شكرا لك وهذه مكرة أخرى علكم تدمجون بينهما لاخراج مذكرة أكثر نجاعة .....
أبو تمام والمتنبي حكيمان أما الشاعر فالبحتري
شغل هذا الموضوع وهذه المفاضلة بين الشعراء الثلاثة حيزا كبيرا لدى القدامى والمتأخرين فألفت التصنيفات
والكتب لعل أشهرها الكتاب المشهور الموازنة بين الطائيين للآمدي ويعني بهما أبا تمام والبحتري وهناك كتاب آخر للمؤلف نفسه وعنوانه : الوساطة بين المتنبي وخصومه .
سنحاول في هذا الموضوع أن نبحث عن الآراء النقدية التي تتناول وتصبّ في موضوع دراستنا وهو : أبو تمام والمتنبي حكيمان وأما الشاعر فالبحتري ، أي أن نثبت من خلال الموضوعات التي تناولها هؤلاء الشعراء اتسام شعر أبي تمام والمتنبي بالحكمة والعقل أما ميز شعر البحتري فهو العاطفة والخيال والإبداع وذلك من خلال التعرض لأشهر قصائد هؤلاء الشعراء .
1- أبو تمام :
أبو تمام من شعراء الطبقة الثالثة من المحدثين انتهت إليه معاني المتقدمين والمتأخرين ، برز أبو تمام في ظرف مميز وهو حركة الترجمة الواسعة لعلوم الأوائل من اليونان والفرس والهند فتشبع بكل هذه العلوم وهذه الثقافات حتى حصف عقله واتسع خياله ورسم لنفسه مذهبا خاصا به وهو تجويد المعاني وتسهيل العبارة ، استكثر الحكم في شعره واستدل على الأمور بالأدلة العقلية والمنطقية ولو أدى به ذلك إلى التعقيد أحيانا وحاول إخفاء ذلك بالإفراط في استخدام المحسنات البديعية والصور البيانية وهو بذلك مهد الطريق للمتنبي بعده ولذلك كان يقال : " إن أبا تمام والمتنبي حكيمان والشاعر هو البحتري " وتثبت هذه المقولة الفكرة القائلة بأن شعر أبي تمام يغلب عليه العقل والمنطق والحكمة وهذا ما يمكنك أن تقف عليه من خلال بائيته المشهورة التي مطلعها :
السَّـيْـفُ أَصْــدَقُ إنْـبَــاءً مِـــنَ الـكُـتُـبِ ***فِـي حَــدهِ الـحَـدُّ بَـيْـنَ الـجِـد واللَّـعِـبِ
بيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُـودُ الصَّحَائِـفِ*** فِـي مُـتُـونِـهـنَّ جـلاءُ الــشَّـك والــريَـبِ
والعِـلْـمُ فِــي شُـهُـبِ الأَرْمَــاحِ لاَمِـعَـةً ***بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لا فِي السَّبْعَةِ الشُّهُبِ
ونحن نذكر المساجلة الطريفة التي قامت بين ناقد متشبث بالقديم وبين أبي تمام حين قال له: يا أبا تمام: لم تقول ما لا يفهم؟. فأجابه أبو تمام: لم لا تفهم ما يقال؟. وهذه المساجلة تبرز مباينة أبي تمام لما ألفه النقاد والشعراء القدامى فهنا مناظرة بين ذوقين: ذوق عربي خالص يرى أن الشعر ينبغي أن يكون واضح المعاني بعيدًا عن الغموض، وبين ذوق شاعر محدث ذي ثقافة عقلية فلسفية يغوص على المعاني فلا تدرك إلا بكد الذهن، وقد جاءتنا كلمة ابن الأعرابي حين سمع شعر أبي تمام فقال: إن كان هذا شعرًا فما قالته العرب باطل.
يقول ابن الأثير عن أبي تمام : أما أبو تمام فإنه رب معانٍ وصلُ ألباب وأذهان ، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، ولم يمش فيه على أثر ..."
ومجمل القول هو أن شعر أبي تمام اتسم بطابعه الحكمي العقلي ويمكنك الوقوف على ذلك من خلال قصيدته الطويلة فتح الفتوح أو فتح عمورية .
2- البحتري :
يقول القدماء : لم يأت بعد أبي نواس من هو أشعر من البحتري ولا بعد البحتري من هو أطبع منه في الشعر ولا أبد منه في الخيال الشعري .
نشأ البحتري في البادية فابتعد في شعره عن مذاهب الحضريين وتعمقهم وفلسفتهم ، فكان شعره كله بديع المعنى حسن الديباجة ، صقيل اللفظ ، سلس الأسلوب كأنه سيل ينحدر إلى الأسماع ، لذلك اعتبره كثير من الأدباء الشاعر الحقيقي ، واعتبروا أمثال أبي تمام والمتنبي والمعري حكماء ، لسهولة شعره ورقته حتى أن شعره كان أكثر شعر يغنى في عصره
وعلى أن البحتري كان تلميذًا وفيًّا لأبي تمام الذي أخذ بيده في مسيرته الشعرية بوصيته المشهورة، فإنه لم يرض عن إقحام الشعراء المنطق والتعقيد المعنوي في الشعر، فقال أبياته المشهورة التي منها قوله:
كلفتمونا حدود منطقكم والشعر يغني عن صدقه كذبه
والشعر لمح تكفي إشارته وليس بالهذر طولت خطبه
وهو بذلك يرد ويعارض أستاذه أبي تمام ويثبت في الوقت نفسه فهمه للشعر وحقيقة الشعر .
وهذا ما يلخصه ابن الأثير في قوله :" وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى ، وأراد أن يشعر فغنى ، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق . وسئل المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه ، فقال : أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري . ولعمري إنه أنصف في حكمه ، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلالة الماء ، فأدرك بذلك بعد المرام مع قربه إلى الإفهام " .
وكي نقف على شاعرية البحتري وعلى عاطفته المتدفقة يكفي أن نقرأ قصيدته في وصف إيوان كسرى والتي يقول في مطلعها :
صُنتُ نَفسي عَمّـا يُدَنِّـسُ نَفسـي ***وَتَرَفَّعتُ عَـن جَـدا كُـلِّ جِبـسِ
وَتَماسَكتُ حيـنَ زَعزَعَنـي الـدَهر*** التِماسًا مِنـهُ لِتَعسـي وَنَكسـي
وهي قصيدة طويلة تبرز شاعرية البحتري الفياضة
وهناك قصيدة جميلة للشاعر في وصف الربيع والتي مطلعها :
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ***من الحسن حتى كاد أن يتكلما
3- المتنبي :
لا يختلف اثنان في أن المتنبي بلغ مرتبة عظيمة في الشعر شغل الناس قديما وحديثا .
يستشف القارئ من شعر المتنبي معاني الطموح والتعالي وبلوغ المراتب العليا ، فهو يستهل أغلب قصائده بمطلع حكمي يشيد ويعظم ويفتخر ويتعالى إلى المراتب العليا .
تمتاز معاني المتنبي بالعمق والرصانة من أحسن قصائده قصيدته في مدح سيف الدولة والتي يستهلها :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ***وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها ***وتصغر في عين العظائم
وهناك قصيدة أخرى مشهورة له في الفخر ومطلعها :
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ***بأنني خير من تسعى به قدم
فالمتنبي هو شار الشخصية القوية التي تتجلى في جميع شعره مدحا وهجاء وفخرا
يقول ابن رشيق عنه : ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس .
وفي الأخير يمكن اعتماد الآراء التي عرضتها هنا كمادة في تحرير الموضوع كما يمكن الانطلاق من مقولة ابن الأثير لإنجاز الموضوع .
المطلوب :
يقول ابن الأثير : وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى ، وأراد أن يشعر فغنى ، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق . وسئل المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه ، فقال : أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري . ولعمري إنه أنصف في حكمه ، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلالة الماء ، فأدرك بذلك بعد المرام مع قربه إلى الإفهام " .
*-ناقش هذا القول مثبتا صحته أو نافيا فحواه من خلال نماذج شعرية للشعراء الثلاثة .