قصة الزباء وعمرو بن عدى كما نقلها ابن هشام
قال هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال كان جذيمة بن مالك ملكاً على الحيرة وما حولها من السواد ملك ستين سنة وكان به وضح وكان شديد السلطان يخافه القريب ويهابه البعيد فنهيت العرب أن يقولوا الأبرص فقالوا الأبرش فغزا مليح بن البرء وكان ملكاً على الحضر وهو الحاجز بين الروم والفرس وهو الذي ذكره عدي بن زيد في قصيدة منها هذا البيت:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ ... دجلة تجبى إليه والخابور
فقتله جذيمة وطرد الزباء إلى الشام فلحقت بالروم وكانت عربية اللسان حسنة البيان شديدة السلطان كبيرة الهمة قال ابن الكلبي لم يكن في نساء عصرها أجمل منها وكان اسمها فارغة وكان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها وإذا نشرته جللها فسميت الزباء قال الكلبي وبعث عيسى بن مريم عليه السلام بعد قتل أبيها فبلغت بها همتها أن جمعت الرجال وبذلت الأموال وعادت إلى ديار أبيها وملكتها فأزالت جذيمة الأبرش عنها وابتنت على الفرات مدينتين متقابلتين من شرقي الفرات ومن غربيه وجعلت بينهما نفقاً تحت الفرات وكان إذا راهقها الأعداء آوت إليه وتحصنت به وكانت قد اعتزلت الرجال فهي عذراء وكان بينها وبين جذيمة بعد الحرب مهادنة فحدث جذيمة نفسه بخطبتها فجمع خاصته فشاورهم في ذلك وكان له عبد يقال له قصير بن سعد وكان عاقلاً لبيباً وكان خازنه وصاحب أمره وعميد دولته فسكت القوم وتكلم قصير فقال أبيت اللعن أيها الملك أن الزباء امرأة قد حرمت الرجال فهي عذراء لا ترغب في مال ولا جمال ولها عندك ثار والدم لا ينام وإنما هي تاركتك رهبة وحذار دولة، الحقد دفين في سويداء القلب له كمون ككمون النار في الحجران اقتدحته أورى وإن تركته توارى وللملك في بنات الملوك الأكفاء متسع ولهن فيه منتفع وقد رفع الله قدرك عن الطمع فيمن دونك وعظم شأنك فما أحد فوقك فقال جذيمة يا قصير الرأي ما رأيت والحزم فيما قلته ولكن النفس تواقة إلى ما تحب وتهوى ولكل امرئ قدر لا مفر له منه ولا وزر فوجه إليها خاطباً وقال ائت الزباء فاذكر لها ما يرغبها فيه وتصبو إليه فجاءتها خطبته فلما سمعت كلامه وعرفت مراده قالت له انعم بك عيناً وبما جئت به وله وأظهرت له السرور به والرغبة فيه وأكرمت مقدمة ورفعت موضعه، وقالت قد كنت أضربت عن هذا الأمر خوفاً أن لا أجد كفؤاً والملك فوق قدري وأنا دون قدره وقد أجبت إلى ما سأل ورغبت فيما قال، ولولا أن السعي في مثل هذا الأمر بالرجال أجمل لسرت إليه ونزلت عليه وأهدت إليه هدية سنية ساقت العبيد والإماء والكراع والسلاح والأموال والإبل والغنم وحملت من الثياب والعين والورق فلما رجع إليه خطيبه أعجبه ما سمع من الجواب وأبهجه ما رأى من اللطف وظن أن ذلك لحصول رغبة فأعجبته نفسه وسار من فوره فيمن يثق به من خاصته وأهل مملكته وفيهم قصير خازنه واستحلف على مملكته ابن أخته عمرو بن عدي اللخمي وهو أول ملوك الحيرة من لخم وكان ملكه عشرين ومائة سنة وهو الذي اختطفته الجن وهو صبي وردته وقد شب ونبر فقالت أمه ألبسوه الطوق فقال خاله جذيمة شب عمرو عن الطوق فصارت مثلاً فاستخلفه وسار إلى الزباء فلما صار ببقة