لأجل ما حدث في الماضي وما يحدث في الحاضر ,, نعم " فرنسا " بحاجة ثورة كروية
في الوقت الذي انتظر فيه أحفاد مونتسكيو العودة الجذابة لمنصات الكبار ,, تقتهر المنتخب الفرنسي كما لم يكن متوقعا بتلك الطريقة الباهتة التي لم يقاوم فيها أبدا في محاولة تحقيق ما يمكن تحقيقه ,, أو على الأقل تقديم الفعل الثوري رياضيا وانتظار ما إذا كان هذا الفعل قادرا على أن يقودهم للدور المقبل متخطين المنتخب الإسباني الذي بدا قلقا أكثر من قلقهم اتجاهه .
" لوران بلان " ورجاله لم يقدموا في " اليورو " المستوى الذي كان كثيرون يعتقدون بإمكانية تقديمه وتحقيق رقم المفاجئة الصعب وتحطيم توقعات الورق ,, لكن شيء من ذلك لم يحدث وعجز الديوك عن تقديم منقارهم الرفيع في بطولة قارية لا تؤمن سوى بالفعل وما ينتج عنه . وهكذا كان من الصادم أن يقدم المنتخب الفرنسي ذاك المستوى الباهت الذي عكس الجانب الأسود الذي لازالت كرة القدم الفرنسية غارقة في أوحاله ,, عاجزة تمام العجز من أن تخرج نفسها من الموقعة التي ظن كثيرون وأن وجود " بلان " سيفعلها فلم يحصل . والواقع أن المسألة لا تقاس بمجرد جس نبض أو تحليل لمواجهة من 90 دقيقة منحتنا نصف الصورة لكنها أخفت الصورة الباقية وظلت معها أسإلة كثيرين عالقة حول اختيارات المدرب وإن كانت اختيارات أقرب منها للجنون من شيء آخر . دام أن جلوس لاعبين من طينة "نصري " و " إيفرا " يعد أمرا يستحق أكثر من مجرد سؤال ,, ويزيد الوضع تعقيدا عندما يتعلق الأمر بخصم من العيار الثقيل مرشح لنيل اللقب القاري للمرة الثانية على التوالي بعد المونديال العالمي .
غير أن قلة فقط تطرقوا للجانب القوي للسيد الرئيس كما يحلو لعشاق الرجل تلقيبه في بلاد الأنوار ,, والجانب القوي هنا لن يكون غير تلك الشخصية الفذة التي يتمتع بها " لوران بلان " والتي تؤهله لاتخاد قرارات جريئة في أي وقت وحين ,, وإن تعلق الأمر بنهائي كأس العالم وهذا ما أثبته بجدارة أمام الإسبان ,, مستبعدا أسماء رنانة من قبيل قائد الفريق " إيفرا " وزميله الآخر " سمير نصري " ,, وهو الإجراء الذي ذُهل بسببه كثيرون غير مدركين إن كان الرجل في قمة وعي أم جنون . ولكي لا نظلم الرجل ونحن نتحدث عن إجراء مماثل كهذا يكون علينا العودة قليلا للوراء وتحديدا في ما حدث من مسرحية هزلية في مونديال جنوب إفريقيا ,, عندما اختار رفاق " إيفرا " تصدر العناوين لا كمتوجين باللقب كما قد يُحسب وإنما كمتمردين مرغوا الكبرياء الفرنسي في التراب غير مكترثين مبالين بما قد يترتب عنه من عواقب وخيمة وخطيرة على مستقبل المنتخب برمته .
في ذلك اليوم خرج الديوك كما كان متوقعا وبعده خرجوا من خندق مظلم بأعجوبة ,, بعدما ظن الجميع وأن المنتخب مقبل على هزات ارتدادية لم تحدث لحسن الحظ بعد ذاك الزلزال العنيف الذي تسبب فيه " دومينيك " بفداحة أخطائه وسوء تقديره وضعف شخصيته في السطيرة على الأوضاع . بيد أن " بلان " أثبت أنه مختلف وأنه رجل المرحلة بامتياز عندما أوقف تمردا جديدا في غرفة الملابس قاده الثوري " إيفرا " حامل الشارة التي حملها " زيدان " وقبله " بلاتيني " ويا للصدمة ,, محاولا تكرار نفس سيناريو المونديال الأخير بجنوب إفريقيا لغرض في نفس يعقوب .
