تمرد أولاد نائل على الاتراك من خلال
الكتاب الجديد : ” أولاد نايل من الرواية إلى التدوين”
المؤلف : الدكتور محمد الطيب قويدري
الفصل الثالث
مقاومة الأتـراك العثمانيين
والاحـتـلال الفرنسي
يعد مفهوم المقاومة من المفهومات التي تحتاج إلى تدقيق مستمر عند كل استخدام، فمن مجرد رد فعل بعدم التقبل تتطور المقاومة إلى رفض واع، ثم إلى محاربة حقيقية بما تقتضي من تخطيط وإعداد وتضحية.
وقد تراوحت مقاومة سكان المنطقة للأخطار التي هددت وجودهم بين مقاومة تلقائية للاعتداء على مناطق سكنهم ومراعيهم من القبائل المجاورة الراغبة في إزاحتهم أو التوسع على حسابهم، وبين مقاومة غزوات وحملات منظمة لقوات عسكرية نظامية ذات تجهيز وقيادة تابعين لدولة مثلما كان الحال بالنسبة لمقاومة الأتراك ثم الفرنسيين.
فيما يتعلق بالنوع الأول المرتبط بالتنازع القبلي التقليدي فإن دراسته من شأنها أن تكشف عن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي حالت دون تتويج المقاومة الشعبية الطويلة للغزو الفرنسي بالنصر، وهي أسباب تتعلق في المقام الأول بالبنية القبلية للمجتمع التي لم تساعد على توحده بصورة منتظمة ومستمرة، وبانفصال هذه البنية عن البنية الحضرية التي يبدو أنها ارتبطت بالمدينة الواحدة بدلا من ارتباطها بشبكة من المدن المتعالقة فيما بينها، ولعل هذا السبب هو ما يجعلنا اليوم نميز بين "عقلية" أهل المدن القديمة المستمرة والمتوارثة، وبين "عقلية" أهل المدن الحديثة العهد المستحدثة بصورة تكاد تكون كلية، حيث الأولى مقيدة إلى مثال الأسلاف والثانية متحررة تكاد تنقطع فيها الصلة بالتقاليد بفعل تسارع وتيرة النمو الاقتصادي والعمراني. كما يجعلنا نلاحظ باهتمام عدم قدرة المجتمع على تجاوز عقبات مرحلة التكوين التي ظلت تصاحبه.
أما النوع الثاني من المقاومة فقد اتضح في علاقة السكان المحليين بنمط حكم الأتراك حيث استطاع سكان المنطقة المناورة بطرق مختلفة، وتنظيم أنفسهم بطرق ملائمة، لأن الوقت لعب دورا مفيدا لهم في التعرف على الخصم واختيار أساليب التعامل معه، بينما آثروا في حالة العدوان الفرنسي العنيف والجارف الانضمام في وقت مبكر لأكثر أشكال المقاومة تنظيما وهو دولة الأمير عبد القادر. وقد لعب الوعي الديني والجهد التعبوي لزاوية الشيخ المختار الرحمانية دورا رئيسا وحاسما في مقاومة لم تنقطع بانهيار البنيات السياسية والعسكرية التي أقامها الأمير وخلفاؤه ، بل استمرت قوية بعد هذا الانهيار.
وفيما يتعلق بمقاومة الأتراك تفتقت عبقرية أولاد نايل الحربية واستطاعوا تحقيق انتصارات فوق ما تسمح به إمكاناتهم لأن قيادة المقاومة كانت بيدهم وقرارها كان ملكا لهم، أما في الحالة الثانية فقد اقتصر دورهم على التجند والمساهمة الحربية واللوجستية في أداء الواجبات التي التزموا بها بحكم بيعتهم للأمير وطاعتهم الواجبة له بحكم تلك المبايعة، لكنهم كانوا أكثر حرية في الانضمام إلى أشكال المقاومة الأخرى المتاحة بعد تسليم الأمير، وكانوا أكثر حرية في المبادرة بانتفاضات وأعمال حربية مثل تلك التي تمت بقيادة التلي بن بلكحل.
