رابعا: أما الحديث الذي أورده السائل الكريم فهو حديث صحيح
رواه أبو هريرة رضي الله عنه
قال: قالَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم -: " لا يَنْكِحُ الزَّاني المجلودُ إلا مِثلَه " .
والحديث أخرجه أبو داود (2052)
وأحمد في "المسند" (8300)
والحاكم في "المستدرك" (2700)
وجود إسناده ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (3/180)
وقال ابن حجر في "بلوغ المرام" (1000)
:" رجاله ثقات " .
وصححه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (1790) .
ومعنى الحديث أن من زنى ولم يتب لا يحل له نكاح العفيفة حتى يتوب ، وكذلك من زنت ولم تتب لا يحل لها نكاح
العفيف حتى تتوب ، وأن من زنى ولم يتب ثم تزوج من عفيفة دون علمها كان لها الفسخ ، وإن علمت بفسقه وزناه وأنه لم يتب ثم رضيت به كذلك فنكاحها محرم لقوله تعالى :" وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ "
وأما الوصف بالمجلود فهذا خرج مخرج الغالب ، وإلا فالحكم لازم لكل زان في تحريم نكاح العفيفة وإن لم يجلد .
قال الصنعاني في "سبل السلام" (2/187)
:" الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُزَوَّجَ بِمَنْ ظَهَرَ زِنَاهُ ، وَلَعَلَّ الْوَصْفَ بِالْمَجْلُودِ بِنَاءً عَلَى الْأَغْلَبِ فِي حَقِّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الزِّنَى ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالزَّانِيَةِ الَّتِي ظَهَرَ زِنَاهَا ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ قَوْله تَعَالَى {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}النور/3 ". اهـ
إلا أن هذا الحكم ينتفي عن الزاني المجلود ، وغير المجلود ، بمجرد توبته ، فمن تاب قبلت شهادته ، ولم يَعد اسمه زانيا .
قال ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" (1/97)
:" وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ الْمُسْلِمُونَ فِي الزَّانِي الْمَجْلُودِ : أَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ إذَا تَابَ ". اهـ .
وقال ابن الجوزي في "التحقيق في أحاديث الخلاف" (2/275)
:" وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَا يُسَمَّى زَانيا ". اهـ
وأما زواج الزاني المجلود – إذا صح أنه جلد - التائب من مسلمة عفيفة : فلا إشكال في جوازه أيضا ؛ وإنما المحرم هو زواج الزاني غير التائب بالعفيفة . وقد حمل الإمام الطحاوي الحديث السابق على حال هذا الثاني : أن الزاني غير التائب يحرم عليه أن يتزوج العفيفة .
قال في "شرح مشكل الآثار" (11/473) :
" ذلك عندنا والله أعلم على المجلود في الزنى ، المقيم بعد الجلد على الزنى الذي كان جلد فيه ؛ لا على تركٍ منه لذلك ، ولا نزوع منه عنه ؛ لأن وصفه صلى الله عليه وسلم إياه بالجلد
: ذِكرٌ له بحال هو عنده فيها مذموم ؛ لأن الجلد في الزنى: فيه كفارة للمجلود ، وذمه بذلك : مما يدفع أن يكون ذلك الجلد كان له كفارة ؛ إذا كان مقيما على ما يوجب عليه مثله ". اهـ
وأما الأثر المنقول عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلا يصح عنه ، فقد أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/156) من طريق سعيد بن منصور عن هشيم عن العوام بن حوشب قال أَخْبَرَنَا الْعَلاَءُ بْنُ بَدْرٍ :
أَنَّ رَجُلاً تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَصَابَ فَاحِشَةً ، فَضُرِبَ الْحَدَّ ، ثُمَّ جِيء بِهِ إِلَى عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَفَرَّقَ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ : لاَ تَتَزَوَّجْ إِلاَّ مَجْلُودَةً مِثْلَكَ ".
قال البيهقي عقبه :" هَذَا مُنْقَطِعٌ ". اهـ .
وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل" (550) :" سَمِعْتُ أَبْي يَقُولُ : الْعَلَاءُ بْنُ بَدْرٍ عَنْ عَلِيٍّ : مُرْسَلٌ ". اهـ
والحاصل :
أنه من ابتلي بشيء من هذه القاذورات ، الزنى وغيره ، فليستتر بستر الله ، وليتب إلى ربه توبة نصوحا ، وليعظم الرغبة غلى رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، وليستكثر من الحسنات ، ما وسعه جهده ، لعل الله أن يتقبل منه توبته ، ويكفر عنه سيئاته .
ثم إنه لا حرج عليه ، متى تاب وأناب إلى ربه ، سواء كان رجلا أو امرأة : أن يتزوج زواج العفيف .
وقد ثبت ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فيما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (10689)
من طريق طارق بن شهاب ، وفي "مصنفه" أيضا (10690)
والحارث في "مسنده" (507)
والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/155)
من طريق الشعبي ، كلاهما أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ إِلَيْهِ ابْنَةً لَهُ ، وَكَانَتْ قَدْ أَحْدَثَتْ لَهُ ، فَجَاءَ إِلَى عُمَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ عُمَرُ:" مَا رَأَيْتَ مِنْهَا؟ " قَالَ: مَا رَأَيْتُ إِلَّا خَيْرًا قَالَ:" فَزَوِّجْهَا وَلَا تُخْبِرْ " . هذا لفظ رواية طارق بن شهاب .
ولفظ رواية الشعبي :
" أَنَّ رَجُلًا ، أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّ ابْنَةً لِي وُئِدَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَإِنِّي اسْتَخْرَجْتُهَا فَأَسْلَمَتْ ، فَأَصَابَتْ حَدًّا ، فَعَمَدَتْ إِلَى الشَّفْرَةِ فَذَبَحَتْ نَفْسَهَا ، فَأَدْرَكْتُهَا وَقَدْ قَطَعَتْ بَعْضَ أَوْدَاجِهَا فَدَاوَيْتُهَا فَبَرَأَتْ ، ثُمَّ إِنَّهَا نَسَكَتْ فَأَقْبَلَتْ عَلَى الْقُرْآنِ فَهِيَ تُخْطَبُ إِلَيَّ ؛ فَأُخْبِرُ مِنْ شَأْنِهَا بِالَّذِي كَانَ ؟
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:" تَعْمَدُ إِلَى سَتْرٍ سَتَرَهُ اللَّهُ ، فَتَكْشِفَهُ؟
لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ ذَكَرْتَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهَا : لَأَجْعَلَنَّكَ نَكَالًا لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ ؛ بَلْ أَنْكِحْهَا نِكَاحَ الْعَفِيفَةِ الْمُسْلِمَةِ ".
والأثر صحيح متصل من رواية طارق بن شهاب ، ورواية الشعبي فيها انقطاع ، إلا أن رواية طارق بن شهاب تقويها ، والمعنى واحد كما هو بين .
والله أعلم
ملخص الجواب :
من ابتلي بشيء من هذه القاذورات ، الزنى وغيره ، فليستتر بستر الله ، وليتب إلى ربه توبة نصوحا ، وليعظم الرغبة غلى رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، وليستكثر من الحسنات ، ما وسعه جهده ، لعل الله أن يتقبل منه توبته ، ويكفر عنه سيئاته . ثم إنه لا حرج عليه ، متى تاب وأناب إلى ربه ، سواء كان رجلا أو امرأة : أن يتزوج زواج العفيف .