|
في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
*«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
2012-02-11, 16:24 | رقم المشاركة : 1 | ||||
|
معلقة عمرو بن كلثوم عمرو بن كلثوم هو من قبيلة تغلب كان أبوه كلثوم سيد تغلب و أمه ليلى بنت المهلهل المعروف ( بالزير ) و في هذا الجو من الرفعة و السؤدد نشأ الشاعر شديد الإعجاب بالنفس و بالقوم أنوفاً عزيز الجانب ، فساد قومه و هو في الخامسة عشرة من عمره تقع معلقة ابن كلثوم في ( 100 ) بيت أنشأ الشاعر قسماً منها في حضرة عمرو بن هند ملك الحيرة و كانت تغلب قد انتدبت الشاعر للذود عنها حين احتكمت إلى ملك الحيرة ، لحل الخلاف الناشب بين قبيلتي بكر و تغلب ، و كان ملك الحيرة ( عمرو بن هند ) أيضاً . مزهواً بنفسه و قد استشاط عضباً حين وجد أن الشاعر لا يقيم له ورناً و لم يرع له حرمة و مقاماً فعمد إلى حيلة يذله بها فأرسل ( عمرو بن هند ) إلى عمرو بن كلثوم ( يستزيره ) و أن يزير معه أمه ففعل الشاعر ذلك و كان ملك الحيرة قد أوعز إلى أمه أن تستخدم ليلى أم الشاعر و حين طلبت منها أن تناولها الطبق قالت ليلى : لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها . . . . ثم صاحت ( واذلاه ) يالتغلب ! فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم فوثب إلى سيف معلق بالرواق فضرب به رأس عمرو بن هند ملك الحيرة و على إثر قتل الملك نظم الشاعر القسم الثاني من المعلقة و زاده عليها . ( و هي منظومة على البحر الوافر ) و من أطرف ما ذكر عن المعلقة أن بني تغلب كباراً و صغاراً كانوا يحفظونها و يتغنون بها زمناً طويلاً . توفي الشاعر سنة نحو ( 600 ) للميلاد بعد أن سئم الأيام و الدهر. الأبيات العشر من معلقته : 1- أَلا هُبِّي بصَحْنِكِ فَاصْبَحينا ............. وَلا تُبْقِي خُمورَ الأَندَرِينا 2- مُشَعْشَعَةً كانَّ الحُصَّ فيها ....... إِذا ما الماءُ خالَطَها سَخِينا 3- تَجُورُ بذي اللُّبَانَةِ عَنْ هَوَاهُ .......... إِذا مَا ذاقَها حَتَّى يَلِينا 4- تَرَى الّلحِزَ الشّحيحَ إِذا أُمِرَّتْ ............ عَلَيْهِ لمِالِهِ فيها مُهينا 5- صَبَنْتِ الْكَأْسَ عَنّا أُمَّ عَمْرٍو ...... وكانَ الْكَأْسُ مَجْراها الْيَمِينا 6- وَمَا شَرُّ الثّلاثَةِ أُمَّ عَمْروٍ ............ بِصاحِبِكِ الّذِي لا تصْبَحِينا 7- وَكَأسٍ قَدْ شَرِبْتُ بِبَعْلَبَكِّ ...... وَأُخْرَى في دِمَشْقَ وَقَاصِرِينا 8- وَإِنَّا سَوْفَ تُدْرِكُنا الَمنَايَا ................ مُقَدَّرَةً لَنا وَمُقَدِّرِينا 9- قِفِي قَبْلَ التَّفَرُّقِ يَا ظَعِينا ............ نُخَبِّرْكِ الْيَقِينَ وَتُخْبِرِينا 10- قِفِي نَسْأَلْكِ هَلْ أَحْدَثْتِ صِرْماً .... لِوَ شْكِ الْبَيْنِ أَمْ خُنْتِ اْلأَمِينَا شرح الأبيات العشر : هب من نومه يهب هبا : إذا استيقظ ، الصحن : القدح العظيم والجمع الصحون ، الصبح: سقي الصبوح ، والفعل صبح يصبح ، أبقيت الشيء وبقيته بمعنى ، الأندرون : قرى بالشام يقول : ألا استيقظي من نومك أيتها الساقية واسقيني الصبوح بقدحك العظيم ولا تدخري خمر هذه القرى شعشعت الشراب : مزجته بالماء ، الحص : الورس ، وهونبت في نوار أحمر يشقه الزعفران . ومنهم من جعل سخينا صفة ومعناه الحار ، من سخن يسخن سخونة ، ومنهم من جعله فعلا من سخي يسخى سخاء ، وفيه ثلاث لغات : إحداهن ما ذكرنا ، والثانية سخو يسخو ، والثالثة سخا يسخو سخاوة يقول : اسقنيها ممزوجة بالماء كأنها من شدة حمرتها بعد امتزاجها بالماء ألقي فيها نور هذا النبت الأحمر ، وإذا خالطها الماء وشربناها وسكرنا جدنا بعقائل أموالنا وسمحنا بذخائر أعلاقنا ، هذا إذا جعلنا سخينا فعلا وإذا جعلناه صفة كان المعنى : كأنها حال امتزاجها بالماء وكون الماء حارا نور هذا النبت . ويروي شحينا ، بالشين المعجمة ، أي إذا خالطها الماء مملوءة به . والشحن : الملء ، والفعل