الحمد لله وحده
وبعد فقد أطلعني بعض الإخوة على مقال للأستاذ عبد الباقي مفتاح (من أتباع الطريقة الهبرية)، يردُّ فيه على مَنْ يشكك في نِسبة كتاب المواقف للأمير عبد القادر، وطلب مني إبداء الرأي؛ فأقول مستعينًا بالله تعالى:
في الحلقات التي نشرتُها في منتديات الجلفة ، وغيرها ، تحت عنوان (رد الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر الجزائري) نبَّهتُ إلى أنني بصدد كتابة بحثٍ خاص بمسألة نسبة كتاب المواقف للأمير، والحديث عن فكر الأمير وتصوفه وكذلك الحديث عن ديوانه الشعري ، وأنا إن شاء الله ماضٍ في تحضير هذا البحث ، إلاّ أن ضيق الوقت وكثرة المشاغل وعدم التفرّغ حالت دون سرعة إنجاز هذا البحث ، وأنا كلما قاربت على الانتهاء منه انفتح لي باب جديد يحتاج إلى تمحيص وتوثيق ، وأسأل الله تعالى أن يوفقني للحق ولما فيه رضاه.
ويبدو لي أن بعض الناس متعجِّلون ويريدون البتَّ في هذا الشأن. واستجابةً لطلب الأخ الفاضل الذي أطلعني على المقال ، كتبتُ هذا الرد الموجز، على وجه السرعة ، للتنبيه على بعض المسائل التي أخطأ فيها الأستاذ عبد الباقي مفتاح في مقاله ؛ أمّا معالجة الموضوع كلّه فستكون في البحث الخاص الذي أُعِدُّه في هذا الشأن ، وبعد نَشْرِه يمكن أن يكون هناك نقاش أو حوار لتستبين الحقائق وتنجلي، أما هنا فليس المجالُ مجالَ سجال أو نقاش.
والأستاذ مفتاح (كما تُعرِّفه الصحافة الجزائرية) ينتمي إلى الطريقة الهبرية، وهو من المهتمين والمولعين بفكر وتراث الشيخ محيي الدين بن عربي، وله كتابات في هذا المجال ، وهو من مواليد الجزائر قمار 1952م. [والذي بلغني أنه بعد وفاة شيخ الطريقة الهبرية اختلف أتباعها فمنهم من صار يتبع ابن الشيخ عبد اللطيف، ومنهم من صار يتبع ابن شيكو، ومنهم من أخذ الطريقة عن ابنة الشيخ لأنهم ـ كما يقولون ـ سمعوا الشيخ يقول :"لو كانت ابنتي رجلاً لما رضيت لغيرها أن يكون خليفتي"! فليت الأستاذ مفتاح يحدثنا قليلاً عن طريقته وما آلت إليه.]
ومن مدّة والأستاذ مفتاح يحاضر ويكتب في موضوع إثبات كتاب المواقف للأمير ، إلى أن أعاد نشر كتاب المواقف!! سنة 2007م ، وبعد ذلك صعَّد لهجة خطابه . والمقال الذي نتعرّض إليه هنا، كان قد ألقاه الأستاذ مفتاح في الملتقى الدولي حول رمزية مبايعة الأمير عبد القادر؛شباط/فيفري 2010م.
بدأ الأستاذ مفتاح مقاله قائلاً: "إنّ أهم تآليف الأمير عبد القادر وأكثرها انتشارًا وشهرة وترجمة وأعمقها أثرًا هو كتاب المواقف".
وهذا هو رأيه واستنتاجه ، ولكنْ في الباحثين والكتّاب من يخالفه هذا الرأي!
والانتصارُ للرأي يكون بإثبات الحقائق وتدعيمها ، لا بتضخيم الأحداث أو عرضها بسياق يوهم بأن رأي الكاتب هو المتفق عليه ، وبخاصّة أننا اليوم نخاطب أجيالاً غابت عنها حقائق تاريخها وأخبار رجالاتها.
نعم إنّ كثيرًا من الشيوخ الذين كانوا معاصرين للأمير أو في عصرٍ قريب من عصره، ذكروا أنّ "المواقف" للأمير، وأشادوا به ، وهذا لم يكن محلَّ خلاف ، ولكنهم لم يذكروا قط أنَّ الأمير كان متشرِّبًا بفكر الشيخ ابن عربي أو يدعو إليه ، أو أنه وارث مذهبه في القول بوحدة الوجود كما يزعم البعض اليوم!(ومنهم الأستاذ مفتاح)
ليس هذا فحسب ، بل إن كتاب المواقف بحد ذاته لم يكن له وجود في المكتبات ، فقد طُبع أول مرّة سنة 1329هـ (أي بعد وفاة الأمير بـ 29 سنة) طبعة محدودة جدًّا، ووزع مجانيًا لبعض الجهات والأشخاص لا في المكتبات، وذلك في مطبعة الشباب بمصر وبإشراف ونفقة امرأة مصرية!! ودون إذنٍ من أحد ، وكان ذلك بعد وفاة أصحاب الأمير الشيوخ: محمد الطنطاوي؛ ومحمد الخاني؛ وعبد المجيد الخاني؛ ومحمد الطيب المبارك!!!، وهذا سبَّب إشكالاً في حينها، واعترضَ بعض علماء الشام وبعض رجال الأسرة على تلك الطبعة!، ثم أعادت دار اليقظة طبعه بعد قرابة ستين سنة من الزمان؛ سنة 1386هـ =1966م طبعةً محدودة أيضًا، ولكن هذه المرّة وتفاديًا للخطأ القديم، حصلت الدار على موافقة أحد أفراد الأسرة وهو الأمير سعيد بن علي بن الأمير عبد القادر!! ولكن استنكر فِعْلَهُ عددٌ من علماء الأسرة في حينها، ومنهم الأمير الشيخ عبد الرحمن الحسني الجزائري الذي كتبَ اعتراضَه بخطه على نسخة المواقف تلك!.
وفي سنة 2007م صدرت آخر طبعة للكتاب في الجزائر أخرجها عبد الباقي مفتاح!!، ولكن دون إذن من أحد أيضًا!
ولم يذكر أحدٌ أنّ الكتاب اعتُمِد للتدريس في المعاهد الدينية أو في الجامعات ، بل إنه لم يُدرَّس حتى في حلقات رجال التصوف (كما أخبرني عمي الشيخ عبد الرحمن الحسني رحمه الله، والشيخ تاج الدين الكتّاني حفظه الله وغيرهما).
وما كان يذكره العلماء والشيوخ عن عقيدة الأمير عبد القادر وفكره ومشربه ، كان مأخوذًا من حاله التي عرفوها وعاينوها ، أو من رسائله وأجوبته التي بين أيديهم ، ولم يرد عن أحدٍ من العلماء المعاصرين له من جميع أصقاع المعمورة ، أنه كان قائلاً بوحدة الوجود أو يدافع عنها ، أو أنه ينتحل مذهب الشيخ ابن عربي الفلسفي.
لذلك لم يتصدَّ أحدٌ للحديث عن تفاصيل تأليف هذا الكتاب قديمًا وصحة نسبته من عدمها ، ولكن لمّا ظهر اليوم من يصف الأمير بهذه الأشياء ، إمَّا مُتَّهِمًا له (إن كان من المخالفين)، أو مادحًا له (إن كان من الموافقين) ، صار من المتعيّن توضيح هذه المسألة ومعالجتها.
وقد تكلَّم بعض علماء أسرة الحسني الجزائري في هذه المسألة ولكن لم ينشر كلامهم أو يطبع، وأوّل من نشر وطبع في هذا الخصوص هي الأميرة بديعة بنت مصطفى الحسني حفظها الله ، وصحيحٌ أنّ الأميرة بديعة (1926م) ليست من العلماء المتخصصين في هذا الشأن ، إلاّ أنها ـ والحق يُقال ـ قد بذلت جهدًا طيبًا ، على مدى عقدين من الزمان ، في الدفاع عن الأمير عبد القادر، وفي رد التهم التي توجَّه إليه ، وبيّنَت الكثير من الأحداث والوقائع التي لم يقف عليها من سبقها من الكُتَّاب ، وكان من ضمن أعمالها الحديث عن كتاب المواقف، إلاّ أنها ـ والحق يُقال ـ قد ابتعدت كثيرًا عن الحقيقة حين نفت التصوف عن الأمير أو حين نفت حب الأمير لابن عربي، وانفعلت كثيرًا بالردود عليها، فجرَّها الأمر إلى مبالغات وأحكام جانبت الصواب فيها . وكان بوسع الأستاذ مفتاح أن يُعالج هذا الموضوع بعرض حجج الأميرة والرد عليها علميًا وأدبيًا.
ولكنه ـ أصلحه الله ـ لم يفعل ذلك تمامًا، وإنما أجده قد انفعل كثيرًا بالردود والاعتراضات ، فجرَّه الأمر إلى أن أقحمني في معمعته ولم يفرّق بين ما أقوله وبين ما تقوله الأميرة بديعة!
بل إنه قوَّلني ما لم أقل، واتهمني بما أنا بريء منه، وهذا أيضًا ابتعاد عن الحقيقة وتغيير لها . ولا أظنه يقصد ذلك أو يتعمَّده، فأنا ألتمس له العذر ما استطعت، والمتوقع منه أن يلتمسه للآخرين أيضًا.
ولذلك أقول للأستاذ مفتاح في البداية: يجب الابتعاد عن المجازفة في إطلاق الأحكام والمبالغات.
1ـ فقولك : ((إنَّ الأمير بإجماع كل من عَرَفه وأرَّخ له هو أشهر مدافع عن المذهب الصوفي العرفاني للشيخ محيي الدين بن العربي، ومن المشهور أن الأمير كان في وقته أشهر متكلم باسم هذا المشرب في الشام))
هو قولٌ مبالغ فيه جدًّا ، والإجماع الذي تدَّعيه هو إجماعٌ وهمي يفتقد إلى السند والدليل، ولماذا لم تذكر لنا مصادر هذا الإجماع؟؟
بين أيدينا معظم المراجع التي ترجمت للأمير، وأنا لم أقف في تراجم العلماء الذين عاصروه (السيد أحمد ، ومحمد باشا ، والبيطار ، والقاسمي، والسمعوني، ومحمد عبده...) أو كانوا قريبًا من عصره (الشطي، والحصني، وأرسلان،...) على كلام يشابه كلامك أو يُقاربه ولو قليلاً!!
وتفرَّد الشيخ عبد المجيد الخاني بذكر تصوف الأمير العرفاني ووِرَاثة العلم الأكبري!([1]) ولم يتابعه على ذلك أحد! ومع ذلك لم يزعم أنّ الأمير أشهر مدافع عن مذهب ابن عربي!!
فإذا كنت تريد أن تعتمد كلامه دون غيره، فعليك أن تتقيد بحرفية ما قال دون زيادة عليه، ثمّ لا يمكنك أن تسمي كلامه إجماعًا كما هو معلوم!
والمعروف والثابت أنّ الشيخ عبد المجيد الخاني (نسبة إلى خان شيخون) ووالده (الشيخ محمد) كانا مشهورين بتخصصهما في التصوف الفلسفي ، وبشغفهما بابن عربي ، ولذلك لمّا ترجم العلاّمة جمال الدين القاسمي لمشايخه وأهل عصره ـ ومنهم الأمير عبد القادر ـ لم يذكر في صفة أيٍ منهم أنه صوفي لأنّ ذلك لا يحتاج إلى تنبيه ، ولكنّه عندما تكلَّم على شيخه محمد الخاني قال عنه : "صوفيُّ عصره" ، وقال عنه :"ولمهارته رحمه الله في فنِّ التصوف"([2]) ، وأهل العلم يفهمون من صنيع القاسمي هذا، أنّ الشيخ الخاني كان يمتاز على غيره في موضوع التصوّف لذلك وُصِف به وخُصَّ به.
ومِنْ ثَمَّ كان الخاني يُعظِّم كل من يتكلَّم في مسائل التصوف الخاصة بابن عربي ويُحسِن توجيهها ـ كالأمير ـ ويبالغ في وصف ذلك! فلا يَحسُن بأي باحث أن يتَّخذ من وصف الخاني حجَّة في إثبات معتقد الأمير أو منهجه ، ويترك ما وصفه به الجمع الكبير من العلماء الملازمين له والعارفين به!
الأمر المتفق عليه هو أنّ الأمير كان صوفيّا قادريًّا وكان يحب الشيخ ابن عربي بوصفه من الأولياء والعارفين، هذا لا خلاف فيه ، أمَّا الزَّعم أنه أشهر مدافع أو متكلم باسم المشرب الأكبري في الشام ، فهو زعمٌ بعيد عن الحق ويحتاج إلى إثبات من كلام العلماء المعاصرين له، وهذا ما لا نجده في كلامهم!
ثم إنه زعم عجيب وغير مقبول!لأنّ من له أقل نصيب في قراءة تراجم علماء الشام في ذلك العصر أو في العصور التي سبقته ، يدرك تمامًا أن الشام ممتلئة بالشيوخ الذين على مشرب ابن عربي والمدافعين عنه والشارحين لفتوحاته وفصوصه!
