السؤال :
روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اَللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ
بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا .
أما الإمامان أبو داود والنسائي في سننهما فقد رويا عَنْ رَجُلٍ صَحِبَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَغْتَسِلَ اَلْمَرْأَةُ بِفَضْلِ اَلرَّجُلِ , أَوْ اَلرَّجُلُ بِفَضْلِ اَلْمَرْأَةِ , وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا .
والحديث صححه الإمام الألباني طيب الله ثراهم جميعا .
وَلِأَصْحَابِ " اَلسُّنَنِ " : اِغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَفْنَةٍ , فَجَاءَ لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا , فَقَالَتْ لَهُ : إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا , فَقَالَ : "إِنَّ اَلْمَاءَ لَا يُجْنِبُ" .
ومن المعروف أن الأحاديث إذا صحت فلا تعارض
بينها ، ولكني أسأل فضيلتكم الشرح والإيضاح .
الجواب :
الحمد لله
الأحاديث الواردة في هذا الباب على وجهين :
الوجه الأول :
أحاديث تدل على جواز أن يتوضأ أو يغتسل الرجل بفضل وَضوء المرأة ، وهو ما يتبقى من الماء في الإناء الذي توضأت منه ، وقد أخذ بهذه الأحاديث جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد .
قال ابن قدامة :
"اختارها ابن عقيل ، وهو قول أكثر أهل العلم" انتهى .
"المغني" (1/136) .
وقد ذكر السائل بعض هذه الأحاديث ، ومنها أيضا :
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاحِدٍ ، فَيُبَادِرُنِي حَتَّى أَقُولَ : دَعْ لِي . دَعْ لِي . قَالَتْ : وَهُمَا جُنُبَانِ)
رواه البخاري (250) ومسلم (321) واللفظ له .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
"لا بأس أن يتوضأ ويغتسل بفضل الجنب والحائض ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل وعائشة من إناء واحد فقد اغتسل كل واحد منهما بفضل صاحبه" انتهى .
"الأم" (8/98) .
وانظر من كتب الحنفية : "رد المحتار" (1/133) .
الوجه الثاني :
أحاديث تنهى عن ذلك ، وقد أخذ بها ابن عمر فنهى عن فضل المرأة إذا كانت جنبا أو حائضاً ، وأخذ بها مطلقاً الحسن البصري وسعيد بن المسيب
كما في " مصنف ابن أبي شيبة " (1/47-49) .
قال ابن حزم في "المحلى" :
"بهذا يقول عبد الله بن سرجس والحكم بن عمرو , وهما صاحبان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه تقول جويرية أم المؤمنين ، وأم سلمة أم المؤمنين ، وعمر بن الخطاب , وقد روي عن عمر أنه ضرب بالدرة من خالف هذا القول" انتهى .
وأخذ بهذا القول الحنابلة في المعتمد من مذهبهم
كما في "كشاف القناع" (1/37) .
ومن هذه الأحاديث : الحديث الذي ذكره السائل ، وأيضاً :
عن الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : (نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة)
رواه أبو داود (82) ، والترمذي (68)
وقد اختلف العلماء في تصحيح هذا الحديث ، فحسنه الترمذي ، والألباني في "صحيح أبي داود" .
وضعفه الإمام البخاري ، وابن عبد البر في "الاستذكار" (1/209) فقال : مضطرب لا تقوم به حجة .
وقال النووي في "الخلاصة" (1/200) : ضعيف .
وقال ابن القيم في "تهذيب السنن" (1/149) :
ليس بصحيح .
وقد أجاب النووي عن هذه الأحاديث بقوله :
" وأما حديث الحكم بن عمرو :
فأجاب أصحابنا عنه بأجوبة :
أحدها : جواب البيهقي وغيره أنه ضعيف
قال البيهقي , قال الترمذي : سألت البخاري عنه فقال ليس هو بصحيح , قال البخاري : وحديث ابن سرجس الصحيح أنه موقوف عليه ومن رفعه فقد أخطأ
وكذا قال الدارقطني : وقفه أولى بالصواب من رفعه وروي حديث الحكم أيضا موقوفا عليه , قال البيهقي في كتاب المعرفة : الأحاديث السابقة في الرخصة أصح فالمصير إليها أولى .
الجواب الثاني :
جواب الخطابي وأصحابنا : أن النهي عن فضل أعضائها ، وهو ما سال عنها , ويؤيد هذا أن رواية داود بن عبد الله الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري ، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل , أو يغتسل الرجل بفضل المرأة)
يُحمَل على أن المراد ما سقط من أعضائها , ويؤيده أنا لا نعلم أحدا من العلماء منعها فضل الرجل , فينبغي تأويله على ما ذكرته ...
يحملنا على ذلك أن الحديث لم يقل أحد بظاهره ، ومحال أن يصح وتعمل الأمة كلها بخلاف المراد منه .
الجواب الثالث :
ذكره الخطابي وأصحابنا : أن النهي للتنزيه
جمعاً بين الأحاديث" انتهى باختصار .
"المجموع" (2/221) .
وهذا الجواب الثالث الذي هو المعتمد ، أن النهي في الأحاديث ليس للتحريم ، فالأفضل للرجل أن لا يتوضأ بفضل طهور المرأة ، ولكنه إن فعل فهو جائز .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"والصحيح أن النهي في الحديث ليس على سبيل التحريم ، بل على سبيل الأولوية وكراهة التنزيه ...
فالصواب :
أن الرجل لو تطهر بما خلت به المرأة ، فإن طهارته صحيحة ويرتفع حدثه ، هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله"
انتهى من الشرح الممتع" (1/46) .
والله أعلم .