288- باب تحريم الرياء
قَالَ الله تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، وقال تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [البقرة:264]، وقال تعالى: يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142].
1/1616- وَعَنْ أبي هُريْرَةَ ïپ´ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه ï·؛ يَقُولُ: قَالَ اللَّه تعَالى: أنَا أَغْنى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّركِ، مَنْ عَملَ عَمَلًا أشْركَ فيهِ معي غيري تَركْتُهُ وشِرْكَهُ رواه مسلم.
2/1617- وَعَنْهُ ïپ´ قَالَ: سمِعْتُ رَسُولَ اللَّه ï·؛ يَقُولُ: إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيامَةِ عَليْهِ رجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعرَّفَهُ نِعْمَتَهُ، فَعَرفَهَا، قالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيها؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، وَلكِنَّكَ قَاتلْتَ لأنَ يُقالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ. وَرَجُل تَعلَّم الْعِلْمَ وعَلَّمَهُ، وقَرَأ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قالَ: فمَا عمِلْتَ فِيهَا؟ قالَ: تَعلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأتُ فِيكَ الْقُرآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، ولكِنَّك تَعَلَّمْتَ ليُقال: عالم، وقَرَأْتَ الْقرآنَ لِيُقالَ: هو قارئ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ عَلى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، وَرَجُلٌ وسَّعَ اللَّه عَلَيْهِ، وَأعْطَاه مِنْ أصنَافِ المَال، فَأُتِيَ بِهِ، فَعرَّفَهُ نعمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تركتُ مِن سَبيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فيهَا إلَّا أنْفَقْتُ فِيهَا لَك، قَالَ: كَذَبْتَ، ولكِنَّكَ فَعَلْتَ ليُقَالَ: هو جَوَادٌ، فَقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ رواه مسلم.
الشيخ:
الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد:
ففي هذه الآيات الكريمات والأحاديث الحثّ على الإخلاص والصدق في العمل، والحذر من عمل المنافقين، فالمنافقون يُراءون الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، كما قال الله عنهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [البقرة:264] يعني: أن أعماله باطلة، وقال جلَّ وعلا: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، وقال جلَّ وعلا: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
فالواجب على جميع المكلَّفين إخلاص العمل: صلاتهم، وصومهم، وصدقاتهم، وسائر أعمالهم، يجب أن تكون لله وحده، وأن يخصُّوا الله بها جل وعلا دون كل ما سواه، من: صدقة، حج، صيام، صلاة، قراءة، تعليم، دعوة إلى الله، إلى غير ذلك، يكون قصدهم من ذلك وجه الله والدار الآخرة، وأن ينفع المؤمنين، وينفع الناس، كما أمره الله.
أما الرياء: فله حالان: رياء أكبر، وهو رياء المنافقين، وأهله في الدرك الأسفل من النار -نعوذ بالله- وعلى هذا يُحمل حال الثلاثة: المقاتل في سبيل الله, والمتصدق, والعالم القارئ، فأحدهم تعلَّم ليُقال: عالم، وقرأ ليُقال: قارئ، فلهذا أُمِرَ به وسُحب على وجهه إلى النار، فما تعلَّم لله، ولا قرأ لله، ولا عمل بمقتضى علمه، وهكذا الذي قاتل في سبيل الله، قاتل ليُقال: جريء، ليُقال: شجاع، فقد قيل، وهكذا الآخر الذي أعطاه الله أصناف المال، وأنفق، أنفق ليُقال: سَخِيّ، ليُقال: جواد، لا لله، فلهذا أُمِرَ بهم إلى النار -نسأل الله العافية- لعدم إخلاصهم في أعمالهم.
