وهناك أسباب اجتماعية, واقتصادية, وقانونية, ونفسية, تضافرت لتكرس مشكلة العنوسة, أهمها: غياب الوعي الديني وضعف التربية الدينية السليمة, فالمدقق لأسبابها يجد أنها ناجمة عن البعد عن المعايير الدينية الحاكمة للفكر والسلوك والتربية الإسلامية الصحيحة, حيث أدي ذلك الي تراجع كثير من الاعتبارات الأخلاقية, وانتشار الرذيلة, الأمر الذي أدي الي زيادة معدلات العنوسة وتعد البطالة من أهم مكرسات هذه المشكلة لأنها تعطل الطاقات وتقضي علي الآمال, ومنها يتولد الهم والفقر والذل والحقد والحسد
كما تسبب الخروج علي قوانين المجتمع وأعرافه والعداء للقيم والأخلاق لأن ارتفاع معدلات البطالة في أي مجتمع يعني اغلاق باب الأمل أمام الشباب لبناء أسرة الأمر الذي يؤدي الي مزيد من العزوف القهري والإجباري عن الزواج وللأسف صاحب ذلك مغالاة في المهور وتكاليف الزواج, وتغير أنماط الاستهلاك وتحول الكماليات الي ضروريات لايجوز التنازل عنها, وأزمة السكن, وتقصير الدول في مساعدة الشباب الراغب في الزواج, وجفاف العلاقات الاجتماعية, وأيضا بعض العادات التي تكرس العنوسة مثل أن البنت لاتتزوج الا من ابن عمها, ورفض بعض المجتمعات لفكرة تعدد الزوجات
وانحسار طرق الزواج التقليدية وتيسير طرق الارتباط بغير زواج خارج البيت, حتي صارت هذه الأمور شيئا مألوفا وهجرة الشباب خارج البلاد, وتعرض أحد الطرفين لأسباب نفسية أليمة أو معايشة نماذج من الأسر الفاشلة أو التعنس بسبب الطموح أو الخوف وتأمين المرأة لأحوالها المادية والمعيشية وللأسف كان لتعليم الفتاة دور كبير في نشوء الظاهرة.
ويري الإسلام أن علاج العنوسة ليس مسئولية فرد أو حكومة أو مؤسسة وحدها بل مسئولية الآباء والأمهات ومسئولية الرؤساء والحكومات, ورجال الدين ومؤسسات المجتمع المدني, والنقابات والأحزاب, والمؤسسات الخيرية, والتربوية والبحث العلمي والجامعات ووسائل الإعلام التي يجب ان تتعاطي مع هذه المشكلة بإيجابية.. مسئولية جماعية.. فإذا أردنا علاج العنوسة, فلابد من عمل المؤسسات المعنية ووضع استراتيجية تكاملية طموح لعلاجها, وإلا فما تقوم به مؤسسة لعلاجها قد تقوضه وتهدمه مؤسسة أخري.
إن الناظر في تاريخ الحضارة الإسلامية في عصورها الزاهرة يلحظ أن هذه الظاهرة لم يعرفها المجتمع المسلم المتمسك بمنهج الله تعالي, ففي عصر النبي صلي الله عليه وسلم وماتلاه من عصور, كان الزواج ميسورا, فالفتي يتزوج بما يقدر عليه من مهر.. والفقير يتزوج حتي لو كان المهر خاتما من حديد ـ وهذا الخاتم لو رآه أحد في الطريق العام لن يكلف نفسه جهدا للحصول عليه, وهو كناية علي أن المهر يجوز بأقل الأشياء ـ بل كان الرجل يتزوج المرأة الشريفة بما يحفظه من كتاب الله, وكفي بهذا المهر شرفا وسؤددا.. لقد رسخ النبي صلي الله عليه وسلم مبدأ تيسير الزواج, ودعا إليه, وجعل المعيار الأساسي في الزواج, الدين والأمانة والتقوي وليس الغني والثراء..