لكن الثابت في كل الأحوال هو أن سكان المنطقة لم يتوانوا في أي وقت من الأوقات عن التضحية بأغلى ما يملكون وهو الدم والأنفس والأموال في سبيل عزتهم وأنفتهم، وبذلوا ذلك كله حماية لأنفسهم وأرضهم والقيم التي تؤسس اجتماعهم من كل عدوان غريب سواء أكان من مصدر داخلي (قبلي مثلا)أو خارجي.
وقد ظلت معظم قبائل أولاد نائل هدفا لحملات التنكيل ثم لحملات التشويه والتضييق والحرمان، الأمر الذي أدى في الأغلب إلى نهب مواردهم الاقتصادية، ومحاولة تخريب تماسكهم الاجتماعي والثقافي، واستهداف صورتهم الرمزية.
غير أن الملاحظات السالفة لا تمنع من صياغة الإطار الفكري العام الذي تندرج ضمنه مقاومة سكان المنطقة لمختلف أشكال النفوذ الأجنبي الطارئ سواء منه ما التبس بمقومات الانتماء والتعبير الثقافي والديني المشترك للأمة مثل الوجود العثماني، أو ماكان استئصاليا لعناصر ومقومات وجودهم المادية والاجتماعية والروحية مثل الغزو الفرنسي.
فإذا كان النموذج النهضوي العربي البارز في المشرق العربي هو النموذج المصري الذي قام على الجدل بين مشروع إصلاحات محمد علي المبني أساسا على محاكاة النموذج الأوروبي الفرنسي بتأثير ما خلفته حملة نابليون من انطباعات من جهة، وبين مشروع المقاومة الذي تزعمه عرابي و وفر له الأفغاني الإطار الفكري، والخلفية الثقافية والدينية التراثية، فإن النموذج الجزائري النهضوي بدأ مع نشوء مشروع المقاومة الذي توحدت رؤيته وتنفيذه في يد الأمير عبد القادر ، حيث بدأ بناء الدولة باعتباره الجزء الأساس في مشروع مقاومة الغازي الأجنبي.
لم ينظر الأمير وخلفاؤه إلى الفرنسي على أنه عسكري يغزو لمجرد التغلب العسكري ، وإنما نظر إليه في بادئ الأمر على أنه تهديد لنظام الحياة والقيم وللوجود الجزائري بكل عناصره ومقوماته لا سيما الروحية منها، لكن التجربة الحية في الميدان كشفت بصورة تدريجية للأمير أن خطورة ما يجري تتجاوز العقلية العسكرية وما يتصل بها من أبعاد نفسية وسياسية، وأن سلوك العسكر الغازي يتضمن بعدا مؤسسيا ينهض على إيديولوجيا ترفض تمتع سكان البلاد بحق اختيار الانتماء إلى حضارة مختلفة لها مقومات خاصة بها من دين وثقافة ونظام حياة.
لقد تعلم الجزائريون في وقت قصير من الحرب مع الغزاة الفرنسيين ما لم يكن بإمكانهم أن يتعلموه في عقود طويلة من الزمن خارج هذه التجربة القاسية. ولقد انتقل الأمير عبد القادر الشاب نقلة عظيمة من شاب مندمج في رؤيته الطرقية المحلية إلى قائد ذي رؤية إنسانية مجدِّدة لا على مثال سبق .يتمثل ذلك خصوصا في قانونين مهمين هما القانون الخاص بالجيش والقانون الخاص بالأسير الذي لم يسبقه إلى إصدار قانون ممثله حتى أعداؤه .
اقتضى نمط المواجهة الحضاري الشامل مع عدو لم تكن مجهزة لمواجهته بصورة كافية النهوض بدولة جديدة ضاربة بجذورها في أعماق المجتمع، ومسايرة لنمط التنظيم السائد آنذاك ، بل ومتجاوز له في بعض الأحيان. بما توفر له شرع الأمير في عملية البناء هذه وسط ظروف الحرب ، فكان عليه أن يوجِد التنظيمات اللازمة لقيام دولته بوظيفتها، وللتمثيل على ذلك نذكر أنه صاغ بنفسه القوانين المتعلقة بجيشه. ووضعها في كتاب ألفه عنوانه "وشاح الكتائب" ، وهو كتاب تحدث عنه في مذكرة مكتوبة موجهة من قبله إلى الجنرال دوما، كما ذكر هذا الكتاب السيد بيلمار في السيرة المهمة التي أعدها عن شخصية الأمير .( ص 219،ومابعدها)
ولأن هذا التنظيم مهم لإدراك أوضاع تلك الفترة من حياة البلاد، نورد أمثلة عن تلك القوانين فقد أشار الأمير [1]إلى أن مدربي المشاة النظاميين بجيشه كانوا فيما سبق جنودا نظاميين، قدم بعضهم من تونس ومن طرابلس، كما كان بعضهم من الفارين من جيش العدو نفسه، من الفرنسيين والأجانب، وقد أعد الأمير من أجل حسن تنظيم جيشه نظاما(قانونا) عالج مسائل : التسلسل الهرمي (التراتب)، اللباس، نظام الرواتب، الترقيات، التموين والتغذية.
