التوفيق بين الأمر بالعفو في بعض آيات القرآن وبين آية (وانتصروا من بعد ما ظلموا) .
السؤال
بارك الله فيكم على ثباتكم على السنة في الوقت الذي نفتقد فيه كثيراً فيمن نستطيع الاعتماد عليهم في الغرب ، في سورة الفرقان يقول الله عز و جل: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَظ°نِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ
هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)) بينما في سورة الشعراء يقول الله عز و جل ( وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) ، ذكر الإمام ابن كثير مع هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال سخروا منهم في الآية
[ فتح الباري 6/351 ] ، وأيضاً قال إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده ، لكأن ما ترمونهم به نضح النبل [أحمد 6:387] فكيف نوفق بين هذه الآيات ؟ وكيف نحقق التفسير ( سخروا منهم في الآية ) ؟
الجواب
الحمد لله
أولًا:
فإن الله سبحانه وتعالى جعل للعفو موضعًا، ولأخذ الحق موضعًا، والخلط بين المقامين يوقع في الحرج.
ولا شك أن العفو أفضل من الانتقام، لكن قد يصير العفو مفضولًا في مناطق أخرى، فمن ترتب على عفوه إضرار بغيره، أو إطلاق ليد الجاني عليه في الشر، واستمرائه له، فعليه أن يسعى في الانتصار وقتئذ
ولا تأخذه بالجاني الرأفة ولا الشفقة لأن المصلحة ثم .
وللمؤمن مع من ظلمه أحوال ثلاثة:
1- وهو أعلى المقامات أن يعفو عنه .
2- أن يمسك عن العفو عنه ليلقى الله تعالى بذنبه .
3- أن يقابل الإساءة بمثلها، وألا يزيد .
والمقام الأول أرفع وأحسن .
روى مسلم في صحيحه (587) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ .
قال النووي رحمه الله :
" مَعْنَاهُ : أَنَّ إِثْمَ السِّبَابِ الْوَاقِعِ مِنَ اثْنَيْنِ ، مُخْتَصٌّ بِالْبَادِئِ مِنْهُمَا كُلُّهُ ، إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ الثَّانِي قَدْرَ الِانْتِصَارِ ، فَيَقُولُ لِلْبَادِئِ أَكْثَرَ مِمَّا قَالَ لَهُ .
وَفِي هَذَا جَوَازُ الِانْتِصَارِ ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ ، وَقَدْ تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة . قال الله تَعَالَى : ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عليهم من سبيل )
وَقَالَ تَعَالَى : ( وَاَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ ينتصرون ) .
وَمَعَ هَذَا : فَالصَّبْرُ وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عزم الأمور) ، وللحديث المذكور بعد هذا : ( ما زاد اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا ) .. "
انتهى ، من شرح مسلم: (16/ 141).
وقالت طائفة من أهل العلم : إن المقصود بمدح من انتصر من ظالمه : هو أن يتمكن ممن ظلمه ، ويظهر قدرته عليه ، ثم يعفو عنه ، ويكظم غيظه .
قال ابن رجب رحمه الله
: " وأمَّا قولُهُ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) ، فليس منافيًا للعفوِ، فإن الانتصارَ يكونُ بإظهارِ القُدرة على الانتقامِ، ثم يقعُ العفوُ بعد ذلك، فيكونُ أتمَّ وأكملَ، قال النخعيُّ في هذهِ الآية ِ:
كانُوا يكرهونَ أن يُستذلُّوا فإذا قَدَرُوا عَفَوْا. وقال مجاهدٌ: كانوا يكرهون للمؤمنِ أن يذلَّ نفسَهُ، فيجترئُ عليه الفُسَّاقُ، فالمؤمنُ إذا بُغِي عليهِ يُظهرُ القدرةَ
على الانتقامِ، ثم يعفوُ بعدَ ذلك، وقد جَرَى مثلُ هذا لكثيرٍ من السلفِ، منهم قتادةُ وغيرُه."
انتهى من "تفسير ابن رجب" (1/331-332)
. وينظر : "تفسير ابن كثير" (7/211) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" قال تعالى: والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا. قال تعالى: هم ينتصرون يمدحهم بأن فيهم همة الانتصار للحق والحمية له؛ ليسوا بمنزلة الذين يعفون
عجزا وذلا؛ بل هذا مما يذم به الرجل والممدوح العفو مع القدرة والقيام لما يجب من نصر الحق لا مع إهمال حق الله وحق العباد."
انتهى، من "مجموع الفتاوى" (15/174) .
وخلاصة الجواب :
للعفو مقام، وللانتصار مقام، وقد يصير الانتقام وأخذ الحق هو الأفضل في حق الجاني، ردعًا لشره، وكفًا لأذاه .
والله أعلم