والأمير عندما كان في الجزائر لم يكن على صلة بفكر ابن عربي إطلاقًا ، ولمّا قدِم إلى دمشق الشام لم يقتَنِ فتوحات ابن عربي إلاّ بعد 15 سنة من إقامته!! وذلك سنة 1287هـ([3]) ، ولم يباشر قراءتها إلاّ بعد مقابلتها على المخطوط الأصلي الموجود في (قونية) وذلك سنة 1289هـ([4]) أي قبل وفاته بعشر سنوات تقريبًا، فكيف يُقال عنه إنه أشهر متكلّم باسم هذا المذهب؟!
2ـ قول الأستاذ مفتاح "إن الأمير كان يدرّس الفصوص". هو قولٌ لم يُسبَق إليه! وكان عليه أن يبرهن على ذلك بذكر مصدر تلك المعلومة على الأقل.
وأقول له : كل الذين ترجموا للأمير من العلماء ذكروا أنه كان يدرِّس صحيح البخاري ومسلم والموطأ ورسالة ابن أبي زيد القيرواني وألفية ابن مالك والسنوسية وإيساغوجي للفناري في المساجد وفي دار الحديث، وقرأ عليه بعض خواصه في داره كتاب الإبريز والفتوحات المكية([5]). ولم يذكروا قط أنّه درَّس الفصوص!!
وإذا كنتَ تعوّل فقط على كلام الخاني! فالذي ورد في كلامه أنّ والده كان يسأل الأمير أن يحلَّ له بعض ما أشكل عليه من الفصوص. والأمير كان يجيبه . ولكنه لم يذكر قط أن الأمير درّس هذا الكتاب. فمن أين لك تلك المعلومة؟
وإذا كنت تعتمد على قراءتك لكتاب المواقف فحسب ، وتستنتج منه آراءك الخاصة ، فهذا شأنٌ يعنيك ، ولكن لا يُقبل منك أبدًا أن تطلق الأحكام أو تحلل شخصية وفكر الأمير بناءً عليه، فهذا ليس من الموضوعية أو العلمية في الكلام، فضلاً عن ادّعاء الإجماع على ما توصّلت إليه!
3ـ ويقول الأستاذ مفتاح : (والأمير أول من طبع الفتوحات على نفقته)!
وهذه مغالطة كبيرة ، وزعمٌ خاطئ لا يصحُّ أبدًا! وقد تكرر هذا الكلام منه في عدّة مقالات له ، والعجيب صدوره من مثله! فهو كما يذكرون عنه متفرّغ لكُتب ابن عربي وأمضى عمره في دراستها وشرح بعضها والدفاع عن بعضها الآخر والمحاضرة عنها!
فكيف يصدر منه هذا الكلام؟!! ولماذا هذه المغالطات؟!
المعروف والثابت أنّ أول طبعة للفتوحات المكية كانت سنة 1274هـ=1857م ببولاق في مصر([6])، يعني قبل أن يقتني الأمير نسخته من الفتوحات بـ 13 سنة! ثم أُعيد طبعها ببولاق سنة 1293هـ=1876م بعناية محمد بن عبد الرحمن الشهير بقطة العدوي (الذي أشرف على طبعِ عدّة كتب للشيخ ابن عربي قبل الطبعة الأولى للفتوحات بعقود!)
لقد كانت النسخة المطبوعة من الفتوحات مليئة بالأخطاء والأغلاط و...، وكان معظم الشيوخ يقرؤونها كما هي ، ويشرحونها بأغلاطها وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!!
وأصحاب الأمير إنما اقتنوا النسخة المطبوعة!! ولمّا وجدوا فيها عبارات مُشْكِلَة ومعانٍ مُسْتَهْجَنة ، عرضوها على الأمير فاستغربها وشكَّ فيها ، فقام الأمير بعملٍ يدلُّ على رسوخه في العلم، وعلى دقّته في التعامل مع الكتب ، وذلك بأن أوفد الشيخين محمد الطنطاوي ومحمد الطيب المبارك إلى مدينة "قونية" بتركيا لمقابلة المطبوع على الأصل المكتوب بخط يد الشيخ ابن عربي نفسه!!([7]) وبعد تصحيح الأخطاء قُرِأت النسخة المطبوعة المصححة على الأمير، وصار الأمير يحلُّ لهم ما يُشكِل عليهم، ويوجِّه كلام ابن عربي بحيث يصبح مفهومًا ومطابقًا لقواعد هذا الفن. والأمير كان ماهرًا في الفلسفة والعقليات وعلم الكلام، ومصطلحات القوم، إضافة إلى رصيده الوافر من الفقه والحديث والتفسير، لذلك كان كلامه وشرحه يأخذ بألباب طلابه وأصحابه المهتمين بهذا الشأن.
هذا هو الذي اتفقت عليه المراجع التاريخية التي ترجمت للأمير عبد القادر ، وبخاصة تلاميذه والمقرّبين منه، مثل السيد أحمد الأخ الأصغر للأمير ، والشيخ عبد الرزاق البيطار، والعلاّمة القاسمي.
إذن الأمير لم يطبع الفتوحات فضلاً عن أن يكون أوّل من طبعها!! وإنما اقتنى النسخة المطبوعة من الفتوحات، ولأنّه شكّ في عباراتها وأيقن بأنها أخطاء ولا يمكن أن تكون من كلام الشيخ ابن عربي قام بمقابلتها على نسخة ابن عربي الأصلية، وهذا هو العمل الذي لم يُسبق إليه!! أي تحقيق المطبوع على المخطوط الأصلي.
وانظر بإمعان وتدقيق كيف لم يكتف الأمير بكون المخطوطات التي اعتُمِدَت في الطباعة هي للصدر القونوي (صاحب ابن عربي) مثلاً أو لبعض كبار القوم ، كما اكتفى الآخرون!! وإنما سعى إلى النسخة التي كتبها ابن عربي بنفسه واعتمدها، وهذا هو العلم ، وهكذا يكون التحقيق ، وهكذا هم أهل الرسوخ والفهم.
أمّا طباعة الفتوحات فلم يكن من مذهب الأمير طبع أو نشر مثل هذه الكتب، وهذا هو مذهب أساطين القوم . وغالب الذين يقومون بأعمال الطباعة والنشر إنما هم أشخاص يحبون مؤلّفي تلك الكتب فيسعون إلى نشرها، وهم في معظمهم ليسو خبراء في علوم القوم ولا يدركون أبعاد أفعالهم!
مثلاً : عندما أصدرت دار اليقظة كتاب المواقف ذكرتْ في الصفحة الأولى أنها كلّفت لجنة من أكابر وأفاضل علماء دمشق بمراجعتها والوقوف على أصلها وتصحيحها!([8]) هكذا زعمت!ولم تذكر أسماءهم!! فعلّق الشيخ عبد الرحمن الحسني حفيد الأمير على ذلك فكتب بخطِّه :[من هي اللجنة العلمية التي قامت بالتصحيح والمراجعة يا حضرة الناشر الظالم!]
وما زالت دور الطباعة تتنافس في طباعة الفتوحات وتكرر طباعتها ، إلى أن صدرت الطبعة الثالثة لدار الكتب العربية الكبرى بمصر؛ وجاء فيها كلمة رئيس لجنة التصحيح محمد الزهري الغمراوي ، وإليكم مقتطفات منها : ((.. وقد سبق تكرار طبع الكتاب في المطبعة الأميرية ، واستُدرِكَ في الطبعة الثانية ما أخلَّت به الأولى من الأسقام الغلطية، ولكن فاتهما(أي الطبعتين الأولى والثانية)العثور على نسخة المؤلف التي يجب الرجوع إليها ، وأن لا يُعوَّل في التصويب والترجيح إلا عليها ، وكان من العناية الإلهية أنْ سِيقَتْ إلينا عند إعادة الطبع نسخةٌ مُقَابَلَةٌ على خط المؤلِّف ، اعتنى بمقابلتها لفيفٌ من أكابر العلماء ، وكان هذا بهمَّة الأمير الحاج عبد القادر الجزايرلي ، فخرِ الأمراء ، فصار تصحيح الكتاب على مقتضى ما فيها من التصويب ......، وكان الفراغ من طبعه .... بمطبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر ..... وكان نشر ضوئه بمعونة نفقة الحاج فدا محمد الكشميري وشركاه (بمكّة) المكرّمة حفظها الله وذلك .... سنة 1329هـ...)).انتهى([9])
وهذا النص أُهديه للأستاذ مفتاح ، وإن شاء أرسلتُ إليه صورة الكلام بتمامه من النسخة الأصلية لهذه الطبعة ، وأتمنى أن يصحح هذا الخطأ!
إذن الطباعة لم تكن أيضًا بنفقة الأمير ، وإنما بنفقة الكشميري وشركاه ، وذلك بعد 29 سنة من وفاة الأمير!!! (وهي نفس السنة التي طُبِع فيها المواقف لأوَّل مرَّة!!)
النتيجة القطعية : 1ـ الفتوحات المكية طُبِعتَ قبل اقتناء الأمير لها. 2ـ الأمير لم يطبع الفتوحات قط ، 3ـ وليست هناك طبعة على نفقته ، 4ـ وإنما هي نسخة طُبِعت على نفقة الحاج الكمشيري ، وتمَّ ذلك بعد موت الأمير بـ 29 سنة!!!
فلماذا يا أستاذ مفتاح غابت عنك كل تلك المعلومات وأنت تتصدى لهذا الشأن؟
وإذا كان غائبة عنك ، فمن أين أتيت بالمعلومات التي تخالفها؟
وكيف تصر على تلك المعلومات وتكررها في مقالاتك ومحاضراتك وأنت لا مستند لك فيها؟!
وبعد ذلك تنتقدني وتوجّه إليّ سهامك ، وتقول عني أنني أتكلّم دون أي مستند وبالأوهام، فمن هو الأحق بهذا الكلام؟
وأنت عندما تروّج لتلك المعلومات إنما تجعلها في سياق تدعيم الدعاوي الأولى وهي أن الأمير أشهر مدافع عن ابن عربي وأنه أشهر متكلم على مشربه وأنه يدرِّس الفصوص، وكما رأيت آنفًا فإن تلك الدعاوي لا تصح وبحاجة إلى بيّنات واضحة ، فبدلاً من إحضار البيّنات أتيت بدعوى ثالثة لا تصح أبدًا. فما جوابك؟
وبالمناسبة فإنّ د. عثمان يحيى (الذي حقق كتاب الفتوحات وطبعه المجلس الأعلى للثقافة بمصر بالتعاون مع معهد الدراسات العليا بالسوربون! سنة 1985م) قال في مقدّمة الكتاب: ((إهداء إلى ربِّ السيف والقلم ، الأب الروحي الأوّل للثورة الجزائرية الخالدة، الأمير عبد القادر الجزائري، تلميذ الشيخ الأكبر في القرن 19، وناشر الفتوحات المكية لأوّل مرّة))
وهذا الفعل من د. عثمان يحيى أيضًا فيه تلبيس وقلب للحقائق ، لأنّه ذكر في مقدمته أنه اعتمد على عدة نسخ منها طبعة القاهرة المطبوعة سنة 1329هـ!([10]) واطّلع على كلام مصححها الغمراوي ، الذي سُقناه آنفًا، ومع ذلك نجده يروّج لكلام لا أصل له!
وما هذا إلاّ لأنه وأمثاله يريدون ـ والله أعلم ـ أن يستقووا في مذهبهم برجل كبير مثل الأمير! ولكن هذا لا يكون ولا نقبله منهم إلاّ بالدليل الصحيح، لا بالأوهام والتدليس!! وإذا أردنا أن ننزههم عن تهمة التدليس وقلب الحقائق فلا يبقى إلاّ أنهم يجهلون ويقولون ما لا يعلمون! وأنتم بالخيار.
4ـ والأستاذ مفتاح يدندن على مسألة قراءة الأمير للفتوحات ليُثبت أنّ الأمير كان أكبريَّ النزعة والهوى!! وهذه أيضًا دعوى تحتاج إلى بيّنة ودليل ، ولا يكفي فيها الظن أو التخيل، والأستاذ مفتاح يرد على الأميرة بديعة ويصف طريقتها بالتعسفية في الإثبات والنفي ، ثمَّ نجده ينهج الطريقة التي يذمُّها!
من أين لك هذا الادعاء يا أستاذ؟ وإذا كنتَ تعتمد على ما تقرؤه في المواقف وتبني عليه رأيك فما هكذا تكون الدراسات، ولم يكن من منهج علماء الأمّة أن يطلقوا أحكامهم على الرجال بمجرَّد قراءتهم كتابًا واحدًا لهم دون النظر في مؤلّفاتهم الأخرى ، أو في أقوال المعاصرين لهم ، فكيف الحال بكتاب ليس من تأليفهم! وإنما هو جمعٌ لأجوبةٍ لهم أو خواطر أو قصص نُقِلَت عنهم وعن غيرهم!
نحن لا نختلف في كون الأمير محبًّا لابن عربي وأنه كان يُجيب سائليه عن مسائل في الفتوحات وغيرها فيحلّ لهم الإشكال، وأنه كان صوفي المشرب وله أحوال، وإشراقات، وهذه الأشياء هي طرف من شخصيّته ، ولكن أن نحلل ونفسر ونطلق الأحكام على أفعاله وأقواله من تلقاء أنفسنا، ودون برهان ساطع ، فهذا ليس من العلم في شيء ولا يُرضي الله تعالى!