تتألف الوحدات النظامية في جيش الأمير من ثلاثة أسلحة : سلاح المشاة، سلاح الخيالة، وسلاح المدفعية.
1 - سلاح المشاة: تحت قيادة قائد يسمى " الآغا الكبير"، يتألف سلاح المشاة من 8 فيالق ويسمى الفيلق " عسكر" وهو مؤلف من 8 كتائب أو مئات (الكتيبة = مائة، مية)، وكل كتيبة تنقسم إلى ثلاث صفوف أي ثلاث فصائل ، وهناك أيضا باش طبجي السلطان الذي يعد بمثابة قائد سلاح المدفعية وهو يتلقى أوامره من السلطان نفسه ، ومن الجانب الصحي يشرف على كل أطباء الفيالق قائد يسمى : الطبيب الكبير.
يتسمى الفيلق باسم المكان الذي تلقى تدريبه فيه أو المكان الذي يرابط فيه بصورة دائمة، مثلا : عسكر مليانة، عسكر المدية، بينما يطلق على عسكر معسكر وهو أول فيلق أنشأه الأمير بنفسه عسكر السلطان.
يرأس الفيلق آغا ، ويساعده كل من : خوجة الآغا أي كاتبه وهو مسؤول عن كل الكتائب، ومهمته تنظيمية إدارية تتمثل في دفع الرواتب، توزيع الأسلحة، واللباس والتجهيزات، وهو يشرف على إقامة الصلاة بالجنود مع الآغا. وكل فيلق له باش طبجي الفيلق وهو رئيس المدفعيين، وله طبيب أو اثنين: ويداوم الطبيب ضمن الفيلق ويقوم بمهام العلاج والجراحة، وللفيلق أيضا باش طمبورجي يشرف على جميع طمبورجية الكتائب.
أما الكتيبة أو المائة فتنقسم إلى ثلاثة صفوف : يقود الكتيبة ضابط يسمى السياف الكبير: وهو بمثابة (نقيب )، له نائب واحد يسمى السياف الصغير(ملازم)، ويساعده خوجة المائة وهو يشبه الرقيب الأول أو كاتب الكتيبة.وللكتيبة طمبورجي واحد وطباخ واحد.
ويضم الصف في العادة مائة رجل تتغير حسب الضرورات وظروف المعركة، أو حسب قدرات التجنيد. أما الصفوف فيشرف على كل منها رايس الصف وهو يؤدي دور الرقيب ويسمى كذلك كبير الخبا، أي رئيس الخيمة. لأن كل فصيلة أو صف مجهز بخيمة. وينقسم الصف من جهته إلى ثلاث أقسام على رأس كل واحد منها خليفة رايس الصف وهو يقابل العريف في الجيوش الحديثة. وتجهز كل كتيبة بوسائل تتمثل في : جمل واحد لحمل خيم الكتيبة الثلاث، وجمل واحد لحمل أمتعة الضباط والجنود، وبغل واحد تحت تصرف الطباح ولحمل أدوات الطبخ.
2 - سلاح الفرسان: من جهته ، يقوده آغا يساعده خوجة، وفيلق الفرسان يقوده آغا الفيلق، كل فوج يضم قانونيا 50 فارسا، يقودهم سياف، وباقي التأطير يتألف من كبير الخبا بعدد 2 ، وخوجة وحداد، وطباخ.
