها خيفة الوقوع في الشرك أو عبادة القبور أو غير ذلك من الكلام المرسل غير المحقق، الذي لم يظهر إلا بعد القرن السابع مع ابن تيمية وأتباعه.
فالحنفية قالوا: تُكره الصلاةُ في المقبرة إذا كان القبر بين يدي المصلي بحيث لو صلى صلاة الخاشعين وقع بصره عليه. أما إذا كان خلفه أو فوقه أو تحت ما هو واقف عليه فلا كراهة على التحقيق . وقد قيدت الكراهة بأن لا يكون في المقبرة موضع أعد للصلاة لا نجاسة فيه ولا قذر وإلا فلا كراهة وهذا في غير قبور الأنبياء عليهم السلام فلا تكره الصلاة عليها مطلقا.
والمالكية قالوا : الصلاة في المقبرة جائزة بلا كراهة إن أمنت النجاسة فإن لم تؤمن النجاسة ففيه التفصيل المتقدم في الصلاة في المزبلة ونحوها.
والشافعية قالوا : تكره الصلاة في المقبرة غير المنبوشة سواء كانت القبور خلفه أو أمامه أو على يمينه أو شماله أو تحته إلا قبور الشهداء والأنبياء فإن الصلاة لا تكره فيها ما لم يقصد تعظيمهم وإلا حرم، أما الصلاة في المقبرة المنبوشة بلا حائل فإنها باطلة لوجود النجاسة بها.
والحنابلة قالوا : إن الصلاة في المقبرة وهي ما احتوت على ثلاثة قبور فأكثر في أرض موقوفة للدفن باطلة مطلقا، أما إذا لم تحتو على ثلاثة بأن كان بها واحد أو اثنان فالصلاة فيها صحيحة بلا كراهة إن لم يستقبل القبر وإلا كره.[7]
وقال العلامة العدوي في "شرح كفاية الطالب"[8]: (و) أما النهي عن الصلاة في (المزبلة) بفتح الباء وضمها مكان طرح الزبل (و) عن الصلاة في (المجزرة) بفتح الميم وسكون الجيم وكسر الزاي المكان المعد للنحر أو للذبح فنهي كراهة إن لم يؤمن من النجاسة، وإلا جازت وحيث قيل بالكراهة، وصلى فيها أعاد في الوقت على المشهور عامدا أو غيره .
(و) أما النهي عن الصلاة في (مقبرة المشركين) فنهي كراهة لكن ليس في الحديث ذكر المشركين كما وقفت عليه.
ك : المقبرة مثلث الباء فإن كانت غير منبوشة وليس في مواضع الصلاة شيء من أجزاء المقبورين فالمشهور الجواز، وإن كان في مواضع الصلاة شيء من أجزاء المقبورين ، فيجري حكم الصلاة فيها على الخلاف في الآدمي هل ينجس بالموت أو لا؟ وهذا في مقابر المسلمين ، وأما مقابر الكفار فكره ابن حبيب الصلاة فيها ؛ لأنها حفرة من حفر النار، لكن من صلى فيها وأمن من النجاسة فلا تفسد صلاته وإن لم تؤمن كان مصليا على نجاسة.اهـ
بل ذهب بعضُ الحنابلة إلى أن النهي الوارد في بعض النصوص تعبديٌّ محض غير معقول المعنى، لا لمظنة النجاسة المشتهر القول به في كلام الفقهاء ولا سدا لذريعة الشرك المتوهَّمة في كلام بعضِ أهل العلم.
ففي "المغني"[9] لابن قدامة الحنبلي: قال القاضي: المنع من هذه المواضع تعبديٌّ لا لعلة معقولة، فعلى هذا يتناول النهي كلَّ ما وقع عليه الاسم، فلا فرق بين المقبرة القديمة والحديثة، وما تقلبت أتربتها أو لم تتقلب...الخ
فحمل بعضهم النهي على أنه من باب سد ذريعة الشرك تحكُّمٌ يرده الشرع والعقل، وإنما الشرع يحرِّم ما أدى إلى شرك أو مثله بالتصريح لا بالكنايات والإشارات، فهي دعوى باطلة، عن الدليل عارية، واختراع هذا القول مع مخالفته لمذاهب جمهور علماء الأمة أكبر بدعة وأقبح زلة تورط فيها المخالفون، نسأل الله العافية من حب الخلاف.

