لم يأت تقدم الغرب هكذا من فراغ، بل جاء بعد قرون من الصراع خاضها العلماء في الغرب دون كلل أو ملل في مواجهة رجال الدين، إلى أن توج هذا الصراع في النهاية بانتصار واضح لمنهج العلماء المستند إلى التساؤل والشك والتجربة، على المنهج الذي كان يقوده رجال الدين في الغرب المستند على اليقين والخوف من طرح الأسئلة وكراهية الفلسفة والفلاسفة، وكان العالمين ديكارت وغاليليو من بين أوائل
العلماء الذين وضعوا أول مدماك في هذا الانتصار العظيم الذي شارك فيه كل أبطال عصر النهضة والتنوير في الغرب، واللذين تمكنوا في النهاية من النجاح في حسم هذا الصراع لمصلحة المنهج والتفكير العلمي، وتكريس فكرة الفصل بين الدين كقوة روحية مؤثرة ومطمئنة وبين تدخل رجال الدين في أمور الحياة اليومية والسياسية والاقتصادية للناس. وشكل هذا الحسم في التمييز بين فكرة قبول الدين كقوة روحية، وبين عدم قبول أي تدخل لرجال الدين في شؤون الدولة والناس السر الحاسم في استمرار نجاح الدول الغربية في مسيرة التطور التي وصلت إلى ما وصلت إليه من تطور وتقدم علمي
وتقني مذهل شمل جميع مناحي الحياة. وفي المقابل سنكتشف أيضاً أن سر استمرار التخلف في دولنا العربية يعود إلى استمرار تدخل رجال الدين في شؤون الدولة وهيمنتهم على سلوك الناس بالرغم من بعض المناوشات والمعارك التي جرت ومازال بعضها يجري في أكثر من دولة عربية بين فقهاء الدين وبين قلة من المفكرين أخذوا على عاتقهم مهمة النهوض ببلدانهم، لكن مع الأسف لم يستطع هؤلاء المفكرين إلى الآن من استمالة الناس إلى جانبهم في هذه المواجهة التي حسمها الغرب منذ ثلاثة قرون وانطلق بعيداً في طريق التقدم والتطور، ومازلنا في البلدان العربية نعيش على الأطلال ونجتر الماضي دون أن نتعلم منه متمسكين بكل ما أوتينا من قوة في المحافظة على الموروث القديم بكل علله وسيئاته في مواجهة أي تغيير نحو الأفضل في بناء مجتمعاتنا.
ومع استمرار تقدمنا بثبات في مجاهل التخلف والانحطاط يصر البعض على أننا مازلنا "خير أمة أخرجت للناس". أستغرب كيف لأمة لا تنتج بقدر ما تستهلك أن تكون خير أمة؟ ترى ماذا سيحل ببلداننا لو قاطعها هذا الغرب المتقدم الذي ننعته بالكفر،وتوقف عن بيعنا الطائرات والسيارات وامتنع عن تزويدنا بقطع الغيار؟ هل سنستطيع صيانة تلك الطائرات والسيارات والسفن وغيرها من الآليات والمعدات، في الوقت الذي لم نستطع فيه حتى الآن صناعة إبرة الخياطة أو أقلام الرصاص ؟ أم نعود كما كنا إلى استخدام الحمير والجمال والبغال كوسائط للنقل.
فكل الاختراعات العلمية التي نستمتع بها الآن في دولنا المتخلفة تمت في الغرب كالهاتف الخليوي والحاسوب والانترنت، لن نستطيع التمتع بخدماتها إذا ما منعها الغرب عنّا. وكيف سنعالج مرضانا إذا ما توقف ذلك الغرب عن بيعنا للمعدات الطبية وحتى الأدوية؟ هل سنعود إلى الحجاب والتنجيم والضرب بالرمل في معالجة مرضانا؟
أمة تعيش في الجهل والتخلف لا يمكن أن تكون أبداً خير أمة.. أمة مازالت تعتمد في ستر عوراتها على أبرة الخياطة المصنعة في الغرب لا يمكن أن تكون أيضاً خير أمة.
فحتى نكون فعلاً خير أمة أُخرجت للناس، امة تأكل مما تزرع، وتستهلك مما تنتج، أمة لا تتكل على منتجات وصناعات غيرها.. لابد لنا من إعادة الاعتبار للعقل وحرية الفكر والتفكير العلمي القائم، واحترام الإنسان كإنسان وتأمين الحرية له، وتوفير سبل العيش الكريم والتربية السليمة والتعليم الجيد له، وفتح الباب على مصراعيه للمواطنين لتلقي العلم والمعرفة بدون أية عوائق، وارتكاز كل ذلك على مبدأ المواطنة بصرف النظر عن الانتماء السياسي أو الديني أو المذهبي أو اللون والجنس.