قال البرزالي في الموضع الأول عن خصومه : "وحرفوا الكلام ، وكذبوا الكذب الفاحش".
وقال في الموضع الثاني :
" واختلفت نقول المخالفين للمجلس ، وحرفوه ، ووضعوا مقالة الشيخ على غير موضعها ، وشنع ابن الوكيل وأصحابه بأن الشيخ قد رجع عن عقيدته ، فالله المستعان " .
وقال الشيخ نفسه ـ في الموضع الثالث : " وكان قد بلغني أنه زُوِّر عليّ كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير، يتضمن ذكر عقيدة محرفة ، ولم أعلم بحقيقته ، لكن علمت أن هذا مكذوب" .
وقال الشيخ في الموضع الرابع :
" أنا أعلم أن أقواما يكذبون علي ، كما قد كذبوا علي غير مرة .. " ...
ومما يؤيد كذب هذه الأخلوقة : أن الكتاب الذي زعموا : كتب سنة 707 هـ
فكيف يصح هذا ؛ وهم يطالبونه في سنة 708هـ بكتابة شيء بخطه في هذه المسألة نفسها ؟! فإنه لما جاءه المشايخ التدامرة نحو سنة 708هـ وقالوا :
" يا سيدي ، قد حمّلونا كلاما نقوله لك ، وحلّفونا أنه ما يطلع عليه غيرنا : أن تنـزل لهم عن مسألة العرش ، ومسألة القرآن ، ونأخذ خطك بذلك
نوقف عليه السلطان ونقول له : هذا الذي حبسنا ابن تيمية عليه ، قد رجع عنه ، ونقطع نحن الورقة " ، انتهى !! فقال لهم الشيخ : " تدعونني أن أكتب بخطي : أنه ليس فوق العرش إله يعبد
ولا في المصاحف قرآن ، ولا لله في الأرض كلام ؟! "
. ودق بعمامته الأرض ، وقام واقفا ، ورفع رأسه إلى السماء ، وقال : " اللهم إنـي أشهدك على أنهم يدعونني أن أكفر بك وبكتبك ورسلك ، وأن هذا شيء ما أعمله .." ، ثم دعا عليهم .
ولما قالوا له : " كل هذا يعملونه حتى توافقهم ، وهم عاملون على قتلك أو نفيك أو حبسك ؟ ، فقال لهم : " أنا إن قتلت؛ كانت لي شهادة، وإن نفوني؛ كانت لي هجرة.." ؛ فيئسوا منه ، وانصرفوا !!
[ ذكره إبراهيم الغياني ، خادم شيخ الإسلام – الجامع 147-148] .
فلو كان لهم كتاب بخطه في تلك المسائل - كما زعموا - لم يطلبوا منه أن يكتب لهم بخطه كتابا آخر .
فخلصنا أنه لم يكن معهم في المرة الأولى، إلا الكذب والتزوير والتحريف !! "
انظر : "الجامع لسيرة شيخ الإسلام" (39-47) .
على أن شيخ الإسلام ، قد حكى بنفسه ، طرفا من هذه المحنة التي اتصلت نحوا من ثمانية عشر شهرا ، وما كان منه لأعدائه وخصومه فيها ، وما طلبوه منه
وما أجابهم به ، وذلك في أول كتابه الذي صنفه في الرد على مقالة الأشاعرة ، في مسألة "الكلام" ، وسماه : "التسعينية" ، قال رحمه الله بعد خطبة الكتاب :
" أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّهُ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسَبْعُمِائَةٍ , جَاءَ أَمِيرَانِ رَسُولَانِ مِنْ عِنْدِ الْمَلَإِ الْمُجْتَمِعِينَ ، مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَمَنْ مَعَهُمْ
, وَذَكَرَا رِسَالَةً مِنْ عِنْدِ الْأُمَرَاءِ , مَضْمُونُهَا : طَلَبُ الْحُضُورِ وَمُخَاطَبَةُ الْقُضَاةِ ، لِتَخْرُجَ وَتَنْفَصِلَ الْقَضِيَّةُ , وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ خُرُوجُك , وَأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُخْتَصَرًا وَنَحْوُ ذَلِكَ ؟
فَقُلْت : سَلِّمْ عَلَى الْأُمَرَاءِ ، وَقُلْ لَهُمْ : لَكُمْ سَنَةٌ ، وَقَبْلَ السَّنَةِ مُدَّةٌ أُخْرَى ، تَسْمَعُونَ كَلَامَ الْخُصُومِ ، اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، وَإِلَى السَّاعَةِ لَمْ تَسْمَعُوا مِنِّي كَلِمَةً وَاحِدَةً ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ ,
فَلَوْ كَانَ الْخَصْمُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ عَدُوًّا آخَرَ لِلْإِسْلَامِ وَلِدَوْلَتِكُمْ ، لَمَا جَازَ أَنْ تَحْكُمُوا عَلَيْهِ حَتَّى تَسْمَعُوا كَلَامَهُ , وَأَنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ كَلَامَ الْخُصُومِ وَحْدَهُمْ فِي مَجَالِسَ كَثِيرَةٍ , فَاسْمَعُوا كَلَامِي
وَحْدِي فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ , وَبَعْدَ ذَلِكَ نَجْتَمِعُ وَنَتَخَاطَبُ بِحُضُورِكُمْ , فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَقَلِّ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ : ( إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ
أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ؟!
فَطَلَبَ الرَّسُولَانِ أَنْ أَكْتُبَ ذَلِكَ فِي وَرَقَةٍ ، فَكَتَبْته ، فَذَهَبَا ثُمَّ عَادَا , وَقَالَا : الْمَطْلُوبُ حُضُورُك لِتُخَاطِبَك الْقُضَاةُ بِكَلِمَتَيْنِ ، وَتَنْفَصِلوا ؟
وَكَانَ فِي أَوَائِلِ النِّصْفِ مِنْ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ ، جَاءَنَا هَذَانِ الرَّسُولَانِ بِوَرَقَةٍ كَتَبَهَا لَهُمْ الْمُحَكَّمُ مِنْ الْقُضَاةِ , وَهِيَ طَوِيلَةٌ ، طَلَبْتُ مِنْهُمْ نُسَخًا ، فَلَمْ يوافقوا ، وتأملتها
فوجدتها مكذوبة علي ، إلا كلمة واحدة : مِنْ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً ، وأن كلامه حرف وصوت ، قائم به ، بلا تكييف وَلَا تَشْبِيهَ .
قُلْتُ : ليس هذا فِي كلامي ولا خَطِّي .
وَخَاطَبَنِي بِخِطَابٍ فِيهِ طُولٌ ، قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَنَدِمُوا عَلَى كِتَابَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ ، وَكَتَبُوا هَذِهِ .
فَقُلْت : أَنَا لَا أَحْضُرُ إلَى مَنْ يَحْكُمُ فِيّ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَبِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَيَفْعَلُ بِي مَا لَا تَسْتَحِلُّهُ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى , كَمَا فَعَلْتُمْ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ .
وَقُلْت لِلرَّسُولِ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِحُضُورِكُمْ ؛ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَمْكُرُوا بِي كَمَا مَكَرُوا فِي الْعَامِ الْمَاضِي ؛ هَذَا لَا أُجِيبُ إلَيْهِ .
وَلَكِنْ مَنْ زَعَمَ أَنِّي قُلْت قَوْلًا بَاطِلًا ، فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِمَا أَنْكَرَهُ مِنْ كَلَامِي
وَيَذْكُرُ حُجَّتَهُ , وَأَنَا أَكْتُبُ جَوَابِي مَعَ كَلَامِهِ , وَيُعْرَضُ كَلَامِي وَكَلَامُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ , فَقَدْ قُلْت هَذَا بِالشَّامِ ، وَأَنَا قَائِلُهُ هُنَا , وَهَذِهِ عَقِيدَتِي الَّتِي بَحَثْت بِالشَّامِ ، بِحَضْرَةِ قُضَاتِهَا وَمَشَايِخِهَا وَعُلَمَائِهَا .
وَقَدْ أَرْسَلَ إلَيْكُمْ نَائِبُكُمْ النُّسْخَةَ الَّتِي قُرِئَتْ ، وَأَخْبَرَكُمْ بِصُورَةِ مَا جَرَى , وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّي , وَالْعُدْوَانِ ، وَالْإِغْضَاءِ عَنْ الْخُصُومِ مَا قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ ,
فَانْظُرُوا النُّسْخَةَ الَّتِي عِنْدَكُمْ . وَكَانَ قَدْ حَضَرَ عِنْدِي نُسْخَةٌ أُخْرَى منهَا ، فَقُلْت : خُذْ هَذِهِ النُّسْخَةَ ، فهي اعْتِقَادِي ؛ فَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا فَلْيَكْتُبْ مَا يُنْكِرُهُ ، وَحُجَّتَهُ ، لِأَكْتُبَ جَوَابِي ؟
فَأَخَذَا الْعَقِيدَةَ وَذَهَبَا ، ثُمَّ عَادَا وَمَعَهُمَا وَرَقَةٌ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى كَلَامِي ، بَلْ قَدْ أَنْشَئُوا فِيهَا كَلَامًا طَلَبُوهُ . وَذَكَرَ الرَّسُولُ أَنَّهُمْ كَتَبُوا وَرَقَةً ثُمَّ قَطَعُوهَا ثُمَّ كَتَبُوا هَذِهِ ، وَلَفْظُهَا :
" الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ : أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ ، وَأَنْ لَا يَقُولَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ , بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ , وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً
, وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ , وَلَا يَكْتُبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ , وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا ؟
فَلَمَّا أَرَانِي الْوَرَقَةَ ، كَتَبْتُ جَوَابَهَا فِيهَا مُرْتَجِلًا ، مَعَ اسْتِعْجَالِ الرَّسُولِ :
أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ " فَلَيْسَ فِي كَلَامِي إثْبَاتٌ لِهَذَا اللَّفْظِ ; لِأَنَّ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا : بِدْعَةٌ , وَأَنَا لَا أَقُولُ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأَمَةِ .
فَإِنْ أَرَادَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ , أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ رَبٌّ وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ إلَهٌ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْرُجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ , وَمَا فَوْقَ الْعَالَمِ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا .
وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا تُحِيطُ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ , وَلَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ ؛ فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِي , فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَجْدِيدِهِ ؟