[فصل في ذكر أدلة المانعين ونقضها]
حاولتُ أن أتتبع أهمَّ وأقوى أدلة منكري الصلاة في المقبرة، فحُصرت عندي في خمسة أحاديث، لا يقوم أصحها سندا وأوضحها دلالة أن يحسم مادَّة الخلاف في المسألة ويحكم برجحانية مذهب المانعين، ثلاثةٌ منها صحيحةٌ غير صريحة، والآخران صريحان غير صحيحين، والحجة لا تقوم إلا بصحيح صريح كما يعلمه صغار طلبة علم الأصول.
فكيف وأن معنا من أدلة الجواز ما لا يعارَض بمثله فضلا عن ما هو أقل منه في الدلالة، فدونك الأحاديث الخمسة نناقشها سندا ومتنا، والله الموفق:
? الحديث الأول: روى البخاري ومسلم[10]عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
قال الإمامُ ابنُ قدامة في "المغني"[11] بعد أن ساق هذا الحديث وأحاديث أخرى معه: فعلى هذا لا تصح الصلاة إلى القبور للنهي عنها.اهـ

وقال ابن تيمية في "شرح عمدة الفقه"[12]: الفصل الثاني في المواضع المستثناة التي نهيَ عن الصلاة فيها وقد عد أصحابنا عشرة مواضع المقبرة والمجزرة والمزبلة والحش والحمام وقارعة الطريق وأعطان الإبل وظهر الكعبة والموضع المغصوب والموضع النجس.
فأما الموضع النجس و المغصوب فقد ذكرنا حكمه، وأما ثلاثة منها فقد تواطأت الأحاديث و استفاضت بالنهي عن الصلاة فيها وهي المقبرة و أعطان الإبل و الحمام وسائرها جاء فيها من الأحاديث ما هو دون ذلك.
أما المقبرة و الحمام فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" رواه الخمسة إلا النسائي وإسناده صحيح.
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم و لا تجعلوها قبورا" رواه الجماعة.
وعن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا تصلوا إلى القبور و لا تجلسوا عليها" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
وعن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يموت بخمس و هو يقول: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم و صالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" رواه مسلم.
و عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".اهـ
وعندنا أن هذا الحديث لا حجةَ فيه على منع الصلاة في المقبرة، بوجه من الوجوه، وإنما استدل به بعضُ المخالفين تكلفا وتحكما، ودونك البيان:
الرد الأول: أن مراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي صرح به الحديث هو العمدُ لبناء المساجد على القبور، ثم الصلاة عندها تبعا لاعتقاد باطل ساد عند اليهود والنصارى.
فحكم الحديث متوجِّهٌ لبناء المساجد خاصة على القبور ثم الصلاة فيها، والمسألة عندنا حول الصلاة في المقبرة بلا مسجد ولا قصد.
الرد الثاني: أن هذه المساجد بُنيت على قبور الأنبياء والصالحين خاصةً، لمقصد معيَّنٍ عند اليهود والنصارى حيث جعلوها أوثانا يعبدونها، فكان الحكم في حديث عائشة رضي الله عنها معقول المعنى مفهوم المغزى، فالاستدلال به على منع الصلاة في المقابر العامة لا لنية سابقة أو قصد كفري ظاهر، من وضع الشيء في غير محلِّه وتكلف الدليل على غير مستدَلِّه.
قال في "مجمع البحار"[13]: وحديث "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" كانوا يجعلونها قبلة يسجدون إليها في الصلاة كالوثن. وأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح أو صلى في مقبرة قاصدا به الاستظهار بروحه أو وصول أثر من آثار عبادته إليه، لا التوجه نحوه والتعظيم له فلا حرج فيه. ألا يرى أن مرقد إسماعيل في الحجر في المسجد الحرام والصلاة فيه أفضل؟اهـ
وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في "اللمعات"[14]في شرح هذا الحديث: لما أعلمه بقرب أجله فخشي أن يفعل بعضُ أمته بقبره الشريف ما فعلته اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم فنهى عن ذلك.
قال التوربشتي: هو مُخرَّجٌ على الوجهين، أحدُِهما: كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لهم وقصد العبادة في ذلك. وثانيهما: أنهم كانوا يتحرون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إلى قبورهم في حالة الصلاة والعبادة لله، نظرا منهم أن ذلك الصنيع أعظمُ موقعا عند الله لاشتماله على الأمرين: العبادة والمبالغة في تعظيم الأنبياء.وكلا الطريقين غيرُ مرضية؛ وأما الأول فشرك جلي، وأما الثانية فلما فيها من معنى الإشراك بالله عز وجل وإن كان خفيا.
والدليل على ذم الوجهين قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".اهـ
وقال العلامة البيضاوي[15]: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيما لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها اتخذوها أوثانا لعنهم ومنع المسلمين من ذلك.
قال: وأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا لتعظيم له ولا لتوجه نحوه فلا يدخل في ذلك الوعيد.اهـ
قلت: عُلِمَ بهذا أن الوعيد الوارد في حديث عائشة رضي الله عنها إنما هو لعابد قبور الأنبياء، لا للمصلي في المقبرة، وبين الأمرين مفاوز.
وقد ردَّ الإمام الحافظ ابن عبد البر النمري هذا الاستدلال واستغربه في "التمهيد"[16] فقال: وقد احتج بعض من لا يرى الصلاة في المقبرة بهذا الحديث ولا حجة له فيه.اهـ
وقال في موضع آخر من "التمهيد"[17]:في هذا الحديث إباحة الدعاء على أهل الكفر وتحريم السجود على قبور الأنبياء، وفي معنى هذا أنه لا يحل السجود لغير الله عز وجل. ويحتمل الحديث أن لا تجعل قبور الأنبياء قبلة يصلى إليها، وكل ما احتمله الحديث في اللسان العربي فممنوع منه، لأنه إنما دعا على اليهود محذرا لأمته عليه السلام من أن يفعلوا فعلهم.
وقد زعم قومٌ أن في هذا الحديث ما يدل على كراهية الصلاة في المقبرة وإلى القبور وليس في ذلك عندي حجة.اهـ
فحديث عائشة هذا لا يدلُّ أبدا على المنع من الصلاة في المقبرة، أما صراحة فبإجماع المسلمين، وأما إشارةً فبتكلّف المتكلفين، والله أعلم.

