ثالثا :
مدار فهم هذه المسألة أن نعلم أن الدعاء عبادة ، بل هو من أجل العبادات لله تعالى ، كما قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ . قَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) رواه أبو داود (1479) وغيره ، وصححه الألباني .
والعبادات مبناها على التوقيف ، يعني : على ورود الشرع بها ، كما قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ ) رواه البخاري (2697) ومسلم (1718) ، من حديث عائشة رضي الله عنها .
وفي رواية لمسلم : ( مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ) .
قال الإمام النووي رحمه الله :
" قَالَ أَهْل الْعَرَبِيَّة : ( الرَّدّ ) هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْدُود , وَمَعْنَاهُ : فَهُوَ بَاطِل غَيْر مُعْتَدّ بِهِ .
وَهَذَا الْحَدِيث قَاعِدَة عَظِيمَة مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام , وَهُوَ مِنْ جَوَامِع كَلِمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَرِيح فِي رَدّ كُلّ الْبِدَع وَالْمُخْتَرَعَات .
وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة زِيَادَة وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ يُعَانِد بَعْض الْفَاعِلِينَ فِي بِدْعَة سَبَقَ إِلَيْهَا , فَإِذَا اُحْتُجَّ عَلَيْهِ بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى يَقُول : أَنَا مَا أَحْدَثْت شَيْئًا فَيُحْتَجّ عَلَيْهِ بِالثَّانِيَةِ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيح بِرَدِّ كُلّ الْمُحْدَثَات , سَوَاء أَحْدَثَهَا الْفَاعِل , أَوْ سَبَقَ بِإِحْدَاثِهَا .
وَفِي هَذَا الْحَدِيث : دَلِيل لِمَنْ يَقُول مِنْ الْأُصُولِيِّينَ : إِنَّ النَّهْي يَقْتَضِي الْفَسَاد . وَمَنْ قَالَ : لَا يَقْتَضِي الْفَسَاد يَقُول هَذَا خَبَر وَاحِد , وَلَا يَكْفِي فِي إِثْبَات هَذِهِ الْقَاعِدَة الْمُهِمَّة , وَهَذَا جَوَاب فَاسِد . وَهَذَا الْحَدِيث مِمَّا يَنْبَغِي حِفْظه وَاسْتِعْمَاله فِي إِبْطَال الْمُنْكَرَات , وَإِشَاعَة الِاسْتِدْلَال بِهِ " انتهى .
فإذا علمنا هذا الأصل ، علمنا أنه لا يجوز لنا أن نفعل شيئا على وجه العبادة لله تعالى ، إلا شيئا جاء به الشرع من المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وسواء كان الذي فعلناه اختراعا من عند أنفسنا ، أو اتباعا لغيرنا فيه .
قال شيخ الإسلام رحمه الله ـ مجموع الفتاوى (1/265) ـ :
" ولا يجوز أن يكون الشيء واجبا أو مستحبا إلا بدليل شرعي يقتضى إيجابه أو استحبابه والعبادات لا تكون إلا واجبة أو مستحبة فما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة والدعاء لله تعالى عبادة إن كان المطلوب به أمرا مباحا " انتهى .
وقال أيضا ـ الفتاوى (1/278) ـ :
" والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم : لم يأمر به ، والذي أمر به : ليس مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومثل هذا لا تثبت به شريعة ، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات ، إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه ، وكان ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه لا يوافقه: لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها ، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد ، ومما تنازعت فيه الأمة ، فيجب رده إلى الله والرسول ، ولهذا نظائر كثيرة " .
وقد سئلت اللجنة الدائمة عن : مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقول في دعائه: اللهم أعطني كذا وكذا من خيري الدنيا والآخرة ، بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ، أو ببركة الرسول ، أو بحرمة المصطفى ، أو بجاه الشيخ التيجاني ، أو ببركة الشيخ عبد القادر، أو بحرمة الشيخ السنوسي فما الحكم ؟
فأجابوا :
" من توسل إلى الله في دعائه بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو حرمته أو بركته أو بجاه غيره من الصالحين أو حرمته أو بركته ، فقال: ( اللهم بجاه نبيك أو حرمته أو بركته أعطني مالا وولدا أو أدخلني الجنة وقني عذاب النار) مثلا ، فليس بمشرك شركا يخرج عن الإسلام ، لكنه ممنوع سدا لذريعة الشرك ، وإبعادا للمسلم من فعل شيء يفضي إلى الشرك .
ولا شك أن التوسل بجاه الأنبياء والصالحين وسيلة من وسائل الشرك التي تفضي إليه على مر الأيام، على ما دلت عليه التجارب وشهد له الواقع ، وقد جاءت أدلة كثيرة في الكتاب والسنة تدل دلالة قاطعه على أن سد الذرائع إلى الشرك والمحرمات من مقاصد الشريعة
من ذلك قوله تعالى : ( وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام /108
فنهى سبحانه المسلمين عن سب آلهة المشركين التي يعبدونها من دون الله ، مع أنها باطلة؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سب المشركين الإلهَ الحقَ سبحانه ، انتصارا لآلهتهم الباطلة جهلا منهم وعدوانا ، ومنها: نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ؛ خشية أن تعبد، ومنها: تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، وتحريم إبداء المرأة زينتها للرجال الأجانب ... ولأن التوسل بالجاه والحرمة ونحوهما في الدعاء عبادة ، والعبادة توقيفية ، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ما يدل على هذا التوسل ، فعلم أنه بدعة ...
" انظر : فتاوى اللجنة الدائمة (1/501-502) .