3 - سلاح المدفعية: يقوده باش طبجي يساعده خليفة (ملازم)، يليه كبير المدفع وهو رئيس القطعة، ثم خوجة ، وطباخ، ثم حامل البوق والشاوش.أما الطوبجية أي المدفعيين البسطاء ، فقد كان عددهم غير محدود.
وبذلك يكون الفيلق عبارة عن جيش صغير يضم مختلف الأسلحة، وهو قابل للتعبئة والتنقل في حالة الحاجة إلى حشد كبير للقوات، ثم العودة بعد نهاية المهمة إلى موقع مرابطته الأصلي.
وفيما يخص مسائل الانضباط، والتسيير اليومي للحياة العسكرية داخل الوحدات النظامية، كان لجيش الأمير نظام خاص يحكمه، وهو نظام ينص على العقوبات التي تخص الجرائم والجنح والمخالفات، ويحدد شروط الترقية، ويضبط المكافئات والرتب والأوسمة.
وكان لكل فيلق مجلس حرب خاص به، ولا يمكن محاكمة الضباط إلا تحت إشراف أحد الخلفاء الثمانية الذين يشرفون على المناطق العسكرية.بينما بقي تجنيد الأفراد المدنيين في صفوف الجيش للتطوع الإرادي الحر بالرغم من ظروف المقاومة الصعبة ومحدودية وسائلها ، فضلا عن كون التطوع في جيش الأمير لمدة غير محددة مما يعني أن المجند يبقى فيه مدى الحياة.
بسبب ظروف المقاومة الصعبة في مختلف مناطق الجزائر ولا سيما عند أولاد نايل توحدت قواها في نموذج منظم وموحد وفرت خلفيته الفكرية الزوايا والطرق التي اعتنقت الجهاد، فحصل بذلك التناسق والانسجام بين قادرية الأمير ورحمانية مبايعيه، وجسد ذلك في الميدان باختيار سي الشريف بن الاحرش خليفة على أولاد نايل، تلميذ الشيخ المختار الذي استقطبت نخبويته مختلف زملائه من تلاميذ ومريدي الزاوية والطريقة من جهة، وكان نوابه الستة من "مقاديم" الرحمانية في معظمهم.
كما أسند بقوى الفروسية والحرب التي مثلها التلي بن بلكحل وورث فيها تقاليد مقاومة الأتراك، ولعل ذلك ما جعل أولاد نايل يستأنفون - بعد انهيار بناء المشروع الأصيل للدولة الجزائرية الجديدة وتسليم الخليفة سي الشريف نفسه التزاما بطاعة أميره- انخراطهم في مسارات جديدة واصلت جهد المقاومة المسلحة بقيادة التلي بن بلكحل حيث سجل لهم التاريخ بالإضافة إلى ما قاموا به منفردين أدوارا ضمن كل مجهود شعبي في محيطهم القريب والبعيد.
وهكذا سار "قوم" أولاد نايل نحو الشرق الجزائري، ثم نحو الجنوب فقدموا مساهمتهم في مشروع المقاومة الوطني بطبعتهم الخاصة، من دون أن يحدث لهم ما حدث لبعض من جيرانهم شمال وجنوب المنطقة قبل ذلك من انحراف إلى محاربة الأمير لهذا السبب أو ذاك، مثل اختلاف الطريقة عند البعض، والتنازع القبلي التقليدي عند البعض الآخر، وإنما كان التزام أولاد نايل مع مشروع الأمير المقاوم التزاما كليا حيث كانوا طلائعه المقاتلة في حملته التي اتجهت نحو الشمال وبلاد القبائل، وكانوا دائما جزءً من مجهوده الحربي بشقيه اللوجستي والقتالي، مثلما كانوا عضوا حيا في جسد دولته.
و من المفيد استخلاص وجه الاختلاف بين المشروع النهضوي الجزائري الذي اتجه الجدل فيه بين الأصالة والمقاومة نحو التوحد والتمازج العضوي الكلي، الذي ولَّد مولودا شرعيا هو الوطنية الجزائرية التي فجرت نخبتها الفاعلة ثورة نوفمبر الشعبية. وبين المشروع النهضوي العربي في المشرق الذي نهض على الصراع بين الاثنين، حيث انفصلت الدولة عن القوى المحركة لثقافة المقاومة، وبقي ضمن جسدها ذلك الشرخ الذي استمر، ليزداد استفحالا، ويولد فيما بعد ثورة 23 يوليو1952م في مصر. وبقدر ما بقي المجتمع المصري بحاجة إلى الثورة لقيادته إلى المقاومة والسير به في طريقها، بقدر ما بقيت الثورة في الجزائر مندمجة بجسم المجتمع الذي يسير بالدولة ضمن مسار المقاومة وثقافتها، بالرغم مما قد يكون من نزوع الأفراد والنخب.