وقد أرسي صلي الله عليه وسلم هذه المبادئ نظريا بأقواله الشريفة التي تملأ ربوع الدنيا نورا ونورا.. وأرساها عمليا وتطبيقيا بتزويجه علي بن أبي طالب( الفقير) من ابنته السيدة فاطمة( رضي الله عنها) علي درع تسمي الحطمية وكان في مقدوره صلي الله عليه وسلم بإشارة واحدة من أصبعه الأصغر ـ أن يزوجها بأغني الرجال.. وقد سار الصحابة والسلف الصالح, علي نهجه المبارك في تيسيره في أمور الزواج, بل كان الرجل يعرض أحيانا ابنته للزواج من الأكفاء من دون خجل, كما فعل عمر بن الخطاب مع ابنته حفصة ـ حين تأيمت ـ وعرضها علي أبي بكر, وعثمان فسكتا ثم تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم وهكذا كانت أمور الزواج سهلة وميسرة.
وهو يؤسس لقاعدة الزواج, جعل المعيار الأساسي, هو دين الشخص وخلقه وأمانته, وشدد صلي الله عليه وسلم علي ضرورة اتباع هذه الأسس, وعدم مخالفتها, لتحقيق سعادة الفرد والمجتمع, وتحصيل السعادة الأخروية.
وهذا سعيد بن المسيب وكانت ابنته قد خطبها الخليفة عبدالملك بن مروان, لابنه الوليد, فرفض, فلم يزل يحتال عبد الملك عليه حتي ضربه مائة سوط في يوم بارد, ومع ذلك أصر علي رفضه, وآثر ان يقتدي بالنبي صلي الله عليه وسلم في اختيار الكفء لابنته دون ان ينظر الي الجاه أو المال, وبحث عن الرجل المتدين الذي يصون ابنته, فاختار طالب علم فقيرا هو ابن أبي وداعة الذي قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياما, فلما جئته قال: أين كنت؟
قلت: توفيت زوجتي فاشتغلت بها فقال سعيد: ألا أخبرتنا فشهدناها, ثم أردت أن أقوم فقال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله, ومن يزوجني, وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ فقال سعيد: أنا, فقلت: أو تفعل؟ قال: نعم, ثم حمد الله وصلي علي محمد صلي الله عليه وسلم وزوجني علي درهمين فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح, فصرت الي منزلي وجعلت أفكر ممن آخذ وممن أستدين؟ فصليت المغرب وانصرفت الي منزلي, وكنت صائما فقدمت عشائي أفطر, وكان خبزا وزيتا, فإذا بالباب يقرع, فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد ففكرت في كل انسان اسمه سعيد الا سعيد بن المسيب فخرجت فإذا سعيد بن المسيب فظننت أنه قد بدا له الرجوع عن زواجي
فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت الي فآتيك؟ قال: لا أنت أحق أن تؤتي فقال: انك كنت رجلا عزبا لا زوج لك, فتزوجت, فكرهت ان تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك, فأخذ بيدها وقدمها الي ثم انصرف, ثم تقدمت الي القصعة التي فيها الزيت والخبز فوضعتها في ظل السراج كي لاتراها, ثم صعدت الي السطح فرميت الجيران, فجاءوني, وقالوا: ما شأنك؟ قلت: ويحكم! زوجني ابن المسيب ابنته اليوم, وقد جاء بها الي علي غفلة
وها هي في الدار فنزلوا اليها في داري, فبلغ أمي الخبر, فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام ان مسستها قبل ان أصلحها الي ثلاثة أيام, قال فأقمت ثلاثة أيام ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل النساء وأحفظهن للقرآن وأعلمهن بسنة النبي صلي الله عليه وسلم وأعرفهن بحق الزوج ومكثت شهرا لايأتيني سعيد بن المسيب ولا آتيه, ثم أتيته في حلقته, فسلمت عليه, فرد علي السلام, ولم يكلمني حتي تفرق المجلس
فلم يبق غيري فقال: ما حال ذلك الإنسان؟ فقلت: بخير يا أبا محمد, علي مايحب الصديق, ويكره العدو, فانصرفت الي منزلي فوجه لي بعشرين ألف درهم. إن هذه القصة الرائعة تدل علي حرص سعيد بن المسيب علي اختيار الزوج الصالح التقي الأمين لابنته, ولو كان فقيرا, وفيها دعوة للآباء لانتهاج نهج النبي صلي الله عليه وسلم والسلف الصالح في التيسير في أمور الزواج, والبعد عن الإسراف والتبذير, ومساعدة بناتهن وأزواجهن.