وما رأيك يا أستاذ مفتاح إذا أخبرتك بأنّ العلاّمة السلفي جمال الدين القاسمي ـ المعاصر للأمير والمحب له ـ قد وضَّح علاقة الأمير بفتوحات ابن عربي! بأنّها علاقة علميّة فقهيّة وليست الهيام بالتصوف العرفاني كما تظن وتتمنى! وسبب هذه العلاقة هو الميول الفقهية للأمير التي تحوّلت من التقليد المذهبي إلى الأخذ بالدليل الصحيح وفهمه على ظاهره دون تعسّف في التأويل أو تنطّع في الفهم .
ذَكَرَ القاسمي ذلك في مقدمة كتابه (الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس) وهو يثبت جواز الخروج في الفتوى عن تقليد المذاهب الأربعة ، ثم راح يعدد أسماء العلماء قديمًا الذين لم يتقيدوا بمذهب معيَّن ، إلى أن وصل إلى الشيخ ابن عربي فقال : ((..وهذا الشيخ محيي الدين ابن عربي الأندلسي دفين صالحية دمشق شيخُ الصوفية في عصره، كان على مذهب الظاهرية ـ أي داود وابن حزم الظاهريين ـ وقد ملأ فقه "فتوحاته المكية" من مذهب الظاهرية ولم يُعَوِّل على غيره كما يعلمه من قرأها ، فإنّ اختياراته ونُقُوله كلها من فقه الظاهرية على الإطلاق، ولمَّا سَبَرْتُ مطالعة "الفتوحات" في بعض الأعوام رأيتُ أنَّ كلَّ المباحث التي ناقش ابنُ عربي فيها الفقهاء الجامدين منقولٌ من "محلَّى" الإمام ابن حزم، بعضه بالحرف وبعضه بالمعنى، وكأنَّه كان يستظهره أو يصطحبه في رِحَلِهِ وأسفاره!
وهذا الحافظ شمس الدين الذهبي أحد مفاخر الشام بل الدنيا، كان لا ينتحل في الأصول والفروع إلاّ مذهب السَّلف واختيارات الإمام المجتهد ابن تيمية، ولقد نصَرَ بعض اختياراته في مؤلَّفات على حِدَة، ولمّا ترجم ابن تيمية قال :"وقد خالف الأئمة الأربعة في مسائل معروفة، وصنّف فيها واحتجَّ لها بالكتاب والسنّة" ثم قال "وله الآن عدة سنين لا يُفتي بمذهب معيّن. بل بما قام الدليل عليه عنده، ولقد نصر السُّنة المحضة والطريقة السلفيَّة واحتجَّ لها ببراهين لم يُسبق إليها" الخ..، كما بسطه حافظ الشام ابن ناصر الدين في كتابه"الرد الوافر" فانظره!!
وهذا السيد المجاهد عبد القادر الحَسَني الجزائري الذي ملأت شُهْرَةُ فضْلِه الدنيا كان على مذهب الظاهريَّة لا يرى إلاّ مذهبهم، وكان ينتحل ما نقله الشيخ محيي الدين بن عربي في "فتوحاته" من فقههم، وكان خاصةُ أصحاب الأمير عبد القادر في دمشق من شاميين ومغاربة ، وتلاميذه الأفاضل كلُّهم على رأيه في الأخذ بمذهب الظاهرية كما عرفتُه من غير واحد منهم،.....
وهذا العلاّمة السيد محمود أفندي الحمزاوي خاتمة المفتين في الديار الشامية، والذي ملأت شهرةُ فضله وتآليفه الشرقَ والغرب، كان ندَبَ عالم الحنابلة في دمشق الشيخ محمدًا الشطي لجمع أقوال داود الظاهري في رسالة مختصرة ليُقرِّبَ تناولها على من يريد تقليد أقواله، فجمعها له ، ثمّ نظَمَها الحَمْزاوي رحمه الله ليقرب تناولها على من يريد حفظها وتقليد أقوال الإمام داود، وقد طبعت الرسالة مع المنظومة في دمشق.
والقصد أنّ الأخذ بأقوال غير الأئمة شائعٌ وشهيرٌ، بلا نكير من أفاضل ومشاهير ....الخ)).انتهى كلام القاسمي ([11])
هذا هو كلام العلاّمة القاسمي وهو الحجّة بلا منازع ، وهو المعوَّل عليه ، وكل من يخالفه من المعاصرين اليوم فلا قيمة لمخالفته ولا وزن لكلامه، فعليك بكلامه يا أستاذ عض عليه بالنواجذ ولا تجاوزه! وأنا أُهديك هذا النص.
وإنّ تلاميذ الأمير وأصحابه من بعده ساروا على منهجه ، وتابعوا ما بدأه ، ولاقوا في سبيل ذلك محنًا وشدائد ، ففي حياته جعله الله سندًا لهم ودرعًا تقيهم الشرور ، ولكن بعد مماته تطاول عليهم حُسّادهم ، من أصحاب العقول الجامدة والأفق الضيّق ؛ ومِحْنَتُهم في ذلك مشهورة ومذكورة في أكثر من مرجع تاريخي، وملخّصها : أنّ مجموعة من تلامذة وأصحاب الأمير وعلى رأسهم السيد أحمد الأخ الأصغر للأمير والشيخ عبد الرزاق البيطار والشيخ طاهر الجزائري والعلاّمة القاسمي والشيخ محمد بدر الدين المغربي (الحسني) والشيخ بكري العطار وآخرين اتفقوا على تعيين جلسة يجتمعون فيها ليبحثوا في الدِّين ولكن خارج دائرة الفقه التقليدي ، ويقرؤوا كتابًا يتصل بالفقه ويكون في علم الحديث ، فيقرروا فيه المسائل بناءًا على الدليل الصحيح وحده؛ فوشى بهم بعض حسّادهم واستُدعوا إلى المحكمة وأتاهم رجال الشرطة ليقتادوهم إلى هناك ، إلى آخر القصّة...([12])
والعلاّمة القاسمي معاصرٌ للأمير عبد القادر وكان والده وجدّه من المقرَّبين إلى الأمير، والقاسمي أيضًا من الأصدقاء المقرَّبين للسيد أحمد الحسني وللسيد المرتضى وشقيقه السيد عبد الباقي الحسني ، وهو خيرُ من ترجم لهم جميعًا، وهو الأعلم بمذاهبهم ومشاربهم، وقد أثبت لهم جميعًا أنهم كانوا قادرية تلقوا أذكارها ونشروها ، وبالمقابل أثبت أنهم كانوا متّبعين للأثر ،كارهين للبدع ، لا يقبلون بالتقليد الأعمى ؛ ولكن لم يذكر مطلقًا أنهم كانوا كما يصفهم الأستاذ مفتاح ومن على طريقته أكبرية وحدوية! (قائلين بوحدة الوجود)
وإذا مرَّ معنا في كلامهم شيءٌ من كلام القوم فعلينا أن نجعله في سياقه فحسب ، لا نخرجه عنه ونطلق لأنفسنا العنان في تخيّل ما كانوا عليه أو نصفهم بما نشتهي تبعًا لأهوائنا ورغباتنا!!
وأنصح الأستاذ مفتاح أن يقرأ مقال سيدي الوالد العلاّمة الدكتور محمد مكِّي الحسني الجزائري([13]) ((جهود الأمير عبد القادر الجزائري في نشر علوم الحديث وبعثها مجددًا)) المنشور في منتدى الجلفة قسم الأمير عبد القادر.
فهو على وجازته يبيّن جانبًا هامًّا من شخصيّة الأمير العلمية وأثرها الباقي إلى يومنا هذا، بخلاف الجانب الصوفي الذي كان منحصرًا في زمانه وضمن دائرته الخاصة ، يتذوّقون بعض الإشراقات ، التي يستأنسون بها دون فرضها أو نشرها على العامّة، لأنّ في ذلك تشويشًا لهم لا مسوّغ له ، والشرع لا يدعو إليه.
5ـ وبعد ذلك يقول الأستاذ مفتاح عن العلماء الذين أحاطوا بالأمير: (هؤلاء أنفسهم الذين أكدوا أن كتاب المواقف بكل ما فيه هو حقا للأمير، وما هو إلا امتداد وشروح وتأكيد للمفاهيم المبثوثة في كتب الشيخ محيي الدين)
وهذا عجيبٌ أيضًا ، وكان من المناسب أن يأتي الأستاذ مفتاح بكلام مجموعة من هؤلاء العلماء فيه هذه المزاعم التي يقولها!! ولكنه لم يفعل وهذا ليس من التوثيق العلمي أيضًا!
وليس في كلامهم الذي بين أيدينا ما يزعمه الأستاذ مفتاح!
فالذي قالوه إنهم حضروا مواقف الأمير ، أو إنّ عمق النظر الصوفي عند الأمير يظهر في كتاب المواقف ، أو إن المواقف من كتب الأمير ، لكنهم لم يقولوا إنّ كل ما في المواقف للأمير ، ولم يقولوا إنّه امتداد لكتب الشيخ محيي الدين!
6ـ ذكر الأستاذ مفتاح أنَّ بعض أحفاد الأمير عبد القادر يشككون في نسبة كتاب المواقف للأمير بصورة تعسفية فاقدة لكل سند أو دليل! ، وأنّ السبب في ذلك هو تكوينهم العقدي والثقافي! ، وختم كلامه بأن إنكارهم باطل جملة وتفصيلاً!
وهذا الكلام منه هو عين التعسف! فمن أين له أنّ الإنكار كان بسبب التكوين العقدي أو الثقافي؟! هذا من الرَّجم بالغيب، ولا أظن الأستاذ مفتاح يدّعي علم الغيب أو ما في الصدور. أهكذا يكون البحث العلمي والرد العلمي؟! أهكذا يكون كلام من يصف الآخرين بأنهم يتكلمون دون أي سند أو دليل؟! أهكذا يكون إنكار من يصف إنكار غيره بأنه باطل جملة وتفصيلاً؟!
أنت يا أستاذ مفتاح لا تعرفني ولم تجتمع بي ولم تسمع مني ، وأنا لم أقل أنني أتحدّث في نسبة المواقف بسبب تكويني العقدي أو الثقافي، فمن أين لك هذا الكلام؟!
ولكي أبيّن لك يا أستاذ كم أنت مخطئ في زعمك : سأضرب لك هذا المثال: إن في زماننا اليوم شخص مشهور ومعروف بأنه على مشرب الشيخ ابن عربي بل هو المدافع عنه والناشر لكتبه والمنافح عن منهجه، وفي كل مدّة له محاضرة أو ندوة في فكر ابن عربي في الشام أو مصر أو غيرها من البلدان
هذا الشخص هو محمود غراب المصري ، وأنت تعرفه قطعًا فقد رددتَ عليه([14]).
إذن هذا الرجل باتفاق الجميع وبشهادته شخصيًا ـ وهو حيٌّ يُرزق ـ على مشرب ابن عربي وعقيدته ومنهجه ، ومع ذلك فهو ينكر بشدة نسبة كتاب (فصوص الحِكَم) إلى ابن عربي!!! وأخبَرَني بذلك شخصيًّا، وله في ذلك مُؤلَّفٌ خاص، وعدّة دراسات. وهناك عدد من شيوخ التصوف في بلاد الشام الذين يدرِّسون الفتوحات يؤيِّدونه في نفي الفصوص. فما قول الأستاذ مفتاح؟
لقد كان جديرًا بالأستاذ مفتاح ألا ينزلق إلى هذا النهج في الكلام ، وكان يكفيه عرض كلام مخالفيه والرد عليه بالأدلة التي بين يديه ، دون الخوض في النيات وما في الصدور!
ثم إنَّ الأستاذ مفتاح في ردِّه لا يذكر سوى الأميرة بديعة الحسني، والسيد خلدون الدمشقي! (هكذا) إذن هما المقصودان في ردّه وهجومه! ولا أدري لماذا يسميني خلدون الدمشقي؟! مع أنه يعرف أن اسمي هو خلدون بن مكي الحسني الجزائري!! لا أظن أنه يريد اللمز أو الهمز، ولكن هذا التصرف منه يحتاج إلى تفسير!
والعجيب في كلامه أنه يخلط بين موقفي وموقف الأميرة بديعة ، مع أنني ـ مع احترامي وتقديري لها ـ أخالفها فيما تذهب إليه في هذا الخصوص ، ولم أتكلّم بمثل كلامها ، وهو دائمًا يوجه خطابه بصيغة الجمع!
وأنا الآن لست بصدد الحديث عن انتقاداته للأميرة بديعة ، لأنني لا أختلف معه في مضمونها (ولكنني أختلف معه في ألفاظه) ، والأميرة إن شاءت ردَّت عليه ، ولكن الذي يهمني الآن أن أبين له وللإخوة القراء كم كان متجنِّيًا عليَّ ومحرِّفًا لكلامي!!