لقد نظرنا هنا إلى أولاد نايل باعتبارهم عينة من المجتمع الجزائري، وحاولنا قراءة معطى المقاومة عندهم في سياقه الشعبي وبعده الوطني، لذلك فإن قسما من نخبتهم المثقفة المكونة في الأساس من تلاميذ الزوايا كانوا قد أطروا حضور دولة الأمير عبد القادر، ثم حدث لبعضهم أن انضم فيما بعد إلى كيان " دولة الغزو" واستفاد من تقلد الوظائف فيها، لكن هذا كان شأن أقلية قليلة، بينما سخرت تلك السلطة كل آلتها الدعائية والنفسية والثقافية، فضلا عن آلتها الحربية، لترويض أولاد نايل وإخضاعهم، وتحويلهم من مجتمع متعلم ذي بداوة متنورة بثقافة الإسلام، وبآداب العربية إلى مشروع مسخ يقبل الذوبان في مشروعها بغرض تجريد الجزائريين من كل مقومات الوجود، ومن كل عناصر الحضارة والهوية المختلفين عنها، وهي المهمة التي فشلت في تجسيدها فشلا تاما. لأن أولاد نايل وهم في قمة الفقر والحرمان والاضطهاد الفرنسي، وبعد عقود من التجهيل المنظم لم يتخلوا عن هويتهم، وعن نمط عيشهم وثقافتهم، ونظامهم الاجتماعي الذي يوغل بجذوره في الخصوصية الجزائرية المتميزة عن العالم شرقه وغربه، شأنهم في ذلك شأن بقية مكونات المجتمع الجزائري المقاومة الأخرى.
أولاد نايل وعلاقتهم بالأتراك العثمانيين:
حسب الملاحظات التي استقاها دوفيلاري من مدونات الدكتور شو الذي أقام بالجزائر العاصمة بين 1720م و1732م فإن حدود بايلك التيطري في عهد مؤسسه حسن باشا بن خير الدين لم تتجاوز ناحية بوغزول، لكن هذه الحدود امتدت في 1727م إلى الأغواط[2].
وكان تحت تصرف باي التيطري ميليشيا نظامية ومجندين من القبائل تنضم إليها كل سنة فرقة قادمة من الجزائر العاصمة وهذه القوات هي التي تتألف منها المحلة التركية التي يقودها الباي بنفسه.
وقد اعتادت القوة العسكرية المعروفة باسم المحلة على نشر الفزع والترويع بين صفوف أهل البلاد من البدو، الأمر الذي جعل أولاد نايل يرصدون خروجها بوضع العيون المكلفين بإنذار قومهم بإشعال النار خوفا من النهب الذي كان المجندون يمارسونه.
وفي الغالب كان الانسحاب نحو الصحراء هو الحل الذي يجنبهم مخاطر الصدام مع قوة عسكرية منظمة موفورة العدد والمؤن، ومسلحة بصورة أفضل.
لكن المواجهة التي تم تحاشيها في العديد من المرات حدثت في 1773م حيث استقدم أولاد نايل النجدات، وترك فرسانهم الخيام ليكمنوا وراء الهضاب المجاورة، ولما جاس الباي وقواته خلال الخيام فاجأ فرسان أولاد نايل مؤخرة قواته وكان الباي من بين قتلى هذه المعركة حسب النص الذي أورده في المجلة الإفريقية فيدرمان وقمنا بترجمته تعميما للفائدة. يقول فيدرمان[3]: « إذا ما استثنينا عثمان وسفطة، البايات الذين حكموا في الوقت نفسه سباو و تيطري لم يخلفوا أي ذكريات تستحق التنويه بها. أسماءهم لم تعرف سوى بفضل أفعال استيفاء الضرائب ، والتنازل عن بعض الامتيازات التي فضلوا بها الشرفة والمرابطين في قبائل التيطري الذين احتفظوا بتلك الذكريات التي كانت في الوقت نفسه موضع تقديرهم وتأسفهم.
الباي عثمان الثاني الذي حمل هذا الاسم، هو من اشترى سنة 1763م الملكية المعروفة آنذاك باسم بلاد سيدون؛ فبنى فيها مخزنا كبيرا للمؤن من كل الأصناف، واسطبلات كبيرة للبغال المخصصة للميليشيا، ولنقل الأغذية وأدوات الحرب التي تستعملها القوات التي تستخلص الضرائب أو تقوم بغزو الجنوب. حوش عثمان كان في ذلك الوقت نقطة الانطلاق لكل الحملات، أو على الأصح الضربات التي يحاول الباي القيام بها ضد سكان المناطق الوسطى. عثمان باي الذي انهزم في إحدى تلك السباقات المغامرة، وقع في أيدي أولاد سي أحمد( عرش من عروش أولاد نايل) الذين قطعوا رأسه.
هذا الفشل يكون قد أفزع خلفاء عثمان ، لأن البايات الأربع الذين خلفوه لم يحاولوا القيام بأي عمل ضد أولاد نايل الذين لم يدفعوا لعدة سنوات أي ضريبة للحكومة التركية.
أخيرا، في 1772 أو 1773 الباي سفطة حاول تنظيم حملة ضد أولاد نايل؛ لكن حسب ما يروى فإن هؤلاء تم إعلامهم من قبل شوافهم (الطلائع) بقدوم القوات، فكان لديهم الوقت لدعوة قوات القبائل المجاورة؛ ثم استدرجوا سفطة الذي اندفع بدون حذر إلى وسط خيمهم، بينما كان كل فرسان أولاد نايل تقريبا يكمنون وراء الهضاب المحيطة. وما إن اندفعت القوات التركية مخترقة الكدية التي كانت تحجبها حتى انقض هؤلاء على مؤخرة قوات الباي، الذي قتل مع عدد كبير من الجنود النظاميين، وفرسان المخزن.»
وقد نقل الكاتب ضمن النص الفرنسي الأصلي الذي قمنا بترجمته أبياتا كان أولاد سي أحمد يتغنون بها في أيامه وهي بالعربية :
يا سفطة وجه النار
التورية محفورة
ومجلدة بجلد الحمار
ومن بين كل أولاد نايل كانت عروش أولاد سي امحمد الأكثر عرضة لتهديد المحلة التركية بسبب استقرار هؤلاء في الجزء الشمالي من المنطقة، و تمسكهم بزاغز، وخوفهم من استيلاء القبائل المنافسة لهم عليه في حال مغادرته اتقاء لشر المحلة، وبعد استسلام الأغواط سنة 1727مأصبحت منطقة الجلفة جزء من القطاع الرابع الجنوبي من بايلك التيطري، لكن البايات كانوا مشغولين بالمناطق الشمالية التي تملكوا فيها الأراضي.
أما المنطقة الجنوبية فإن الباي عثمان هو الذي اهتم بها بصورة مخصوصة، ونظم حملات إليها قاد إحداها سنة 1764م ضد أولاد نايل حيث وقع في أسر أولاد سي أحمد الذين قطعوا رأسه جنوبي زاغز في المرتفع الذي مازال إلى الآن يحمل تسمية كدية الباي[4]. وفي 1773م أعاد الكرة مرة أخرى الباي صفطة فنظم حملة مماثلة كان مصيره فيها القتل كما سلف أن أشرنا إليه بعد أن وقع فيكمين أولاد نايل.
بعد 1775م كان باشا الجزائر قد وعى جيدا صعوبة الجمع بين تسيير شؤون تجمعين مضطربين هما منطقة القبائل ومنطقة أولاد نايل. لذلك عمد إلى إلحاق الأولى بالعاصمة وكلف بها آغا الجزائر، وقرر جعل مدينة المدية مقر بايلك التيطري. وضمن سياق تجديد نظرة الحكم التركي إلى المنطقة تم تعيين رجل ذي مواصات مختلفة هو مصطفى الوزناجي ليتولى قيادة وتسيير شؤون البايلك الجديد من 1775م إلى 1794م . وقد نجم عن ذلك التغيير السياسي والإداري أن عرف سلوك الدولة في ولايته تطورا مهما، وتحسن تنظيم الحكم من مختلف جوانبه المدنية والعسكرية كما سيتضح لنا.