وقد أردنا ان نضع الأمثلة السابقة أمام بصر ونظر الآباء والأولياء, علهم يتعلمون منها, ويتركون العادات المنفرة من الزواج المتوارثة عبر الأجيال..
إن المتأمل لمنهج الإسلام في علاج العنوسة, يجد أنه عالجها علاجا نهائيا ومتوازنا ومتكاملا في عدة جوانب:ـ
الأول: أنه عاقب عقوبات صارمة علي العلاقات غير الشرعية, وحرمها تحريما قطعيا, ومن ثم لايكون أمام الشباب ـ لإشباع غرائزهم ـ الا الطريق الحلال.
الثاني: انه أوجب الزواج إيجابا شرعيا للقادر عليه, عصمة له ولزوجته, وحفاظا علي النسل المسلم, كما جعله يدور حول الأحكام التكليفية الخمسة, بل ان الزواج عند بعض الفقهاء كابن حزم يعد واجبا, وهذا الوجوب يعني أنه علي كل انسان ان يتزوج بامرأة, وعلي كل امرأة ان تتزوج برجل, حفاظا علي الكيان الأخلاقي والأسري.
الثالث: انه سهل طرق الزواج, فالرسول صلي الله عليه وسلم يقول : ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه..) وهذا يعني دعوة الي الآباء بألا يتغالوا في المهور, وألا يتعسفوا في الشروط وعليهم أن يعلموا أن الخير والبركة في التوفيق ما بين الزوجين في طريق أحله الله, وليس في الأشكال والصور والاحتفالات والأجهزة وغير ذلك, بل انه جعل المؤسسة الزوجية تقوم علي التراحم والتعاطف وليس علي الشكل المادي أو مصادر الغني والثراء, ومن ثم يجب علي أصحاب القدوة من الأمراء والأثرياء والعلماء والتجار ورجال الدين وغيرهم أن يكونوا مضرب الأمثال, في تيسير أمور زواج بناتهم ومن يتولون أمرهم, بحيث يكون ذلك مبادرة طيبة منهم, لكي يحذو عامة الناس حذوهم, وتقليدهم, ويتخلص المجتمع تدريجيا من التفاخر في البذخ, وسائر العراقيل التي تصرف الشباب عن الزواج..
الرابع: انه فتح أبوابا كثيرة لإعانة المسلم علي الزواج فالدولة تعينه والأهل يعينونه, والمجتمع كله يتضافر حول حماية مؤسسة الزوجية من الانهيار.
الخامس: إباحة التعدد بضوابط تجعل منه وسيلة عملية للمساهمة في حل مشكلة العنوسة مع استقرار الحياة الزوجية وفي النهاية أقول: ان انعكاسات العنوسة السلبية ليست مقتصرة علي الفتاة أو الأسرة بل تتعداها الي المجتمع بأسره, لأنها تهدد استقراره, وتقوده الي العجز عن النمو والتجديد والابتكار, ولا أبالغ ان قلت بأن قضية العنوسة وما يترتب عليها قضية أمن اجتماعي يجب ان تتضافر جهود الجميع للعمل علي حلها وعلاجها علاجا جذريا ونهائيا.
جزاك الله يا أختاه
منقول