وهم بين أمرين: إمَّا أن تكون أعمالهم نفاقًا كحال المنافقين، والمنافق في الدَّرْك الأسفل من النار، وإما أن يكونوا عملوا هذه الأشياء كلها رياءً، وقد قال ï·؛: أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر، فسُئل عنه فقال: الرياء، والرياء يُحبط الأعمال التي قارنها، يُحبط الجهاد، ويُحبط التعليم والقراءة والنفقة إذا صحبها الرياء وعدم الإخلاص، فالواجب الحذر، وفي الحديث الصحيح: مَن سمَّع سمَّع الله، ومَن راءَى راءَى الله به.
فليحذر المؤمن من قصد وجوه الناس، وحمدهم، وثنائهم، فإنَّهم لا ينفعونه ولا يضرونه، وإنما يجب أن يقصد وجه الله في أعماله كلها، ويُخلص له العمل حتى تحصل له الثمرة والثواب الجزيل من الله عز وجل.
والمقصود من هذا كله أن يكون المؤمنُ في جميع أعماله له عناية وإقبال على الإخلاص والصدق وتحمّل ما في ذلك؛ لأن الإنسان قد يتعب في قصد الإخلاص، ولكن يُجاهد نفسه، فالنفس أمَّارة بالسوء، والشيطان يدعو إلى الرياء، فلا بد من جهادٍ وصدقٍ في أن تكون أعماله كلها لله، من: تعليم، أو جهادٍ، أو صدقةٍ، أو غير ذلك، يقصد بها وجه الله ïپ•، لا رياء، ولا سمعة.
نسأل الله للجميع التوفيق.
الأسئلة:
س: إذا عمل المسلم عملًا يبتغي به وجه الله سبحانه وتعالى فطرأ عليه الرياء بعد أن انتصف العملُ حتى نهاية العمل؟
ج: إن كان الرياء في أثناء العمل أبطل العمل، وإن كان بعد العمل ما يضرّه، إن كان بعد العمل بعدما أخلصه لله مضى في سبيله.
س: هل يُبطل العمل كله إذا طرأ عليه؟
ج: إذا كان متصلًا -مثل الصلاة وأشباهها- فالصحيح أنه يبطل العمل، صلَّى يُرائي، أو سجد يُرائي، أو ما أشبه ذلك، أما إذا كان ينقسم مثل القراءة: فما صحبه الرياء من القراءة بطل ثوابه، وما لم يصحبه لم يبطل، مثل: قرأ سورةً مخلصًا لله، ثم قرأ السورة التي بعدها رياءً؛ يبطل ثواب القراءة الثانية، وهكذا الصَّدقات تصدَّق بمئةٍ مخلصًا، ثم تصدَّق بمئةٍ أخرى رياءً؛ بطل ثوابُ الثانية، لأن هذا ينقسم، بخلاف الصلاة، فإن الصلاة يُربط بعضُها ببعضٍ، وكذا صيام اليوم الواحد، بعضه ببعضٍ متَّصل.
س: لو عكس فبدأ مُرائيًا ثم أخلص لله في أثناء العمل؟
ج: هو هو، الدرب واحد، إذا كان أوله وآخره رياءً وهو متَّصل ما ينقسم؛ بطل.
س: هل هذه الدَّرجات متساوية من ناحية الثواب، التي هي: القرآن والقراءة والقتال والصَّدقات؟
ج: لا، الثواب يختلف على حسب نية العبد وإخلاصه وصدقه واستكماله العمل، يختلف، هذا يُصلي وهذا يُصلي، وبين صلاتيهما أعظم مما بين المشرق والمغرب، هذا صلاته قد أقبل عليها، واعتنى بها، وخشع فيها لله، وكمَّلها، وهذا عنده نقصٌ فيها، فبينهما فرقٌ، وهكذا صيامهم، وهكذا حجهم، يختلفون.
س: هل يدل الحديثُ على أنهم مخلَّدون في النار؟
ج: محتمل، إن كانوا منافقين فهم مخلدون في النار، وإن كان للرياء فلا، وإنما هو من باب الوعيد.