7ـ بعد أن أورد الأستاذ مفتاح كلام الشيخ عبد الرزاق البيطار في ترجمة الأمير عبد القادر ، عقَّب قائلاً: ((لكن السيد خلدون الدمشقي في تشبثه بأوهن الخيوط للتشكيك في مواقف الأمير، لا ينتقي في إحدى مداخلاته التلفزيونية في قناة المستقلة حول هذا الموضوع، من هذا الكلام الواضح للشيخ البيطار إلا كلمة "ونُسِبَت إليه" ويعقب عليها بعدم تأكيده للنسبة، من دون أن يذكر السيد خلدون الكلام الذي قبلها والمؤكد بالفعل أن المواقف للأمير لا لأحد غيره بتاتا. فأين الموضوعية وأين الأمانة في النقل وأين النزاهة؟))
وأقول: إن قناة المستقلة استضافتني في عشر حلقات تحدثنا فيها عن قضايا وشبهات تثار حول الأمير، وفي الحلقة الثامنة (ورقمها المتسلسل ضمن الملفات المغاربية هو 33) ، تعرَّضوا للحديث عن كتاب تحفة الزائر وكتاب المواقف، وكان الأساتذة الأربعة المشاركون يشككون في صحة كتاب المواقف للأمير (وليس فقط أحفاد الأمير كما يزعم الأستاذ مفتاح) وهم الدكتور محمد الأمين بلغيث، والدكتور عبد اللطيف بالطيب ، والدكتور إبراهيم ميّاسي ، والأستاذ مدني بشير، وعندما وُجِّه الكلام إليَّ قلتُ بوضوح : إنه لا يمكن نفي المواقف عن الأمير ، فعندما يقول البيطار حضرت مواقف الأمير، وعندما يقول السيد أحمد حضرت مواقف الأمير، فهذا يعني أنَّ هناك (المواقف) للأمير، ثم قلت وبكل وضوح : إنه من الثابت أنّ الأمير تعرَّض لشرح مقاطع من الفتوحات، ومن العبث من الناحية العلمية أن ننفي هذا الأصل، إذن هناك أصلٌ نثبته!!
وكنت قبل ذلك تحدَّثتُ عن أصل هذا الكتاب ، وهي مجالس للأمير يسأله فيها بعض تلامذته وأصحابه حلَّ الإشكالات الواردة في كلام ابن عربي وغيره، فكان يجيبهم وكان بعضهم يكتب تلك الأجوبة، وأنهم اصطلحوا على تسمية تلك المجالس والأجوبة بالمواقف!!
ثم ذكرت ما قاله الشيخ الخاني في قصة تدوين هذا الكتاب ، وأنه ذيَّلَ الجزء الثالث بعد وفاة الأمير ، وأنَّ أوَّل مخطوط لكتاب المواقف ظهر بعد ثمان سنوات من وفاة الأمير.
وتكلّمت بكل وضوح عن حضور الشيخ البيطار لمجالس المواقف وأنّه صرّح بذلك في كتابه حلية البشر وذكرتُ كلامه كاملاً لا مقتطعًا كما زعم الأستاذ مفتاح!!. وذكرتُ أنَّ بعض الباحثين استشكل قول البيطار عند تعريفه بالكتاب :"وهو كتاب كبير في الواردات التي وردت عليه ونُسِبت إليه" فكيف يقول ونسبت إليه وهو يصرح بأنه حضره عليه؟
وبدأت أعلل ذلك ، ولكن كانت المسؤولة عن إدارة الحلقة تقاطعني كثيرًا ، ولم أتمكن من إكمال أي مسألة ، ثم قلت لها إنك تكثرين مقاطعتي وهذا سيتسبب في التشويش على المشاهدين (وهذا ما حدث فيما يبدو).
وأنا لم أتشبث بتلك العبارة مطلقًا لأُشكِّك في مواقف الأمير ، كما يقول الأستاذ مفتاح!! وكان حريًّا به أن يتريَّث ويتثبَّت قبل أن يكتب وينشر، وهو صرّح بأنه اطلع على بحوثي في الإنترنت ، فكان حريًّا به أن يتواصل معي ليستفهم مني ، لأنه لا يوجد في كلامي المكتوب أي شيء مما زعمه ، وكذلك لا يوجد في كلامي المسجل أي شيء مما ادّعاه!!!
لقد قلتُ بالحرف (على شاشة المستقلة) إن الكتاب عبارة عن مسائل كان يدونها الشيخ محمد الخاني مما كان يسمعه في مجالس الأمير ، وقلت إن في كتاب المواقف المطبوع مسائل لا شك أنها من كلام الأمير ، وقلتُ وأجبتُ بكل وضوح أنّ في كتاب المواقف ما هو صحيح النسبة للأمير ولا أنكره ، والبحث العلمي لا يساعد على ذلك ، وقلت بوضوح أنه عندما يقول البيطار حضرت مواقف الأمير ويقول أحمد حضرت مواقف الأمير إذن هناك مواقف للأمير .
فلماذا لم يسمع هذا الكلام الأستاذ مفتاح؟ ولماذا لم يفهم ما قلته وكررته بوضوح؟ ولماذا يشكك في أمانتي ونزاهتي الثابتتين ولله الحمد ، مع أنه هو الذي بتر كلامي وشوهه وافترى عليَّ! فهل هذا من أمانته ونزاهته؟!
ولله درُّ شيخنا العلامة الفقيه محمد كريّم راجح شيخ القراء في بلاد الشام القائل : ((إن بعض القرَّاء لا يقرأ ما في الكتاب ولكن يقرأ ما في ذهنه، وهذا هو الضلال المبين))([15])
ثم إذا كان الأستاذ مفتاح لا يفهم كلامي على بساطته ووضوحه ، فكيف يفهم عبارات القوم على غرابتها وتعقيدها؟
لقد قلتُ إن كتاب المواقف المخطوط والمطبوع لم يكتبه الأمير! وأنا مازلت عند كلامي هذا، وبيّنت أنه لا يوجد أي مخطوط للكتاب بخط الأمير أو بخط كاتبه ، وأنَّ الذين يدَّعون ذلك إنما يعرضون خطوطًا مشرقية لا تمت بصلة إلى الأمير ، وهذا لا لأنفي تصوف الأمير أو لأنفي المواقف عنه (كما يدّعي الأستاذ مفتاح) ، وإنما هو تحقيق علمي مستقل ، فلا يجوز أن تَنْسِبَ خطًّا لغير صاحبه، أو تزعم أنّ الأمير وَضَعَ ذلك الكتاب وخَطَّهُ وهو لم يضعه ولم يخطه!!
الشيخ الخاني يقول إنه هو الذي جمع المواقف وهو الذي رتبها وهو الذي دونها، ومازال يضم بعضها إلى بعض حتى تجمّع لديه ثلاثة مجلدات، وأنه ذيَّلَ الجزء الثالث بعد وفاة الأمير (وذلك بعد أن استمدَّ واستأذن من روحانية الأمير). هكذا قال!!، والأستاذ مفتاح مقرٌّ بهذا ويستدل به في مقاله، ثمّ ينكر عليَّ قولي بعدم وجود نسخة بخط الأمير. فليته أثبت وجود تلك النسخة بدلاً من هذا الانتقاد الظالم.
وهل استمداد الخاني من روحانية الأمير في كتابَتِه للمواقف تقوم مقام تأليف الأمير لها برأي الأستاذ مفتاح؟
وهل الاستئذان من الروحانية هو نوع من الأدلِّة التي تقطع بصحة نسبة الكتاب إلى الأمير برأي الأستاذ مفتاح؟ أم أنها من الأدلِّة على ضعف هذه النسبة!!
ثم إنَّ ما ذكرتُه عن الخاني صحيح ومطابق لما جاء في كتاب ابنه (الحدائق الوردية) ، في حين أنَّ الأستاذ مفتاح ـ ويا للأسف ـ يتصرَّف في كلام الخاني على الوجه الذي يريده ويعرضه بسياق جديد! وهذا غير مقبول منه! فقد زعم أن الأمير هو الذي كلّف الخاني بجمع وتبييض كتاب المواقف! وهذا لم يقله الخاني قط!! وإنما هو من تأليف الأستاذ مفتاح.
ثم إنَّ الخاني نفسه يصرّح بأنّه هو الذي كان يسأل ويطلب من الأمير أن يشرح له بعض الأشياء، ثم قام الخاني بجمعها وإتمامِ ما لم يكمل الأمير كتابته (وهذا باعترافه واعتراف الأستاذ مفتاح)، وهذا يعني أنَّ الأمير لم يكن بصدد وضع تأليف ، إنما الذي ألَّف وجمع هو الخاني.
ثم إن الناظر في كتاب الشيخ عبد المجيد الخاني يجد أنّ هناك خللاً في كتاب المواقف المطبوع ، لأن الخاني عندما عرض بعض المواقف في كتابه (الحدائق الوردية) ، قمتُ بمقابلتها مع كتاب المواقف المطبوع فوجدتُ أن هناك خللاً وسقطًا تجاوز الأربع صحائف!!
إذن كتاب المواقف المطبوع لا يمكن الاعتماد عليه لأنه غير موافق حتى لنسخة الخاني الأصلية لهذا الكتاب!
وعندما أنفي وجود نسخة من المواقف بخط الأمير ، فإنني أفعل ذلك لا لأنفي تصوف الأمير أو مواقفه ، وإنما لأَرُدَّ على الذين يدَّعون وجودها ويدندنون حولها ، فدار اليقظة زعمت أنها طبعت المواقف بعد مقابلتها على النسخة الأصلية التي بخط الأمير ، وهذا باطل بشهادة الشيخ الخاني ، وباعتراف الدار نفسها التي لم تعرض أي صورة لأي صفحة من المخطوط المزعوم! ثم عندما سألناها عن المخطوط أجابت بالنفي وأنها لا تملك أيًّا من تلك المخطوطات!!! ومع ذلك نجد أنّ الأستاذ مفتاح وغيره يثبتون المخطوط الأصلي ، فلمّا ظهر كلام الخاني ـ الذي لم يكونوا يعرفونه قبلنا ـ صاروا يلتفون حول الموضوع! فلماذا؟
كان الواجب عليهم الإقرار أولاً بأنه لا وجود لنسخة بخط الأمير، وأنّ النسخة المزعومة لا وجود لها وإنما هي دعاية كاذبة. لا التهجم على الآخرين بكلام غير صحيح.
كان من المفروض أن يسأل الأستاذ مفتاح نفسه : كيف تطبع دار اليقظة كتاب المواقف وتزعم أنها قابلته على مخطوط بخط الأمير ومخطوط البيطار والقاسمي، ولا تذكر مخطوط الخاني؟!
والثابت وباعتراف الخاني والذين ينقلون عنه ، أنه لا وجود لمخطوط بخط الأمير ، ونحن لم نجد أثرًا لمخطوط البيطار، أو الطنطاوي أو المبارك ، والموجود للقاسمي في المكتبة الظاهرية هو الجزء الأوّل فقط نقله القاسمي عن مخطوط الخاني([16])
والعجيب أنّه في الطبعة الأولى للمواقف في مطبعة الشباب ، لم يقولوا إنهم اعتمدوا على مخطوط أصلي بخط أمير! وإنما قالوا : ((قد تم مقابلة هذا الجزء على أصله على قدر الإمكان في يوم الثلاثاء 1 صفر 1329هـ = 31 يناير 1911م... ونقل من نسخة بخط الشيخ عبد الرزاق البيطار ، وكان على هامش الأصل تصحيح بخط المؤلِّف!)).انتهى([17])
في حين نجد أنّ دار اليقظة تقول في مقدمة طبعتها : ((هذه الطبعة بوِّبت ورتِّبت بالاستناد إلى النسخة الأم الأصلية المكتوبة بخط .. الأمير عبد القادر الجزائري، وقوبلت على نسخة عالم الشام الكبير .. جمال الدين القاسمي المحفوظة بدار الكتب الظاهرية بدمشق ، ونسخة .. الشيخ عبد الرزاق البيطار المحلاّة هوامشها بتقييدات وملاحظات هامة بخط الأمير المؤلف، كما قام بمراجعتها والوقوف على أصلها وتصحيحها لجنة من أكابر وأفاضل علماء دمشق، كلَّفتهم دار اليقظة العربية خصيصًا لهذه الغاية الكريمة)).انتهى([18])
والقارئ للطبعتين يجد أن طبعة دار اليقظة ما هي إلاّ نسخة مطابقة تمامًا لطبعة الشباب! لا فرق بينهما. ولكن المثير للانتباه أنّ دار اليقظة زعمت وجود النسخة الأم بخط الأمير! وهذا كذب لا أصل له! في حين أنّ دار الشباب اكتفت بقولها "أنها قابلت المطبوع على الأصل" دون التصريح بصفة الأصل ولمن هو!
ولكن اشتركت المطبعتان بذكر نسخة الشيخ البيطار التي على هامشها تصحيحات للأمير! وهذا عجيب جدًّا!! لأنّ كتاب المواقف جُمِع وأكمل بعد وفاة الأمير بثمان سنوات ، فكيف يكون على هامشه تصحيحات للأمير؟! ثمّ إذا كان الأمر كما يزعمون لماذا لم يشيروا في المجلَّدات الثلاثة إلى المواضع التي علَّق عليها الأمير؟! وهذا شيء من أساسيات وأصول إخراج المخطوطات وطباعتها، وهو أمرٌ قديم كان علماؤنا يحرصون عليه حتى قبل الطباعة ، فإنهم إذا نسخوا كتابًا لمؤلِّف ما ، ووقفوا على نسخة أخرى له عليها تقييدات أو تعليقات ذكروها وبينوا مكانها! ولكن دار اليقظة ومن قبلها مطبعة الشباب لم تفعل ذلك! فلماذا؟
الجواب: أظن أن الأمر صار واضحًا!
