شعر الطبيعة في الأدب الأندلسي
توطئة:
ما لبث العرب إن استقروا في الأندلس، ورحل إليها شعراؤهم، حتى بدأ الشعر الأندلسي يشق طريقه إلى الوجود، ويقوى، وتتنوع فنونه، و لم ينقض وقت طويل، حتى نظم الأندلسيون أشعارهم...
ومما يلفت النظر شيوع الشعر في المجتمع الأندلسي، إذ لم يكن الشعر وقفًا على الشعراء المحترفين وإنما شاركهم في ذلك الأمراء والوزراء والكتاب والفقهاء والفلاسفة والأطباء وأهل النحو واللغة وغيرهم. فالمجتمع الأندلسي بسبب تكوينه الثقافي القائم على علوم العربية وآدابها، ثم طبيعة الأندلس التي تستثير العواطف وتحرك الخيال، كل ذلك جعل المجتمع يتنفس الشعر طبعًا وسليقة وكأنما تحول معظم أهله إلى شعراء.)
الشعر في الأندلس:
والشعر في الأندلس امتداد للشعر العربي في المشرق؛ فقد كإن الأندلسيون متعلقين بالمشرق، ومتأثرين بكل جديد فيه عن طريق الكتب التي تصل إليهم منه، أو العلماء الذين يرحلون من الشرق أو الأندلسيين الذين يفدون إلى الشرق للحج أو لطلب العمل؛ وكانوا في غالب أمرهم مقلدين للمشارقة، ويبدو ذلك واضحاً في ألقاب الشعراء وفي معارضاتهم لشعراء المشرق. ولكن هذا التقليد لم يمنعهم من الإِبداع والابتكار، والتميز بميزات تخصهم نتيجة لعوامل كثيرة،. ويمثل الشعر خاصة أحد جوانب الحضارة العربية الأندلسية، حيث عبر عن قوالب تلك الحضارة وعن مضمونها
من الموضوعات التي شاعت في الأندلس وازدهرت كثيراً شعرالطبيعة
فقد وهب الله الأندلس طبيعة ساحرة ووافرة جمالاً.. جبالها الخضراء وسهولها الجميلة، وتغريد طيورها على أفنان أشجارها... كل ذلك له أثره في جمال الأندلس التي تنعم بيئتها بالجمال , وتصطبغ بظلال, وارفة, و ألوان ساحرة, تتنفس بجو عبق عطر يضاعف من روعته وبهائه ما يتخلل جنباتها من مواطن السحر,ومظاهر الفتنة التي تبعث الانبهار والدهشة في النفوس. وقد أنعكس ذلك في شعر الأندلسيين بشكل عام, حيث ازدحم بصور متنوعة ملونة تمثل البيئة الطبيعية في هذه الرقعة المسماة بالأندلس. ومن هنا تشكلت صورة الأندلس في الأذهان متقاربة في أوصافها وألوانها وقسماتها...
هذه الصورة على العموم تأخذ عطرها وعبقها وملامحها وألوانها من الطبيعة, فهي أقرب إلى لوحة فنية ناطقة, إنها بستان زاهٍ أو حديقة غناء أو واحة خضراء.
وهذا ولا شك ما جعل وصف الطبيعة من ابرز أغراض الشعر عند شعراء الأندلس،حيث تهيائت لهم أسباب الشعر ودواعيه فشغفت بها القلوب وهامت بها النفوس.
ومن هنا نجد تَعَلُّق الأندلسيين بها، يسرحون النظر في خمائلها، وأخذ الشعراء والكتاب ينظمون درراً في وصف رياضها ومباهج جنانها.
يقول ابن خفاجة:
يا أهل الأندلس لله دركم ماء وظل وأنهار وأشجار
ماجنة الخلد إلا في دياركم ولو تخيرت هذا كنت اختار
و قال آخر:
حـبذا أنـدلسٍ من بـلدٍ لم تـزل تنتج لـي كل سـرورْ
طـائرٌ شادٍ وظـلٌ وارفٌ ومـياهٌ سائحـاتٌ وقـصــور
ولم يكن جمال الطبيعة في الأندلس هو وحده الذي ساعد على ازدهار شعر الطبيعة هذا، بل أن حياة المجتمع الأندلسي أثرت أيضاً في هذا الشعر، الذي يمثل تعلق الشعراء الأندلسيين ببيئتهم وتفضيلها على غيرها من البيئات، ولكون الشعر عندهم يصف طبيعة الأندلس سواء الطبيعية أو الصناعية، فهم يصورونها عن طريق الطبيعة كما أبدعها الله في الحقول والرياض والأنهار والجبال والسماء والنجوم، ويصفونها كما صورها الفن لديهم في القصور والمساجد والبرك والأحواض وغيرها
و قد كان وصف الطبيعة في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي إذ وصف الشعراء صحراءهم وتفننوا في وصفها لكن هذا الوصف لم يتعد الجانب المادي وفي العصر الأموي والعباسي عندما انتقل العرب المسلمون إلى البلدان المفتوحة وارتقت حياتهم الاجتماعية أضافت على وصف الطبيعة وصف المظاهر المدنيَّة والحضارة وتفننوا , فمن ذلك فقد وصف الطبيعة عند الشعراء العباسيين أمثال النجدي والصنوبري وأبي تمام وأبي بكر النجدي الذي عاش في بيئة حلب ولكن ما الجديد الذي جاء به الأندلسيون بحيث أن هذا الموضوع أصبح من الأغراض والموضوعات التي عرف بها أصل الأندلس.
عوامل ازدهار شعر الطبيعة في الشعر الأندلسي:
• ازدهار الحضارة العربية في الأندلس ازدهارا كبيرا وهذا الازدهار الذي شمل جميع جوانب الحياة الأندلسية .
• جمال الطبيعة الأندلسية التي افتتن بها شعراء الأندلس وتعلقوا بها وفصَّلوا في وصفها والتغني بمفاتنها .
• ازدهار مجالس الأنس والبهجة واللهو حيث كانت هذه المجالس تُعقدُ في أحضان الطبيعة .
خصائص شعر الطبيعة
• أفرد شعراء الطبيعة في الأندلس قصائد مستقلة ومقطوعات شعرية خاصة في هذا الغرض بحيث تستطيع هذه القصائد باستيعاب طاقة الشاعر التصويرية وخياله التصوري , غير الالتزام الذي تسير عليه القصيدة العربية فلم يترك الشاعر زاوية من زوايا الطبيعة إلا وطرقها .
• يعتبر شعر الطبيعة في الأندلس صورة دقيقة لبيئة الأندلس ومرآة صادقة لطبيعتها وسحرها وجمالها فقد وصفوا طبيعة الأندلس الطبيعية والصناعية مُمَثَّلة في الحقول والرياض والأنهار والجبال وفي القصور والبرك والأحواض .
• تُعد قصائد الطبيعة في الأندلس لوحات بارعة الرسم أنيقة الألوان محكمة الظلال تشد انتباه القارئ وتثير اهتمامه .
• أصبح شعراء الطبيعة نظراً للاهتمام به يحل محل أبيات النسيب في قصائد المديح , بل إن قصيدة الرثاء لا تخلو من جانب من وصف الطبيعة .
• أصبحت الطبيعة بالنسبة لشعراء الأندلس ملاذاً وملجأ لهم يبثونها همومهم وأحزانهم وأفراحهم وأتراحهم إلا أن جانب الفرح والطرب غلب على وصف الطبيعة فتفرح كما يفرحون وتحزن كما يحزنون .
• وصف الطبيعة عند شعراء الأندلس مرتبطاً ومتصلاً بالغزل والخمر ارتباطاً وثيقاً فوصف الطبيعة هو الطريق إليها فكانت مجالس الغزل والخمر لا تعقد إلا في أحضان الطبيعة .
• المرأة في الأندلس صورة من محاسن الطبيعة , والطبيعة ترى في المرأة ظلها وجمالها فقد وصفوا المرأة بالجنة والشمس , بل إنهم إذا تغزلوا صاغوا من الورد خدوداً ومن النرجس عيوناً ومن السفرجل نهوداً ومن قصب السكر قدوداً ومن ابنة العنب ( الخمر ) رضابا
.
أصناف من الوصف في شعر الطبيعة:
هنا سنعرض بض الاصناف التي امتاز الشعراء في وصفها وتصويرها حتى ان قارئ القصيدة يسلتهم جمالها وكانه يراها امامه, وقد استقراء الشعراء مجال البئة وتضاريسها ومعطيات الحيات الكونية فيها.
وسنستهل تلك الاصناف بمايلى:-
ــ الروضيات:
وهو الشعر المختص في الرياض وما يتصل بها.
سنستهل الكلام عن الروّضِيات بهذه الأبيات الرائعة للقاضي أبو الحسن بن زنباع التي يصف قصة الطبيعة وفعل السحاب والأمطار في الأرض التي تتسربل بعدهما بحلتها الجميلة فتتفتح أزهارها وتنضج ثمارها حيث قال(2)
أبدت لنا الأيامُ زهرة طيبها وتسربلت بنضيرها وقشيبها
واهتزعِطف الأرض بعد خشوعها وبدت بها النعماء بعد شحوبها
وتطلعت في عنفوان شبابها من بعد ما بلغت عتيَّ مشيبها
وقفت عليها السحبُ وقفة راحم فبكت لها بعيونها وقلوبها
فعجبتُ للأزهار كيف تضاحكت ببكائها وتبشرت بقطوبها
وتسربلت حللاً تجر ذيولها من لدمها فيها وشق جيوبها
فلقد أجاد المزن في إنجادها وأجاد حرُّ الشمس في تربيبها
وهذه أبيات جميلة للشاعر الوزير عبدا لله بن سماك والذي يقول فيها:
الروض مخضرٌ الربى متجملٌ للناظرين بأجمل الألوانِ
وكأنما بسطت هناك شوارها خودٌ زهت بقلائد العقيانِ
والطير تسجع في الغصون كأنما نقرُالقِيان حنت على العيدانِ
والماء مطَّردٌ يسيل لعابه كسلاسلٍ من فضةٍ وجمانِ
بهجات حسنٍ أُكملت فكأنها حسن اليقين وبهجة الإيمانِ
ــ الزهريات : الشعر المختص بالأزاهير .
وقد وصف الأندلسيون الأزهار وأكثروا في هذا النوع من الوصف فوصفوا الورد والنرجس والشقائق والنيلوفر والياسمين والقرنفل واللوز وغير ذلك مما وقعت عليه عيونهم في تلك الطبيعة الخلابة من زهريات وسنستعرض بعض
الأمثلة الجميلة التي قيلت في بعض منها,فهذا ابن حمديس يرثي باقة ورد أصابها الذبول فتحرق حزناً وأسى عليها فقال هذين البيتين
يا باقة في يميني بالردى ذبلت أذاب قلبي عليها الحزن والأسفُ
ألم تكوني لتاج الحسن جوهرةً لما غرقتِ،فهلاَّ صانك الصدفُ
وهذه أبيات في زهرة الياسمين للمعتضد بالله عباد بن محمد بن عباد يصفها مشبهاً إياها بكواكب مبيضة في السماء ويشبه الشعيرات الحمراء التي تنسرح في صفحتها بخد حسناء بدا ما بدا فيه من آثار فيقول:
أنما ياسـميننا الغضُّ كواكبٌ في السماء تبيضُّ
والطرق الحمر في جوانبه كخد حسناء مسه عضُّ
ويقول ابن حمديس في وصف النيلوفر:
ونيلوفرٍ أوراقه مستديرةٌ تفتَّح فيما بينهن له زهرُ
كما اعترضت خُضر التراس وبينها عواملُ أرماحٍ أسنَّتُها حُمرُ
هو ابن بلادي كاغترابي اغترابه كلانا عن الأوطان أزعجه الدهرُ
وهذه أبيات رقيقة جداً ومن أروع ما قيل في وصف الشقائق لابن الزقاق:
ورياض من الشقائق أضحى يتهادى بها نسيم الرياحِ
زرتها والغمام يجلد منها زهرات تروق لون الراح
قلت ما ذنبها ؟ فقال مجيباً سرقت حُمرةَ الخدودِ الملاح
وهذا أيضاً وصف بديع لشجرة لوز قاله أبو بكر بن بقي:
سطرٌ من اللوز في البستان قابل نيما زاد شيءٌ على شيءٍ ولا نقصا
كأنما كل غصنٍ كُمُّ جاريةٍ إذا النسيم ثنى أعطافه رقصا
وهذا وصف جذاب لزهرة ألأقاح للأسعد ابن إبراهيم بن بليطة ويقول:
أحبب بنور الأقاح نوَّاراعسجـــده في لجينــه حارا
أي عيون صُوِّرْنَ من ذهبرُكِّبَ فيها اللجينُ أشفارا
إذا رأى الناظرون بهجتها قالوا نجومٌ تحـــفُّ أقمارا
كأن ما اصفرَّ من مُوسِّطه عليلُ قومٍ أتوه زوارا
ــ الثمريات:-
الشعر المختص بالأثمار,والبقول,وما يتصل بها.
وصف الأندلسيين للثمرة نفسها فقد وصفوا التفاحة والسفرجل والرمانة والعنب وحتى الباذنجان !! وأبدعوا في ذلك كثيرا فقال أبو عثمان ألمصحفي وقد تأمل ثمرة السفرجل الأبيات التالية الرائعة المحبوكة في نسيج رائع, ولفظ رقيق ومعنى أنيق موشى بلوعة حب وشكوى صب رغم إنه شطح في آخرها قليلاً ( وزودها ) حتى نسي إن ما بين يديه ما هو إلا حبة من السفرجل!!ويقول:
ومصفرَّةٍ تختال في ثوب نرجس وتــعبق عن مسك زكيِّ التنفس
لها ريح محبوبٍ وقسوة قلــــــبه ولونُ محبٍ حُلَّةَ السُــقم مـكتسي
فصفرتها من صفرتي مستعارةٌ وأنفاسها في الطيب أنفاسُ مؤنسي
فلما استتمت في القضيب شبابها وحاكت لها الأنواء أبراد سندس
مددت يدي باللطف أبغي قطافها لأجعلها ريحانتي وسـط مجلسي
وكان لها ثوبٌ من الزغب أغبرٌ يرف على جسم من التـبر أملسِ
فلما تعرَّت في يدي من لباسها ولـــم تبق إلا في غلالة نرجسِ
ذكرتُ بها من لا أبوح بذكره فأذبلـــها في الكف حرّ تنفس
وهذا أحمد بن محمد بن فرح يقدم صورة بهية لثمرة الرمان فيقول:
ولابسة صدفاً أحمرا أتتك وقد ملئت جوهرا .
كأنك فاتح حُقٍّ لطيفٍت ضمَّن مرجانَه الأحمرا
وكذلك كأن للعنب نصيب عند شعراء الأندلس فقال فيه الشاعر أحمد بن الشقاق ما يلي:
عنب تطلَّع من حشى ورق لنا صُبغت غلائل جلده بالإثْمدِ
فكأنه من بينهن كواكبٌ كُسفت فلاحت في سماء زبرجدِ
ــ المائيات:
الشعر المختص بوصف الأنهار,والبرك, والسواقي.
كانت الأنهار الكثيرة الوفيرة المياه،وما يتشعب عنها من برك،وخلجان,وغدران،وما ينبت على شواطئها,من حدائق،ورياض،وما يصاحبها من ظواهر طبيعية كمد,وجزر,وفجر,ونهار,وليل,وشمس,وأصيل من مظاهر الطبيعة الخلابة في بلاد الأندلس؛وكانت أكبر المدن مثل قرطبة وأشبيلية وغرناطة تقع على تلك الأنهار,التي كانت ترفد الأرض بالخصب,والعطاء فاتخذ الأندلسيون من ضفافها مراتع للمتعة,واللهو,ومن صفحاتها ساحات تمرح عليها زوارقهم,وأشرعتهم,وهم في هذه وتلك يعزفون أعذب الألحان,ويتغنون باعذب الشعر وأرقه....
وهذه الأبيات الرائعة لابن حمديس في وصف بركة من الماء في أحد القصور وقد احتوت على تماثيل لأسود تقذف الماء من أفواهها...
ولعل لفن النقش والنحت والزخرفة الذي كأن سائداً آنذاك أثر كبير في جمال هذه الصورة التي رسمها الشاعر بكل براعة:
وضراغمٍ سكنت عرين رياسة ٍتركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشَّى النُّضارُ جسومَها وأذاب في أفواهها البلورا
أُسْدٌ كأن سكونها متحركٌ في النفس،لووجدت هناك مثيرا
وتذكَّرت فتكاتِها فكأنما أقْعت على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلولونها ناراً ،وألسنَها اللواحسَ نورا
فكأنما سَلَّت سيوفَ جداولٍ ذابت بلا نارٍ فعدُنَ خريرا
وكأنما نسج النسيمُ لمائهِ درعاً، فقدَّر سردَها تقديرا
وبديعة الثمرات تعبر نحوها عيناي بحرَ عجائبٍ مسجورا
شجريةٍ ذهبيةٍ نزعت إلى سحرٍ يؤثر في النُّهى تأثيرا
قد سَرَّحت أغصانَها فكأنما قبضت بهن من الفضاء طيورا
الأمثلة على وصف المائيات كثيرة جداً .
وتبقى الطبيعة وحدة متكاملة من الصعب تجزيئها والدارس لشعر الطبيعة عند الأندلسيين لا بد وإن يستغرب من هذا الكم الهائل من الأشعار التي قيلت في هذا المجال ولا أظن إن أمة من الأمم قد برعت في تصوير الطبيعة بمظاهرها وظواهرها المختلفة كما برع الأندلسيون.
الثلجيات:-
الشعر المختص في الثلج والبرد...
ننتقل الآن إلى الثلج الجميل الذي يكسو الأرض والسطوح والسفوح والأغصان العارية,بغلالة بيضاء نظيفة ناصعة وطاهرة,وكإنه قطن مندوف فيبعث في النفس بهجة ما لها مثيل, وعلى كل حال يبقى ما قيل في الثلجيات أقل مما قيل في الروضيات والمائيات حيث بدأ هذا النوع من الوصف متأخراً في بلاد الأندلس كمثيله في الشرق ومن الأبيات الرائعة التي قيلت في الثلج تلك التي قالها أبو جعفر بن سلام المعا فري المتوفى عام 550م وقال فيها:
ولم أر مثل الثلج في حسن منظر تقر به عينٌ وتشْنَؤه نفسُ
فنارٌ بلا نور يضيء له سناً وقطرٌ بلا ماءٍ يقلِّبه اللمسُ
وأصبح ثغر الأرض يفترُّ ضاحكا فقد ذاب خوفاً أن تقبِّله الشمس
وهذه أبيات للشاعر الرقيق ابن زمرك يمدح فيها السلطان ويصف الثلج في نفس الوقت فيقول:
يا من به رتب الإمارة تُعتلى ومعالمُ الفخر المشيدةُ تَبتنِي
ازجر بهذا الثلج حالاً إنه ثلج اليقين بنصر مولانا الغني
بسط البياض كرامة لقدومه وافترَّ ثغراً عن كرامة مُعتني
فالأرض جوهرةٌ تلوح لمعتلٍ والدوح مُزهِرةٌ تفوح لمجتني
سبحان من أعطى الوجود وجوده ليدل منه على الجواد المحسن
وبدائع الأكوان في إتقانها أثرٌ يشير إلى البديع المتقن
وهذه أبيات جميلة لابن خفاجة في وصف الثلج يقول فيها:
ألا فَضَلتْ ذيلَها ليلةٌ تجرُّ الربابَ بها هيدبا
وقد برقع الثلجُ وجهَ الثرى وألحف غصنَ النقا فاختبى
فشابت وراء قناع الظلام نواصي الغصون وهامُ الربى
وما دمنا نتحدث عن الثلج فلا بد من الإشارة إلى البَرَد أيضاً والذي كأن له نصيب في شعر الأندلسيين ومنهم عبد الجبار بن حمديس الصقلي الذي كتب قصيدة تزيد عن العشرين بيتاً وصف فيها السيول والغدران والبرق والروض وخصص بعض أبياتها للبرد فشبهه بدرر على نحور فتيات حسان أو بلؤلؤ أصدافه سحاب أو بدموع تتساقط من السحاب وغير ذلك من الصور المألوفة وغير المألوفة ويقول فيها:
نثر الجوُّ على الأرض بَرَدْ أي درٍ لنحورٍ لو جمدْ
لؤلؤٌ أصدافه السحْب التي أنجز البارق منها ما وعدْ
ذوَّبتْهُ من سماء أدمعٌ فوق أرض تتلقَّاه نَجَدْ
وهذان بيتان جميلان في وصف البرد وهو يتساقط من السماء والريح تعبث به فتبعثره قالها أبو بكر عبد المعطي بن محمد بن المعين:
كأن الهواء غديرٌ جَــمَد بحيث البرود تذيب البَرَدْ
خيوطٌ وقد عُقدت في الهوا وراحةُ ريحٍ تحل العُقد
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
وهذه الأصناف التي صنفها علما الأدب ,لتمثيل وليست للحصر وإنما لوضع منهج لشعر الطبيعة وتقسيمات يمكن من خلالها تسهيل دراسة الشعر
رواد شعر الطبيعة في الأندلس:
إن "شعر الطبيعة" كمصطلح تعبير جديد في أدبنا، لكن "شعر الطبيعة" كظاهرة وغرض وفن، موجود في الشعر العربي من قديم، لكن الجديد الذي أدخله الغربيون هو المصطلح فقط؛ فـ"شعر الطبيعة" تعبير جديد في أدبنا، أطلقه الغربيون على الشعر الذي كان من أهم مظاهر الحركة الإبداعية الرومانسية في أواخر القرن الثامن عشر، وقد وجد الشعراء في الطبيعة تربةً خصبةً لنمو العواطف الإنسانية، وواحة للنفوس المتعبة القلقة، وشعر الطبيعة في فجره عند العرب كان صورةً لما تراه العين، أكثر من كونه مشاركةً للعواطف التي توحي بها الطبيعة، وانفعالًا ذاتيًّا للشعور.
وفي ظلال العباسيين استطاع بعض فحول الشعر أن يضيفوا إلى الأوصاف المادية للطبيعة حسًّا وذوقًا؛ فائتلفوا معها -أي: مع الطبيعة- واستغرقوا في نشوة جمالها، وبادلوها عاطفةً بعاطفة وحبًّا بحب، ومن هؤلاء الشعراء العباسيين، الذين أضافوا إلى الأوصاف المادية حسًّا وذوقًا: "أبو تمام" و"البحتري" و"ابن الرومي" و"ابن المعتز" و"الصنوبري
و من رواد شعر الطبيعة في الأندلس الشاعر (ابن خفاجة), و قد قال في الجبل حين راح يتأمله و يفضي اليه:
وأرعن طماح الذؤابة بازخ يطاول أعنان السماء بغارب
وقور على ظهر الفلاة كأنه طوال الليالي مفكر في العواقب
أصغت إليه وهو أخرس صامتٌ فحدثني ليل الثرى بالعجائب
وقال: ألا كم كنت ملجأ قاتلٍ وموطن أواهٍ تبتل تائب
وقال بظلي..... وكم مر بي من مدلج ومأوب
"قال" هنا من القيلولة وليست من القول. "قال بظلي": أي من القيلولة، وقت الظهيرة، النوم وقت الظهيرة، أو الاستراحة وقت الظهيرة.
وكم مر بي من مدلج ومأوب وقال بظلي من مطي وراكب
فأسمعني من وعظه كل عبرةٍ يتجرمها عنه لسان التجارب
فسلى بما أبكى وسر بما شجى وكان على ليل الثرى خير صاحب
قد كان "ابن خفاجة" بارعًا في تصوير هذا الجبل الأخرس، ومزج مشاعره به، مما جعل الصور التي عرضها له نابضةً حية، تثير فينا شتى الخواطر والتأولات، بيد أن مجنون ليلى "قيسًا العامري" قد سبق "ابن خفاجة" بالحديث إلى جبل التوباد، يقول:
وأجهشت للتوباد حين رأيته وكبر للرحمن حين رآني
فقلت له أين الذين عهدتهم حواليك في خصب وطيب زمان
فقال مضوا واستودعوني بلادهم ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
ولو قارنا بين ما قال "قيس العامري" وما قال "ابن خفاجة الأندلسي" لوجدنا "ابن خفاجة" في هذه القصيدة قد استكمل جوانب الصورة العامة للجبل، وافتن في تشخيصه، وجعله ينفعل بمختلف الأحاسيس والخواطر والأفكار، إلى جانب ما في تصوير "ابن خفاجة" من تحليل واستقصاء، وإكثارٍ من الصور الخيالية، هذا ما تعهده حين تتأمل قول "ابن خفاجة" تجد الصورة العامة للجبل مستكملة الجوانب؛ لقد افتن الرجل في تشخيص الجبل وتصويره، وجعله كذلك ولذلك ينفعل بمختلف الأحاسيس والخواطر والأفكار، ووجدنا ما في تصوير "ابن خفاجة" من التحليل والاستقصاء، وإكثار الرجل من الصور الخيالية، بينما وجدنا قول "العامري" مجرد خطرة عابرة، لو وقف عندها "ابن خفاجة" ما بلغ هذا النفاذ، وما جاءت قصيدة الجبل عند "ابن خفاجة" نسقًا شعريًّا متكاملًا ذا شعابٍ وأفانين، لقد تألق الأندلسيون في هذا الروض الإبداعي -وهذا شيء يذكر لهم- حين رأيناهم يمزجون في شعر الطبيعة بين الطبيعة والحب، ورأوا في مظاهر الطبيعة صفات من يحبون، واتخذوا من مباهج الطبيعة أداة للتذكر، على غرار ما جاء في قول "المالقي" في جارية تدعى "حسن الورد":
تذكرت بالورد حسن الورد منبته حسنً وطيبًا وعهدًا غير مضمون
هيفاء لو بعت أيامي لرؤيتها بساعة لم أكن فيها بمغبون
كالبدر ركبه في الغصن خالقه فما ترى حين تبدو غير مفتون
"ابن هزي الأندلسي" يقول مصورًا مشاعره الإنسانية في حضن الطبيعة، التي حركتها في نفسه الولهة، في نغمة موحية بالانفعال والتفاعل والحيوية:
هبت لنا ريح الصبا فتعانقت فذكرت جيدك في العناق وجيد
وإذا تألف في أعاليها الندى مالت بأعناق ولطف قدود
وإذا التقت بالريح لم تبصر بها إلا خدودًا تلتقي بخدود
فكأن عذرة بينها تحكي لنا صفة الخلود وحالة المعمود
تيجانها طلٌّ وفي أعناقها منه نظام قلائدٍ وعقود
أما ابن زيدون فهو أهم شاعر وجداني في الأندلس
وهو أول من اعتصر فؤاده شعرًا فيه جوًى وحرقة وهوى ولوعة، وتلوح لأولي البصر عبقريته الفذة ونضجه الشعري بعد أن صهرته محنة السجن، وعذاب الصدود والهجر، فكانت تجربته الشعرية عصارة نفس متألمة أو صرخة إنسانية لهيفة ارتفعت بتجربة الشعر على جناح الطبيعة إلى مستوًى فنيًّ رفيع، وقد عرفنا إن مجال إبداع الأندلسيين في هذا المجال أنهم مزجوا بين الطبيعة والحب، هذه الصرخة الإنسانية اللهيفة عند "ابن زيدون" ارتفعت بتجربة الحب على جناح الطبيعة إلى مستوًى فني رفيع، لم نعهده في أدب المشرق وقتذاك، فتجربة ابن زيدون تجربة نفسية وجدانية متكاملة، تكاد ترى نفس "ابن زيدون" ذائبة في حواشيها حسرة وشوقًا، على أنه من أروع ما وفق إليه شاعر الأندلس الملهم براعته الفائقة في تشخيص مظاهر الطبيعة، وتحولها على يديه إلى أحياء ينفعلون ويتحركون على مسرح الفن الشعري، فهي -أي الطبيعة- في خياله وحضوره العاطفي المتوهج تنبض بالحياة، وتفيض بالمشاعر، بل وتشاركه آلامه وآماله في مشاركة وجدانية رائعة، وتلاحم عاطفي أكثر روعة ندر في شعر المشارقة وقلّ في شعر الأندلسيين، وقصيدته القافية تؤكد هذا الجانب الإبداعي عند "ابن زيدون" والتي منها:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاق والأُفق طلقٌ ووجه الأرض قد راق
وللنسيم اعتلال في أصائله كأنه رقّ لي فاعتل إشفاق
والروض عن مائه الفضي مبتسم كما شققت عن اللبات أطواق
إنها رسالة أو صرخة إنسانية لهيفة، بعث بها على جناح الطبيعة إلى "ولادة بنت المستكفي":
والروض عن مائه الفضي مبتسم كما شققت عن اللبات أطواق
يوم كأيام لذات لنا انصرمت بتنا لها حين نام الدهر سُراق
نلهو بما يستميل العين من زهر جال الندى فيه حتى مال أعناق
كأن أعينه إذ عاينت أرقي بكت لما بي فجال الدمع رقراق
ورد تألق في ضاحي منابته فازداد منه الضحى في العين إشراق
سرى ينافحه نيلوفر عبق وسنان نبه منه الصبح أحداق
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا إليك لم يعد عنه الصبر أن ضاق
لا سكن الله قلبًا عنّ ذكركم فلم يطر بجناح الشوق خفاق
لو شاء حملي نسيم الصبح حين سرى وافاكم بفتى أضناه ما لاق
لقد كان "ابن زيدون" بهذه الخاصية الإبداعية رائدًا إلى الشعر الرومانسي في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، والذي عرفته الآداب الأوربية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، فابن زيدون بوصف الطبيعة من خلال نوازعه العاطفية وأشجان حبه الذاتية يمثل خطوة رائدة في أدب الطبيعة عند العرب، ويعد مظهرًا من أبرز مظاهر التجديد في شعر الطبيعة الأندلسي، بل يمكننا أن نعتبر ابن زيدون مصدرًا عربيًّا عريقًا للأدب العالمي في الاتجاه نحو الطبيعة، وتوظيفها في الفن الشعري بعامة والنسيب منه بخاصة، ولا نقول ذلك رجمًا بالغيب، أو تعصبًا لأبناء جلدتنا من العرب، أو حميةً لأبناء عقيدتنا من المسلمين، بل هو استنتاج ورأي نشفعه بالدليل، أليس تمثل الطبيعة والاندماج فيها وتقمصها تقمصًا وجدانيًّا في الشعر الغنائي، الذي رأينا أنموذجه عند "ابن زيدون" في القرن الحادي عشر الميلادي هو ما أراده النقد الأدبي الرومانسي في أوربا بعد ذلك في القرن التاسع عشر عند حديثه عن أثر الطبيعة ودورها الفاعل في الأدب والإبداع الفني؟
لمعرفة المزيد https://www.liilas.com/vb3/t72149.html#ixzz1sCgbceV5