إن محاولة التمرد الجديدة التي قادها وللمرة الثانية على التوالي عميد " مانشيستر يونايتد " لا يمكن سوى أن تحمل في طياتها درجات قصوى من الخطورة ,, ذلك أن المنتخب الفرنسي لم يعتد لاعبين من هذه النوعية في غرفة الملابس التي لا يرتمي في حضنها اللاعبون بأسمائهم بقدر انتمائهم وروحهم ومستوياتهم ,, وأن يكون متزعم هذا التمرد قائد الفريق فذلك يستحق في أمره رفع درجات الخطر لأقصى مستوياتها,, خاصة وأنها ليست المرة الأولى التي يحدث فيها أمر مشابه وتتعقد من خلالها الأمور بهذه الصورة الدراماتيكية . والأكثر خطورة من هذا يتمثل في كون التمرد شق غرفة الملابس إلى معسكرين ,, أحدهما مساند وآخر مناوئ للمدرب الفرنسي بطل العالم كلاعب لسنة 98 .
هذا الوضع لا يمكن سوى أن يشكل فرصة لثورة حقيقية يتزعمها الاتحاد الفرنسي بمساندة الجهاز الفني ,, ذلك أن رؤوسا قد أينعت وحان قطافها ,, ومن هذه الرؤوس يكون " إيفرا " حاسب نفسه شيغيفارا ومعه " سمير نصري " أبرز هذه الوجوه التي تستحق إقصاءا تاريخيا من حمل قميص المنتخب الذي حمله على الأكتاف العريضة أساطير من وزن " تيري هنري " و " زيدان " و " بلاتيني " ,, فتكون تقنية غرفة الملابس أبرز المطالب الملحة التي تخص كرة القدم الفرنسية اليوم والتي اتضح أخيرا وأن تقدم قطارها لن يتم بدون تغيير شمولي يمس غرفة ملابسها المليئة بالشوائب والعقليات اللاحترافية . ومن هذا المنطلق لا يمكن أن ننتظر من " لوران بلان " قرارا شجاعا منفردا ,, لأنه اليوم بحاجة حقيقية لمساندة فعلية من اتحاد فرنسي يقف بجانب الجهاز الفرنسي في قراراته الجريئة ,, وإلا فإن الأخير لن يجد مجالا واسعا للمناورة والتحرك إن هو لم يجد ما يكفي من المساندة .
لقد كنا نعتقد وأن مجرد الارتماء في حضن أندية ومنتخبات النخبة كفيل بأن يُنضج التفاحة ,, لكن شيء من هذا غير صحيح ,, وتبين وأن التفاحة في كرة القدم لا يمكن لها أن تنضج سوى بالقوانين الصارمة التي تحيط بها من كل حذب وصوب ,, وهي لن تكون بالتأكيد قوانين " نيوتن " الجاذبية ,, لكننا في المقابل نستقصد قوانين كروية جاذبة للعقلية الاحترافية وصانعة إياها . وإن كان " سمير نصري " صاحب الخمس والعشرين سنة الرقم الصعب في هذه المعادلة نظرا لتألقه ولصغر سنه فإن ذلك لا يمكن أن يكون حائلا بينه وبين عقوبات صارمة تصل حد الاستبعاد الكلي من حق الخدمة الوطنية الدولية . وأن كرة القدم علمتنا إمكانية التضحية بالنجوم في سبيل صنع النموذج والقانون للمستقبل وتوضيحه ,, وقد فعلت " برشلونة " ذلك يوما مع أسطورة " شوستر " كما لم تفعل من قبل وكانت أحد أسباب بالغة الأهمية في ولادة صاحب رقم 17 الشهير في أروقة قوانين الاتحاد الدولي للعبة .
أخيرا يكون من الضرورة القول وأن النجم نجم نفسه فقط أما في الميدان فهو لاعب كالبقية ,, وفي غرفة الملابس لاعب محكوم بقرارات المدرب وجهازه الفني ,, أتعلق الأمر حينها بفريق محلي أو منتخب الوطني ,, فالأمر في النهاية سيان ,, ولقد كان " بلان " شجاعا جدا عندما قرر في لحظة صعبة ومفصلية اتخاد ما هو معقد ومناسب في الوقت نفسه من قرارات ,, فهل يكتفي بهذا ,, أم يذهب أبعد من ذلك ويقيم ثورة حقيقية في غرفة الملابس يبدو وأنها كانت عصية على التنظيف منذ نهائي مونديال برلين . ذلك ممكن جدا إن وجد " بلان " وجهازه مساندة اتحاد احترافي وجماهير قادرة على أن تكون أكثر شجاعة من المدرب نفسه مقدرة ما يعنيه قميص بلدها من حموله تفوق تلك التي ظنها لاعبون من أمثال نصري وإيفرا وبنزيما وهلم جرا .