وَقَوْلُهُ: (يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ )، (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ )، (إِلَيْهِ يَصْعَدُالْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ )
(يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًالَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَىوَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا )، وَقَوْلُهُ: (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءأَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَاهِيَ تَمُورُ * أَمْأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءأَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًافَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ) .
/ش/وقولـه: (يَاعِيسَى... ) إلخ؛ هذه الآيات جاءت مؤيِّدة لما دلَّت عليه الآيات السابقة من علوِّه تعالى وارتفاعه فوق العرش مباينًا للخلق، وناعية على المعطِّلة جحودهم وإنكارهم لذلك، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
ففي الآية الأولى ينادي الله رسوله وكلمته عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بأنَّه متوفِّيه ورافعه إليه حين دبَّر اليهود قتله، والضمير في قوله( إِلَيَّ )هو ضمير الرب جلَّ شأنه، لا يحتمل غير ذلك، فتأويله بأن المراد: إلى محل رحمتي، أو مكان ملائكتي... إلخ لا معنى له.
ومثل ذلك يقال أيضًا في قوله سبحانه ردًّا على ما ادَّعاه اليهود من قتل عيسى وصلبه: (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ).
وقد اختُلِفَ في المراد بالتوفِّي المذكور في الآية، فحملـه بعضهم على الموت، والأكثرون على أنَّ المراد به النوم، ولفظ المتوفَّى يُسْتَعْمَل فيه؛ قال تعالى:
(وَهُوَالَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَاجَرَحْتُم )
ومنهم مَن زعم أنَّ في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، وأنَّ التقدير: إنِّي رافعك ومتوفيك؛ أي: مميتك بعد ذلك.
والحق أنَّه عليه السلام رُفع حيًّا، وأنَّه سينزل قرب قيام الساعة؛ لصحَّة الحديث بذلك .
وأما قولـه سبحانه: (إِلَيْهِ يَصْعَدُالْكَلِمُ الطَّيِّبُ )؛ فهو صريحٌ أيضًا في صعود أقوال العباد وأعمالهم إلى الله عز وجل، يصعد بها الكرام الكاتبون كل يوم عقب صلاة العصر، وعقب صلاة الفجر؛ كما جاء في الحديث:
((فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم ـ كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: يا ربنا! أتيناهم وهم يصلُّون, وتركناهم وهم يصلُّون)) .
وأما قوله سبحانه حكايةً عن فرعون: (يَاهَامَانُ... )إلخ؛ فهو دليل على أنَّ موسى عليه السلام أخبر فرعون الطاغية بأنَّ إلهه في السماء، فأراد أنْ يتلمَّس الأسباب للوصول إليه تمويهًا على قومه، فأمر وزيره هامان أنْ يبني له الصرح، ثم عقَّب على ذلك بقوله : (وَإِنِّي لأَظُنُّهُ )؛ أي: موسى (كَاذِبًا )فيما أخبر به من كون إلهه في السماء، فمَن إذًا أشبه بفرعون وأقرب إليه نسبًا؛ نحنُ أم هؤلاء المعطِّلة؟! إنَّ فرعونَ كَذَّبَ موسى في كون إلهه في السماء، وهو نفس ما يقوله هؤلاء.
قولـه: (أَأَمِنتُم... )إلخ؛ هاتان الآيتان فيهما التصريح بأنَّ الله عز وجل في السماء، ولا يجوز حمل ذلك على أنَّ المراد به: العذاب، أو الأمر، أو المَلَك؛ كما يفعل المعطلة؛ لأنَّه قال: (مَّن )، وهي [للعاقل] ، وحَمْلُها على المَلَك إخراجُ اللفظ عن ظاهره بلا قرينة توجب ذلك.
ولا يجوز أنْ يُفهم من قوله: (فِي السَّمَاء ) أنَّ السماء ظرفٌ له سبحانه؛ بل إنْ أُريد بالسماء هذه المعروفة؛ فـ (فِي )بمعنى على؛ كما في قوله تعالى: (وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل ) ، وإنْ أريد بها جهة العلو؛ فـ (فِي ) على حقيقتها؛ فإنَّه سبحانه في أعلى العلوِّ.