|
فقه المرأة المسلمة في ضوء الكتاب والسنّة |
في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
🕋☼◄[[ ملف خاص بفتاوى الحج ... ]]►☼ 🕋
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
2016-08-24, 16:52 | رقم المشاركة : 121 | ||||
|
- الحجُّ ومكانة العلماء إنَّ من الدروس الرائعة التي تظهر لكلِّ متبصِّر في الحج مكانةَ العلماء ورفعةَ مقامهم وعلوَّ قدرهم وسُموَّ منزلتهم، فترى الحجيج يسألون عنهم ويَبحثون عن أماكنهم، ويحرصون على التفقُّه عليهم ويطرحون عليهم سؤالاتهم في أمور الحجِّ وغيره، ويغتبطون بسماع أجوبتهم وتوجيهاتهم ونصائحهم.ولا ريب في رفعة مكانة العلماء؛ إذ هم في الخير قادة، تُقتصُّ آثارُهم، ويُقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، تضع الملائكةُ أجنحتها لهم رضاً بصنيعهم، ويستغفر لهم كلُّ رطب ويابس، حتى الحيتانُ في الماء، بلغ بهم علمُهم منازلَ الأخيار ودرجات المتَّقين الأبرار، فسَمَت به منزلتهم وعلت مكانتهم وعظُمَ شأنهم وقدرهم، كما قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}(1)، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(2). وبجميل نصحهم وحسن توجيههم وتمام بيانهم يعرفُ الناسُ الحلالَ من الحرام، والهدى من الضلال، والحقَّ من الباطل، قال العلاَّمة الإمام أبو بكر الآجري ـ رحمه الله ـ وهو يتحدَّث عن مكانة العلماء: (( فضَّلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كلِّ زمان وأوان، رفعهم الله بالعلم وزيَّنهم بالحلم، بهم يُعرف الحلالُ من الحرام، والحقُّ من الباطل، والضارُّ من النافع، والحَسَنُ من القبيح، فضلُهم عظيم، وخطرهم جزيل، ورثةُ الأنبياء وقرَّةُ عين الأولياء، الحيتانُ في البحار لهم تستغفر، والملائكةُ بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع، مجالسهم تفيد الحكمة، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة، هم أفضلُ من العُبَّاد وأعلى درجة من الزُّهَّاد، حياتُهم غنيمة وموتهم مصيبة، يذكِّرون الغافلَ ويُعلِّمون الجاهل، لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة ... )) إلى أن قال رحمه الله: (( فهم سراجُ العباد ومنار البلاد وقوام الأمَّة وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحقِّ، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وإذا انطمست النجوم تحيَّروا، وإذا أسفر عنها الظلامُ أبصروا )) (3). اهـ. وإذا كان أهل العلم بهذه المنزلة الرفيعة والدرجة العالية المنيفة، فإنََّّ الواجبَ على مَن سواهم أن يحفظَ لهم قدرَهم ويعرف لهم مكانتهم وينزلهم منازلهم، قال صلى الله عليه وسلم : (( ليس من أمَّتي مَن لم يُجلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقَّه ))(4)، وقال صلى الله عليه وسلم : (( أنزلوا الناسَ منازلهم ))(5). فلا بدََّّ من معرفة منزلة العلماء وحفظ حقوقهم؛ حيِّهم وميِّتهم شاهدهم وغائبهم، بالقلوب حبًّا واحتراماً، وباللسان مدحاً وثناءً، مع الحرص على التزوُّد من علومهم والإفادة من معارفهم، والتأدُّب بآدابهم وأخلاقهم، والبعد عن النَّيل منهم، أو اللَّمز لهم، أو الوقيعة فيهم، فإنَّ ذلك من أعظم الإثم وأشدِّ اللُّؤم. إنَّ العلماءَ هم القادةُ لسفينة النجاة، والروادُ لساحل الأمان والهداةُ في دياجر الظلام {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }(6). وهم حجَّة الله في الأرض، وهم أعلمُ بما يُصلحُ المسلمين في دنياهم وأخراهم؛ لِمَا آتاهم الله من العلم، ولِمَا حباهم به من الفقه والفهم، فهم عن علم ثاقب يُفتون، وببصر نافذ يقرِّرون، وعن نظر بصير يحكمون، لا يُلقون الأحكام جُزافاً، ولا يصدعون صفوف المسلمين فتاً وإرجافاً، ولا يبتدرون إلى الفتاوى دون تحقيق وتدقيق تهاوناً وإسرافاً، ولا يكتمون الحقَّ عن الناس غمطاً لهم أو تكبُّراً واستنكافاً. ولهذا أمر الله بالردِّ إليهم دون سواهم وسؤالهم دون غيرهم، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(7)، وقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(8)، وهذا فيه تأديبٌ للمؤمنين بأنَّه ينبغي لهم إذا جاءهم أمرٌ من الأمور المهمَّة والمصالح العامة مِمَّا يتعلَّق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبَّتوا ولا يستعجلوا، وأن يردُّوا ذلك إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ العلم والنُّصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدَّها، فمَن صدر عن رأيهم سلم، ومن افتات عليهم تضرَّر وأثِم. وإنَّ من علامات الضياع البعدَ عن العلماء الراسخين، وتركَ التعويل على فتاوى الأئمَّة المحقِّقين، ونزعَ الثقة بالفقهاء المدقِّقين. وحين تفقد الأمَّةُ الثقة بالعلماء يُصبح شأنُها كأناس في صحراء قاحلة بلا قائد ناصح يقودهم ولا هادٍ خرِّيت يدلُّهم، فيؤول أمرُهم إلى العَطَب، وتكون نهايتُهم إلى التَّلَف. فالعلماء هم الذين لهم الصدارةُ في دعوة الأمََّّة وتوجيه مسارها وإرشاد يقظتها، وإن لم يكن الأمر كذلك اتَّخذ الناسُ رؤساءَ جُهَّالاً فأفتوهم بغير علم ودلُّوهم بغير فهم، وحينئذ يحلُّ الوهَن ويعظم الخَلَل وتغرق السفينة. قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (( عليكم بالعلم قبل أن يُقبض، وقبضُه بذهاب أهله، عليكم بالعلم فإنَّ أحدَكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواماً يزعمون أنَّهم يدعون إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، وإيَّاكم والتبدُّع والتنطُّع والتعمُّق، وعليكم بالعتيق )) (9). فلعلَّك أيُّها الحاجُّ الموفَّق وأنت ترى حرصَ الناس على الإفادة من العلماء في أحكام الحجِّ، وحرصهم على سؤالهم والإفادة من علومهم تُدرك فضيلةَ العلماء وحاجةَ الأمَّة إليهم وإلى علومهم وأهميَّة سؤالهم والاستفادة منهم في جميع أمور الدِّين، وكما أنَّك تستفيد من العلماء في أحكام الحجِّ وتستفتيهم عمَّا يُشكل عليك منها فلتستفد منهم ولتستفتهم في صلاتك وصيامك وزكاتك، وجميع أمور الدِّين؛ لتعبدَ الله على نور وبصيرة. ونسأل الله الكريم أن يُبارك في علمائنا، وأن يُوفِّقنا لحسن الاستفادة منهم، وأن يجزيهم عنَّا وعن المسلمين خير الجزاء، إنَّه سميعٌ مجيب. * * * ------------------- (1) سورة المجادلة، الآية: 11. (2) سورة الزمر، الآية: 9. (3) أخلاق العلماء (ص:13 ـ 14). (4) المسند (22755)، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (5444). (5) سنن أبي داود (4842). (6) سورة السجدة، الآية: 24. (7) سورة النحل، الآية: 43. (8) سورة النساء، الآية: 83. (9) سنن الدارمي (143). https://al-badr.net/
|
||||
2016-08-24, 17:04 | رقم المشاركة : 122 | |||
|