وانفردت دار اليقظة بقولها "أنها قابلت المطبوع على نسخة القاسمي المحفوظة بالمكتبة الظاهرية"!
والموجود بالمكتبة الظاهرية هو جزء واحد فقط من الأجزاء الثلاثة!!
وزعمت دار اليقظة أنها بوبت ورتبت المطبوع اعتمادًا على النسخة الأم! والمتصفح للمطبوع يجد أنه لا وجود لا لتبويب ولا لترتيب! فعن ماذا يتحدثون؟!
وأغرب شيء هو ما ختمت به دار اليقظة كلامها عندما ذكرت أنها كلَّفت لجنة من أكابر وأفاضل علماء الشام بمراجعة المطبوع على المخطوط! ولكنها لم تذكر اسم أي واحد منهم! والذي نراه أنّ طبعتها هي نسخة طبق الأصل عن الطبعة القديمة لمطبعة الشباب لدرجة أنها وافقتها في معظم أخطائها!! ولم تستفد كثيرًا من جدول الخطأ والصواب الذي ألحقته مطبعة الشباب بآخر كل جزء!!! ولا يوجد أي تعليق أو حاشية تبيّن ملاحظات أولئك العلماء. والجواب أيضًا صار واضحًا!!
وأمّا طبعات المواقف التي طبعت في الجزائر فلم أقف عليها ، ولكن الذي أُلاحظه وجود نقول عنها في كتابات بعض المعاصرين، لا نجدها في طبعتي الشباب واليقظة! فليت الأستاذ مصباح يحدثنا عن مصادر تلك الطبعات، وبخاصة طبعة 1996، وطبعة 2007.
لقد كان في فعل الأمير عبرة للذين يدَّعون حبّه والاقتداء به ، عندما لم يركن إلى مطبوع الفتوحات وبحث عن المخطوط الأصلي الذي بخط المؤلّف ابن عربي، فهل فعل ذلك الأستاذ مفتاح عندما طبع المواقف من جديد؟ هل عثر على مخطوط الخاني واعتمده؟ أو هل عثر على مخطوط المبارك؟ أم أنه اعتمد المطبوع القديم بكل ما فيه من أغلاط؟ أنتظر الجواب!
إنني عندما أجد الأستاذ مفتاح يكتب مقالاً ويُنشره في كتاب (الأمير عبد القادر ملحمة الحكمة) ويتخلل المقال صورة لمخطوط مغربي كُتِبَ تحته [المواقف كتاب في 3 أجزاء كتبه الأمير عبد القادر مجموعة المتحف المركزي للجيش، الجزائر] وبعد النظر في المخطوط تبيَّن أنه لا يمتُّ بصلة إلى المواقف!! وتكرر عرض مثل تلك الصور ست مرّات في الكتاب ويُكتب تحتها دائمًا نفس العبارة [المواقف كتاب في 3 أجزاء كتبه الأمير عبد القادر ـ المتحف المركزي للجيش]، وهي جميعها ليست للمواقف([19]) وإنما هي مخطوطات لـ (صحيح البخاري) ، ولـ(عيون الأثر) لسيد الناس ، ولـ (شرح بعض الأدعية) ، ولـ (آداب وأحكام ومواعظ) .
عندما أجد هذا وأراه بأم عيني في كتاب صدر سنة 2007م أي قبل ظهوري على قناة المستقلّة بأشهر قليلة، فماذا يريد مني الأستاذ مفتاح أن أفعل؟ هل أنا المخطئ عندما أبيّن أنه لا وجود لهذا المخطوط وكل الأدلة معي والحمد لله ، أم الذي يزوِّر ويغش الناس ويعرض لهم صورًا مصغّرة عمدًا ليوهمهم أنها للمواقف؟!
أريد أن أسمع جواب الأستاذ مفتاح .
إنَّ الفرق بيني وبين الآخرين: أنني أبحث بتجرّد وليس لي أي غرض أو غاية سوى إثبات الحقائق، وأمّا الآخرين ـ من المثبتين للكتاب أو النافين ـ فيبدو، والله أعلم، أنهم يريدون إثبات آرائهم ودعم معتقداتهم بأي وسيلة! وهذا ما لا أقبله.
فالظاهر أنَّ الأستاذ عبد الباقي مفتاح ومن على طريقته ومشربه ، يريدون أن يثبتوا نسبة كتاب المواقف للأمير ، ليرسِّخوا مذهبهم ويستقووا بكبار الرجال. بدليل أنهم عندما نفت الأميرة بديعة كتاب المواقف عن الأمير قاموا ولم يقعدوا، وأزبدوا وأرعدوا، وكتبوا وسوَّدوا، وعندما نفت كتاب ذكرى العاقل عن الأمير وكذلك بعض رسائله ومجاوباته لم يحرِّكوا ساكنًا ولم يسطِّروا مقالاً. فلماذا هذا التباين في الأفعال؟
بل إنني تمنيت أن أقف للأستاذ مفتاح على مقال أو بحث في الشابكة ينفي فيه افتراءات الغربيين وأعوانهم على الأمير من كونه لم يجاهد وإنما كان يتسلط على الناس، أو أنه صديق لفرنسا أعانها على البقاء في الجزائر، أو أنه تآمر معها لإسقاط أحمد باي ، أو أنه ماسوني يقول بفناء الأديان إلا اليهودية، إلى باقي التهم والافتراءات. لم أجد له أي جهد في هذا المضمار (ولا أنفيه) ، ولكن عندما تكلّم أحد المسلمين المنتسبين لآل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والمنتسبين للأمير ، بكلامٍ حق لا باطل فيه ، نجد الأستاذ مفتاح يستنفر للرد عليه ولا يدَّخر وسيلة في ذلك!!
المسألة الدقيقة التي أتحدَّث عنها ـ وفهمها عني العلماء والباحثون ، ولكن لا يريد أن يفهمها المتشنّجون من السلفية أو الصوفية ـ هي أنّ كتاب المواقف المطبوع ليس من إنشاء الأمير وإنما هو من كتابة وتجميع الشيخ محمد الخاني ، وصحيح أنه يتضمن كلامًا للأمير سواء الذي دوَّنه الخاني عنه، أو ما وُجد في أوراقه ، إلاّ أنه تضمَّن أيضًا كلامًا ليس له! وحتى الكلام المنسوب إليه فإنه منقول عنه في أغلبه سماعًا ، وفائدة هذا التحقيق أننا لا نستطيع من الناحية العلمية أن نحكم على لغة الأمير أو أسلوبه أو تراكيبه من خلال هذا الكتاب ، وكذلك لا نستطيع أن نجزم بحرفية كل ما جاء في الكتاب ونسبتها للأمير ، وبخاصة الأمور الاعتقادية.
وممن تكلّم في هذا الدكتور ممدوح حقي الذي سعى في إخراج تحفة الزائر والمواقف والديوان وذكرى العاقل، وغيرها بتعديلاته وتعليقاته لأسباب لا أدري ما هي! ولكن المهم أنه قال عند حديثه على الأشعار الواردة في المواقف : ((وإني لأعرف له كثيرًا من هذا النوع، يتناشده عندنا في دمشق رجالُ الطرق في أذكارهم على أني ـ وإن كنت قليل الشك في نسبته إليه ـ فلا ريب عندي في أنه أصبح خليطًا عجيبًا من قوله وقول سواه من الدخلاء على هذا الفن ومزيجًا غريبًا من أقوال متفاوتة الدرجات وأكثره محطم الوزن مضطرب المعنى)).اهـ
وكل من اشتغل بالقصائد والأشعار الواردة في المواقف يعترف بأنّها محطّمة الوزن والقوافي ، والقصائد الواردة في ديوان الأمير نجدُ بعضَها في المواقف ولكن مع اختلاف كبير وواضح في نسقها وألفاظها وتراكيبها!!! فكيف يريد الأستاذ مفتاح إقناعنا بأنّ الأمير عبد القادر الشاعر واللغوي المتمكّن يكتب القصائد على ذلك النحو المحطَّم؟!
وأضرب مثالاً لتوضيح المسألة أكثر: هناك كتاب مشهور اسمه : المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس. هكذا يكتبون عنوانه منسوبًا للإمام مالك.
جاء في مقدمة الكتاب : ((المدونة الكبرى للإمام مالك التي رواها الإمام سحنون.. عن الإمام ابن القاسم.. عن الإمام مالك بن أنس الأصبحي..))
وحقيقة هذا الكتاب كما يعرفها أهل العلم أن الشيخ (سحنون) كان يسأل ابن القاسم عن مسائل وأحكام وعن فتوى الإمام مالك فيها . وكان ابن القاسم يجيبه ، ولكن ولمّا كان ابن القاسم بشرًا فإنه يَعْرِض له الخطأ والنسيان والوهم ، ولذلك قد يروي أشياء عن الإمام مالك فيخطئ فيها! ولذلك قرر علماء المذهب: أنه إذا تعارض الكلام بين الموطَّأ والمدونة فإنه يُقدّم ما في الموطأ على المدونة كما ذهب إلى ذلك ابن رشد الجدّ، والقاضي ابن العربيّ وغيرهما([20]). لأنّ ما في الموطأ مقطوع بنسبته إلى الإمام مالك لأنه من كتابته وإملائه، ونَقَلَه عنه جمعٌ كبير من العلماء ، في حين أنّ المدونة إنما هي من رواية ابن القاسم فيما سمعه من كلام الإمام مالك وهو على ثقته وعلو شأنه إلاّ أنه أخطأ في بعض ما رواه، وهذا ثابتٌ عند المحققين في المذهب.
ومثال آخر هو : كُتب الشيخ متولّي الشعراوي ، فكما هو معروف أن الشيخ لم يكتب تلك الكتب وإنما هي أحاديثه ودروسه المسموعة ، قام البعض بتحويلها إلى نصوص مكتوبة ، ولذلك نجد فيها عبارات عاميّة وكلامًا غير مفهوم أحيانًا ، وانقطاعًا في الشرح ، وكل ذلك بسبب أن هذه الكتب ليست من تأليف الشيخ الشعراوي المكتوب ، ولذلك لا يجوز لنا أن ننتقد الشيخ إذا وقفنا على عبارة أو كلمة غير مفهومة أو خاطئة في هذه المطبوعات ، وإنما علينا الرجوع إلى التسجيلات الصوتية حتى يتبيّن لنا مراد الشيخ من الكلام ، فإن نبرة الصوت وحركات الوجه والأيدي لها دور في فهم المراد الحقيقي من كلام الشيخ.
وكذلك الحال مع كتاب المواقف فإنه بسبب الإشكالات الواردة في تدوينه وجمعه وطباعته ، لا يمكننا القطع بحرفية كل ما نُسِب إلى الأمير فيه ـ وهذا دون التشكيك في صدق وأمانة الشيخ محمد الخاني ـ هذه هي المسألة الدقيقة التي أتحدَّث عنها ، ولو سمع الأستاذ عبد الباقي مفتاح كلامي مرة ثانية سيجد كم كان مخطئًا في حقي، وكم أساء فهمي بصورة عجيبة!!
أنا لم أنف صفة التصوف عن الأمير قط ، وأنا لم أنف مواقف الأمير قط ، وأنا لم أتهم الخاني أو محمد باشا قط ، وما نسبه إلي الأستاذ مفتاح باطل ، ويؤاخذ عليه! وكان الواجب عليه أن يوجه كلامه ونقده إلى غيري ولا يشملني بهجومه الضاري!
وهناك أمرٌ هام أريد التنبيه عليه : فقد روى الأستاذ جواد المرابط (تولّد 1905م) ـ نقلاً عن عمّه السيد يوسف المعاصر للأميرـ خلال حديثه عن اجتماع علماء دمشق بالأمير في داره وذكرهم لبعض الأخبار والمسائل العلمية والأدبية وتعليق الأمير عليها بأجمل عبارة وأبلغ جواب؛ فقال: ((..فلما انتهى الأمير عليه رحمة الله من حديثه، رجاه الشيخ عبد الرزاق البيطار والشيخ محمد الخاني والشيخ الطنطاوي أن يدونوا ما يتكلّم به في مجالسه ، فكان ذلك نواة الكتاب الذي عُرِف فيما بعد باسم "المواقف")).انتهى([21])
ـ في حين نجد أنّ الشيخ عبد المجيد بن محمد الخاني ، عندما تحدَّث عن علاقة أبيه العلمية بالأمير ، يقول: ((..مثل الوالد الماجد، فإنه كثيرًا ما كان يراجعه (أي يراجع الأمير) في بعض المسائل الخفيّة، ويسأله حلَّ محالّ من الفصوص والفتوحات المكية ، فلكثرة حبه للخير وبذله مع وفرة موانعه وشغله، كان يقيد ما ظهر له بالكشف ويوضحه ويرسل به إليه، فكان من فرط حرصه عليه يلحقه في المواقف بإذنه ... فما زال يضم كل مسألة إلى أخدانها، ويقرنها بأقرانها حتى اجتمع من ذلك ثلاث مجلدات ضخمة. وقد ذيّلَ الوالدُ الماجد بعد وفاته (وفاة الأمير) الجزء الثالث بما وجده في كناشه بخطه)).انتهى([22])
فلم يذكر الشيخين البيطار والطنطاوي ، والواضح من كلامه أنّ والده هو الذي أشرف على جمع موضوعات المواقف ، مع أنّ الأستاذ جواد المرابط أكّد أن ذلك كان بمساعي البيطار والطنطاوي أيضًا! والمسائل التي كانوا يدوّنونها كانت متنوعة الموضوعات، في الأدب والفقه والاجتماع والتصوف وغيرها، في حين نجد أنَّ المواقف الذي جمعه الخاني لا يحتوي إلاّ موضوعات في التصوف!! ودور النشر التي نشرتْ المواقف تذكر مخطوط البيطار ، ولم تذكر أيٌ منها مخطوط الخاني، مع أنّ مخطوط الخاني هو الأساس وعنه نقل الشيخ القاسمي!! فيجب التنبّه لهذا الإشكال.
