الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
مَن هُم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة؟
علوي بن عبدالقَادر السَّقَّاف
المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية
2 ذو الحجة 1437هـ
الحمدُ للهِ وكفَى، والصَّلاةُ والسَّلامُ على النبيِّ المصطفَى، وعلى آلِه وأصحابِه ومَن لهَدْيِهم اقْتفَى.
أمَّا بَعدُ،
فإنَّ مِن المعلومِ أنَّ النَّجاةَ والسَّعادةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ مَنوطةٌ باتِّباعِ الحَقِّ وسُلوكِ طَريقةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة؛ ولَمَّا أصْبحَ كلٌّ يَدَّعي أنَّه مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة، وقام أناسٌ يُطالِبون باستِردادِ هذا اللَّقبِ الشَّريفِ، زاعِمين أنَّه اختُطِفَ منهم منذُ قرون؛ أصبح لِزامًا على أهلِ العِلم الشرْعي توضيحُ هذا المُصطلحِ وهذا اللَّقبِ، وتَبيينُ مَعالِمِه، وإظهارُ سِماتِ الحَقيقِينَ بالاتِّصافِ به، وفي هذِه الكلماتِ تَوضيحٌ لبعضِ خَصائِصِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة وسِماتِهم، وفيها المعيارُ الذي يُعينُ المُسلِمَ على مَعرفةِ مَن هُم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة؛ فيَسلُكُ مَسلَكهم ويَسيرُ على طَريقتِهم؛ ويتمسَّكُ بمنهَجِهم، ليَدخُلَ في زُمرتِهم، وليس الغرضُ من هذه الكلماتِ حَصْرَ مُعتقَدِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة؛ فهذا مظانُّه كتُبُ العقائِد، بل القصدُ معرفةُ الفوارقِ بين أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة والفِرقِ الأخرى، وما يُميِّزهم عن غيرِهم.
فالسُّنَّة المُرادَةُ هنا: هي ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن العِلمِ والعَمل والاعْتقاد، والهَدْي والسُّلوك، وهي كلُّ ما جاء به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
والجَماعَة المُقْترنة بالسُّنَّة: هُم أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ومَن تَبِعهم بإحسانٍ، وسارَ على مَنهجِهم وطَريقتِهم.
فأهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة أَحْرَصُ النَّاسِ على اتِّباع النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومَعرِفَة أَحوالِه، وأَكثَرُهم مُوافَقَةً لِمَنْهَج أَصحابِه رَضِيَ الله عنهم، وليس مَعْنى هذا: أنَّ كلَّ مَن ادَّعى أنَّه على مَنهجِ أهلِ السُّنَّة والجَماعةِ، أو سَمَّى حِزبَه بالسَّلفيِّ أو جماعتَه بأهلِ الحَديثِ أو الأثَرِ؛ أنَّه كذلك؛ فالعبرةُ بالمنهجِ واتِّباعِه والتَّمسُّك به، لا بالمُسمَّياتِ وشُهرتِها.
فهذه دَعْوى يَدَّعيها الجميعُ، لكن لا تَصِحُّ تِلك الدَّعوى ولا تَصدُقُ تِلك النِّسبةُ على أحدٍ إلَّا بتَحقيقِ السِّماتِ والخَصائصِ الآتيةِ؛ فهي فارقٌ بين مَن يتَحقَّقُ فيه هذا اللَّقبُ وبين مَن يَدَّعيه مُجرَّدَ ادِّعاءٍ وهو عارٍ عنه، وقد جعلتُها على شَكلِ فقرات؛ ليَسهُلَ فَهمُها واستيعابُها وتَطبيقُها- إنْ شاء اللهُ تعالى:
(1) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة مَصدرُ عَقيدتِهم كتابُ اللهِ تعالى، وسُنَّةُ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وما كان عليه السَّلفُ الصَّالِحُ وما فَهِموه مِن نُصوصِ الوَحيَينِ؛ فلا يُقدِّمون العقلَ ولا الكَشفَ ولا الذَّوقَ ولا المناماتِ على النَّقلِ، ولا يُقدِّمون كلامَ شَيخٍ أو وليٍّ على كلامِ اللهِ سُبحانَه وكلامِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم.
