الإشكال:هل العقاب وحده كاف لتقويم سلوك الإنسان والحد من الجريمة؟
تعد المسئولية قبل كل شيء إنسانية إذ لا يعقل أن يتحمل غير الإنسان أي مسئولية لذلك لم ينحصر النظر فيها في دائرة الفلاسفة وحدهم بل شاركهم في ذلك ذوي الاختصاص من علماء النفس و الاجتماع و رجال القانون و المنشغلين بعلم الإجرام , و منشأ هذا الاهتمام علاقة المسئولية بالجزاء و أثر هذا الأخير في نفوس الأفراد و في تحقيق التنظيم الاجتماعي و من هنا فقد اختلف جمهور الفلاسفة في إبراز دور العقوبة و مدى تنظيمها لسلوك الأفراد و من هنا يتبادر إلى أذهاننا الإشكال التالي هل العقاب أسلوب ناجع في تنظيم المجتمع ؟ أو بعبارة أصح هل العقوبة تحد من الجريمة و تقوم سلوك الأفراد ؟
يرى أنصار النزعة العقلية أن الجزاء ضروري لتقويم سلوك الفرد لأن هذا الأخير حر و عاقل و بإمكانه الاختيار و اختياره لفعل ما تنتج عنه مسئوليته فهو مسئول باختياره و بهذا الصدد يرى أفلاطون في الكتاب العاشر من جمهوريته في صورة أسطورة فحواها
أن (آر) الجندي الذي قتل في ساحة الشرف يعود إلى الحياة من جديد بصورة لا تخلو من المعجزات فيروي لأصدقائه الأشياء التي تمكن من رؤيتها في الجحيم حيث أن الأموات يطالبون بأن يختاروا
ء و هم المسئولون عن اختيارهم الحر) و في نفس التيار يرى كانط بأن صاحب السوء هو الذي يكون قد اختار بكل حرية تصرفه منذ الأزل بقطع النظر عن الزمن و الطباع فشرور الفاشية في العالم إنما هي نتيجة حرية اختيار يقول كانط إن الشرير يختار فعله بإرادته بعيدا عن تأثير الأسباب و البواعث فهو بحريته مسئول ويجب أن يجاز على أفعاله) ولقد أخذ الوجوديون بموقف مماثل إذ أن وجود الإنسان في رأيهم سابق لماهيته أي أن الفرد يولد أولا ويكون ما يريد بعد ذلك ما يريد وقد نضرت الديانات السماوية في إشكالية العقاب و من بينها الإسلام الذي مثلته فرقة المعتزلة التي تؤكد على قدرة خلق الإنسان لأفعاله لأنه قادر بعقله على التمييز بين الخير و الشر و بالتالي هو مكلف و مسئول عن أفعاله وترى هذه النظرية بدورها أن الغرض من الجزاء و العقاب عن فعل ما ليس تحقيق منفعة للمجتمع أو بتقليل عدد المجرمين بقدر ما هو التكفير عن الذنب الذي لوث به المجرم قيمة العدل و عكر صفوها و هو أيضا تطهير للنفس من الدنس الذي لحق بها نتيجة الأفعال السيئة و في هذا يقول لايبنتز هناك من العدالة ليس غرضه إصلاح الشعور و إنما التكفير عن الفعل السيئ)،ويقول كذلك مالبرانش إن الذي يريد من الله أن لا يعاقب الظالم لا يحب الله) وفي هذا الصدد نذكر المرأة التي جاءت إلى رسول الله (ص) قائلة يا رسول الله إني زنيت فطهرني و إني أريد أن ألقى الله و أنا طاهرة بريئة من ذنبي) وهي تقصد هنا أن يطهرها بإقامة الحد عليها (الرجم) العقاب هنا هو نتيجة للماضي لا إلى ما عسى أن يحدث في المستقبل ونجد أن هذه النزعة تدعو إلى وجود قوانين وعقوبات صارمة تجزر المجرم حتى لا يكرر فعلته في المجتمع بالإضافة إلى إقرار الديانات السماوية بتنفيذ العقوبة بشكل علني وقد انتشرت هذه الفكرة في المجتمعات البدائية و المعاصرة فهي إذا مطلب حضاري .