نزل وتصيد وأكل وشرب واستعاد المشورة والرأي من أصحابه فسكت القوم وافتتح الكلام قصير بن سعد قال أيها الملك كل عزم لا يؤيد بحزم قال لي أف ما يكون كونه فلا تثق بزخرف قول لا حصول له. ولا تعتقد الرأي بالهوى فيفسد ولا الحزم بالمنى فيبعد والرأي عندي للملك أن يعتقب أمره بالتثبت ويأخذ حذره بالتيقظ ولولا أن الأمور تجري بالمقدور لعزمت على الملك عزماً بتا أن لا يفعل فأقبل جذيمة على الجماعة فقال ما عندكم أنتم في هذا الأمر، فتكلموا بحسب ما عرفوا من رغبته في ذلك وصوبوا رأيه وقووا عزمه. فقال جذيمة الرأي للجماعة والصواب ما رأيتم. فقال قصير أرى القدر يسابق الحذر ولا يطاع لقصير أمر فأرسلها مثلاً. وسار جذيمة فلما قرب من ديار الزباء نزل وأرسل إليها يعلمها بمجيئه فرحبت وقربت وأظهرت السرور به والرغبة فيه وأمرت أن يحمل إليه الإنزال والعلوفات وقالت لجندها وخاصة أهل مملكتها وعامة أهل دولتها ورعيتها تلقوا سيدكم وملك دولتكم. وعاد الرسول إليه بالجواب بما رأى وسمع فلما أراد جذيمة أن يسير دعا قصيراً فقال أنت على رأيك قال نعم قد زادت بصيرتي فيه أفأنت على عزمك، قال نعم وقد زادت رغبتي فيه. فال قصير ليس للأمور بصاحب، من لم ينظر في العواقب وقد يستدرك الأمر قبل فواته وفي يد الملك بغية هو بها مسلط على استدراك الصواب فإن وثقت بأنك ذو ملك وعشيرة ومكان فإنك قد نزعت يدك من سلطانك وفارقت عشيرتك ومكانك وألقيتها في يدي من لست آمن عليك مكره وغدره فإن كنت ولا بد فاعلاً لهواك تابعاً فإن القوم أن تلقوك غداً فرقاً وساروا أمامك وجاء قوم وذهب قوم فالأمر بعده في يدك والرأي فيه إليك وإن تلقوك رزدقاً واحداً وأقاموا لك صفين حتى إذا توسطتهم انقضوا عليك من كل جانب فأحدقوا بك فقد ملكوك وصرت في قبضتهم وهذه العصا لا يشق غبارها، وكانت لجذيمة فرس تسبق الطير وتجاري الرايح يقال لها العصا فإذا كان كذلك فتملك ظهرها فهي ناجية بك أن ملكت ناصيتها، فسمع جذيمة ولم يرد جواباً وسار وكانت الزباء لما رجع رسول جذيمة من عندها قالت لجندها إذا أقبل جذيمة غداً فتلقوه بأجمعكم وقوموا له صفين عن يمينه وشماله فإذا توسط جمعكم فتعرضوا عليه من كل جانب حتى تحدقوا به وإياكم أن يفوتكم وسار جذيمة وقصير عن يمينه فلما لقيه القوم رزدقاً واحداً أقاموا له صفين فلما توسطهم انقضوا عليه من كل جانب انقضاض الأحدل على فريسته فأحدقوا به وعلم أنهم قد ملكوه. وكان قصير يسايره فأقبل عليه وقال صدقت يا قصير فقال قصير أيها الملك أبطأت بالجواب حتى فات الصواب. فأرسله مثلاً فقال كيف الرأي الآن قال هذه العصا فدونكنها لعلك تنجو بها فأنف جذيمة من ذلك وسارت به الجيوش. فلما رأى قصير أن جذيمة قد استسلم للأسر وأيقن بالقتل جمع نفسه فصار على ظهر العصا وأعطاها عنانها وزجرها فذهبت تهوي به هوى الريح فنظر إليه جذيمة وهي تطاول به وأشرفت الزباء من قصرها فقالت ما أحسنك من عروس تجلي عليّ وتزف إليّ حتى دخلوا به إلى الزباء ولم يكن معها في قصرها إلا جوار أبكار أتراب. وكانت جالسة على سريرها وحولها ألف وصيفة كل واحدة لا تشبه صاحبتها في خلق ولا زي وهي بينهن كأنها قمر قد حفت به النجوم تزهو فأمرت بالإنطاع فبسطت، وقالت لوصائفها