على كل حال هذه المسألة سأعالجها إن شاء الله في البحث الخاص بالمواقف ، ولكنني ذكرتها هنا عَرَضًا لأنبّه إلى أنّ كلام عبد المجيد الخاني عن أبيه وقصّته مع المواقف له أسبابه ، وهو ليس على إطلاقه. وإلاّ فلماذا يقول (بإذنه)؟ فما حاجته إلى الإذن إذا كان الكتاب بتكليف وتوجيه من الأمير كما يزعمون؟!
8ـ يقول الأستاذ عبد الباقي مفتاح : ((مما سمعته أيضًا من السيد خلدون الدمشقي حين قال في إحدى مداخلاته التلفزيونية في قناة المستقلة أن كتاب المواقف لم يرد ذكره في كتاب (تحفة الزائر) إلا مرة واحدة تقريبًا...))
ثم راح يعدد المرات التي ذكر فيها محمد باشا ذكر المواقف.
وأقول : لا أدري كيف يستمع الأستاذ مفتاح إلى كلامي وكيف يترجم مفرداته؟ لم يكن قصدي الحديث عن عدد المرات التي ذكر فيها محمد باشا اسم المواقف ، وهذا واضح من سياق الكلام ، الذي كنت أقوله أن محمد باشا في كتابه تحفة الزائر ذكر جميع رسائل الأمير ومجاوباته بالحرف، مثل: وشاح الكتائب ، ورسائل الأمير إلى علماء المغرب وأجوبة الإمام التسولي عليها ، وأسئلة الأمير لقاضي فاس ، ثم ذكر أجوبة القاضي ، ثم رسالة (حسام الدين) ، ورسالة الأمير إلى علماء مصر ، وجواب العلاّمة محمد عليش مفتي المالكية ، وكذلك الرسالة التي وجهها الأمير لعلماء مصر وجواب العلامة حسن العدوي ، و(رسالة المقراض الحاد) ، وأسئلة الجنرال دوماس وأجوبة الأمير عليها ، ورسالة (ذكرى العقال وتنبيه الغافل)، وأسئلة الشيخ سليم العطار وأجوبة الأمير عليها ، وأسئلة العلاّمة محمود الحمزاوي وجواب الأمير عليها، ولكنه لم يذكر المواقف إلا في آخر صفحتين من كتابه.
وذلك في معرض التساؤل فقلت : أليس عجيبًا أن يملك محمد باشا كل تلك المخطوطات والرسائل، ثم هو لا يملك مخطوط كتاب المواقف وتملكه امرأة مصرية هي نبيهة هانم شقيقة أحمد فؤاد عزة باشا (عضو مجلس الشيوخ) وعزيز عزة باشا (سفير مصر ووزيرها المفوض في بريطانيا) وحرم محمود باشا الأرناؤطي)، وتقوم هي بطباعته وتوزيعه مجانًا سنة 1911م وذلك قبل وفاة محمد باشا بعدة أشهر!! وبعد وفاة الخاني والطنطاوي والمبارك!!!
فكيف حصلت على هذا المخطوط ، ومحمد باشا الذي كان يسعى إلى طباعة كل ما يخص الأمير لا يملك ذلك المخطوط!
فصدور الكتاب بهذه الطريقة يثير التساؤلات.
إذن كلامي منصب على مسألة لماذا لم يطبع محمد باشا المواقف؟ وعلى أي مخطوط اعتمدت نبيهة هانم في طباعة المواقف؟ ولست مهتمًا بكم مرّة ذكر محمد باشا اسم المواقف ، فيكفي أن يذكره مرة واحدة لإثباته، (مع أنني لا أظن أن ما قاله الأستاذ مفتاح من أن محمد باشا ذكر اسم الكتاب 11 مرة في الجزء الثاني دقيقًا! ونسختي من تحفة الزائر مختلفة عن نسخته فأنا أملك النسخة الأولى المطبوعة سنة1903م) على كل حال هذه ليست قضيتي ، والأستاذ أساء في عرض الموضوع.
9ـ قال الأستاذ مفتاح : (وأما رابع العلماء الذين أخذوا المواقف عن الأمير، فهو أخوه العلامة شيخ الطريقة القادرية الشيخ أحمد، وهو الذي يقول عنه الشيخ البيطار في ترجمته له : (... وسمع على أخيه الأمير صحيحي البخاري ومسلم في مدرسة الحديث الأشرفية، وحضره في مواقفه الشهيرة، وفي الفتوحات المكية في داره لما قرئت بحضوره بعد تصحيحها على نسخة مؤلفها)
وفي كلامه مغالطة وخطأ : أمّا المغالطة فهي وصفه السيد أحمد بشيخ الطريقة القادرية! وهذا لم يصفه به المترجمون له! وإنما يذكرون أنه تلقى ذكر الطريقة القادرية ، يعني أنه قادري وهذا لا خلاف فيه، ولكنه لم يكن شيخًا للطريقة القادرية ، وشيوخ هذه الطريقة معروفون في دمشق، فلماذا يصفه الأستاذ مفتاح بهذا الوصف الجديد؟! ولماذا كل هذا التهويل؟
وأمّا الخطأ: فإنّ الكلام الذي ساقه على أنه من كلام البيطار ليس له!!
والذي قاله البيطار هو : ((..ثم حفظ القرآن العظيم وجوده على أحد القراء الأكابر، ثم حفظ المتون من عدة علوم وفنون، ثم حضر دروس الأفاضل ذوي المعارف والفضائل، فقرأ ما كفاه من توحيد وفقه وحديث وتفسير، ثم اشتغل بعد ذلك في الإفادة مع التدقيق والتحرير وكانت لا ترضى نفسه المطمئنة أن يعرِّج في عباداته على غير الكتاب والسنة فهُما إمامه في أحكامه، ورأس ماله في مجاوبته وكلامه، وله رسالة على قول الإمام علي العلم نقطة كثَّرها الجاهلون، ورسالة في السماع سماها (الجنى المستطاب)، وهي في الرد على من ادعى أن سماع المعازف يحرك القلب لرب الأرباب)).انتهى([23])
وأمّا الكلام الذي ساقه الأستاذ مفتاح فهو لعالم آخر ، إن شاء أخبرته به.
10 ـ وعند كلام الأستاذ مفتاح على كتاب (نثر الدر وبسطه) للسيد أحمد الحسني قال في الحاشية: (أول من طبع هذا الكتاب للشيخ أحمد هو محدث الشام الأشهر الشيخ بدر الدين الحسني، طبعها سنة 1324هـ)
وهذا خطأ واضح ، لأنّ الذي طبع هذا الكتاب أوّل مرّة هو السيد محمد بدر الدين الحسني الجزائري ابن السيد أحمد الوحيد! وهذا ليس سرًّا ، وهو مطبوع في الصفحة الأولى للكتاب المطبوع في المطبعة الأهلية في بيروت سنة 1324هـ.
والأستاذ مفتاح خلط بين الرجلين لتشابه الاسمين ، وهذا ليس من التحقيق في علم الكتب.
وعندي مخطوطين لكتاب نثر الدر بخط السيد أحمد وكذلك عندي الطبعة الأولى منه ، مع بعض مخطوطات السيد أحمد ورسائله بخطه.
11ـ وقال الأستاذ مفتاح في معرض حديثه عن المواقف وأحفاد الأمير: (فهم ينتقون منها ما يروق لهم ويرمون بالباقي لا لشيء إلا لأنهم لم يستوعبوه حسب أفقهم المعرفي ... وهذا ما نجده في بعض مقالات السيد خلدون الدمشقي المنشورة في الانترنت)
ويبدو أنّ الأستاذ مفتاح يقرأ مقالاتي بنفس الطريقة التي يسمع بها كلامي في المستقلّة!! أعني أنه يتوهَّم أشياء ويقرأ ما في ذهنه لا ما أكتبه وأعالجه . والعجيب كيف يتكلّم بهذه الطريقة الجازمة الغيبية! وما أدراه أنني لم أستوعب ما في المواقف؟ وما يدريه بسعة أفقي المعرفي؟ يقول ربُّنا جلَّ وعلا : {ستكتب شهادتهم ويُسألون}[الزخرف : 19]
وأنا لن أخاطبه بالطريقة التي يتحدَّث بها ، وإنما ألتزم طريقة الأدب .
ولكن الذي يجب أن يكون حاضرًا في ذهن الأستاذ مفتاح والجميع : أنّ كثيرًا من الكلام الوارد في المواقف هو مشابه ومطابق لما ورد في الفتوحات المكية وأمثالها، وهذا الكلام يدور في فلك مسألة وحدة الوجود ، وهي مسألة أجمع كل علماء المسلمين من الفقهاء والمحدِّثين والمفسِّرين على فسادها وبطلانها ومعارضتها للقرآن، وحكموا بكفر معتقدها ، ووافقهم بعض شيوخ الصوفيّة ، هذا هو الأصل الذي لا يجوز لأحد أن يحيد عنه ، وهؤلاء هم العلماء الراسخون وهم أصحاب الأفق البعيد والمعرفة الواسعة وهم أهل الاستيعاب والفهم!
فإذا كان الأستاذ مفتاح يرى مخالفتهم ، فهذا لا يعني أنه هو صاحب الأفق المعرفي الواسع، وإنما يعني أنه يرفض ما عليه علماء الأمّة! وهذا غير مقبول ، وأذكِّره بأحد القواعد الذهبية التي يقول بها القوم وهي أنّ: ((للمتفقّه والمتشرّع أن يُنكر على الصوفي ما ينكره ظاهر الشرع، ولكن في الأشياء المجمع عليها ، لا في الخلافيات، وليس للصوفي أن يُنكر على المتفقه المتشرّع))، وهم يستدلون على ذلك بقصة نبي الله موسى مع الخضر. وبما أن الأستاذ مفتاح يحب كتاب المواقف ، فليرجع إليه وليقرأ ما روي عن الأمير من مواقف جميلة في التعليق على تلك القصة والتي ذكر فيها 15 مسألة وفائدة([24]).
والعجيب من فعل الأستاذ مفتاح أنه يقول إنه على منهج القوم وأنه يفهم كلامهم ويدافع عنهم وو... ، ثم أجده لا يمتثل قواعدهم ولا توجيهاتهم ولا وصاياهم!! فما هذا التناقض؟!
القضيّة المهمّة هي أنّ العلماء المعاصرين للأمير ، والمصاحبين له ، والمطلعين على فكره وأحواله والذين حضروا مواقفه ، كانوا يهاجمون أصحاب فكرة وحدة الوجود ولا يرضون بها ، وأشهرهم الشيخ عبد الرزاق البيطار ، والعلاّمة جمال الدين القاسمي ، وهما اللذان كتبا أطول ترجمتين للأمير، الأول في كتابه حلية البشر ، والثاني في كتابه تعطير المشام؛ وهما لم يقدحا في الأمير مطلقًا ولم يذكرا أنّ الأمير كان يميل إلى فكر ابن عربي أو وحدة الوجود. فهل يريد الأستاذ مفتاح أن ندع كلامهما ونلتفت إلى كلامه؟! لا أظنه يريد ذلك لأنّه هو الذي يحتج بكلامهما في إثبات المواقف! فلا يُعقل أن يُؤمِن ببعض كلامهم ويرفض بعضه!!
ولقد كان من نهج علمائنا أنّهم إذا وقفوا على كتاب أو رسالة منسوبة لأحد أعلام علماء المسلمين المشهود لهم بالهدى والفضل والدين ، ووجدوا فيها كلامًا غير شرعي أو يشابه كلام المنحرفين ، أسرعوا ونزّهوا ذلك العالم عن تلك الرسالة أو الكتاب!