- لباس الإحرام والتذكير بالأكفان إنَّ عِبَرَ الحجِّ وفوائدَه لا تُحصَى، وكم فيه من الدروس النافعة والعِظات المؤثِّرة، ومن عظات الحجِّ وعبَره أنَّ المسلمَ إذا وصل إلى الميقات الذي وقَّته رسول الله صلى الله عليه وسلم للإحرام تجرَّد من ثيابه ولبس إزاراً على نصفه الأسفل، ورداءاً على نصفه الأعلى مِمَّا دون الرأس، وفي هذه الهيئة من اللباس يستوي الحُجَّاج، لا فرق بين الغنيِّ والفقير والرئيس والمرؤوس، وتساويهم في هذا اللباس يذكِّرُ بتساويهم جميعاً في لباس الأكفان بعد الموت، فإنَّ الكلَّ يُجَرَّدون من ملابسهم ويلفُّون بلفائف بيضاء لا فرق فيها بين غنيٍّ وفقير.روى الإمام أحمد في مسنده عن سمُرة بن جندب رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (( البسوا الثياب البيض، فإنَّها أطهرُ وأطيبُ، وكفِّنوا فيها موتاكم )) (1). ولَمَّا مات سيِّدُ ولد آدم صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض من القطن ليس فيها قميص ولا عمامة، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: (( أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب يمانيَّة بيض سَحوليَّة من كُرْسُف، ليس فيهنَّ قميصٌ ولا عمامة )) (2). وكلُّ مَن مات فهذا شأنه؛ يُغسَّل ويُجرَّد من ملابسه، ويُلفُّ بلفائف بيضاء، ثم يُصلًّى عليه، ثم يدرج في القبر. والحاجُّ عندما يتجرَّد من لباسه في الميقات ويلبس الإحرام يتذكَّرُ هذه الحال ويتواردُ على ذهنه هذا المآل، ويتذكَّر الموتَ الذي به تنتهي الحياة الدنيوية وتبتدئ الحياةُ الأخرويَّة. وكم هو عظيم ونافعٌ للعبد أن يتذكَّرَ الرحيل، وأن يتذكَّرَ مفارقةَ الأنيس والخليل، وأن يتذكَّرَ أنَّه ليس له من ماله إلاَّ الأكفان، أي: نصيبه في قبره من ماله، ثم مآلها إلى الخراب، يقول الشاعر: وقد صحَّ في الحديث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( أكثروا ذكرَ هاذم اللَّذات )) يعني الموت(4) ، وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: (( كفى بالموت واعظاً )).نصيبُك مِمَّا تجمعُ الدَّهرَ كلَّه رداءان تُلوى فيهما وحَنوطُ ويقول الآخر: هي القنـاعةُ لا تبغي بها بدلاً فيها النعيـم وفيـها راحـة البـدن انظر لِمَن مَلَكَ الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكَفَن(3). ومَن تذكَّر الموتَ أقبل على الآخرة ولم تكن الدنيا أكبرَ همِّه ولا مبلغَ علمه، وذِكرُ الموت يردع عن المعاصي ويلين القلبَ القاسي، ويذهبُ الفرح بالدنيا ويهوِّن المصائبَ فيها. ثم إنَّ كفَنَ الإنسان الذي يدخل معه في قبره لا ينفعه بشيء، ومآله إلى البِلَى، مع أنَّه الشيءُ الوحيد الذي يدخل معه في قبره من دنياه، والذي ينفع الإنسانَ في قبره هو عملُه الصالح، وقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( يتبع الميِّتَ ثلاثةٌ، فيرجع اثنان ويبقى واحد: يتبع أهلُه ومالُه وعملُه، فيرجع أهلُه ومالُه، ويبقى عملُه )) (5). ومن المعلوم أنَّ الإنسانَ لا بدَّ له من أهل يُؤانسُهم، ومالٍ يعيش به، وهذان مفارقان له وهو مفارقٌ لهما ولا بدَّ، والسعيد من اتَّخذ من ذلك ما يكون عوناً له على الخير والطاعة، وأمَّا مَن اتَّخذ أهلاً ومالاً يشغله عن الله فهو خاسر، كما قالت الأعراب: { شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا}(6)، وقال تعالى: { لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }(7). ومَن مات فإنَّه لا ينتفع من أهله وماله بشيء إلاَّ بدعاء أهله له واستغفارهم، وبما قدَّمه من ماله بين يديه، قال تعالى: { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }(8)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ }(9). فكلُّ ما كان للإنسان من مال وأهل فإنَّه تاركُه وراء ظهره غيرُ منتفع منه بشيء إلاَّ دعوة من أهله أو نفقة قدَّمها من ماله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا مات الإنسان انقطع عملُه إلاَّ من ثلاث: إلاَّ من صدقة جارية، أو ولدٍ صالح يدعو له، أو علم يُنتفع به )) (10). والأهل قد يدعون له وقد لا يدعون، والمال الذي كان يمتلكه لا ينتفع منه بشيء في قبره إلاَّ بما كان قدَّمه بين يديه، فإنَّه يَقْدَمُ عليه وهو داخلٌ في عمله الذي يصحبه في قبره، وما سوى ذلك من ماله قلَّ أو كثر فهو لورثته لا له، وهو إنَّما كان عليه بمثابة الحارس والخازن. ففي صحيح مسلم عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (( يقول ابنُ آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلاَّ ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبست فأبليتَ، أو تصدَّقتَ فأمضيتَ )) (11). وفي صحيح البخاري عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (( أيُّكم مالُ وارثه أحبُّ إليه من ماله؟ قالوا: ما منَّا أحدٌ إلاَّ ماله أحبّ إليه، قال: فإنَّ ماله ما قدَّم، ومالَ وارثه ما أخَّر )) (12). قال الله تعالى: { مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } (13)، قال بعض السَّلف: (( أي في القبر )) يعني: أنَّ العمل الصالح يكون مهاداً لصاحبه في القبر، حيث لا يكون للعبد من متاع الدنيا فراش ولا وساد ولا مهاد، بل كلُّ عامل يفترش عملَه ويتوسَّده من خير أو شرٍّ(14). وفي الحديث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( قال لي جبريل: يا محمد عِش ما شئتَ فإنَّك ميِّت، وأَحْبب مَن شئتَ فإنَّك مفارقُه، واعمل ما شئتَ فإنَّك مُلاقيه )) (15). نسأل الله لنا جميعاً صلاح الأمر وحسن العاقبة، والتوفيق لما يحبُّه ويرضاه. * * * ----------- (1) المسند (20154). (2) صحيح البخاري (1264)، وصحيح مسلم (941). (3) انظر الأبيات في التذكرة للقرطبي (1/28). (4) سنن الترمذي (2307)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (1210). (5) صحيح البخاري (6514)، وصحيح مسلم (2960). وانظر شرح هذا الحديث في رسالة للحافظ ابن رجب مطبوعة بعنوان: جزء فيه الكلام على حديث يتبع الميت ثلاث. (6) سورة الفتح، الآية: 11. (7) سورة المنافقون، الآية: 9. (8) سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89. (9) سورة الأنعام، الآية: 94. (10) صحيح مسلم (1631). (11) صحيح مسلم (2958). (12) صحيح البخاري (6442). (13) سورة الروم، الآية: 44. (14) انظر رسالة ابن رجب: جزء فيه الكلام على حديث (( يتبع الميت ثلاث )) (ص:40). (15) رواه الطيالسي (1862)، والحاكم (4/325)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4355). https://al-badr.net/ |
|||
2016-08-24, 20:19 | رقم المشاركة : 123 | |||
|
- الحجُّ والتوبة إنَّ الحجَّ بابٌ مبارك من أبواب التوبة والإنابة إلى الله والخروج من الذنوب والعتق من النار.روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من حجَّ ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه )) (1). وروى مسلم في صحيحه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه عند إسلامه: (( أما علمتَ أنَّ الإسلامَ يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحجَّ يهدم ما كان قبله ))(2). وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( العمرةُ إلى العمرة كفَّارةٌ لِما بينهما والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنَّة )) (3). وروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة وأنَّه ليدنو ثم يُباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء )) (4). وروى النسائي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( تابعوا بين الحجِّ والعمرة، فإنَّهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكيرُ خبث الحديد )) (5). ففي هذه الأحاديث دلالة على عظم شأن الحجِّ وأنَّه بابٌ عظيمٌ لحطِّ الأوزار وإقالة العثرات وغفران الذنوب والعتق من النار. والواجب على المسلم أن يُبادر إلى التوبة إلى الله عزَّ وجلَّ لينال بذلك الفلاح وليحصل وافر الأجر وعظيم الأرباح. يقول الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(6) ، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}(7) ، ويقول سبحانه: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }(8). والتوبةُ من أنبل الأعمال وأجلِّها، وهي من أحبِّ الأعمال إلى الله وأكرمها، وللتائبين عنده محبَّة خاصة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }(9) ، بل إنَّه سبحانه يفرح بتوبة التائبين مع أنَّه سبحانه غنيٌّ حميد. ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لله أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضلَّه في أرض فلاة ))، وفي رواية لمسلم: (( لله أشدُّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيِسَ منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلِّها قد أَيِسَ من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمةً عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدَّة الفرح: اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدَّة الفرح ))(10). وليُعلم أنَّ بابَ التوبة مفتوح مهما بلغ الجُرْمُ وعَظُم الإثمُ، قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(11) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}(12) ، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(13). بل لقد قال جلَّ وعلا في شأن المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا}(14) ، وقال في شأن النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(15) ، وقال في شأن أصحاب الأخدود الذين خدُّوا الأخاديد لفتنة المؤمنين وإضلالهم عن دينهم {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}(16). قال الحسن البصري رحمه الله: (( انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياء الله وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة ))(17). ولهذا لا يحلُّ لأحد أن يقنط الناسَ من رحمة الله مهما بلغت ذنوبُهم وكثرت وتعدَّدت، كما لا يحلُّ له أن يجرأهم على فعل المعاصي واقتراف الذنوب. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (( من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله عزَّ وجلَّ )) (18). وعلى العبد أن يُبادر إلى التوبة وأن يُسارع إلى تحقيقها، قبل فوات الأوان، قال صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ الله عزَّ وجلَّ يقبل توبةَ العبد ما لم يُغَرْغِر )) رواه الترمذي(19)، وقال صلى الله عليه وسلم : (( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه )) رواه مسلم(20). والواجب كذلك أن يتوب العبد من كلِّ ذنب وأن يستوفي شروط التوبة لتكون توبتُه مقبولةً. قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في كتابه العظيم رياض الصالحين: (( قال العلماء: التوبة من كلِّ ذنب، فإن كانت المعصيةُ بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلَّق بحقِّ آدميٍّ فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يُقلعَ عن المعصية. والثاني: أن يندم على فعلها. والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً. فإن فُقد أحدُ الثلاثة لم تصح التوبةُ، وإن كانت المعصيةُ تتعلَّق بآدميٍّ فشروطها أربعة، هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حقِّ صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه ردَّه إليه، وإن كان حدَّ قذف ونحوه مكَّنه أو طلب عفوَه، وإن كانت غيبة استحلَّه منها، ويجب أن يتوب من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضها صحَّت توبتُه عند أهل الحقِّ من ذلك الذنب وبقي عليه الباقي )) (21). اهـ. ونسأل الله أن يَمُنَّ على الجميع بالتوبة النَّصوح، وأن يتقبَّل توبتَنا، وأن يغسل حوْبَتنا، وأن يجيب دعوتنا إنَّه سميع مجيب. * * * ---------- (1) صحيح البخاري (1820)، وصحيح مسلم (1350). (2) صحيح مسلم (121). (3) صحيح مسلم (1349). (4) صحيح مسلم (1348). (5) سنن النسائي (5/115)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (2901). (6) سورة النور، الآية: 31. (7) سورة التحريم، الآية: 8. (8) سورة الفرقان، الآية: 70. (9) سورة البقرة، الآية: 222. (10) صحيح البخاري (6309)، وصحيح مسلم (2747). (11) سورة الشورى، الآية: 25. (12) سورة النساء، الآية: 110. (13) سورة الزمر، الآية: 53. (14) سورة النساء، الآيتان: 145، 146. (15) سورة المائدة، الآيتان: 73، 74. (16) سورة البروج، الآية: 10. (17) ذكره ابن كثير في تفسيره (8/393). (18) ذكره ابن كثير في تفسيره (7/99). (19) سنن الترمذي (3537)، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (1903). (20) صحيح مسلم (2703). (21) رياض الصالحين (ص:7). https://al-badr.net/ |
|||
2016-08-24, 20:31 | رقم المشاركة : 124 | |||
|
- الحجُّ والتوكُّل إنَّ الحجَّ رحلةٌ مباركةٌ وسفرٌ عظيمٌ إلى خير الأراضي وأشرف البقاع استجابةً لله ورغبة في ثوابه وأملاً في نيل عظيم موعوده وجزيل نواله ووافر أجره، وهو باب رَحْبٌ لحطِّ الأوزار، وتكفير السيِّئات وزيادة الحسنات، وإقالة العثرات، والعتق من النار.ومَن يخرج من بيته إلى الحجِّ يخرج معتمداً على ربِّه متوكِّلاً عليه مفوِّضاً أمره إليه، طالباً منه وحده العون والتوفيق والهداية؛ لعلمه بأنَّ الأمورَ كلَّها بقضائه وقدَره، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم، وهو مع هذا يحملُ زادَه معه، ويبذل السبب في نيل رحمة الله وثوابه. وتأمَّل قول الله عزَّ وجلَّ في سياق آيات الحجِّ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}(1)، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أنَّ ناساً كانوا يخرجون إلى الحجِّ بغير زاد، ويَظنُّون أنَّ هذا حقيقة التوكُّل، ثم يضطرُّون إلى الناس ويحتاجون إلى سؤالهم. روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (( كان أهلُ اليمن يَحجُّون ولا يتزوَّدون، ويقولون: نحن المتوكِّلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناسَ، فأنزل الله تعالى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} )) (2). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل عن معاوية ابن قرَّة قال: (( لقي عمر بن الخطاب ناساً من أهل اليمن فقال: مَن أنتم؟ قالوا: نحن المتوكِّلون، قال: بل أنتم المتَّكلون، إنَّ المتوكِّل الذي يلقي حبَّة في الأرض ويتوكَّل على الله عزَّ وجلَّ )) (3). إنَّ حقيقةَ التوكُّلَ هو عمل القلب وعبوديته لله اعتماداً عليه وثقة به والتجاءً إليه وتفويضاً ورضاً بما يقضيه له لعلمه بكفايته سبحانه وحسن اختياره لعبده إذا فوَّض أموره إليه، مع القيام بالأسباب المأمور بها والاجتهاد في نيلها وتحصيلها، هذه حقيقة التوكُّل: اعتماد على الله وحده لا شريك له مع فعل الأسباب المأمور بها. والناسُ في هذا المقام الجليل منقسمون إلى ثلاثة أقسام: طرفين ووسط؛ فأحد الطرفين: عطَّل السبب محافظة على التوكُّل، والطرف الثاني: عطَّل التوكُّل محافظة على السبب، والوسط: علم أنَّ حقيقةَ التوكُّلَ لا تتمُّ إلاَّ بالقيام بالسبب، فتوكَّل على الله في نفس السبب، وهما أصلان لا بدَّ منهما لتحقيق التوكُّل. وقد جُمع بين هذين الأصلين العظيمين في نصوص كثيرة كقوله تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}(4ذذ)، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ونحوهما من الآيات. وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعُك واستعن بالله ولا تعجز )) (5). فقوله: (( احرص على ما ينفعُك )) فيه الأمرُ بكلِّ سبب دينيٍّ ودنيويٍّ، بل فيه الأمر بالجدِّ والاجتهاد في ذلك والحرص عليه نيةً وهمَّةً وفعلاً، وقوله (( واستعن بالله )) فيه الإيمان بقضاء الله وقدره والأمر بالتوكُّل عليه والاعتماد عليه والثقة به سبحانه. وروى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (( قال رجل يا رسول الله أعقلُها وأتوكَّل أو أُطلقها وأتوكَّل، فقال له: اعقلها