تنظيم الحياة المدنية:[5]
الشيخ: ترتبط كل قبيلة بالباي بصورة مباشرة ويتولى شيخ يختار من بينها البت في كل القضايا الداخلية، بينما يستشير رؤساء النزل أي رؤساء التجمعات العائلية الكبيرة.
السوق: أقامها الأتراك في عين الباردة عند أولاد علان، وهي سوق سنوية للقمح والشعير مخصصة لأولاد نايل. وتتجه قافلة ضخمة نحو السوق المذكورة تحت إشراف شيخ أولاد مختار، أما سعر الحبوب فيها فيرجع تحديده إلى الباي نفسه.
الضرائب: لأن أولاد نايل لا يزرعون الأرض فقد تم إعفاؤهم من ضريبة العشر. أما رسم الحصة فقد كانت قيمته تساوي حوالي ريال واحد لكل حمولة بعير واحد.
وقدكلف قايد( كلوغلي ) مقيم بالمدية بتحصيلها لذلك فهو يتجه نحو عين الباردة عند حضور القافلة لإنجاز مهمته.
فضلا عن ذلك هناك الغرامة: وقد جرت العادة أن يؤديها أولاد نايل بصورة جماعية وعينية ممثلة في 6 أحصنة، و240 وعاء من السمن زنة الواحد 8 كلغ. كما تشمل الغرامة تقديم 500 إلى 600 رأس غنمو100جمل.
وينتقل خليفة الباي بصورة مخصوصة إلى البرواقية لاستلام هذه الغرامة. ويذكر أن قبائل المخزن المعفاة من المشاركة في دفع الغرامة، تقدم بدلا من ذلك فرسانا من بين أبنائها يسخرون للمساعدة في عمليات جمع الضرائب.
التنظيم العسكري:
تشمل القوة العسكرية الضاربة التابعة لبايلك التيطري جنودا نظاميين وآخرين غير نظاميين، أما النظاميون فينقسمون كالآتي:
ـ 50 صبايحي تركي. و 100إلى120 زبنطوط تحت التصرف بصورة دائمة.
ـ 300إلى400 زبنطوط آخر يتمركزون في المدية لكن الباي لا يستطيع التصرف فيهم إلا بموافقة آغا العاصمة.
أما غير النظاميين فهم في الغالب :
ـ 15 مكاحلية لحراسة الباي الشخصية .
ـ 150فارسا من أولاد مختار، وحوالي 800 فارس من قبائل المخزن.
المحلة التركية :
تتألف من الآتي:
ـ في المقدمة: قوم أولاد مختار.
ـ الباي وإقامته العسكرية.
ـ الزبنطوط
ـ فرسان المخزن وقبايل راية
ـ 2 إلى 3 مدافع منقولة في بعض الأحيان.
مقاومة أولاد نايل ضد حملات الأتراك:
لوقائع أولاد نايل مع الأتراك تاريخ مرير حافل بالانتصارات والتضحيات، وكانت وقائعه بالرغم من عدم تكافؤ ميزان القوى سجالا بين الطرفين، وفي هذا السياق يمكن أن نحصي العديد من الحملات العقابية التي نظمت ضد أولاد نايل. فقد قاد حسن باي الذي كان على رأس بايلك التيطري من 1801 إلى 1806م عدة حملات "ناجحة" ضد أولاد نايل، كما قاد إسماعيل باي التيطري من 1809 إلى 1813م حملة ضد أولاد نايل بعد رفضهم دفع الضرائب غير أن هؤلاء استطاعوا تجنب مواجهته بعد علمهم المسبق بخروجه إليهم.