خذوا بيد سيدكن وبعل مولاتكن فأخذن بيده فأجلسته على الالطلاع بحيث يراها وتراه وتسمع كلامه ويسمع كلامها، ثم أمرت الجواري فقطعن رواهشه ووضعت الطشت تحت يده فجعلت تشخب في الطشت فقطرت قطرة على النطع فقالت لجواريها ألا تضيعوا دم الملك فقال جذيمة لا يحزنك دم أراقه أهله، فلما مات قالت والله ما وهى دمك ولا شفى قتلك ولكنه غيض من فيض ثم أمرت به فدفن وكان جذيمة قد استخلف على مملكته ابن أخته عمرو بن عدي وكان يخرج كل يوم إلى ظهر الحيرة يطلب الخبر ويقتفي الأثر عن خاله فخرج ذات يوم فنظر إلى فارس قد أقبل يهوي به فرسه هوى الريح فقال أما الفرس ففرس جذيمة وأما الراكب فكالهيمة لأمر ما جاءت العصا فأشرف عليهم قصير فقالوا ما وراءك قال سعى المقدر بالملك إلى حتفه على الرغم من انفي وأنفه فاطلب بثأرك من الزباء فقال عمرو وأي ثأر يطلب من الزباء وهي أمنع من عقاب الجو فقال قصير قد علمت نصحي كان لخالك وكان الأجل رائده والله لأنا عن الطلب بدمه ما لاح نجم وطلعت شمس أو أدرك يه ثأراً أو تخترم نفسي فاعذر، ثم إنه عمد إلى أنفه فجدعه ، فقالوا لأمر ما جذع قصير أنفه ، ثم لحق بالزباء على صورة كأنه هارب من عمرو بن عدي فيل لها هذا قصير بن سعد عم جذيمة وخازنه وصاحب أمره قد جاءك فأذنت له فقالت ما الذي جاءك إلينا يا قصير وبيننا وبينك دم عظيم الخطر فقال يا ابنة الملوك العظام لقد أتيت فيما يؤتي مثلك في مثله ولقد كان دم الملك يطلبه حتى أدركه وقد جئتك مستجيراً بك من عمرو بن عدي فإنه اتهمني بخاله وبمشورتي عليه بالمسير إليك فجدع أنفي وأخذ مالي وحال بيني وبين عيالي وتهددني بالقتل وإني خشيت على نفسي فهربت منه إليك، أنا مستجير بك ومستند إلى كهف عزك فقالت أهلاً وسهلاً، لك حق الجوار وذمة المستجير وأمرت به فأنزل وأجرت له الإنزال ووصلته وكسته وأخدمته وزادت في إكرامه وأقام مدة لا يكلمها ولا تكلمه وهو يطلب الحيلة عليها وموضع الفرصة منها وكانت ممتنعة بقصر مشيد على باب النفق تعتصم به فلا يقدر أحد عليها فقال لها قصير يوماً إن لي بالعراق مالاً كثيراً وذخائر نفيسة مما يصلح للملوك وإن أذنت لي في الخروج إلى العراق وأعطيتني شيئاً أتعلل به في التجارة وأجعله سبباً للوصول إلى مالي أتيتك بما قدرت عليه من ذلك، فأذنت له وأعطته مالاً فقدم العراق وبلاد كسرى فأطرفها من طرائفه وزادها مالاً إلى مالها كثيراً وقدم عليها فأعجبها ذلك وسرها وترتب له عندها منزلة وعاد إلى العراق ثانية فقدم بأكثر من ذلك طرفاً من الجواهر والبز والخز والديباج فازداد مكانه منها وازدادت منزلته عندها ورغبتها فيه، ولم يزل قصير يتلطف حتى عرف موضع النفق الذي تحت الفرات والطريق إليه ثم خرج ثالثة فقدم بأكثر من الأولتين ظرائف ولطائف فبلغ مكانه منها وموضعه عندها إلى أن كانت تستعين به في مهماتها وملماتها واسترسلت إليه وعولت في أمورها عليه وكان قصير رجلاً حسن العقل والوجه حصيناً لبيباً أديباً فقالت له يوماً أريد أغزو البلد الفلاني من أرض الشام فاخرج إلى العراق فاتني بكذا وكذا من السلاح والكراع والعبيد والثياب، فقال قصير ولي في بلاد عمرو بن عدي ألف بعير وخزانة من السلاح والكراع والعبيد والثياب وفيها كذا وكذا وما يعلم عمرو بها ولو علمها لأخذها واستعان بها على حربك وكنت أتربص به المنون وأنا أخرج متنكراً من حيث لا يعلم فآتيك بها مع الذي سألت فأعطته من المال ما أراد وقالت يا قصير الملك يحسن لمثلك وعلى يد مثلك يصلح أمره.