وتوكَّل )) (6)، فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى الجمع بين الأمرين فعل السبب والاعتماد على الله عزَّ وجلَّ. وروى الترمذي أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (( لو أنَّكم توكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطيرَ تغدو خماصاً وتروح بطاناً )) (7)، فذكر الأمرين معاً، فإن غُدُّوَ الطير وهو ذهابُها في الصباح الباكر هو سعيٌ في طلب الرِّزق وجِدٌّ واجتهادٌ في تحصيله. قيل للإمام أحمد رحمه الله: ما تقول في رجل جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد: هذا رجلٌ جهِلَ العلمَ، أما سمع قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ الله جعل رزقي تحت ظلِّ رُمحي ))، وقال حين ذكر الطيرَ: (( تغدو خماصاً وتروح بطاناً )) (8). وبهذا يُعلمُ أنَّ التوكُّلَ لا بدَّ فيه من الجمع بين الأمرين فعل السبب والاعتماد على الله عزَّ وجلَّ، أمَّا من عطَّل السببَ وزعم أنَّه متوكِّلٌ فهو في الحقيقة متواكلٌ مغرور، وفعله هذا ما هو إلاَّ عجزٌ وتفريطٌ وتضييع، فلو قال قائل مثلاً: إن قدر لي أدركت العلم اجتهدتُ أو لم أجتهد، أو قال إن قدر لي أولاد حصلوا تزوَّجتُ أو لم أتزوَّج، وهكذا من رجا حصول ثمر أو زرع بغير حرث ولا بذر ولا سقي، وهكذا مَن يترك أهلَه وولدَه بلا نفقة ولا غذاء ولا يسعى في ذلك متَّكلاً على القدر، فكلُّ ذلك تضييعٌ وتفريطٌ وإهمالٌ وتواكلٌ. قال ابن قدامة رحمه الله: (( قد يظنُّ بعضُ الناس أنَّ معنى التوكُّل تركُ الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة وكلحم على وضم، وهذا ظنُّ الجُّهَّال، فإنَّ ذلك حرامٌ في الشرع )) (9). اهـ. أمَّا مَن يقوم بالسبب ناظراً إليه معتمداً عليه غافلاً عن المسَبِّب معرضاً عنه فهذا توكُّلُه عجزٌ وخذلانٌ ونهايتُه ضياع وحرمان، ولذا قال بعض العلماء: (( الالتفاتُ إلى الأسباب شركٌ في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكليَّة قدحٌ في الشرع، وإنَّما التوكُّل والرَّجاء معنى يأتلف من مُوجب التوحيد والعقل والشرع )). إنَّ التوكُّلَ على الله مصاحبٌ للمؤمن الصادق في أموره كلِّها الدينية والدنيوية، فهو مُصاحبٌ له في صلاته وصيامه وحجِّه وبرِّه وغيرِ ذلك من أمور دينه، ومُصاحبٌ له في جلبه للرِّزق وطلبه للمباح وغير ذلك من أمور دنياه. والتوكُّل أصل لجميع مقامات الدِّين ومنزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلاَّ على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلاَّ على ساق التوكُّل. جعلنا الله من المتوكِّلين عليه حقًّا، ومن المعتمدين عليه يقيناً وصدقاً، وهو حسبنا ونعم الوكيل. * * * --------------- (1) سورة البقرة، الآية: 197. (2) صحيح البخاري (1523). (3) التوكل (10). (4) سورة هود، الآية: 123. (5) صحيح مسلم (2664). (6) سنن الترمذي (2517). (7) سنن الترمذي (2344)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5254). (8) ذكره ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين (ص:95). (9) مختصر منهاج القاصدين (ص:361). https://al-badr.net/ |
|||
2016-08-24, 20:40 | رقم المشاركة : 125 | |||
|
- الحجُّ والذِّكر لقد شرع الله لعباده الحجَّ لإقامة ذكره سبحانه، فالذِّكرُ هو مقصودُ الحجِّ بل هو المقصودُ في جميع الطاعات، فما شُرعت العبادات إلاَّ لأجله وما تقرَّب المتقرِّبون إلى الله بمثله، والحجُّ كلُّه ذِكرٌ لله.قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}(1)، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} (2). فتأمَّل هذه الوصيَّة العظيمة والأمر الكريم بملازمة ذكر الله عزَّ وجلَّ في جميع مقامات الحجِّ في الوقوف بعرفة أمرَ بالذِّكر وعند المشعر حرام أمر بالذِّكر، وعند نحر الهدي أمرَ بالذِّكر، وفي أيَّام التشريق أمر بالذِّكر، فالذِّكرُ هو مقصود هذه الأعمال، بل إنَّها لم تشرع إلاَّ لإقامة ذكره سبحانه. وقد روى أبو داود وغيرُه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إنَّما جُعل الطوافُ بالبيت، والسعيُ بين الصفا والمروة ورميُ الجمار لإقامة ذكر الله عزَّ وجلَّ )) (3). وفي هذا دلالةٌ على علو شأن الذِّكر ورفعة منزلته وجلالة قدره، وأنَّه مقصودُ العبادات ولبُّها، وقد قال الله عزَّ وجلَّ في شأن الصلاة {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}(4) أي: أقم الصلاةَ لأجل ذكر الله جلَّ وعلا، وسَمَّى سبحانه الصلاةَ ذكراً وذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}(5)؛ لأنَّ ذكرَ الله روحُها ولبُّها وحقيقتُها، وهكذا شأن الذِّكر في جميع العبادات، وأعظم الناس أجراً في كلِّ عبادة أعظمُهم فيها ذكراً لله عزَّ وجلَّ. روى الإمام أحمد والطبراني من طريق عبد الله ابن لهيعة قال: حدَّثنا زبَّان بن فائد، عن سهل بن معاذ ابن أنس الجهني، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ رجلاً سأله فقال: أيُّ الجهاد أعظمُ أجراً يا رسول الله، فقال: (( أكثرُهم لله تبارك وتعالى ذكراً، قال: أيُّ الصائمين أكثرهم أجراً؟ قال: أكثرُهم لله ذكراً، ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحجَّ والصدقة كلُّ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أكثرهم لله ذكراً، فقال أبو بكر لعمر: يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكلِّ خير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أجل )) (6). قال الهيثمي: (( وفيه زبَّان بن فائد وهو ضعيف، وقد وُثِّق وكذلك ابن لهيعة )) (7). لكن للحديث شاهد مرسلٌ بإسناد صحيح رواه ابن المبارك في الزهد قال: أخبرني حيوةُ، قال: حدَّثني زُهرة بن معبد أنَّه سمع أبا سعيد المقبُري يقول: (( قيل: يا رسول الله، أيُّ الحاجِّ أعظمُ أجراً؟ قال: أكثرهم لله ذكراً، قال: فأيُّ المصلِّين أعظم أجراً؟ قال: أكثرهم لله ذكراً، قال: فأيُّ الصائمين أعظم أجراً؟ قال: أكثرهم لله ذكراً، قال: فأيُّ المجاهدين أعظم أجراً؟ فقال: أكثرهم لله ذكراً ))، قال زُهرة فأخبرني أبو سعيد المقبُري أنَّ عمرَ بن الخطاب قال لأبي بكر: (( ذهب الذاكرون بكلِّ خير )) (8). وله شاهد آخر أورده ابن القيم في كتابه الوابل الصيب قال: وقد ذكر ابن أبي الدنيا حديثاً مرسلاً: (( أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل: أيُّ أهل المسجد خير؟ قال: أكثرُهم لله ذكراً عزَّ وجلَّ، قيل: أيُّ أهل الجنازة خير؟ قال: أكثرهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ، قيل: فأيَّ المجاهدين خير؟ قال: أكثرهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ، قيل: فأيُّ الحُجَّاج خير؟ قال: أكثرهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ، قيل: فأيُّ العوَّاد خير؟ قال: أكثرهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ، قال أبو بكر: ذهب الذاكرون بالخير كلِّه )) (9). قال ابن القيم رحمه الله: (( إنَّ أفضلَ أهل كلِّ عمل أكثرُهم فيه ذكراً لله عزَّ وجلَّ، فأفضلُ الصُّوَّام أكثرُهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ في صومهم، وأفضلُ المتصدِّقين أكثرُهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ، وأفضلُ الحُجَّاج أكثرُهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ، وهكذا سائر الأعمال )) (10). فإذا علمتَ ذلك فلتحرص على ملازمة ذكر الله في جميع الطاعات؛ في صلاتك وصيامك وحجِّك وجميع عباداتك، فإنَّ أجرَك في كلِّ عبادة بحسب ذكرك لله فيها. فالذِّكرُ أجلُّ الطاعات وأعظمُ العبادات، وثمارُه على أهله كثيرة لا تُحصَى، ومن أجَلِّ ثماره أنَّه وسيلةٌ مباركة لحياة القلب وتهذيب النفس وتزكية الفؤاد، وهو يجلب لقلب الذَّاكر الفرح والسرور والراحة، ويورث القلب السكون والطمأنينة، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(11) وهو شفاءٌ للقلب ودواءٌ لمرضه ومُذْهِبٌ لقسوته، وفي القلوب قسوةٌ لا يُذيبُها إلاَّ ذكرُ الله تعالى، جاء رجلٌ إلى الحسن البصري ـ رحمه الله ـ وقال: (( يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أَذِبْه بالذِّكر )) (12). وبذكر الله تتيسَّرُ الأمور وتتسهَّل الصِّعابُ، فما ذُكر الله على صعب إلاَّ هان ولا على عسير إلاَّ تيسَّر ولا مشقَّة إلاَّ خفَّت ولا شدَّة إلاَّ زالت، ولا كُربة إلاَّ انفرجت. جعلنا الله وإيَّاكم من الذَّاكرين وجنَّبنا سبيل الغافلين، إنَّه سبحانه سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل. *** ------------- (1) سورة الحج، الآيتان: 27، 28. (2) سورة البقرة، الآيات: 198 ـ 203. (3) سنن أبي داود (1888)، وسنن الترمذي (902)، وقال: (( حسن صحيح )). (4) سورة طه، الآية: 14. (5) سورة الجمعة، الآية: 9. (6) المسند (15614)، والمعجم الكبير للطبراني (20/ رقم:407). (7) مجمع الزوائد (10/74). (8) الزهد (1429). (9) الوابل الصيب (ص:152). (10) الوابل الصيب (ص:152). (11) سورة الرعد، الآية: 28. (12) ذكره ابن القيم في الوابل الصيب (ص:142). https://al-badr.net/ |
|||
2016-08-24, 20:48 | رقم المشاركة : 126 | |||
|
- الحجُّ والإصلاح إنَّ الحجَّ مدرسةٌ مباركةٌ لتهذيب النفوس وتزكية القلوب وتقوية الإيمان، فمن خلال هذا المنسَك العظيم والشعيرة المباركة يتلقَّى المسلمون الدروسَ العظيمة والعِبَر المؤثِّرة والفوائد الجليلة في العقيدة والعبادة والأخلاق، فهو بحقٍّ مدرسة تربويَّة إيمانيَّة يتخرَّج فيها المؤمنون المتَّقون، وينهل من معينها المبارك عبادُ الله الموفَّقون، يقول الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1).ومنافع الحجِّ وفوائده لا يُمكن حصرُها، وعِبَرُه ودروسُه لا يُمكن عدُّها واستقصاؤها، فإنَّ قوله تعالى في الآية: ( مَنَافِعَ ) هو جمع منفعة، ونكَّرَ المنافعَ إشارةً إلى تعدُّدها وتنوُّعها وكثرتِها، وشهودُ هذه المنافع أمرٌ مقصودٌ في الحجِّ؛ إذ اللاَّم في قوله: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) لام التعليل، وهي متعلِّقةٌ بقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) أي: إن تؤذن فيهم بالحج يأتوك مشاةً وركباناً لأجل أن يشهدوا منافع الحجِّ، أي: يحضروها، والمراد بحضورهم المنافع حصولها لهم وانتفاعهم بها. ولهذا فإنَّ من الحريِّ بكلِّ مَن وفَّقه اللهُ لهذه الطاعة ويَسَّر له أداء هذه العبادة أن يكون حريصاً غاية الحرص على تحصيل منافع الحجِّ والإفادةِ من عِبَره وعظاته، إضافة إلى ما يحصله في حجِّه من أجور عظيمة وثواب جزيل ومغفرة للذنوب وتكفير للسيِّئات، فقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَن حجَّ هذا البيتَ فلَم يرفُث ولم يفسُق رجع كيوم ولدته أمُّه )) رواه البخاري ومسلم(2) ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنَّه قال: (( تابعوا بين الحجِّ والعمرة، فإنَّهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد )) رواه النسائي(3). وجديرٌ بمَن نال هذا الرِّبحَ وفاز بهذا المَغنم أن يعودَ إلى بلده بحال زاكية ونفس طيِّبة وحياة جديدة مليئة بالإيمان والتقوى، عامرة بالخير والصلاح والاستقامة والمحافظة على طاعة الله عزَّ وجلَّ. وقد ذكر العلماءُ أنَّ هذا الصلاح والزكاءَ إن وُجدَا في العبد فهو من أمارات الرِّضا وعلامات القبول، فإنَّ مَن حَسُنت حالُه بعد الحجِّ بالتحوُّل من السيِّء إلى الحسن أو من الحَسن إلى الأحسن فإنَّ ذلك دليلٌ على حسن انتفاعه بحجِّه؛ إذ إنَّ من ثواب الحسنة الحسنةَ بعدها، كما قال الله عزَّ وجلَّ: { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }(4)، فمَن أحسن في حجِّه واجتهد في تَتميمه وتكميله، وابتعد عن نواقصه ومفسداته خرج منه بأحسن حال، وانقلب إلى أطيبِ مآل. وقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( الحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلاَّ الجنَّة ))(5)، وما من ريب أنَّ كلَّ حاجٍّ يطمع ويؤمِّل أن يكون حجُّه مبروراً وسعيُه مشكوراً وعملُه صالحاً مقبولاً، والعلامةُ الواضحةُ لبرِّ الحجِّ وقبوله أن يكون المرءُ قد أدَّاه خالصاً لوجه الله، موافقاً لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ هذين شرطان لا قبول لأيِّ عمل من الأعمال إلاَّ بهما، وأن تكون حالُه بعد الحجِّ خيراً منها قبله. فهاتان علامتان على القبول: علامةٌ تكون في أثناء الحجِّ وهي أن يأتي به صاحبُه خالصاً لوجه الله موافقاً لسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلامةٌ تكون بعد الحجِّ وهي صلاحُ حال الإنسان بعد الحجِّ بأن يزيد إقبالُه على الطاعات واجتنابُه للمعاصي والذنوب، وأن يبدأ حياةً طيبةً معمورةً بالخير والصلاح والاستقامة. وينبغي التنبُّه هنا إلى أنَّ المسلمَ لا سبيل له إلى أن يجزم بقبول عمله مهما أجاد فيه وأحسن، قال الله تعالى في بيان حال المؤمنين الكُمَّل وشأنِهم فيما يتقرَّبون به إلى الله من طاعات: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }(6) أي: يعطون من أنفسهم ما أمروا به من عبادات من صلاة وزكاة وحج وصيام وغير ذلك، وهم خائفون عند عرض أعمالهم على الله وعند وقوفهم بين يدي الله من أن تكون أعمالُهم غيرَ منجيةٍ وطاعاتُهم غيرَ مقبولة. روى الإمام أحمد في مسنده عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: (( قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }أهو الرَّجل يزني ويشرب الخمر؟ قال: لا يا بنت أبي بكر، أولا يا بنت الصديق، ولكنَّه الرََّّجل يصوم ويصلِّي ويتصدَّق وهو يخاف أن لا يُقبل منه )) (7). قال الحسن البصري رحمه الله: (( إنَّ المؤمنَ جمع إحساناً وشفقةً، وإنَّ المنافقَ جمع إساءةً وأمناً )) (8). وقد مضت السنَّة بين المؤمنين في قديم الزمان وحديثه أن يقول بعضُهم لبعض عقب هذه الطاعة: تقبَّل الله منَّا ومنكم، فالكلُّ يرجو القبول(9) ، وقد ذكر الله في القرآن الكريم أنَّ نبيَّه إبراهيم وابنَه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام كانا يدعوان بهذا الدعاء عند بنائهما للكعبة، قال الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(10)، فهما في عمل صالح جليل وهما يسألان الله أن يتقبَّل منهما، روى ابن أبي حاتم عن وُهيب بن الورد أنَّه قرأ هذه الآية ثم بكى، وقال: (( يا خليل الرحمن، ترفع قوائمَ بيت الرحمن وأنت مشفقٌ أن لا يقبل منك )) (11). فإذا كان هذا شأنَ إمامِ الحنفاء وقدوةِ الموحِّدين فكيف الشأن بمَن دونه. نسأل الله للجميع القبول والتوفيق والسداد، وأن يكتب لحُجَّاج بيت الله الحرام السلامةَ والعافيةَ، وأن يتقبَّل منَّا ومنهم صالح الأعمال، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل، إنَّه جوادٌ كريم. * * * ---------- (1) سورة الحج، الآية: 27. (2) صحيح البخاري (1820)، وصحيح مسلم (1350). (3) سنن النسائي (5/115)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (2901). (4) سورة الرحمن، الآية: 60. (5) صحيح مسلم (1349). (6) سورة المؤمنون، الآية: 60. (7) المسند (25705). (8) رواه ابن المبارك في الزهد (985). (9) قال ابن بطة في كتاب الإبانة (2/873): (( ... وكذلك يقول من قدم من حجِّه بعد فراغه من حجِّه وعمرته وقضاء جميع مناسكه إذا سئل عن حجِّه إنَّما يقول: قد حججنا ما بقي غير القبول، وكذلك دعاء الناس لأنفسهم ودعاء بعضهم لبعض: اللَّهمَّ تقبَّل صومَنا وزكاتَنا، وبذلك يلقى الحاجُّ فيُقال له: قبل اللهُ حجَّك وزكى عملَك، وكذا يتلاقى الناس عند انقضاء شهر رمضان، فيقول بعضُهم لبعض: قبل الله منَّا ومنكم، بهذا مضت سنَّة المسلمين، وعليه جرت عادتهم، وأخذه خلفُهم عن سلفهم )). (10) سورة البقرة، الآية: 127. (11) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، كما في تفسير ابن كثير (1/254) طبعة الشعب. https://al-badr.net/ |