بالرغم من كل هذه الحجج و الأدلة إلا أن هذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أن حرية الفرد تخضع لبعض الحتميات كذلك أنها اعتبرت المسئولية فردية بطبيعتها و هذا ليس صحيحا لأن الأبحاث الاجتماعية أكدت أن المسئولية بدأت جماعية ثم تحولت إلى فردية بعد تطور طويل في حياة البشر الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية فالفرد قديما كان ذائبا في قبيلته و حين يقوم بفعل شيء ضد قبيلة أخرى لا يعاقب وحده بل تعاقب القبيلة أما الآن فالعقاب فردي يسلط على الفاعل مباشرة كذلك أنها تربط الجزاء بالماضي و هذا لا يؤكد إلا نصف الحقيقة فالجزاء لا بد أن يكون موجها أيضا للمستقبل لحماية المجتمع كذلك أن هذه النظرية تتجاهل الدوافع و الأسباب التي تحد من تصرفاتنا و مسئولياتنا و في هذا يقول لاشونهي إن الفعل الذي يحدث عن حرية مطلقة يعد فعلا مستقلا عن أي أسلوب فطري أو مكتسب و على هذا يعد غريبا عن كل ما يؤلف طبعنا الشخصي و ليس لنا أي مبرر لننسبه إلينا أو لنعتبر أنفسنا مسئولين عنه) كذلك غيو يقول هل نحن نمحي السيئات التي ارتكبها المذنب بتعذيبه؟ إنما ما حدث قد حدث!! )
و على عكس الرأي السابق نجد أنصار النزعة الوضعية الذين يرون بأنه لا يمكننا معاقبة المجرم لأن العقوبة في نظرهم وسيلة تقليدية غير مناسبة فالإجرام حسبهم فعل لا يتعلق بالإرادة بل ينشأ آليا إما بتأثير العوامل الوراثية أو الاجتماعية أو النفسية و أبرز رواد هذه النزعة الإيطالي لومبروزوا و مواطنه فيري و عالم النفس النمساوي فرويد ؛ أما لومبروزوا فيرى أن الإجرام له علاقة بصفات المجرم الوراثية و يقدم إحصائيات لأسر معظم أفرادها من مجرمي المافيا و يعدد تلامذته (50)خمسين مطلوبا للعدالة في أسرة الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون و لومبروزوا يصنف المجرمين إلى أصناف هي كالتالي:مجرمين بالفطرة>بالطبع<, مجرمين مجانين ,مجرمين بالعادة , مجرمين بالعاطفة,و هؤلاء يستهويهم الإجرام,و مجرمين بالمصادفة و يؤكد لومبروزوا أن كل هذه الأصناف قابلة للإصلاح ما عدى الأول الذي يجب مساعدته على الفناء و لو كان طفلا لأن في إفنائه وقاية للمجتمع,أما فيري متأثر بأوغست كونت في العلوم الاجتماعية يرى أن الإنسان لا يولد مجرما و لكن تصنع منه ظروف بيئته الاجتماعية الفاسدة مجرما و لقد أثبت أن العوامل الاجتماعية هي التي تلعب الدور الأساسي في ظهور السلوك الإجرامي و في رأيه أن الإجرام نتيجة حتمية لمجموعة من المؤثرات لا بد عند توفرها من وقوع السلوك الإجرامي , و أخيرا نجد عالم التحليل النفسي فرويد الذي يرى أن بعض السلوكات الإجرامية مردها إلى قوى لا شعورية تتمثل في بعض الدوافع و الميول و الذكريات المكبوتة في لا شعور الإنسان منذ أيام الطفولة فيمكن أن نفسر مثلا السرقة كمحاولة لاسترجاع ما أخذ من الشخص في الماضي , كما يمكن تفسير الخروج عن القانون و مختلف أشكال التمرد و الثورة كثورة الطفل ضد الأب الذي يمثل السلطة عند الطفل أي أنه شكل من أشكال إرضاء الغريزة العدوانية التي استحال تصعيدها و من هنا رصده سلطة الأب القاهرة التي تمنعه من إشباع رغباته كلها و بهذا الصدد يقدمون كذلك إحصائيات لعدد كبير من المجرمين المتخلفين عقليا و المرضى نفسيا و قد دعا هؤلاء إلى ضرورة إصلاح الفرد لا معاقبته و مساعدته على الاندماج في المجتمع,و إلى ضرورة التخلص من المجرمين غير القابلين للإصلاح و الجزاء عندهم هو وقاية للمجتمع من تكرار أفعال الإجرام وهذا يتطلب إصلاح المجرم .
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد ذلك أنهم يرفعون المسئولية عن الفرد ذلك أنه خاضع لعوامل و دوافع أخرى و قي ذلك تشجيع للإجرام,أما بالنسبة للومبروزوا الذي يرى أن للجريمة صبغ خاص بها و هذا أمر لم يثبته العلم بالإضافة إلى ذلك يجب أن يكون العمل الإصلاحي مكملا للعقوبة لا بديلا لها كذلك أن الملاحظة البسيطة تؤكد أنه ليس كل المرضى النفسيين مجرمين بل أن معظمهم مسالمين و إنطوائيين .
ما من إنسان على وجه المعمورة إلا و له عيوب و مساوئ و ما من مجتمع إلا و يعاني ظواهر الشذوذ و الانحراف و في كل الأحوال ما دمنا نعاقب فإننا نعترف بحرية المجرم و بالتالي مسئوليته عن أفعاله و عليه يجب أن يكون الألم الناتج عن العقاب أكبر من اللذة الحاصلة بالجريمة حتى لا يعود إليها في المستقبل و ليس الغرض من العقاب هو الانتقام من المجرم بل ردعه و المحافظة على أمن و سلامة المجتمع , يقول عز وجل و لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) و إذا رأينا في الموقفين السابقين بعض العيوب و النقائص فالموقف الإسلامي يبقى هو الأمثل حيث يحافظ على نقاء النفس و طهارتها و ضمان أمن المجتمع و سلامته دون أن ينسى ظروف الفاعل و ألا يهمل الفعل ذاته.
و هكذا يمكننا أن نستنتج أن العقاب لا يكون وحده دائما هو العلاج الأمثل لأمراض النفوس و عللها إنما يجب النظر في وسائل الوقاية و هذا لا يكون إلا بتوفير كل الشروط الصالحة لتكوين الفرد فبالقضاء على البطالة و أسباب الظلم و الجهل و التخلف نقضي على مصدر الجريمة و بالتالي يصبح المجتمع الإنساني فاضلا لا يحتاج لا لقضاء أو قضاة و هذا ما حدث بالفعل في الدولة الإسلامية الأمر الذي جعل عمر بن الخطاب يقدم استقالته من منصب القضاء في عهد الصديق قائلا يا أمير المؤمنين ...لي عامين في سدة القضاء و لم يتقدم إلي متخاصمين ).
يقول عباس محمود العقاد لا يكفي أن تكون في النور لكي ترى بل ينبغي أن يكون في النور ما تراه )