ئف فبلغ مكانه منها وموضعه عندها إلى أن كانت تستعين به في مهماتها وملماتها واسترسلت إليه وعولت في أمورها عليه وكان قصير رجلاً حسن العقل والوجه حصيناً لبيباً أديباً فقالت له يوماً أريد أغزو البلد الفلاني من أرض الشام فاخرج إلى العراق فاتني بكذا وكذا من السلاح والكراع والعبيد والثياب، فقال قصير ولي في بلاد عمرو بن عدي ألف بعير وخزانة من السلاح والكراع والعبيد والثياب وفيها كذا وكذا وما يعلم عمرو بها ولو علمها لأخذها واستعان بها على حربك وكنت أتربص به المنون وأنا أخرج متنكراً من حيث لا يعلم فآتيك بها مع الذي سألت فأعطته من المال ما أراد وقالت يا قصير الملك يحسن لمثلك وعلى يد مثلك يصلح أمره.
ولقد بلغني أن أمر جذيمة كان إيراده وإصداره إليكم وما تقصر يدك عن شيء تناله ولا يقعد بك حال ينهض بي وسمع بها رجل من خاصة قومها فقال أسد خادر وليث ثائر قد تحفز للوثبة ولما رأى قصير مكانه منها وتمكنه من قلبها قال الآن طاب المصاع وخرج من عندها فأتى عمر بن عدي فقال قد أصبت الفرصة من الزباء فانهض فعجل الوثبة، فقال له عمر وقل أسمع ومر أفعل فأنت طبيب هذه القرحة فقال الرجال والأموال قال حكمك فيما عندنا مسلط فعمد إلى ألفي رجل من فتيان قومه وصناديد أهل مملكته فحملهم على ألف بعير في الغرائز السود وألبسهم السلاح والسيوف والحجف وأنزلهم في الغرائز وجعل رؤوس المسوح من أسفالها مربوطة من داخل وكان عمرو فيهم وساق الخيل والعبيد والكراع والسلاح والإبل محملة فجاءها البشير فقال قد جاء قصير ولما قرب من المدينة حمل الرجال في الغرائز متسلحين بالسيوف والحجف وقال إذا توسطت الإبل مدينة فالإمارة بيننا كذا وكذا فاخترطوا الربط. فلما قربت العير من مدينة الزباء في قصرها فرأت الإبل تتهادى بأحمالها فارتابت بها وقد كان شيء بقصير إليها وحذرت منه فقالت للواشي به إليه أن قصيراً اليوم منا وهو ربيب هذه النعمة وصنيعة هذه الدولة وإنما يبعثكم على ذلك الحسد ليس فيكم مثله فقدح ما رأت من كثرة الإبل وعظم أحمالها في نفسها مع ما عندها من قول الواشي به إليها فقالت:
ما للجمال مشيها وئيداً ... أجند لا يحملن أو حديدا
أم صرفاناً بارداً شديداً ... أم الرجال في المسوح سودا
ثم أقبلت على جواريها فقالت أرى الموت الأحمر في الغرائز السود فذهبت مثلاً حتى إذا توسطت الإبل المدينة وتكاملت ألقوا إليهم الإمارة فاخترطوا رؤوس الغرائز فسقط إلى الأرض ألفا ذراع بألفي باتر طالب ثأر القتيل غدراً وخرجت الزباء تمصع تريد النفق فسبقها إليه قصير فحال بينهما وبينه فلما رأت أن فد أحيط بها وملكت التقمت خاتماً في يدها تحت فصه سم ساعة وقالت بيدي لا بيدك يا عمرو فأدركها عمرو وقصير فضرباها بالسيف حتى هلكت وملكا مملكتها واحتويا على نعمتها وخط قصير على جذيمة قبراً وكتب على قبره هذه الأبيات يقول:
ملك تمتع بالعساكر والقنا ... والمشرفية عزه ما يوصف
فسعت منيته إلى أعدائه ... وهو المتوج والحسام المرهف