|||
2016-08-24, 20:53 | رقم المشاركة : 127 | |||
|
- الحجَّ والاستجابة لله إنَّ الحجَّ طاعةٌ عظيمةٌ وعبادةٌ جليلةٌ، فيها تحقيقٌ للعبودية وكمالٌ في الذّلِّ والخضوع والانكسار بين يدي الربِّ عزَّ وجلَّ، فالحاجُّ يخرج من ملاذ الدنيا ومحابِّها مهاجراً إلى ربِّه سبحانه، تاركاً مالَه وأهلَه وعشيرَتَه، متغرِّباً عن بيته ووطنه، متجرِّداً من ثيابه المعتادة لابساً إزاراً ورداءاً، حاسراً عن رأسه، متواضعاً لربِّه، تاركاً الطيبَ والنساءَ، متنقِّلاً بين المشاعر بقلبٍ خاشع وعين دامعة ولسان ذاكر، راجياً رحمة ربِّه، خائفاً من عذابه، وشعارُه في ذلك كلِّه (لبَّيكَ اللهمَّ لبَّيك) أي: إنَّنِي خاضعٌ لك يا ربِّ مستجيبٌ لندائك منقادٌ لحُكمك، ممتثلٌ لأمرك. والتلبيةُ شعارُ الحجِّ، فالمسلمُ يبدأ أعمالَ الحجِّ بالتلبية ويَمضي إلى مكة ملبِّياً إلى أن يصلَ إلى البيت ويشرع في الطواف، ثم هو يُلبِّي كلَّما انتقل من ركن إلى ركن، ومن منسك إلى آخر، فإذا سار إلى عرفة لَبَّى، وإذا سار إلى المزدلفة لَبَّى، وإذا سار إلى منى لَبَّى حتى يرمي جمرة العقبة فيقطع التلبية، فالتلبيةُ شعارُ الحجِّ والتنقل في أعمال المناسك. وكم لهذا من أثر مبارك على المسلم في تزكية نفسه وإصلاحها ومعالجة تقصيرها في أوامر الله والقيام بحقوقه سبحانه. أليس الواجب على المسلم أن يكون دائماً ملبِّياً نداء الله، مستجيباً لأمره، منقاداً لحُكمه، أليس الواجب على المسلم أن يكون شأنه في كلِّ طاعة أن يُلبِّي نداء الله وأن يستجيب لأمره. فقد أمر الله عبادَه بالصلاة والزكاة والصيام والصدق والوفاء والأمانة والبرِّ والإحسان، ونهاهم عن الزنى والقتل وشرب الخمر والكذب والغشِّ والخيانة، فما شأن المسلم مع هذه الأوامر والنواهي، هل هو مُلبٍّ أمر الله قائمٌ بطاعته سبحانه، أو أنَّه متلقٍ ذلك بالفسق والعصيان. إنَّ حقيقةَ الإسلام الاستسلامُ لله بالتوحيد والانقيادُ له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}(1). وقوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} أي: الإسلام بامتثال شرع الله وطاعة أمره، وقوله {كَافَّةً} أي: جميعاً، قال مجاهد: (( أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر ))(2). فهو سبحانه أمرهم بجميع شُعَب الإيمان وشرائع الإسلام، وهي كثيرة ما استطاعوا منها، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(3)، وفي الحديث: (( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )). والآيات في الأمر بالاستسلام لله وتلبية ندائه وامتثال أوامره والتزام طاعته كثيرةٌ جدًّا. فيا مَن أمرك اللهُ بالحجِّ فلبَّيتَ النداءَ وجئتَ ميمماً بيته العتيق ترجو رحمتَه وتخاف عقابه، كيف حظُّك مع بقيَّة الأوامر، كيف شأنك مع الصلاة التي هي عماد الدِّين وأعظم أركانه بعد الشهادَتَين، كيف شأنك مع الصيام، كيف شأنك مع الزكاة، كيف شأنك في البُعد عن النواهي وترك المحرمات، إن كنتَ ممتثلاً فاحمد الله واسأله المزيدَ، وإن كنتَ مفرِّطاً مضيِّعاً فحاسب نفسك قبل أن تُحاسَب في يوم الوعيد، فإنَّ اليوم عمل ولا حساب وغداً حسابٌ ولا عمل، حيث يقول تعالى في الحديث القدسي: (( يا عبادي إنَّما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوَفِّيكم إيَّاها، فمَن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَ إلاَّ نفسه )) (4). إنَّ الناسَ مع الأوامر والنواهي ينقسمون إلى أحوال: منهم من يستجيب إلى فعل الطاعات ويَكفٌّ عن ارتكاب المعاصي، وهذا أكملُ أحوال أهل الدِّين، وأفضل صفات المتَّقين، ومنهم مَن يمتنع عن فعل الطاعات ويُقدِم على ارتكاب المعاصي، وهذا أخبثُ أحوال المكلَّفين وهو يستحقُّ عذاب اللاَّهي عن فعل ما أُمر به من طاعته وعذاب المجترئ على ما أقدَم عليه من معاصيه، ومنهم مَن يستجيب إلى فعل الطاعات ويُقدِم على ارتكاب المعاصي، فهذا يستحقُّ عذاب المجترئ؛ لأنَّه تورَّط بغلبة الشهوة على الإقدام على المعصية، ومنهم مَن يمتنع من فعل الطاعات ويَكفُّ عن ارتكاب المعاصي، فهذا يستحقُّ عذاب اللاَّهي عن دينه. والواجب على المسلم أن يكون ناصحاً لنفسه محافظاً على طاعة ربِّه ممتثلاً أمره مبتعداً عن نهيه صابراً محتسباً. قال أحدُ السَّلف: (( إنَّا نظرنا فوجدنا الصبرَ على طاعة الله تعالى أهون من الصبر على عذابه ))، وقال آخر: (( اصبروا عباد الله على عمل لا غنى لكم عن ثوابه، واصبروا عن عمل لا صبر لكم على عقابه )). وكم يحتمي الإنسان في هذه الحياة الدنيا من أمور يخشى أن تضرَّ بدنَه أو تؤثّرَ على صحَّته، ومع ذلك لا يحتمي من أمور تفضي به إلى عقاب الله وتؤول به إلى عذابه. قال ابن شبرمة: (( عجبتُ لِمَن يحتمي من الطيِّبات مخافة الداء كيف لا يحتمي من المعاصي مخافة النار )). وقال حماد بن زيد: (( عجبتُ عمَّن يحتمي من الأطعمة لمضرَّاتها كيف لا يحتمي من الذنوب لمعرَّتها )) (5). وتأمَّل أخي الملبِّي الموفَّق جميعَ ما سبق، وتأمَّل معه وصيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لمعاشر الملبِّين، ففي الترمذي وغيره عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجَّة الوداع، فقال: (( اتَّقوا الله ربَّكم، وصَلُّوا خمسَكم، وصوموا شهرَكم، وأدُّوا زكاة أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنَّة ربِّكم ))، وقال الترمذي: (( هذا حديث حسن صحيح ))، ورواه الحاكم وقال: (( صحيح على شرط مسلم ))، ووافقه الذهبي(6). وإنََّّا لنسأل الله جلَّ وعلا أن يجعلنا وإيَّاكم من الملبِّين نداءه سبحانه حقًّا وصدقاً، وأن يُلهمنا رشد أنفسنا، وأن يوفِّقنا لطاعته إنَّه سميع مجيب. * * * ----------------- (1) سورة البقرة، الآية: 208. (2) ذكره ابن كثير في تفسيره (1/361). (3) سورة التغابن، الآية: 16. (4) صحيح مسلم (2577). (5) انظر فيما سبق أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص:103 ـ 104). (6) سنن الترمذي (616)، والمستدرك (1/9). https://al-badr.net/ |
|||
2016-08-24, 21:00 | رقم المشاركة : 128 | |||
|
