بل لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته ويمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة. وهم قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وإنهم إذ قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلومًا باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا. وعلي لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان؛ وإنما عينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف. وكان في جهال الفريقين من يظن بعلي وعثمان ظنونًا كاذبة، برأ الله منها عليًا، وعثمان: كان يظن بعلي أنه أمر بقتل عثمان، وكان علي يحلف، وهو البار الصادق بلا يمين أنه لم يقتله، ولا رضي بقتله، ولم يمالئ على قتله.
وهذا معلوم بلا ريب من علي رضي الله عنه. فكان أ،اس من محبي علي ومن مبغضيه يشيعون ذلك عنه: فمحبوه يقصدون بذلك الطعن على عثمان بأنه كان يستحق القتل، وأن عليًا أمر بقتله. ومبغضوه يقصدون بذلك الطعن على علي، وأنه أعان على قتل الخليفة المظلوم الشهيد، الذي صبر نفسه ولم يدفع عنها، ولم يسفك دم مسلم في الدفع عنه، فكيف في طلب طاعته وأمثال هذه الأمور التي يتسبب بها الزائغون على المتشيعين العثمانية والعلوية. وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاويًا كفئا لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه. فإن فضل علي وسابقيته، وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين ولم يكن بقي من أهل الشورى غيره وغير سعد، وسعد كان قد ترك هذا الأمر، وكان الأمر قد انحصر في عثمان وعلي؛ فلما توفي عثمان لم يبق لها معين إلا علي رضي الله عنه. وإنما وقع الشر بسبب قتل عثمان، فحصل بذلك قوة أهل الظلم والعدوان وضعف أهل العلم والإيمان، حتى حصل من الفرقة والاختلاف ما صار يطاع فيه من غيره أولى منه بالطاعة؛ ولهذا أمر الله بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف؛ ولهذا قيل: ما يكرهون في الجماعة خير مما يجمعون من الفرقة. وأما الحديث الذي فيه «إن عمارا تقتله الفئة الباغية»([1]) فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم؛ لكن رواه مسلم في صحيحه، وهو في بعض نسخ البخاري: قد تأوله بعضهم على أن المراد بالباغية الطالبة بدم عثمان، كما قالوا: نبغي ابن عفاف بأطراف الأسل([2]). وليس بشيء؛ بل يقال ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق كما قاله، وليس في كون عمار تقتله الفئة الباغية ما ينافي ما ذكرناه، فإنه قد قال الله تعالى: ]وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ[ [الحجرات: 9-10]، فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغي مؤمنين إخوة؛ بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين. وليس كل ما كان بغيًا وظلمًا أو عدوانًا يخرج عموم الناس عن الإيمان، ولا يوجب لعنتهم؛ فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون؟
وكل من كان باغيًا، أو ظالمًا، أو معتديًا، أو مرتكبًا ما هو ذنب فهو قسمان متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد: كأهل العلم والدين، الذين اجتهدوا، واعتقد بعضهم حل أمور، واعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف. فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال الله تعالى: ]رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[. وقد ثبت في (الصحيح) أن الله استجاب هذا الدعاء([3]). وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام إنهما حكما في الحرث، وخص أحدهما بالعلم والحكم، مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم. والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملومًا ولا مانعًا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثمًا وظلمًا، والإصرار عليه فسقًا، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرًا. فالبغي هو من هذا الباب.