(2) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة لا يَنتسِبون في العَقائدِ إلى شَخصٍ بعَينِه، ولا إلى فِرقةٍ بعَينِها، بل نِسبتُهم إلى السُّنَّةِ والسَّلفِ؛ فلا يَنتسِبون إلى الأشعريِّ، ولا إلى الماتريديِّ، ولا إلى الجَهم، ولا إلى الجَعد، ولا إلى زَيْد، ولا إلى عُبَيد، ولا يَنتسِبون إلى المعتزلةِ ولا إلى المرجِئة ولا إلى القَدَريَّة....، وإنَّما يَنتسبون إلى السُّنَّة والصَّحابة: (ما أنا عَليهِ وأصْحابي).
(3) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة لا يَنتسِبون في السُّلوكِ وتزكِية النَّفْس إلى شَخصٍ ولا إلى طريِقة؛ فلا يَنتسِبون إلى الجِيلانيِّ، ولا إلى الرِّفاعيِّ، ولا إلى القادريِّ، ولا إلى التِّيجاني، ولا إلى الطريقَة النَّقشبنديَّة ولا العَلويَّة ولا الشاذليَّة، ولا إلى غيرِها، بل سلوكُهم وتزكيتُهم وأخلاقُهم مصدرُها القائِل: (إنَّما بُعِثتُ لأتمِّمَ صالحَ الأخلاقِ)، ولِمَن (كان خُلقُه القُرآن) صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فكما أنَّهم لا يَتميَّزون على الأمَّةِ في أُصولِ الدِّينِ باسمٍ سِوى السُّنَّةِ والجَماعة، فهُم كذلك لا يَتميَّزون في السُّلوكِ وتزكية النَّفْس باسمٍ سِوى السُّنَّةِ والجَماعَة.
(4) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة يَعبُدون اللهَ كما أمَرَ بخُشوعٍ وتَذلُّل، لا يَبتدِعون عباداتٍ مِن عِندِ أنفُسِهم بحَسَبِ أهوائِهم ولا مِن عِندِ غيرِهم، ولا يَعبُدونه باللَّطمِ ولا بالطَّبل ولا الرَّقص والتَّمايُل!
(5) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة لا يَصرِفون شَيئًا مِن العِبادةِ لغَيرِ الله سبحانَه، كالدُّعاءِ والاستغاثةِ والذَّبحِ والنَّذرِ وغيرِها من العِباداتِ، كما هو الحالُ في بَعضِ الفِرَقِ والطوائِفِ المخالِفةِ لطَريقةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة.
(6) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة يَحثُّون على زِيارةِ القُبورِ؛ لأنَّها تُذكِّر بالآخرة، وللسَّلامِ على أهلِها، والدُّعاءِ لهم، لا بَقصدِ التبرُّكِ بها ولا لدُعاءِ صاحِبِ القَبرِ مِن دُونِ اللهِ تعالى، أو الاستغاثةِ به، أو التمسُّحِ بالقبرِ أو الطوافِ حولَه، أو الذَّبْحِ عِندَه، ونحوِ ذلك.
(7) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة يُثبِتون للهِ عزَّ وجلَّ جَميعَ الصِّفاتِ التي أثبَتَها لنَفْسِه أو أثبَتَها له رسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن غيْرِ تَعطيلٍ ولا تأويلٍ، وأمَّا غيرهم فيَنفُون عنه صِفاتِه، أو يُثبتونَ بعضَها ويُؤوِّلون بعضَها الآخَرَ.
(8) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة يَعتقِدون أنَّ الإيمانَ قولٌ وعَملٌ، يَزيدُ ويَنقُص، ولا يُخرِجون عَملَ الجوارحِ مِن الإيمانِ كالمُرجِئة، ولا يُكفِّرونَ أهْل القِبْلة بمُطلَقِ المعاصِي والكبَائر كالخَوارجِ.
(9) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة لا يُكفِّرون مَن خالَفَهم من الفِرقِ الأُخرى لمجرَّد مخالفتِهم لهُم، ما عدا الفِرقَ التي اجتَمعَتْ على أُصولٍ كُفريَّةٍ، كالإسماعيليَّةِ والنُّصيريَّةِ.
(10) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة يَتبرَّؤون من الكُفَّارِ والمُلحِدين والمشرِكين والمرتدِّين، ويُعادُونهم ويُبغضونَهم، ويُحبُّونَ المُؤمنِين ويُوالونَهم ويَنصرونَهم بحَسَبِ ما عِندَهم مِن الإيمانِ والعَملِ الصَّالِحِ.
(11) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة يُحبُّون أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويَرَوْن أنَّهم كلَّهم عُدولٌ، ويَتقرَّبون إلى اللهِ بحُبِّهم وحُبِّ آلِ بيته وزوجاته أمهات المؤمنين، ويَتبرَّؤون مِمَّن يَسبُّهم ويُعادِيهم، ويَتبرَّؤون كذلك ممَّن يُغالِي فيهم ويَرفعُهم فوقَ مَنزِلةِ البَشرِ أو يَقولُ بعِصمتِهم.
(12) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة يَأخُذون في الفِقهِ بالإِجْماع وما دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ الصَّحِيحَة، ويَعْتَبِرون بِأَقوال الصَّحابَةِ والتَّابِعين وتابِعيهِم، ويَتَّبِعون أَكابِرَ عُلَماءِ المسلمين، مثل: أَبي حَنيفةَ ومالكٍ والشَّافِعيِّ وأَحمدَ، ومَن بَعْدَهم مِن العُلماءِ والفُقهاءِ والأئمَّةِ المَتبُوعين المتَّبِعينَ للسُّنَّة والمشهورِينَ بالخَيرِ في الأُمَّةِ.
(13) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة؛ المُسلِمونَ عِندَهم سواءٌ من حيثُ التَّكليفاتُ الشَّرعيَّة، وليس عِندَهم عامَّةٌ وخاصَّةٌ، ولا خاصَّةُ الخاصَّة، ولا عِندَهم شَريعةٌ وحَقيقةٌ، بل هو دِينٌ واحدٌ، وتشريعٌ واحدٌ، من ربٍّ واحدٍ، نَزَل على نبيٍّ واحدٍ، للنَّاسِ كافَّةً.
(14) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة هم أهلُ التوسُّطِ والاعتدالِ في كلِّ شَيءٍ؛ فهم وَسَطٌ بين الغُلوِّ والجَفاءِ، والإفراطِ والتَّفريطِ، والتَّيسيرِ والتَّشديدِ.
(15) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة مِن أحرصِ النَّاس على جَمْعِ الكَلِمةِ ووَحْدةِ الصَّفِّ، ومِن عَقيدتِهم: إقامةُ الجِهاد والجُمَعِ والجَماعات خلْفَ كلِّ بَرٍّ وفاجِر، ويَرَون صِحَّةَ الصَّلاةِ خَلفَ أصحابِ البِدَعِ والمعاصي؛ فَهُم أكثرُ الناسِ حبًّا للاتِّفاقِ، وأكثرُهم بُغضًا للافتِراق، وقد يَقَعُ الخَطأُ مِمَّن يَنْتَسِبُ إليهم ولم يُحْسِن فَهْمَ مَنْهَجَهُم والأَخْذ به، فليس كُلُّ مَن انْتَسَب إليهم يكون قد تَأَدَّب بِأَدَبِهم، وسار على طريقتِهم، فالطَّمَعُ في شَرَفِ اللَّقَبِ أَدْخَلَ فيهم مَن ليس منهم .
(16) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة فيهم العالِمُ والفقيهُ، والخَطيبُ والدَّاعيةُ، والآمِرُ بالمعروفِ والنَّاهي عن المُنكَر، والطبيبُ والمُهندِس، والتاجِرُ والعامِل، والغنيُّ والفقيرُ، والأسودُ والأبيضُ؛ والعَرَبيُّ والأعْجَميُّ، فمَنهجُهم ليس قاصرًا على فِئةٍ مِن الناسِ، ولا يُمَيِّزون بين طَبَقات المُجْتَمع، أو يَجْعَلون العِلْمَ والدِّينَ والنَّسَبَ والسِّيادَةَ حِكْرًا على قَوْمٍ دُونَ مَن سِواهُم، ويَعتقِدون قولَ اللهِ تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
(17) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة فيهم العابِدُ الزَّاهد، وفيهم العاصِي، وفيهم مُرتَكِبُ الكبيرةِ؛ فهم ليسوا مَعصومِينَ عن الخطأِ والمعاصِي، ولا تُخرجُهم هذه الأخطاءُ والمعاصي عن كونِهم من أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة، بل قدْ يقعون في جُزئيَّاتِ البِدعِ، لكن ما أسرعَ أوبتَهم إلى الحقِّ إذا عُرِّفوا به؛ فلا يُخرِجهم هذا عن كونِهم من أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة.
(18) أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة يَتَّبعون الحقَّ ويَرحَمون الخَلْق؛ فيَكرهون المعاصِي ويَرفُقون بأَصحابِها، ويُبغِضون البِدعَ ويُشفِقون على أهلِها.
فهؤلاء هُم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة، وهذِه بعضُ سِماتِهم وخَصائِصهم،
أسألُ اللهَ بمَنِّه وكَرمِه أن نكونَ منهم، وأنْ يَجمَعَ الأُمَّةَ على ما اجتَمَعوا عليه.