- الحجُّ والإصلاح إنَّ الحجَّ مدرسةٌ مباركةٌ لتهذيب النفوس وتزكية القلوب وتقوية الإيمان، فمن خلال هذا المنسَك العظيم والشعيرة المباركة يتلقَّى المسلمون الدروسَ العظيمة والعِبَر المؤثِّرة والفوائد الجليلة في العقيدة والعبادة والأخلاق، فهو بحقٍّ مدرسة تربويَّة إيمانيَّة يتخرَّج فيها المؤمنون المتَّقون، وينهل من معينها المبارك عبادُ الله الموفَّقون، يقول الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1).ومنافع الحجِّ وفوائده لا يُمكن حصرُها، وعِبَرُه ودروسُه لا يُمكن عدُّها واستقصاؤها، فإنَّ قوله تعالى في الآية: ( مَنَافِعَ ) هو جمع منفعة، ونكَّرَ المنافعَ إشارةً إلى تعدُّدها وتنوُّعها وكثرتِها، وشهودُ هذه المنافع أمرٌ مقصودٌ في الحجِّ؛ إذ اللاَّم في قوله: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) لام التعليل، وهي متعلِّقةٌ بقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) أي: إن تؤذن فيهم بالحج يأتوك مشاةً وركباناً لأجل أن يشهدوا منافع الحجِّ، أي: يحضروها، والمراد بحضورهم المنافع حصولها لهم وانتفاعهم بها. ولهذا فإنَّ من الحريِّ بكلِّ مَن وفَّقه اللهُ لهذه الطاعة ويَسَّر له أداء هذه العبادة أن يكون حريصاً غاية الحرص على تحصيل منافع الحجِّ والإفادةِ من عِبَره وعظاته، إضافة إلى ما يحصله في حجِّه من أجور عظيمة وثواب جزيل ومغفرة للذنوب وتكفير للسيِّئات، فقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَن حجَّ هذا البيتَ فلَم يرفُث ولم يفسُق رجع كيوم ولدته أمُّه )) رواه البخاري ومسلم(2) ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنَّه قال: (( تابعوا بين الحجِّ والعمرة، فإنَّهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد )) رواه النسائي(3). وجديرٌ بمَن نال هذا الرِّبحَ وفاز بهذا المَغنم أن يعودَ إلى بلده بحال زاكية ونفس طيِّبة وحياة جديدة مليئة بالإيمان والتقوى، عامرة بالخير والصلاح والاستقامة والمحافظة على طاعة الله عزَّ وجلَّ. وقد ذكر العلماءُ أنَّ هذا الصلاح والزكاءَ إن وُجدَا في العبد فهو من أمارات الرِّضا وعلامات القبول، فإنَّ مَن حَسُنت حالُه بعد الحجِّ بالتحوُّل من السيِّء إلى الحسن أو من الحَسن إلى الأحسن فإنَّ ذلك دليلٌ على حسن انتفاعه بحجِّه؛ إذ إنَّ من ثواب الحسنة الحسنةَ بعدها، كما قال الله عزَّ وجلَّ: { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }(4)، فمَن أحسن في حجِّه واجتهد في تَتميمه وتكميله، وابتعد عن نواقصه ومفسداته خرج منه بأحسن حال، وانقلب إلى أطيبِ مآل. وقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( الحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلاَّ الجنَّة ))(5)، وما من ريب أنَّ كلَّ حاجٍّ يطمع ويؤمِّل أن يكون حجُّه مبروراً وسعيُه مشكوراً وعملُه صالحاً مقبولاً، والعلامةُ الواضحةُ لبرِّ الحجِّ وقبوله أن يكون المرءُ قد أدَّاه خالصاً لوجه الله، موافقاً لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ هذين شرطان لا قبول لأيِّ عمل من الأعمال إلاَّ بهما، وأن تكون حالُه بعد الحجِّ خيراً منها قبله. فهاتان علامتان على القبول: علامةٌ تكون في أثناء الحجِّ وهي أن يأتي به صاحبُه خالصاً لوجه الله موافقاً لسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلامةٌ تكون بعد الحجِّ وهي صلاحُ حال الإنسان بعد الحجِّ بأن يزيد إقبالُه على الطاعات واجتنابُه للمعاصي والذنوب، وأن يبدأ حياةً طيبةً معمورةً بالخير والصلاح والاستقامة. وينبغي التنبُّه هنا إلى أنَّ المسلمَ لا سبيل له إلى أن يجزم بقبول عمله مهما أجاد فيه وأحسن، قال الله تعالى في بيان حال المؤمنين الكُمَّل وشأنِهم فيما يتقرَّبون به إلى الله من طاعات: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }(6) أي: يعطون من أنفسهم ما أمروا به من عبادات من صلاة وزكاة وحج وصيام وغير ذلك، وهم خائفون عند عرض أعمالهم على الله وعند وقوفهم بين يدي الله من أن تكون أعمالُهم غيرَ منجيةٍ وطاعاتُهم غيرَ مقبولة. روى الإمام أحمد في مسنده عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: (( قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }أهو الرَّجل يزني ويشرب الخمر؟ قال: لا يا بنت أبي بكر، أولا يا بنت الصديق، ولكنَّه الرََّّجل يصوم ويصلِّي ويتصدَّق وهو يخاف أن لا يُقبل منه )) (7). قال الحسن البصري رحمه الله: (( إنَّ المؤمنَ جمع إحساناً وشفقةً، وإنَّ المنافقَ جمع إساءةً وأمناً )) (8). وقد مضت السنَّة بين المؤمنين في قديم الزمان وحديثه أن يقول بعضُهم لبعض عقب هذه الطاعة: تقبَّل الله منَّا ومنكم، فالكلُّ يرجو القبول(9) ، وقد ذكر الله في القرآن الكريم أنَّ نبيَّه إبراهيم وابنَه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام كانا يدعوان بهذا الدعاء عند بنائهما للكعبة، قال الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(10)، فهما في عمل صالح جليل وهما يسألان الله أن يتقبَّل منهما، روى ابن أبي حاتم عن وُهيب بن الورد أنَّه قرأ هذه الآية ثم بكى، وقال: (( يا خليل الرحمن، ترفع قوائمَ بيت الرحمن وأنت مشفقٌ أن لا يقبل منك )) (11). فإذا كان هذا شأنَ إمامِ الحنفاء وقدوةِ الموحِّدين فكيف الشأن بمَن دونه. نسأل الله للجميع القبول والتوفيق والسداد، وأن يكتب لحُجَّاج بيت الله الحرام السلامةَ والعافيةَ، وأن يتقبَّل منَّا ومنهم صالح الأعمال، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل، إنَّه جوادٌ كريم. * * * ---------- (1) سورة الحج، الآية: 27. (2) صحيح البخاري (1820)، وصحيح مسلم (1350). (3) سنن النسائي (5/115)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (2901). (4) سورة الرحمن، الآية: 60. (5) صحيح مسلم (1349). (6) سورة المؤمنون، الآية: 60. (7) المسند (25705). (8) رواه ابن المبارك في الزهد (985). (9) قال ابن بطة في كتاب الإبانة (2/873): (( ... وكذلك يقول من قدم من حجِّه بعد فراغه من حجِّه وعمرته وقضاء جميع مناسكه إذا سئل عن حجِّه إنَّما يقول: قد حججنا ما بقي غير القبول، وكذلك دعاء الناس لأنفسهم ودعاء بعضهم لبعض: اللَّهمَّ تقبَّل صومَنا وزكاتَنا، وبذلك يلقى الحاجُّ فيُقال له: قبل اللهُ حجَّك وزكى عملَك، وكذا يتلاقى الناس عند انقضاء شهر رمضان، فيقول بعضُهم لبعض: قبل الله منَّا ومنكم، بهذا مضت سنَّة المسلمين، وعليه جرت عادتهم، وأخذه خلفُهم عن سلفهم )). (10) سورة البقرة، الآية: 127. (11) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، كما في تفسير ابن كثير (1/254) طبعة الشعب. https://al-badr.net/ |
|||
2016-08-24, 21:20 | رقم المشاركة : 129 | |||
|
من تعجل من المزدلفة بعد منتصف الليل ما حكم من تعجل المسير من مزدلفة بعد منتصف الليل، قياساً على أهل الأعذار؟
لا حرج، لكنه ترك السنة، ترك الأفضل؛ لأن العذر هو خوف المشقة عليهم الزحمة، والناس الآن في زحمة، ومشقة، فإذا تعجل الإنسان في النصف الأخير من ليلة النحر، ورمى قبل ذلك، فلا حرج -إن شاء الله-، لكنه ترك الأفضل، الأفضل أن يكون الضحى، أن يبقى في مزدلفة حتى يصلي الفجر، وحتى يسفر، ثم يكون رميه في ضحى، كما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن تعجل خوفا ًمن الزحام والمشقة فهو كالضعفاء. https://www.binbaz.org.sa/ |
|||
2016-08-24, 21:23 | رقم المشاركة : 130 | |||
|
الوصول إلى مزدلفة آخر الليل
لم نصل إلى مزدلفة إلا بعد منتصف الليل؛ نظراً لتأخر السيارة علينا، فما الحكم؟ لا حرج في ذلك، ولو لم تصلوا إلا آخر الليل. https://www.binbaz.org.sa/ |
|||
2016-08-24, 21:28 | رقم المشاركة : 131 | |||
|
حكم المبيت في المزدلفة
حكم المبيت في المزدلفة ما حكم المبيت في المزدلفة؟ وهل يجوز للحاج أن يذهب من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الفجر؟ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعـد: فقد دلت السنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن المبيت في مزدلفة أمر مفترض؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بات بها، وقال: (خذوا عني مناسككم). فالواجب على الحاج أن يبيت بها إذا انصرف من عرفات بعد الغروب يقصد مزدلفة، فيصلي بها المغرب والعشاء قصراً وجمعاً، العشاء ثنتين والمغرب ثلاث، بأذان واحدٍ وإقامتين، ويبيت بها حتى يصلي بها الفجر، فإذا صلَّى بها الفجر جلس بها أيضاً يذكر الله ويدعو مستقبلاً القبلة، وإن قرب من المشعر فحسن، ولكن كل مزدلفة موقف، والحمد لله، وفي أي مكان منها، يذكر الله ويدعو مستقبلاً القبلة حتى يسفر، فإذا أسفر انصرف إلى منى كما فعله النبي -عليه الصلاة والسلام-. وهذا المبيت واجب عند أهل العلم على الصحيح وقال بعضهم يكفي المرور بها ولكنه قول ضعيف، ويجوز للضعفاء من النساء والصبيان، وكبار السن ومن كان معهم في صحبتهم الانصراف من مزدلفة في آخر الليل، بعد مضي نصف الليل، والأفضل بعد غروب القمر كما جاء في حديث أسماء بنت أبي بكر: فإذا غاب القمر انصرفوا إلى منى كما أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- لسودة وغيرها ولأم سلمة، هذا هو المشروع، ومن بقي من الضعفة مع الناس فلا بأس فإذا انصرفوا من مزدلفة في آخر الليل توجهوا إلى منى ورموا الجمرة إن شاءوا، وإن شاءوا جلسوا في منى حتى يرموها نهارا، هم مخيرون، ومن رماها ليلاً كما رمت أم سلمة في آخر الليل فلا بأس. الضعفة يرمونها ليلاً في آخر الليل ثم ينصرفون إذا شاءوا إلى مكة للطواف ولاسيما النساء فإنهم يخشون أن تنزل بهم العادة الشهرية فتمنعهم من الطواف، فإذا توجهوا إلى مكة مسرعين آخر الليل للطواف فلا بأس، كل هذا لا حرج فيه بحمد الله. أما الأقوياء فالسنة لهم المبيت بمزدلفة حتى يصلوا بها الفجر، وحتى يقفوا بها بعد الفجر حتى يسفروا هذه السنة، ومن انصرف من الأقوياء مع الضعفة في آخر الليل أجزأه ذلك وصح حجه في أصح قولي للعلماء، ولكنه ترك الأفضل. https://www.binbaz.org.sa/ |
|||
2016-08-25, 12:27 | رقم المشاركة : 132 | |||
|
الخروج من مزدلفة الساعة الحادية عشر والنصف
هل الخروج من المزدلفة في الوقت الحاضر في الساعة الحادية عشرة والنصف وقت انتصاف الليل, وهل هو للنساء فقط؟ للضعفاء من النساء والرجال والشيوخ الكبار بعد نصف الليل، والليل يختلف على حسب مدار الزمن، فإذا كان الليل عشر ساعات فالنصف بعد مضي الساعة الخامسة، من العشر، وإذا كان إحدى عشر، بعد مضي خمس ونصف وهكذا، يختلف الليل، إذا مضى نصفه بالساعة خرج الضعفاء ونحوهم كالشيوخ الكبار والأطفال ، ومن معهم من الملازمين. https://www.binbaz.org.sa/ |
|||
2016-08-25, 12:31 | رقم المشاركة : 133 | |||
|
حكم من فاتته مزدلفة ولم يبت فيها
ما هو ضابط المبيت في مزدلفة؟ وإذا تعذر المبيت واكتفى الحاج بالمرور بها فقط, فما حكم حجه؟ من فاتته مزدلفة فعليه دم يذبح في مكة للفقراء ؛ لأن الوقوف فيها واجب، فأما إن وقف فيها غالب الليل وانصرف بعد النصف، فلا بأس، إذا انصرف منها بعد نصف الليل فلا بأس، والأفضل المكث فيها جميع الليل، فإذا طلع الفجر صلى مع المسلمين صلاة الفجر، ثم وقف يذكر الله مستقبل القبلة ، ويدعو حتى يسفر، فإذا أسفر انصرف إلى منى قبل طلوع الشمس، هكذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما الضعفاء من النساء والشيوخ الكبار ومن معهم فلا بأس أن ينصرفوا بعد نصف الليل من مزدلفة إلى منى، الرسول رخص لهم في ذلك، أما الأقوياء وغالب الناس، فالمشروع لهم البقاء في مزدلفة حتى صلاة الفجر، فإذا صلوها جلسوا بها إلى الإسفار للذكر والدعاء حتى يسفروا ، فإذا أسفروا انصرفوا إلى منى قبل طلوع الشمس، هذا هو الأفضل. https://www.binbaz.org.sa/ |
|||
2016-08-25, 13:46 | رقم المشاركة : 134 | |||
|
حكم من لم يتمكن من المبيت في منى يوم التروية، ولم يتمكن من المبيت في مزدلفة
ذهبت لأداء فريضة الحج، وذهبنا يوم تسعة ذي الحجة إلى جبل عرفات، ولم نتمكن من المبيت في منى، وعدنا من الجبل بعد المغرب إلى المزدلفة، وصلنا في منتصف الليل وصلينا المغرب والعشاء، وذهبنا إلى منى ووصلنا قبل الفجر ولم نتمكن من المبيت في مزدلفة، فما رأيكم في عدم المبيت في منى يوم ثمانية، وما رأيكم في عدم المبيت في المزدلفة بعد نزولي من عرفة؟ جزاكم الله خيراً. وهذا المبيت كان عدم تمكننا منه بسبب المسئولين عن الحملة، جزاكم الله خيراً. ما دام الواقع كما ذكره السائل فلا شيء عليه، لأن مروره بمزدلفة بعد نصف الليل وجمعه الصلاة فيها كل ذلك يحصل به الإجزاء والحمد لله، ولأنه معذور بسبب الحملات وعدم تمكنه من البقاء فلا حرج في ذلك، والمبيت في مزدلفة واجب على الصحيح، وقال بعض أهل العلم: إنه ركن، والصواب أنه واجب، وقال آخرون من بعض أهل العلم أنه سنة، والصواب الوسط ليس بركن ولكنه فوق السنة، واجب؛ لأن الرسول بات في ذلك، وقال: (خذوا عني مناسككم) اللهم صل وسلم وعليه. فالواجب على الحجاج أن يبيتوا في مزدلفة إلى بعد نصف الليل، ومن جاءها بعد نصف الليل أجزأه ذلك، إذا خرج منها آخر الليل، ويجوز للضعفة من النساء وأتباعهم الخروج بعد نصف الليل إلى منى قبل حطبة الناس، لأن الرسول عليه السلام رخص لهم في ذلك عليه الصلاة والسلام. والخلاصة أن من بات بها فقد أدى الواجب، ومن خرج منها بعد نصف الليل فلا حرج عليه، ولا حرج على الضعفة أن يخرجوا بعد نصف الليل الأخير قبل حطبة الناس لأن الرسول رخص لهم عليه الصلاة والسلام، ومن حيل بينه وبين ذلك لعذرٍ شرعي كأن تعطلت سيارته ولم يصل إلى مزدلفة فلا حرج عليه إن شاء الله؛ لأنه معذور عذراً شرعياً، وهكذا من مُنع من البقاء فيها بسبب القائمين على الحملة منعوه من البقاء في مزدلفة، وحالوا بينه وبين ذلك فنرجو أن لا حرج عليه إن شاء الله، وإن فدى احتياطاً بذبيحة تذبح في مكة للفقراء من باب الاحتياط فهذا حسن إن شاء الله، وأما ليلة التاسعة في منى فليست بواجبة، ليلة التاسعة المبيت بمنى الليلة التاسعة ليست واجبة، ليس واجباً ولكن مستحب، الرسول صلى الله عليه وسلم بات فيها الليلة التاسعة، فإذا بات في منى الليلة التاسعة فهو أفضل، وإلا فليس بواجب، لو لم يأت منى إلا اليوم التاسع وسار منها إلى عرفات فلا حرج في ذلك. www.binbaz.org.sa |
|||
2016-08-25, 13:49 | رقم المشاركة : 135 | |||
|
حكم الخروج من المزدلفة بعد الساعة الواحدة والنصف ليلاً لرمي جمرة العقبة خوفاً من الزحام الشديد
ما حكم الخروج من المزدلفة بعد الساعة الواحدة والنصف ليلاً لرمي جمرة العقبة؛ خوفاً من الزحام الشديد؟ النبي- صلى الله عليه وسلم -رخص للضعفة من النساء وكبار السن والأطفال وأتباعهم أن يخرجوا من مزدلفة في الليل، يعني آخر الليل، في النصف الأخير بعد أن...... فلا حرج إذا خرج الضعفاء من النساء وأتباعهم وكبار السن ونحوهم وتوجهوا إلى منى حتى يرموا الجمرة قبل الزحمة فلا بأس بذلك، كما رخص النبي- صلى الله عليه وسلم - لهم، أما الأقوياء فالأفضل لهم المبيت في مزدلفة، والوقوف بها بعد صلاة الفجر مستقبلاً القبلة يدعون الله ويسألونه ويضرعون إليه ويرفعون أيديهم بالدعاء، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم -فإنه صلى الفجر في مزدلفة، ثم وقف بها حتى أسفر، ورفع يديه ودعا ربه حتى أسفر جداً مستقبلاً المقبلة، فلما أسفر جداً انصرف إلى منى قبل طلوع الشمس، هذه السنة للحجاج أن يصلوا في مزدلفة الفجر وأن يقفوا بالمشعر الحرام يعني مزدلفة، كل مزدلفة موقف، كلها، يستقبلون القبلة ويرفعون أيدهم ويدعون، بما يسر الله من الدعاء بقبول حجهم وبحصول المغفرة والنجاة من النار إلى غيرها من الدعوات الطيبة، فإذا أسفروا انصرفوا قبل طلوع الشمس، ينصرفون إلى منى قبل أن تطلع الشمس بعد الإسفار، قال عمر رضي الله عنه: كانوا في الجاهلية لا ينصرفون حتى طلوع الشمس، ويقولون أشرق..... والنبي خالفهم فأفاض من مزدلفة قبل أن طلوع الشمس - عليه الصلاة والسلام-. https://www.binbaz.org.sa/ |
|||
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc