"طالما أُعْجِبْتُ ببيتين للشاعر الجاهلي ( امرئ القيس ) لما فيهما من العِبَرِ والفوائدِ الشيءُ الكثير، وسَنُعْمِلُ اليراعَ في فائدتين لا ثالثَ لهما؛
الأُولى : ( منهجِيَّةٌ ) في حياة كل صاحب مبدأ وصاحب دعوة في هذه الحياة الدنيا ...
الثانية
لُغَويةٌ ) صرفةٌ تُبينُ لنا مدى ابتعادنا عن موروثنا الأدبي .
والبيتان هما :
بَكَى صاحبي لَمَّا رأى الدَّرْبَ دُوْنَهُ
وأَيْقَنَ أَنَّا لاحِقانِ بِقَيْصَرا.
فقلتُ له : لا تبكِ عينُكَ إنَّما
نحاولُ مُلْكَاً أو نموتَ فَنُعْذَرا.
وحتى نزدادَ فهماً لهذين البيتين ، لزاماً أن نتعرفَ الى مناسبةِ القصيدة التي من ضمنها هذان البيتان.
كان أبو شاعرِنا ملكاً على بعض قبائل العرب ومن هذه القبائل ( بنو أُسْدٍ ) فقام بنو أسد بقتل أبي إمرئ القيس؛ فاستنجد شاعرُنا بقيصر ملك الروم وكان برفقة الشاعر رجلٌ يُدْعى ( عمرو بن قَمِئَة ) ..
فلمَّا وصلا الى مشارف بلاد الروم ( الشام ) بكى عمرو بن قمئة خشيةَ أن يموتَ في بلاد الغربة بعيداً عن دياره وقومه ، فلما رأى شاعرُنا بكاءَ صديقه ورفيقه قال هذين البيتين.
فعوداً إلى الفائدتين ولنبدأ بالفائدة المنهجية أولاً:
لقد سعى إمرؤ القيس الى هدفٍ هو وصديقُهُ، وهذا الهدف هو استرجاع مُلْكِ أبيه، والثأر من بني أسد، وأثناءَ المسير رأى دموعَ صديقِهِ ولكن لم يُثْنِهِ ذلك عن متابعَةِ السعي لهدفه الذي خرج من أجلِهِ بل أقنَعَ صديقَهُ عَمْرَاً بأنَّ الانسانَ في هذه الدنيا إمَّا أنْ يُحَقِّقَ هدفَه ومبدأهُ أو يموتَ من أجلِ هذا المبدأ والهدف، فانَّ الموتَ في سبيل الهدف والمبدأ عذرٌ وأيُّ عُذْزٍ
فَلَخَّصَ شاعرُنا ما شرحناه بقولته الجميله الرائعة : (( ... أو نموتَ فَنُعْذَرا )) !
وكم سمعتُ هذين البيتين من العلامة المحدث ( محمد ناصر الدين الألباني ) رحمه الله؛ وكان يقول أحيانا: (( قلْ كلمتَكَ وامضِ ))
لأنك لا تدري متى تُثْمِرُ في قلوبِ الناس ، فكم من عالمٍ عاش ولم يرَ ثمرةَ جهودِهِ ولكنَّ جهودَهُ كانتْ بذوراً كامنةً فلمَّا غادر الدنيا أينَعَتْ وآتَتْ وُكُلَها ، فهذا الإمام ابن تيمية - رحمه الله - حاربَه علماءُ زمانه ولكن بعد رَدْحٍ من الزمن أظهرَ اللهُ عُلُوْمَهُ حتى أصبح أهلُ العلمِ عالةً عليه بَلْهَ عوامَ الناس ِ .
أمَّا الفائدة اللغوية فإنَّ كثيراً من مثقفينا يَظُنُّ أنَّ كلمةَ ( الدَّرْبَ ) هي الطريق وهذا يرُدُّه قولُ شاعرنا وهو حُجَّةٌ في اللغة فمعنى ( الدَّرْب ) في شعر شاعرنا : (الثُّغُوْرُ ) اي الحدود التي تَفْصِلُ بين بلادِ العرب وبلادِ الرومِ ...
ومما يؤيدُ ذلك قولُ ليلى الأخيلية ترثي ( تَوْبَةَ بن الحُمَيِّر ) :
ولكنَّما أخْشَى عليهِ قبيلةً ... لها ( بدُرُوْبِ ) الرومِ بادٍ وحاضرُ
فهذا نَصٌّ من ليلى الأخيلية أنَّ الدَّرْبَ هو ( الحد ) الفاصل بين ديار العرب وديار الروم .
ومِمَّا يؤيد ذلك - أيضا - قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح الذي صَحَّحَهُ العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة ( 4 / 642 ) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( غَشِيَتْكم الفتنُ كقطعِ الليلِ المظلمِ ، أَنْجى الناسِ فيه رجلٌ صاحبِ شاهقٍ يأْكُلُ من رِسْلِ غَنَمِهِ ، أو رجلٌ آخِذٌ بِعِنانِ فرسِهِ من وراءِ ( الدَّرْبِ ) يأكُلُ من سيفِه ) .
فكلمة ( الدَّرْبِ ) في الحديث بمعنى ( الثُّغُوْرِ ) الفاصلة بين المسلمين والأعداءِ .......فهو رجلٌ يركبُ فرسَه مجاهداً في سبيل الله وحامياً لبيضة المسلمين في وجه العدو."