مصطفى هميسي.....الخبر اليومي 04/09/2012
عندما يفرض أي حاكم النفاق والرياء بديلا للكفاءة وبديلا للذكاء، وعندما يُفرض النفاق نظاما وحيدا لكل ترقية أو تولي مسؤولية، وعندما يكون ذلك مصحوبا بالجهوية المقيتة الفاسدة والمفسدة، عندها يصير الزمن كله مطبوعا بطابع النفاق.
ينبغي القول إن النفاق موجود في كل العصور، بدرجات متفاوتة، غير أنه صار اليوم شبه قاعدة، إنه عنصر من منظومة تقوم على الولاء للفرد أو العصبة المصلحية، ومن لا يمارس التملق العلني الواضح، مهما كانت كفاءته وذكاؤه ومهما كانت قدراته الأكاديمية، يعتبر معارضا أو متمرّدا، وربما عدوّا مبينا.
إن تملق المسؤول، وأحيانا بشكل فاضح واستفزازي، كما يفعل بعض الوزراء في حديثهم عن ''فخامة الرئيس'' وتوجيهاته، مسألة تعكس حالا مشجعا على النفاق والتملق. هذا لا يمكن أن يكون ولا يمكن أن يستفحل، إلا إذا كان المسؤول طالبا ومحبّذا له. ويحدث ذلك بالخصوص عندما يعتقد المسؤول، رئيسا كان أو وزيرا أو غير ذلك، أنه الأذكى والأقدر، ولا يمكن لأحد أن ''يتطاول'' على قدراته الخارقة للعادة. هذا هو المرض الأصلي الذي يستدرج أمراضا أخرى مثل النفاق.
لكن الكارثة، كما يقول الكواكبي في ''طبائع الاستبداد''، هي ''.. إذا كان كبار الأمة قد ألفوا النفاق والرياء مرضاة للمستبد.. فعامة الناس سيألفونه أيضا.. حتى يضطر أكثـر الناس إلى إباحة الكذب والتحايل والخداع والنفاق والتذلل وإهانة النفس.. فيصبح من القيم المعترف بها: اعتبار التصاغر أدبا، والتذلل لطفا، والتملق فصاحة، وترك الحقوق سماحة، وقبول حرية القول وقاحة، وحرية الفكر كفرا..''.
اليوم، يكاد النفاق يصبح قاعدة للعلاقة بين المسؤولين ومساعديهم، بل ومعارفهم، وقاعدة في العمل الذي يسمى سياسيا.
إن من يستخدم ''التملق'' و''النفاق'' قد ينطلق في الواقع من إخفاء ضعف فيه أو إخفاء فساد أو انحراف، وقد ينطلق من اتقاء شرّ بِشرّ. ويعكس ذلك كون سلطة المسؤول لا يحدّها قانون ولا سلطة أخرى ولا أخلاق.
لهذا، ليس مطلوبا اليوم من ''النخب'' تعريض نفسها لـ''مخاطر'' فقط، بممارسة النقد تجاه كل من يمارس مسؤولية، بل مطلوب منها أن تضحي من أجل علاج هذه الأمراض.
ويبدو لي أن مسؤولية النخبة العاملة في المجال الديني أكبر من مسؤولية باقي النخب في هذا النفاق، تجاه السلطة والحكام. وتأتي بعدها ''النخب'' التي تسمى سياسية، ثم بعدها العاملون في مجال الدفاع عن حقوق الناس، من جمعيات حقوقية ونقابية. وإذا ''مات'' كل هؤلاء أو كانوا من الممارسين للنفاق والرياء والتملق الفج، فعندها نقول إن المرض عميق. وعندها، لابد من التغيير، فالمجتمع في خطر، وسلطته صارت مريضة ولا شفاء لها أو منها.
إن ارتباط ظاهرة النفاق والرياء واستفحالها باستفحال الفساد المالي والثـراء السريع والفاحش، وانتشار الرشوة العلنية وملاحظة عجز السلطة أو كونها ـ على الأقل بعضها ولكن البعض الغالب ـ طرفا في هذا الفساد، يعني أننا نعيش بداية انهيار قيمي وسياسي.
عن أي انتخابات يمكن الحديث، وعن أي ساحة سياسية، وأي حكومة ستطلع من ''كم الساحر'' في زمن النفاق وطغيان ''العملة الرديئة''؟!
لا أعتقد أن شيئا يمكن انتظاره في هذا الزمن ومنه، فهو زمن النفاق وغياب السياسة، وزمن المليارات الثقيلة التي تسحق كل ما/ومن يقف في وجهها، من بقايا أخلاق أو بقايا رجال أو بقايا نخب.
زمنك، أيها الرئيس، هو هذا الزمن وهذه هي ملامحه الطاغية. وتلك نتائج ''إصلاحاتك!''، ونتائج تعديلك الدستور، وتلك نتائج سياساتك وسكوتك عمن أوهمتنا أنك تعارضهم وأنت في أول عهدة لك، فجعلت زماننا هذا الزمن. لا مجلس، لا حكومة، لا سياسة، لا أحزاب، على كثـرة التشكيلات، ولا رجال ولا نخب ولا مواقف. ثـروة البلاد تبدّد وتنهب علنا، والنفاق صار هو العملة التي طردت كل عملة أخرى. لأن العملة الرديئة، أيها الرئيس، تطرد دائما وأبدا العملة الجيّدة من السوق. فإلى متى سيطول زمن '' تداول'' العملة الرديئة المنافقة؟!