ومن جهة أخرى قام إبراهيم ساحر باي التيطري من 1814 إلى 1816م بمباغتة أولاد نايل الخارجين عن طاعته في ناحية مجدل. أما إبراهيم قسنطيني باي المدية من 1817 إلى 1819م فقد هاجم أولاد ضيا تحت قيادة بلقاسم بن الرعاش بناحية المطمورة، وبعد قتال شديد عاد الباي منتصرا محملا بثلاثة شواري ( أحمال) من الرؤوس المقطوعة. وقام الباي مصطفى بومزراق الذي حكم التيطري من 1819 إلى 1830م في بداية حكمه بغزوة ضد أولاد فرج بعين الريش ، كما قام بحملة أخرى ضد أولاد سعد بن سالم لكنه اقتصر على نهب ما خلفوه وراءهم بعد أن استطاعوا الإفلات منه.
أما زنينة (الإدريسية) وهي من أقدم الحواضر بالمنطقة، وأكثرها تمدنا وازدهارا، فقد نهبها في وقت مبكر باي معسكر الباي محمد الكبير سنة 1785م، وقد بادر سكانها الذين فضلوا النجاة بأنفسهم إلى إخلائها تاركين بها خيرات عظيمة من كل أنواع الغلال ومختلف لوازم الحياة المترفة.
ويلخص دوفيلاري الأحداث التي عرفتها المنطقة في عهد إيالة الجزائر في ثلاث مراحل هي:
ـ مرحلة ما قبل 1725م ولم تمتد فيها سلطة الإيالة إلى المنطقة وعرفت انتقال أولاد نايل إلى التل للتمون، وتغلغل القوات العسكرية التركية في المنطقة لمحاولة إخضاعها.
ـ المرحلة التي تبدأ من سنة 1725م حتى 1775م وعرفت بايلك التيطري الذي شمل المنطقة الواقعة بين بوغزول والأغواط غير أن إشراف الباي على منطقة القبائل قلل من قدرة البايلك على التوغل جنوبا إلا بوحدات محدودة مما أدى إلى مقتل بايين اثنين على أيدي أولاد نايل كما سلف.
ـ مرحلة ما بعد 1775م وعرفت إلحاق منطقة القبائل بالعاصمة، وقيام مصطفى وزناجي بإصلاحات أعادت تنظيم بايلك التيطري. وقد استطاع هذا الأخير بفضل ما أوتي من دهاء وحزم حيث نجح في المزاوجة بين المرونة والصرامة، أن يكسب ود زعماء أولاد نايل ويحصل بالتدريج على ولائهم، غير أن خلفاءه لم ينجحوا في مواصلة مسعاه، ليصبح زعماء أولاد نايل مرتبطين مباشرة بيحي آغا في الجزائر العاصمة إلى غاية سقوط الجزائر في أيدي الفرنسيين لتعم الفوضى وينتقل ولاء أولاد نايل إلى الأمير عبد القادر.
بعد سقوط الجزائر بدأت مرحلة صعبة شهدت تبادل الغزو بين القبائل المختلفة حيث غزا أولاد نايل التل لكنهم صدوا من قبل أولاد مختار، وفي 1831م غزا 1500 فارس من أولاد نايل المناطق الواقعة بين بوغار وسور الغزلان واستطاعوا بفضل نجاح غزوتهم الحصول على كمية ضخمة من الغنائم. وأعادوا الكرة سنة 1832م نحو المسيلة حيث قتلوا 30 جنديا تركيا ومرافقيهم من المشاة العرب، لكن البواعيش وأولاد خليف وأولاد الشايب قاموا في الوقت نفسه وفي غيابهم بالإغارة على مرابضهم. بعد عودتهم قام فرسان أولاد نايل بالهجوم على كل قبيلة من القبائل المذكورة على حدة ردا على الغارة المذكورة. أما في 1834م فقد قام أولاد سي امحمد بالتوغل في التل لكن الكوليرا فتكت بهم فاغتنم الأرباع فرصة غيابهم وقاموا بغزوهم.
- الدكتور محمد الطيب قويدري
... يتبع
[1]A. Berbrugger, ouichah el-kataib. Revue africaine ,volume8,1864.p 98,99.
[2]Voir : De villaret.p134.
[3]فيدرمان، ملاحظات حول تاريخ وإدارة بايلك التيطري. المجلة الإفريقية :1865:مجلد 9 ص 284، 285، 286 .
[4]فيدرمان,المرجع السابق :1865 :285.في دوفيلاري :136.
[5]De villaret,134,135.