? الحديث الثاني: روى البخاري في "صحيحه"[18] ومسلم في "صحيحه"[19] عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا".
وهذا الحديث أيضا استنبط منه بعضُ الأئمة المنعَ من الصلاة في المقبرة تأويلا له، وفهما فهموه من عبارته، والواقع أن هذا الفهم محتملٌ منه، كما احتملوا فيه أيضا معاني أخرى ذكرها الأئمة في مصنفاتهم، وقد علم في محله من كتب الأصول أن "ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال"[20].
وممن ذهب إلى اعتماده دليلا على كراهة الصلاة في المقبرة أمير المؤمنين محمد بن إسماعيل البخاري، حيث ذكره في كتاب "الصلاة" من "صحيحه" مرتين، إحداهما تحت "باب كراهية الصلاة في المقابر"، وثانيتها تحت "باب التطوع في البيت".
قال الحافظ ابن رجب في "شرح البخاري"[21]: ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بأن يصلوا في بيوتهم، ولا يتخذوها قبورا بترك الصلاة فيها، فدل على أن القبور ليس فيها صلاة، وأن البيت يكره إخلاؤه عن الصلاة ، لما فيه من تشبيه بالمقابر الخالية عن الصلاة .اهـ
لكنَّ رأيَ الإمام البخاري ومَن ذهب مذهبه مرجوحٌ ومتعقبٌ عند أهل التحقيق، ودونك البيان:
-الرد الأول: أنه ليس صريحا فيما ذكر بل هو من قبيل التأويل لظاهره، مع احتمال تأويلات غيره ربما أظهر منه، بل هي كذلك حتما كما سنرى.
قال الحافظ العيني في "العمدة"[22]: قيل هذا الحديث لا يطابق الترجمة لأنها في كراهة الصلاة في المقابر، والمراد من الحديث أن لا تكونوا في بيوتكم كالأموات في القبور حيث انقطعت عنهم الأعمال وارتفعت عنهم التكاليف وهو غير متعرض لصلاة الأحياء في ظواهر المقابر ولهذا قال: "لا تتخذوها قبورا" ولم يقل "مقابر".اهـ
قال ابن التين –شارح البخاري-: تأوَّله البخاريُّ على كراهة الصلاة في المقابر، وتأوله جماعة على أنه إنما فيه الندب إلى الصلاة في البيوت، إذ الموتى لا يصلون. كأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم وهي القبور قال: فأما جواز الصلاة في المقابر أو المنع منه فليس في الحديث ما يؤخذ منه.اهـ
قال الحافظ في "الفتح"[23]: وقال في "النهاية" تبعا ل"المطالع": إن تأويل البخاري مرجوحٌ، والأولى قول من قال: معناه أن الميت لا يصلي في قبره.اهـ
بل ذهب بعضُ أهل العلم إلى تأويل ثالث، رادا فهم البخاري رحمه الله، قال الحافظ في "الفتح"[24]: وقد نازع الإسماعيليُّ المصنفَ أيضا في هذه الترجمة، فقال: الحديث دال على كراهة الصلاة في القبر لا في المقابر.اهـ
قلت: هذا كان أقرب من فهم الإمام البخاري لولا ورود الحديث بألفاظ أخر تبعِدُ تأويله، وقد ذكرها الحافظ هناك في "الفتح".
وقال الحافظ العيني في "عمدة القاري"[25]: "ولا تتخذوها قبورا" من التشبيه البليغ البديع بحذف حرف التشبيه للمبالغة، وهو تشبيه البيت الذي لا يصلى فيه بالقبر الذي لا يتمكن الميت من العبادة فيه.
وقال الخطابي: يحتمل أن يكون معناه: لا تجعلوا بيوتكم أوطانا للنوم لا تصلون فيها فإن النوم أخو الموت.اهـ










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
المساجد, التي, الصلاة, جواز, قبور


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 03:36

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc