الصبر قلعة حصينة لا يقتحمها جيش، ولا يدخلها عدو، والصبر جُنّة حصينة لا ينفذها سهم، ولا يلجها نبل. الصبر مجاهدة الإحباط، ومراغمة الفشل، ومنازلة الخطوب. الصبر قبض على الجمر، وستر للجرح، وكتمان للمصيبة، وتنسم للهواء، الصبر زاد لا ينفد، ومعين لا ينضب، وصاحب لا يمل.
لا يُعالج خور الطبيعة إلا بالصبر، ولا يُضَمّدُ جرح النفس إلا بالصبر، إن الصبر مسلاة للهموم، ومسرّة للمغموم، وروح للمنهك، وعزاء للمصاب.
إذا كان معك الصبر فلا عليك من عدَدِ العدو وعتاده، ولا مِنْ ناره وزناده، وتلق الخطوب الكوالح وأنت ضاحك، وصارع النكباتِ الدّهم وأنت باسم:
تنكر لي خصمي ولم يدْرِ أننـي أعزُّ وأحـداث الزمـان تهـونُ
فبات يريني الخصم كيف عتـوه وبتُّ أريه الصبـرَ كيف يكـونُ
من أضجَّت قلبه الأزمات فدواؤه الصبر، ومن أدمت عينيه النكبات فضمادها الصبر. تأتي الكربات ظلمات بعضها فوق بعض عاصفة ناسفة قاصفة فيأتي الصبر فيكشحها. يتألف الحساد والشّامتون على المصاب المنكوب فيطوف عليهم طائف من الصبر فإذا هو يلقف ما يأفكون.
يومَ لا قريب يواسي، ولا صديق يعزّي، ولا صاحب يتفجّع، ينوب الصبر عن الجميع، ويتكلم بلسان الكل، ويؤدِّي واجب الصحبة والقرابة.
والصبر الجميل لا شكوى فيه فلا يخدش وجه محاسنه اعتراض ولا يلثم تاجه تسخط.
والصبر الجميل سكون للقضاء، واطمئنان للعاقبة، وانتظار للفرج، واحتساب للأجر.
وقد يقعُ الصبرُ ولكن لا يكون جميلاً، فلا يكتم صاحبه شكوى، ولا يسر حديثاً، ولا يدع معاتَبة.
الصبر غير الجميل تحمّلٌ مع أنين، وتجلدٌ مع تكلّف، وتصبّرٌ بلا تجمّل.
ولكن الصبر الجميل هو حِملُ المصيبة بصمت، وتلقِّي الفاجعة بسكون، وتقبُّل الصدمة برضا.
لا يجد الشامت دليلاً على المصاب يُدانُ به، ولا يرى الحاسد أثراً للنكبة على المنكوب، فيرقص طَرَباً.
ومما يعين على الصّبر الجميل: اعتقاد فساد الحيلة في دفع القدَر، وصحة العاقبة لمن احتسب وصبَرَ، والنظر فيما بقي من الخلف في النفس والولد والدين والمال، ومشاهدة خيام أهل البلاء، ومطالعة أدوية المصابين، ففي كل وادٍ بنو سعد، وما خلت جيبة من مصيبة، ومع كل فرح ترح، وعند الحبرة عبرة (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى) ومن شاء أن يطالع دفتر الخليقةِ منذ النشأة ليرى النكبات تترى، والمصائب تتساقط، ما بين مقتول ومخذول، ومعزول ومبتول، وما بين صائح ونائح، وطائح وغريق، وحريق وسحيق، دول زالت، ملوك ذلّت، قصور هوَت، جيوش أبيدت، قرون سلفت، حدائق ذبُلت، دورٌ خلتْ، مُهجٌ ذهبت، (هل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزا) (مريم).
قال وزير شهير خطير كبير، عُزِل، ثم صُودِرَ، ثم حُوسِبَ، ثُمَّ سُجِنَ، ثم قُتِلْ، فلمَّا خرجوا به إلى ساحة الإعدام، تبسَّم ثم أنشد:
فمن كان عنـي سـائلاً بشـماتةٍ ومن كان عنِّي شامتاً غير سـائلِ
فقد أظهرتْ مني الخطوب ابن حرة صبـوراً على أهوال تلك الزلازل
الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فمن لا رأسَ له لا جسدَ له، ومن لا صبر له لا إيمان له.
هذا شاعر يفجع بأبنائه السبعة يموتون مرة واحدة فيطعن سبع طعنات نجلاء ولكنّه يراجع الصبر ويثوب إلى الرشد، ويترنّم: :
وتجلـدي للشّـَامتين أريهـمُ أنّي لريبِ الدهرِ لا أتضعضعُ
فهو الصمود والإصرار، والإباء والتحدِّي للشامتين، وإظهار التجمل والسرور بالمقدور، والرضا بالقضاء، والتسليم للعزيز الحكيم.
الطاعة لابد لها من صبر لتكون تماماً على الذي أحسن، فبالصبر يحسن أداؤها ويعظم إخلاصها، ويتجلَّى صدقها، وبعدم الصبر تكون جسماً بلا روح، وصورة بلا مضمون، وألفاظاً بلا معانٍ.
المعصيةُ لا تُقاوَمُ إلا بالصبر لئلا تضعف النفس، ويخور القلب، وتقع الواقعة.
فبالصبر لا تجد المعصية إلى القلب سبيلاً، ولا تقيم على خسّة الطبع دليلاً، بل تعود المعصية من حيث أتت، فينهزم شيطانُها المريد، ويخسأ إبليسها العنيد، وبعدم الصبر تقع النفس في وضر الخطيئة، وتتدنّس الروح بأوحال الذنب، لأن النفس هزمت في مصاف المحاربة، وأسرت في فيلق المطالبة.
المصيبة لا تواجه إلا بصبر لتخفّ الوطأة، وتسهل الرزيّة، إذا عُدِمَ الصبر صارت المصيبة مصيبتين، والنكبة نكبتين، وإذا عدم الصبر زلزلت النفس زلزالها، وصاح نذير الهلع مالها؟!
وإذا حصل الصبر حلَّ الأجر، ونبل الذكر، وانشرح الصدر، ويوم يحضر الصبر مع المصيبة، تصبح الخسائر أرباحاً، والمغارم مغانماً، والأتراح أفراحاً.
الشيخ عائض القرني