س: هل هناك دعاء يُقال حتى يسلم الإنسانُ من الرياء؟
ج: منه الدعاء المشهور: اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، هذا يُدْعَى به دائمًا، ينبغي للمسلم أن يدعو به دائمًا.
س: يقول الدعاء قبل أن يبدأ أي عملٍ؟
ج: في كل وقتٍ.
س: إذا صلى الإنسانُ وطرأ عليه الرياء في ركعةٍ، هل يقال: إن تلك الركعة فاسدة وعليه إعادتها؟
ج: أهل العلم مختلفون في هذا: هل ينسحب الرياء على أولها، أو يثاب على أولها ويبطل الثواب على آخرها؟ والمشهور عند العلماء: أنه ينسحب على أولها وآخرها، فالرياء يُبطلها كلها إذا كان العمل متصلًا، بخلاف العمل المتقطع، كالقراءة وأشباهها.
س: كيف يقطع الشك؟
ج: يُجاهد نفسه حتى لا يقع الرياء، يجاهد نفسه بالإخلاص لله، يطرد الشك، ويطرد وهم الرياء بالإخلاص لله، بالقوة، بالمجاهدة؛ لأن الرياء من تزيين الشيطان.
س: إذا ترك الشيء يخشى أن يقع في الرياء؟
ج: لا، ينبغي أن يجتهد في الأعمال ولا يتركها، ويجاهد نفسه أن يخلص لله، فهذا من الشيطان، يُثبطه عن الأعمال، وقول بعض السلف: "ترك العمل من أجل الناس شرك" هذا ليس على إطلاقه، لكن ما ينبغي ترك الأعمال، ينبغي للإنسان أن يجاهد نفسه، ويُحارب عدوه، ويعمل الأعمال الطيبة.
س: إطالة النافلة في المسجد ما رأيك فيها؟
ج: ما فيه بأس، إذا رأى المصلحة في ذلك ونشط عليها فلا بأس، لا يهم، لكن يكون مخلصًا لله، والحمد لله.
س: إذا دخل في عبادةٍ قاصدًا الرياء والمدح -يعني: بدون قصد العبادة- هل يكون شركًا أكبر؟
ج: إذا كان مسلمًا يكون شركًا أصغر، كإسلام المنافقين، فكل أعمالهم نفاق، كله كذب؛ نسأل الله العافية.
س: قول بعض العلماء في تقسيم الشرك: شرك النية والإرادة والقصد، واستدلوا عليها بآية: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [هود:15]؟
ج: هذا إذا أراد بإسلامه الدنيا بنيَّتِه فإسلامه باطل، كإسلام المنافقين، أما مَن أسلم لله، مخلصًا لله، ولكن يطرأ عليه في بعض الأشياء.
س: تفسير الآية: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142] هل المقصود التأخر عن حضور المسجد؟
ج: هذا وهذا، كُسالى عن فعل الصلاة، حتى النافلة، وكُسالى عن الذهاب إلى المساجد، ما عندهم النشاط الكافي؛ لضعف الإيمان، ولهذا عندهم كسل عند أدائها في جماعةٍ، وكسل عند أدائها في البيت، ثم تركوها في البيت أيضًا.
س: معنى حديث: مَن سمَّع سمَّع الله به؟
ج: على ظاهره: مَن سمَّع بالقراءة أو بالدعوة إلى الله رياءً سمَّع الله به وفضحه؛ نسأل الله العافية.
س: في الآخرة أو في الدنيا؟
ج: في الآخرة.
س: العمل من أجل الناس؟
ج: العمل من أجل الناس أم ترك العبادة؟
س: ترك العبادة؟
ج: لا، ينبغي للإنسان أن يعمل ولا يهمه أحد، يجاهد نفسه في الإخلاص، أما أن يترك العملَ لخوف الرياء فلا، لا يترك العمل، بل يجتهد في العمل الصالح، ويُجاهد نفسه، والحمد لله.
منقول من موقع الإمام ابن باز رحمه الله وجزاه الله خيرا