خامساً :
أما حكم الصلاة في أماكن اللعنة ، والخسف ، وأقوام المعذبين : فالظاهر هو المنع منها :
فقد بوَّب البخاري رحمه الله – (1/166) - على حديث ابن عمر المتقدم : "بَاب الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْخَسْف وَالْعَذَاب ، وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ بِخَسْفِ بَابِلَ" , وهذا من دقيق استنباطه .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وَالْحَدِيث مُطَابِق لَهُ مِنْ جِهَة أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ تَرْك النُّزُول كَمَا وَقَعَ عِنْد الْمُصَنِّف فِي " الْمَغَازِي " فِي آخِر الْحَدِيث " ثُمَّ قَنَّعَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسه وَأَسْرَعَ السَّيْر حَتَّى أَجَازَ الْوَادِي "
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْزِل ، وَلَمْ يُصَلِّ هُنَاكَ
كَمَا صَنَعَ " عَلِيّ " فِي خَسْف " بَابِل " .
"فتح الباري" (1/530) .
وقد صحَّ موقوفاً عن علي رضي الله عنه النهي عن الصلاة في أرض " بابل " من أرض العراق .
قال ابن رجب رحمه الله :
وروى يعقوب بن شيبة ، عن أبي النعيم :
ثنا المغيرة بن أبي الحر الكندي : حدثني حجر بن عنبس ، قال : خرجنا مع " علي " إلى "الحرورية" [الخوارج] ، فلما وقع في أرض "بابل" قلنا : "أمسيتَ يا أمير المؤمنين ، الصلاة ، الصلاة" ، قال : "لم أكن أصلي في أرض قد خسف الله بها" .
وخرجه وكيع ، عن مغيرة بن أبي الحر ، به بنحوه .
وهذا إسناد جيد ... .
ثم قال :
والموقوف أصح .
"فتح الباري" لابن رجب (3/212) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
ولا يصلَّى في مواضع الخسف ، نص عليه [الإمام أحمد] في رواية عبد الله ... فإذا كان المكث في مواقع العذاب ، والدخول إليها لغير حاجة منهيٌّ عنه :
فالصلاة بها أولى , ولا يقال فقد استثنى ما إذا كان الرجل باكياً ؛ لأن هذا الاستثناء من نفس الدخول فقط
فأما المكث بها ، والمقام ، والصلاة :
فلم يأذن فيه ، بدليل حديث " علي " , ولأن مواضع السخط ، والعذاب ، قد اكتسبت السخط بما نزل ساكنيها ، وصارت الأرض ملعونة ، كما صارت مساجد الأنبياء - مثل مسجد إبراهيم ، ومحمد ، وسليمان صلى الله عليهم - مكرَّمة لأجل مَن عبد الله فيها ، وأسسها على التقوى .
فعلى هذا : كل بقعة نزل عليها عذاب : لا يصلَّى فيها ، مثل أرض الحِجر ، وأرض بابل المذكورة ، ومثل مسجد الضرار ؛ لقوله تعالى : (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدً) التوبة/108 .
"شرح العمدة" (3/420) .
بل ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أبعد من تحريم الصلاة ، وهو القول ببطلانها ، ووجوب إعادتها .
قال رحمه الله :
فإن صلَّى : فهل تصح صلاته ؟
فعلى ما ذكره طائفة من أصحابنا :
تصح ؛ لأنهم جعلوا هذا من القسم الذي تكره الصلاة فيه ، ولا تحرم ؛ لأن أحمد كره ذلك , ولأنهم لم يستثنوه من الأمكنة التي لا يجوز الصلاة فيها , ولأصحابنا في الكراهة المطلقة من أبي عبد الله وجهان :
أحدهما : أنه محمول على التحريم , وهذا أشبه بكلامه , وأقيس بمذهبه ؛ لأنه قد قال في الصلاة في مواضع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها : " يعيد الصلاة " , وكذلك عند القاضي ، والشريف أبي جعفر , وغيرهما ، طرد الباب في ذلك ، بأن كل بقعة نهي عن الصلاة فيها مطلقاً :
لم تصح الصلاة فيها ، كالأرض النجسة , وهذا ظاهر ، فإن الواجب : إلحاق هذا بمواضع النهي
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه ، كما نهى عن الصلاة في المقبرة ، ونهى الله نبيَّه أن يقوم في مسجد الضرار , ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى مساكن المعذبين عموماً ، فإذا كان الله نهى عن الصلاة في الأماكن الملعونة خصوصاً , ونهى عن الدخول إليها خصوصاً ، وعمل بذلك خلفاؤه الراشدون ، وأصحابه ، مع أن الأصل في النهي : التحريم
والفساد : لم يبق للعدول عن ذلك بغير موجب وجه" انتهى .
"شرح العمدة" (3/421) .
والله أعلم