أما إذا كان الباغي مجتهدًا ومتأولًا، ولم يتبين له أنه باغٍ، بل اعتقد أنه على الحق، وإن كان مخطئًا في اعتقاده: لم تكن تسميته باغيًا موجبة لإثمه، فضلًا عن أن تجب فسقه. والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين؛ يقولون: مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم؛ لا عقوبة لهم؛ بل للمنع من العدوان. ويقولون: إنهم باقون على العدالة؛ لا يفسقون. ويقولون هم كغير المكلف، كما يمنع الصبي والمجنون والناسي والمغمى عليه والنائم من العدوان أن لا يصدر منهم؛ بل تمنع البهائم من العدوان. ويجب على من قتل مؤمنًا خطًا الدية بنص القرآن مع أنه لا إثم عليه في ذلك، وهكذا من رفع إلى الإمام من أهل الحدود وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحد، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
والباغي المتأول يُجلد عند مالك والشافعي وأحمد ونظائره متعددة. ثم بتقدير أن يكون البغي بغير تأويل: يكون ذنبًا، والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة: بالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك. ثم «إن عمارًا تقتله الفئة الباغية» ليس نصًا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه؛ بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته، وهي طائفة من العسكر، ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها. ومن المعلوم أنه كان في العسكر من لم يرض بقتل عمار: كعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيره؛ بل كان الناس كانوا منكرين لقتل عمار، حتى معاوية، وعمرو. ويروى أن معاوية تأول أن الذي قتله هو الذي جاء به؛ دون مقاتليه: وأن عليًا رد هذا التأويل بقوله: فنحن إذا قتلنا حمزة. ولا ريب أن ما قاله علي هو الصواب؛ لكن من نظر في كلام المتناظرين من العلماء الذين ليس بينهم قتال ولا ملك، وأن لهم في النصوص من التأويلات ما هو أضعف من معاوية بكثير. ومن تأويل هذا التأويل لم ير أنه قتل عمارًا، فلم يعتقد أنه باغ، ومن لم يعتقد أنه باغٍ وهو في نفس الأمر باغٍ: فهو متأول مخطئ.
والفقهاء ليس فيهم من رأيه القتال مع من قتل عمارًا؛ لكن لهم قولان مشهوران، كما كان عليهما أكابر الصحابة: منهم من يرى القتال مع عمار وطائفته، ومنهم من يرى الإمساك عن القتال مطلقًا. وفي كل من الطائفتين طوائف من السابقين الأولين. ففي القول الأول عمار، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب. وفي الثاني سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة؛ وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر ونحوهم. ولعل أكثر الأكابر من الصحابة كانوا على هذا الرأي؛ ولم يكن في العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن أبي وقاص، وكان من القاعدين.
وحديث عمار قد يحتج به من رأى القتال؛ لأنه إذا كان قاتلوه بغاة فالله يقول: ]فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي[ [الحجرات: 9]. والمتمسكون يحتجون بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن «القعود عن الفتنة خير من القتال فيها»([4])، وتقول: إن هذا القتال ونحوه هو قتال الفتنة؛ كما جاءت أحاديث صحيحة تبين ذلك؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقتال؛ ولم يرض به؛ وإنما رضي بالصلح؛ وإنما أمر الله بقتال الباغي؛ ولم يأمر بقتاله ابتداء؛ بل قال: ]وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ [ [الحجرات: 9]، قالوا: والاقتتال الأول لم يأمر الله به؛ ولا أمر كل من بغي عليه أن يقاتل من بغى عليه؛ فإنه إذا قتل كل باغ كفر؛ بل غالب المؤمنين؛ بل غالب الناس: لا يخلو من ظلم وبغي؛ ولكن إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب الإصلاح بينهما؛ وإن لم تكن واحدة منهما مأمورة بالقتال، فإذا بغت الواحدة بعد ذلك قوتلت؛ لأنها لم تترك القتال؛ ولم تجب إلى الصلح؛ فلم يندفع شرها إلا بالقتال. فصار قتالها بمنزلة قتال الصائل الذي لا يندفع ظلمه عن غيره إلا بالقتال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد»([5]).
قالوا: فبتقدير أن جميع العسكر بغاة فلم نؤمر بقتالهم ابتداء؛ بل أمرنا بالإصلاح بينهم وأيضًا، فلا يجوز قتالهم إذا كان الذين معهم ناكلين عن القتال فإنهم كانوا كثيري الخلاف عليه ضعيفي الطاعة له. والمقصود أن هذا الحديث لا يبيح لعن أحد من الصحابة، ولا يوجب فسقه. وأما أهل البيت فلم يسبوا قط. ولله الحمد. ولم يقتل الحجاج أحدًا من بني هاشم، وإنما قتل رجالًا من أشراف العرب، وكان قد تزوج بنت عبد الله بن جعفر فلم يرض بذلك بنو عبد مناف ولا بنو هاشم ولا بنو أمية حتى فرقوا بينه وبينها؛ حيث لم يروه كفؤًا. والله أعلم. انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله.
([1]) أخرجه البخاري (447)، ومسلم (2915).
([2]) هو كل ما أرق من الحديد، وحدد السيف.
([3]) أخرجه مسلم (123).
([4]) أخرجه البخاري (7081، 7082)، ومسلم (2886) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([5]) أخرجه أبو داود (4772)، والترمذي (1421).