فعلى سبيل المثال : الإمام الفخر الرازي (صاحب التفسير المشهور) المتوفّى سنة 606هـ، نَسَب إليه كثيرٌ من العلماء تأليف كتاب (السر المكتوم في مخاطبة الشمس والقمر والنجوم)، وردَّ عليه الشيخ زين الدين سريج بن محمد الملطي، المتوفى سنة 788هـ ، وسماه : (انقضاض البازي في انفضاض الرازي)([25]) ؛ ولكن في هذا الكتاب وجد العلماء خوضًا في السحر والدجل ، فلم يصدِّقوا أنَّ عالمًا مثل الرازي يخوض في مثل تلك الأشياء فنزَّهوه عن الكتاب ؛
1ـ فقال الحافظ الذهبي : ((وله كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم، سحرٌ صريح، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى))([26])
2ـ وقال العلاّمة الكبير أبو شامة المقدسي مدافعًا عن الرازي : ((ولا ينبغي أن يُسمع فيمن ثبتت فضيلته كلامٌ يُستبشع))([27])
3ـ وقال السبكي : ((وأما كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم فلم يصح أنه له بل قيل إنه مختلق عليه))([28])
قالوا ذلك مع أنّ الفخر له اشتغال بعلم النجوم والاختبارات السماوية والرمل ، ولكن دون الوصول إلى السحر والدجل.
12ـ وزعم الأستاذ مفتاح أنّ الأمير كان يعتزُّ بكتاب المواقف!! وأنّ الذين ينفون عنه هذا الكتاب يتذرّعون بمزاعم وهمية!
والعجيب منه أنه يقول عن الآخرين إنهم يتذرعون بالأوهام ، وإذا به يتذرع بها!
أنا لم أنف المواقف عن الأمير ، وإنما أفرّق بين كتاب المواقف المطبوع وبين مواقف الأمير التي سمعها أو كتبها بعض أصحابه ، ولم أتوهّم شيئًا وإنما كل ما ذكرته مثبت ، بخلاف ما يزعمه الأستاذ مفتاح من أوّل مقاله إلى الآن! فأين وجد الأستاذ مفتاح الأمير يصرح باعتزازه بكتاب المواقف؟ وكيف سمح لنفسه بالتقوّل على الأمير؟! وما هذا البحث العلمي الذي يدَّعيه، وخاصّة وأنه في معرض الرد والهجوم على مخالفيه.
وحتّى النص الذي أورده في حاشيته ليس فيه أنّ الأمير يعتز بالمواقف ، بل ولا يوجد على لسان الأمير أي تصريح بهذه الكلمة.
أن يكون الأمير صوفيًا ومحبًّا لابن عربي شيء، وما يدَّعيه الأستاذ مفتاح شيء آخر.
13ـ قال الأستاذ مفتاح : ((ولهذا فرأيي في مطالعة المواقف هو رأي الإمام جلال الدين السيوطي (ت: 911 هـ) في كتب الشيخ محيي الدين، حيث يقول في رسالته (تنبيه الغبي في تبرئة ابن العربي) : "والقولُ الأفضل عندي في ابن عربي هو اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه إلا الراسخون في العلم")).
فما دام هذا هو رأيك وأنت صادق فيما تقول إن شاء الله، فلماذا قمتَ إذن بطباعة ونشر كتاب المواقف سنة 2007م؟!
ما فائدةُ كتابٍ : الفتوى فيه هي تحريمُ قراءتِه والنظر فيه على جمهور الناس؟!
وكيف تزعم أن الأمير يعتز بكتاب يحرم النظر فيه؟!
وما الغرض من نشر كتاب وتوزيعه على نحو واسع ـ كما جرى في احتفالية الجزائر عاصمة الثقافة ـ وأنت تقرّ بأنّ القلة النادرة (ممن جرى لهم الفتح!) وحدها القادرة على قراءته دون إساءة فهمه؟ (مع أننا لم نسمع في هذا العصر أحدًا قال إنه قد جرى له الفتح الكبير!!فهل تعرف أحدًا منهم؟ ليتك تخبرني)
هل هذا من الحكمة؟! وأنت تنقل كلام القوم بأن من ينظر في مثل تلك الكتب سيهلك أو يضيع عمره في غير فائدة!
والأعجب من ذلك أنك تنقل كلام الأمير في النهي عن مطالعة كتب القوم ثم رُحت تنشر المواقف، وقبلها زعمت أن الأمير نشر الفتوحات. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
والأخ سعداني صاحب الموضوع يقول : ((كتاب المواقف للأمير مفخرة)) . فكيف يكون مفخرةً وأنتم تفتون بحرمة قراءته؟ وأين الفخر إذا كان لا يَفهَم حقيقتَه إلاّ أفرادٌ في الدهر؟!
14ـ ويقول الأستاذ مفتاح : (ثم إن جل القصائد التي رثى بها الشعراءُ الأميرَ بعد وفاته، كما هي في "تحفة الزائر" ، تذكر اسم هذا الكتاب وأنه أعظم آثار الأمير المكتوبة).
أقول : نعم أثنى الشعراء في قصائدهم على مواقف الأمير ، ولكن من قال إنهم يعنون بذلك كتاب المواقف؟ أمّا قصائدهم فأغلبها لا تدلّ على ذلك ولا تصرّح به ؛ ثم إن الأستاذ مفتاح أخطأ في نسبة بعض القصائد لأصحابها:
ً1ـ فما نسبه للشيخ البيطار إنما هي قصيدة للشيخ عبد المجيد الخاني وفيها:
ربّ السِّمات الباسمات وحسبه *** شـرف النبوة طيب الأغراس
علمٌ وسلطانٌ وحِلمٌ في تقىً *** وولايـة وإقامـة قسـطاس
ومواقف شهدت بفضل معارف *** ضاءت على الأكوان كالنبراس
وهذه قصيدة قالها قبل وفاة الأمير لا بعد الوفاة كما قال الأستاذ مفتاح!([29])
ونحن نعلم أنَّ الكتاب لم يجمع إلاّ بعد وفاة الأمير! إذن الكلام هنا ليس على الكتاب قطعًا!!!
وفي القصيدة كلمة المواقف مطلقة لا يوجد في السياق ما يساعد على الزعم بأن المقصود كتاب المواقف! وليس من العلم أن يُقال كلّما وردت كلمة مواقف: إنّ المقصود بها كتاب المواقف، فسيرة الأمير تتردد فيها هذه الكلمة مئات المرّات من البيعة إلى الوفاة، والكُتّاب يقصدون مواقفه الشجاعة ، ومواقفه الحازمة ، ومواقفه الإسلامية، ومواقفه المتسامحة ، ومواقفه النبيلة ، ومواقفه الصوفية ..الخ..
2ًـ وما نسبه للشيخ محمد المبارك فهو على التخمين لا القطع واليقين ، لأنّ القصيدة وردَت في التحفة بعد رسالة الرثاء التي كتبها الشيخ المبارك، فربما تكون له أو لغيره. وفيها :
جمَعَت شمائله من الأوصاف ما *** هو بين أرباب العُلا متفرّق
وله مواقفُ كالمثاني ذكرها *** أبدًا على طول المدى لا يخلق.
والمواقف هنا مطلقة أيضًا ، فالزعم أنّ المقصود هو كتاب المواقف تحكُّم لا دليل عليه.
وقد أورد محمد باشا ضمن الرسائل الواردة على الأمير رسالةً للصيادي بعثها سنة 1296هـ جاء فيها : ((فأرجوكم أن تلاحظوني برقائق رابطتكم في خلواتكم السعيدة وأن تمدوني بمددكم العالي في حال جلوتكم في شطحات مواقفكم الحميدة، جعلكم الله سلَّمًا للوصال ومحجّة إلى بلوغ الآمال..)).انتهى([30])
فهل سيقول الأستاذ مفتاح إنّ المقصود هو كتاب المواقف؟
لا يمكن القبول بهذا الكلام لأنّ السياق واضح بأن الحديث عن مواقف الأمير التي كان يحضرها العلماء ويسألونه فيها حلَّ بعض الإشكالات فيجيبهم بأحسن جواب، ولا كتاب ولا هم يحزنون!
3ً ـ وما نسبه للأديب أحمد أفندي وهبي الحلبي فليس له وإنما هي قصيدة للأديب سليم أفندي قصاب حسن.([31])
هذه بعض الأخطاء التي وقفتُ عليها ، في هذه العجالة في مقال الأستاذ مفتاح، وببيانها يفقد مقاله زخمه وقوّته ، لأنّ عناصر القوة التي وضعها أثبتنا بطلانها.
والآن سأعرض بعض الأخطاء والمزاعم الواردة في مقال الأستاذ مفتاح (الأمير عبد القادر فارس الإيثار وأمير المعرفة) المنشور في كتاب (الأمير عبد القادر ملحمة الحكمة) منشورات زكي بو زيد 2007م ، والتي تصب في نفس الموضوع ولها نفس الغاية :
أـ في ص 82 قال عن جد الأمير السيد مصطفى (أنه كان من ورثة الطريقة الحاتمية أو الأكبرية طريقة الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي، أجازه فيها المحدّث الصوفي الشهير السيد محمد مرتضى الزبيدي. ثم زعم أن هذه الوراثة للمشرب الأكبري هي في أسرة الأمير)
وأنا أقول له من أين لك هذه المعلومة؟ وأين دليلك عليها؟ فكل من ترجم له لم يذكر هذه المعلومة النفيسة!
إنّ السيد مصطفى لم يجتمع في حياته كلها بالمرتضى الزبيدي!!
والإجازة التي كتبها له الزبيدي إنما هي بالواسطة وهي إجازة بثبته العلمي (المرويات والأسانيد) وقد تحدّث عنها بالتفصيل السيد أحمد بن محيي الدين وكلامه عندي في مخطوط، وليس فيه هذا الزعم الجديد! والسيد مصطفى وابنه محيي الدين لم يقفوا على أي كتاب للشيخ ابن عربي أو يقتنوه، ولم يتلقَّ أحدٌ عنهم تلك الطريق الأكبريّة!!! بل إنّ الثقافة الصوفية في المغرب والجزائر لم تكن في ذلك العصر متأثِّرة بفكر ابن عربي أو تراثه.
ب ـ قال الأستاذ مفتاح في نفس الصفحة : (وبوفاة الوالد محيي الدين... انتقلت الخلافة الروحية في الطريقة القادرية والسلوك النقشبندي والمشرب الأكبري إلى الأمير عبد القادر)
أرأيتم إلى هذه المبالغات! وأقول له أيضًا من أين لك هذه المعلومات؟ وما هو دليلك عليها؟
أولاً بعد وفاة السيد محيي الدين لم تنتقل المشيخة للأمير وهذا يعرفه العلماء والمحققون في هذا الشأن ، وقد نصَّ الشيخ محمد بن معروف الونشريسي تلميذ السيد محيي الدين بأن الذي خلف السيد محيي الدين هو ابنه الأكبر السيد محمد السعيد وهو قادري ولم يكن نقشبنديًا ولا أكبريًا ، وقد صرّح الأستاذ المهدي البوعبدلي في بحثٍ له بأنّ الذين قالوا إن المشيخة انتقلت إلى الأمير قد غلطوا، وكلامهم غير صحيح([32])
ثم إنّ هذه المشيخة المذكورة هي مشيخة علمية بالدرجة الأولى تعتني بالقرآن والفقه والحديث وعلوم اللغة ، وهذا ما صرّح به الشيخ الونشريسي تلميذ سيدي محيي الدين، وتقوم بتلقين الذكر القادري فحسب!. والسيد محمد السعيد لم يكن شيخًا للقادرية بدمشق!
فلماذا هذا الكلام العجيب: السلوك النقشبندي والمشرب الأكبري!!
ثم أي مشرب أكبري وأي سلوك نقشبندي هذا الذي تدَّعيه ، يا أستاذ ، في أسرة الأمير! ولم يسبقك أحدٌ إلى هذه البدعة. وقد صرَّح الأمير عبد القادر نفسه بأنَّ أخاه الأكبر السيد محمد السعيد كان في حياته ينفر من الحقائق ومطالعة كتب القوم!! فلماذا تتجاهل هذا التصريح؟([33])
ج ـ ويتابع الأستاذ مفتاح فيقول: (ولاشتغال الأمير بتكاليف الإمارة والجهاد ، قام أخوه محمد السعيد بشؤون الطريقة؛ وقد توفي بدمشق .. وخلفه في المشيخة ابنه محمد المرتضى الذي تزوّج إحدى بنات الأمير)
وأقول: إنّ السيد محمد السعيد قام بشؤون معهد القيطنة العلمية والتربوية ، فلا يُقال قام بشؤون الطريقة! ثم إن السيد المرتضى كان قادريًا فحسب ، وتلقى الذكر من الأمير لا من أبيه!! وهذا نصَّ عليه العلامة جمال الدين القاسمي فقال : ((وكان تلقى الذِّكر عن عمه الأمير عبد القادر وأجاز له بالأوراد القادريّة ، وتلقى أيضًا عن السيد سلمان أفندي نقيب السادة الأشراف في بغداد... وكان حريصًا على كشف حال البدع والمنكرات سليطَ اللّسان على المبتدعين ، ينهج في أحواله منهج السلف ويدعو إلى ذلك ، وكان لا يرضى بأدنى بدعةٍ مخالفةٍ لما يعهده من السيرة الحميدة)).([34])
والسيد مرتضى لم يتزوّج إحدى بنات الأمير كما يقول الأستاذ مفتاح وإنما تزوّج من أسرة لبنانية وأقام في بيروت ومات فيها وليس له أبناء ذكور.
د ـ وقال الأستاذ مفتاح صفحة 84 : (وتوسَّعت دوائر علاقاته ـ أي الأميرـ بشيوخ مختلف الطرق الصوفية داخل الوطن وخارجه ..: ومنهم في مصر شيخ الأزهر مفتي المالكية وشيخ الطريقة الشاذلية الإمام محمد عليش وابنه عبد الرحمن.) وفي ص90 قال عنه : (من أشهر تلاميذ الأمير الذين أخذوا عنه شربات الصوفي النابع من الشيخ محيي الدين بن العربي شيخ الأزهر وإمام المالكية بمصر وشيخ الطريقة الشاذلية السيد عبد الرحمن عليش)
وهذا أيضًا من مبالغاته الشديدة وتهويلاته! إن الشيخ محمد عليش كان صوفيًا وكذا ابنه الشيخ عبد الرحمن ، هذا أمر معروف ، ولكن صلة الأمير بالشيخ محمد عليش لم تكن لأنّه صوفي أو شيخًا للشاذلية كما زعم الأستاذ مفتاح! وإنما صلته به كانت لأنه مفتي المالكية وشيخ الأزهر، وقد راسله الأمير عندما انحاز سلطان المغرب إلى صف فرنسا وصار يُعينها على الأمير، فأرسل الأمير إلى الشيخ عليش ليحصل منه على فتوى رسمية في هذا الخصوص. والسؤال والجواب مثبتان في كتاب الشيخ عليش (فتح العلي المالك 2/491) وفي (تحفة الزائر 1/306) لمحمد باشا.
المهم في الموضوع أنّ الأستاذ مفتاح يريد أن يلبس الشيخ عليش ثوبًا جديدًا ويظهره لنا بخلاف حقيقته! مع أن الأستاذ مفتاح يشنّع على الآخرين عندما يفعلون مثل ما فعل!
إن الشيخ فقيهٌ متصوف (مثل الأمير) لذلك لم يكن يقبل بشطح الصوفية وتخليطاتهم ، وقد نقل في كتابه المذكور فتاوى أئمة المالكية في ذم بعض الصوفية وانحرافاتهم.
وقد روى السيد أحمد بن محيي الدين الأخ الأصغر للأمير في تاريخه الخاص بالأمير : ((أنّ والده محيي رأى في مكّة المكرمة الشيخ الصوفي أحمد بن إدريس وكان في غاية الغضب والحنق على علماء الظاهر ومعاصريه من أهل وقته لأنهم أتعبوه غاية التعب وأنكروا عليه كل الإنكار ونكّدوه غاية التنكيد وسلقوه بألسنتهم الحداد..... وقد تصدّى للإنكار على المذكور من علماء مصر العلاّمة المتعبد الزاهد الشيخ محمد عليش شيخ المالكية بالديار المصرية رحمه الله تعالى، فإنه شنّع عليه كل التشنيع، وألّف فيه رسالة كنتُ رأيتها..... وقد تتبع المذكور في الإنكار عليه جماعة الأزهر إلا ما قل... وبسبب ذلك خرج من مصر ثم من الحرمين واستوطن اليمن ودفن بزبيد)).انتهى([35])
وهذه القصّة التي يرويها السيد أحمد هي أكبر دليل على أنّ ما زعمه الأستاذ مفتاح بحق الشيخ عليش وأكبريّته وما إلى ذلك إنما هو من مبالغاته ، وانظر كيف وصفه بأنه العلاّمة المتعبّد الزاهد شيخ المالكية، ولم يصفه كما وصفه الأستاذ مفتاح بشيخ الشاذلية! .
هـ ـ قال الأستاذ مفتاح ص88 : (ومن الأسباب التي جعلت الأمير يسلم زمام سلوكه الروحي للشيخ محمد الفاسي هو تطابق المنهج والمشرب الدرقاوي الشاذلي في التربية الروحية والأذواق العرفانية مع المنهج والمشرب الأكبري) وفي ص89 يقول (ولم تطب ثمار صلته الروحية بالشيخ الأكبر إلا بصحبته لأستاذه محمد الفاسي)
ونقول له هذا رأيك! ولكن لا يجوز لك أن تذكره وكأنّه حقيقة مسلمة دون إيراد الدليل عليه ، فهل أخبرك الأمير بهذا أو رواه أحد أصحابه عنه؟ وكما تخاطب الآخرين فإنهم يقولون لك لا يحق لك التذرع برأيك الخاص لإثبات وقائع لا علم لك بها ولا دليل لك عليها. ثم إن الأمير نظم قصيدة طويلة جدًّا في قصته مع شيخه الفاسي ولم يذكر فيها أو يشر إلى شيء مما تزعم!
وـ ويقول الأستاذ مفتاح في ص92 : (وأخيرا وقبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى أوصى الأمير بدفنه جوار أستاذه الشيخ الأكبر)
وهذا أيضًا غير صحيح قطعًا ولم يذكره أحد من مؤرّخي الأمير. نعم هو دفن إلى جوار ابن عربي ولكن ليس بوصية منه ، والأمير محمد باشا في تحفة الزائر لم يذكر أن أباه أوصى بذلك ، ووصية الأمير موجودة لدينا ومنشورة في كتب الباحثين ليس فيها أنه أوصى بذلك. وإنما هو اقتراحٌ اقترحه بعض الشيوخ على أولاد الأمير فترددوا في الأمر إلى أن اجتمعت الآراء على دفنه بجوار ابن عربي ، فاجتمع مجلس إدارة الولاية للمذاكرة في هذا الأمر ووافق عليه بعد ترخيصٍ من الباب العالي([36]). فلماذا يصر الأستاذ مفتاح على هذا الزعم؟
ثمّ كيف يسوغ للأستاذ مفتاح أو للدكتور عثمان يحيى ومن هم على مشربهم ، أن يقولوا عن الأمير إنه تلميذ ابن عربي أو إن ابن عربي أستاذ الأمير؟! وبين وفاة ابن عربي ومولد الأمير ستة قرون (ستمئة سنة)!!! ثم في أي لغة يكون هذا؟ أمّا في العربية فلا يكون الشخص تلميذًا إلاّ لمن يعاصره ويقرأ عليه، ولا يكون الشخص أستاذًا إلاّ لمن يعاصره ويدرس عليه. ثم إنّ الأمير نفسه لم يستعمل هذا الوصف حتى على سبيل التوسّع في المجاز، فلماذا هذا الغلو؟
الظاهر بكل وضوح أن هناك من يريد رسم صورة جديدة للأمير أو تمرير فكرة خاصة أو تدعيم رأي خاص!
فقبل مقال الأستاذ مفتاح كان مقال خالد بن تونس الذي أتى فيه بالعجائب ، وتقوَّل على الأمير ، وحوَّر في كلامه المعروف والمطبوع وهذه جرأة عجيبة!! ثم ختم سيل طاماته بقوله : (عندما دَمَّر جيش الاحتلال عواصم الأمير"تاقدمت" و"معسكر"، أسس عاصمة مبنية على هيئة الكون ملتهمًا من عقيدة نشأة الكون لابن عربي هذه العاصمة المتنقلة "زمالة الأمير")([37])
أرأيتم من هم الذين يتكلمون بأوهام زائفة ويتعسّفون في الكلام! حتى قبل أن يطّلع الأمير على تراث ابن عربي ، يريدون لصق كل حركة يتحركها أو كلمة يتكلمها بفكر ومنهج ابن عربي!!!
[ويبدو أن ابن تونس لا يحب التفريق من الالتهام والاستلهام! لعلَّ الجوع هو السبب]
إنهم لو اقتصروا على الأحداث التي جرت في آخر أيام الأمير وقبل وفاته وربطوا بينها وبين فكر ابن عربي، لكان ذلك مقبولاً بعض الشيء ، لأنه حدث بعد اطلاع الأمير على فكر ابن عربي ، ومع ذلك هم مطالبون بالبيّنات! إلاّ أنهم لم يعثروا على شيء يستندون إليه فراحوا يتكلّفون في ليّ أعناق الأحداث التي جرت في مقتبل عمر الأمير (البيعة ، والجهاد ، و..) ويربطونها تعسُّفًا في فكر ابن عربي ومنهجه! وهذا ليس من العلم في شيء ولا من الأمانة في شيء ، ولا يمكن أن يقبل به العقلاء.
ولو رُحت أسرد لكم ما يفعله هؤلاء ـ في الملتقيات التي تعقد تحت اسم الأمير ـ من إسقاط مفاهيمهم الخاصّة حول رمزية البيعة أو الشجرة أو ... على شخص الأمير بل وعلى الأمَّة الجزائرية في ذلك العصر، لطال بنا الأمر ولرأيتم العجب العُجاب ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
هذه بعض الوقفات بيّنتُ فيها الأخطاء والأوهام والمغالطات والمبالغات التي ورَدَت في كلام الأستاذ عبد الباقي مفتاح ، وغرضي بيان ما يترتّب من المفاسد عند الاعتماد على المعلومات الخاطئة أو المحرَّفة أو عند التسرّع في فهم الأحداث، فلعلَّ الأستاذ عبد الباقي بعد وقوفه على هذه الجملة ، يعيد النظر في مواقفه وكلامه ، لعلّنا جميعًا نصل إلى الحق وإلى ما فيه الخير ، بتضافر الجهود ، والتواصل وتبادل المعلومات. والكلام في الردود العلمية له صبغة جافّة ، ووقعُه شديد على النفس ، ولكن أهل الحق لا يضرّهم ذلك إذا كان الرد صادقًا والإحالات صحيحة لا تدليس فيها ولا مُوارَبَة.
والحمد لله ربِّ العالمين
د.خلدون بن مكِّي الحسني الجزائري دمشق غرّة رجب 1431هـ
لتحميل المشاركة على شكل ملف PDF : الأمير عبد القادر و الفتوحات المكية بين الحقائق ومغالطات عبد الباقي مفتاح
[1] ـ (الحدائق الوردية) ص771.
[2] ـ انظر(جمال الدين القاسمي) ص26ـ27
[3] ـ (حلية البشر) للبيطار 1/335.
[4] ـ (الأمير عبد القادر) لأباظة ص28.
[5] ـ انظر (تحفة الزائر) 2/78 و 2/81 ؛ (الأمير عبد القادر) لأباظة ص14و28 ، وغيرها من الكتب.
[6] ـ انظر (اكتفاء القنوع بما هو مطبوع) لفنديك 1/69 ، وفهارس المطبوعات في المكتبة الظاهرية ومكتبة الأسد.
[7] ـ (حلية البشر) 1/335 ، (الأمير عبد القادر العالم المجاهد) ص28.
[8] ـ المواقف دار اليقظة الصفحة الأولى من المجلد الأول.
[9] ـ (الفتوحات المكية) دار الكتب العربية الكبرى ص562.
[10]ـ انظر مقدمته للفتوحات ص36.
[11] ـ (الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس) للقاسمي ص21.
[12]ـ انظر تفاصيلها في كتاب جمال الدين القاسمي ، ومذكرات الدهمان ، وترجمة الشيخ بدر الدين، وغيرها..
[13] ـ دكتوراه في الفيزياء النووية ، أستاذ في جامعة دمشق ، من مؤسسي هيئة الطاقة الذرية بدمشق ، الأمين العام لمجمع اللغة العربية بدمشق. ولد سنة 1932م.
[14] ـ في كتابك (الرد على تشريح محمود غراب لفصوص الحكم)
[15] ـ انظر كتاب (إلى أين أيها الحبيب الجفري) ص13.
[16] ـ انظر (تعطير المَشام) 2/528
[17] ـ (المواقف) مطبعة الشباب 1911م ؛ ص499.
[18] ـ (المواقف) دار اليقظة 1967م ؛ ص1.
[19] ـ انظر كتاب (الأمير عبد القادر ملحمة الحكمة) ص35 و70 و89 و133 و171 و183.
[20] ـ انظر (المقدمات والممهدات) لابن رشد ، والفكر السامي للحجوي 2/457
[21] ـ (التصوف والأمير عبد القادر) ص23.
[22] ـ (الكواكب الدرية) للخاني ص774.
[23] ـ (حلية البشر) للبيطار 1/144.
[24] ـ انظر (المواقف) 1/425. الموقف 195
[25] ـ كشف الظنون 2/989.
[26]ـ (ميزان الاعتدال) انظر الفخر بن الخطيب برقم 6686 الجزء 3.
[27]ـ ذكرها في (المذيَّل)، وانظرها في تاريخ الذهبي عند ترجمة الفخر.
[28]ـ (طبقات الشافعية) 8/87.
[29]ـ (تحفة الزائر)2/222.
[30] ـ (تحفة الزائر) 2/208.
[31] ـ (تحفة الزائر) ؛ 1903م ؛ 2/291.
[32]ـ بحث للأستاذ المهدي البوعبدلّي بعنوان "وثائق أصيلة تُلقي الضوء على حياة الأمير عبد القادر" نُشِرَ في مجلّة الثقافة التي تصدرها وزارة الثقافة الجزائريّة.
[33] ـ انظر (المواقف) 3/1390.
[34] ـ (طبقات مشاهير الدمشقيين) للقاسمي ص77.
[35] ـ (نخبة ما تسر به النواظر) لأحمد بن محيي الدين.
[36] ـ (الأمير عبد القادر الجزائري العالم المجاهد) لنزار أباظة ـ دار الفكر المعاصر ـ لبنان 1994، ص34.
[37] ـ (الأمير عبد القادر ملحمة الحكمة) ص76.