شحن يشحن ، والشحين بمعنى المشحون كالقتيل بمعنى المقتول ، يريد أنها حال امتزاجها بالماء وكون الماء كثيرا تشبه هذا النور يمدح الخمر ويقول : انها تميل صاحب الحاجة عن حاجته وهواه إذا ذاقها حتى يلين ، أي إنها تنسي الهموم والحوائج أصحابها فاذا شربوها لانوا ونسوا أحزانهم وحوائجهم اللحز : الضيق الصدر ، الشحيح البخيل الحريص ، والجمع الأشحة الأشحاء ، الشحاح أيضا مثل الشحيح ، والفعل شح يشح والمصدر الشح وهو البخل معه حرص يقول : ترى الانسان الضيق الصدر البخيل الحريص مهينا لماله فيها ، أي في شرائها ، إذا أمرت الخمر عليه ، أي إذا أديرت عليه الصبن : الصرف ، والفعل صبن يصبن يقول : صرفت الكأس عنا يا أم عمرو وكان مجرى الكأس على اليمين فأجريتها على اليسار يقول : ليس بصاحبك الذي لا تسقينه الصبوح هو شر هؤلاء الثلاثة الذين تسقيهم ، أي لست شر أصحابي فكيف أخرتني وتركت سقيي الصبوح يقول : ورب كأس شربتها بهذه البلدة ورب كأس شربتها بتينك البلدتين يقول : سوف تدركنا مقادير موتنا وقد قدرت تلك المقادير لنا وقدرنا لها ، المنايا : جمع المنية وهي تقدير الموت أراد يا ظعينة فرخم ، والظغينة : المرأة في الهودج ، سميت بذلك لظعنها مع زوجها ، فهي ، فعيلة بمعنى فاعلة ، ثم أكثر استعمال هذا الأسم للمرأة حتى يقال لها ظعينة وهي في بيت زوجها يقول : فقي مطيتك أيتها الحبيبة الظاعنة نخبرك بما قاسينا بعدك وتخبرينا بما لاقيت بعدنا الصرم : القطيعة ، الوشك : السرعة ، والوشيك : السريع ، الأمين : بمعنى المأمون يقول : فقي مطيتك نسألك هل أحدثت قطيعة لسرعة الفراق أم هل خنت حبيبك الذي نؤمن خيانته ؟ أي هل دعتك سرعة الفراق إلى القطيعة أو الخيانة في مودة من لا يخونك في مودته إياك معلقة طرفة بن العبد هو عمرو بن العبد الملقب ( طرفة ) من بني بكر بن وائل ، ولد حوالي سنة 543 في البحرين من أبوين شريفين و كان له من نسبه ما يحقق له هذه الشاعرية فجده و أبوه و عماه المرقشان و خاله المتلمس كلهم شعراء مات أبوه و هو بعد حدث فكفله أعمامه إلا أنهم أساؤوا تريبته و ضيقوا عليه فهضموا حقوق أمه و ما كاد طرفة يفتح عينيه على الحياة حتى قذف بذاته في أحضانها يستمتع بملذاتها فلها و سكر و لعب و أسرف فعاش طفولة مهملة لاهية طريدة راح يضرب في البلاد حتى بلغ أطراف جزيرة العرب ثم عاد إلى قومه يرعى إبل معبد أخيه ثم عاد إلى حياة اللهو بلغ في تجواله بلاط الحيرة فقربه عمرو بن هند فهجا الملك فأوقع الملك به مات مقتولاً و هو دون الثلاثين من عمره سنة 569 . من آثاره : ديوان شعر أشهر ما فيه المعلقة نظمها الشاعر بعدما لقيه من ابن عمه من سوء المعاملة و ما لقيه من ذوي قرباه من الاضطهاد في المعلقة ثلاثة أقسام كبرى ( 1 ) القسم الغزالي من ( 1 ـ 10 ) ـ ( 2 ) القسم الوصفي ( 11 ـ 44 ) ـ ( 3 ) القسم الإخباري ( 45 ـ 99 ) . و سبب نظم المعلقة ( إذا كان نظمها قد تم دفعة واحدة فهو ما لقيه من ابن عمه من تقصير و إيذاء و بخل و أثرة و التواء عن المودة و ربما نظمت القصيدة في أوقات متفرقة فوصف الناقة الطويل ينم على أنه وليد التشرد و وصف اللهو و العبث يرجح أنه نظم قبل التشرد و قد يكون عتاب الشاعر لابن عمه قد نظم بعد الخلاف بينه و بين أخيه معبد . شهرة المعلقة و قيمتها : بعض النقاد فضلوا معلقة طرفة على جميع الشعر الجاهلي لما فيها من الشعر الإنساني ـ العواصف المتضاربة ـ الآراء في الحياة ـ و الموت جمال الوصف ـ براعة التشبيه ، و شرح لأحوال نفس شابة و قلب متوثب . في الخاتمة ـ يتجلى لنا طرفة شاعراً جليلاً من فئة الشبان الجاهليين ففي معلقته من الفوائد التاريخية الشيء الكثير كما صورت ناحية واسعة من أخلاق العرب الكريمة و تطلعنا على ما كان للعرب من صناعات و ملاحة و أدوات ... و في دراستنا لمعلقته ندرك ما فيها من فلسفة شخصية و من فن و تاريخ الأبيات العشر من معلقته : 1-لخِولة أَطْلالٌ بِيَرْقَةِ ثَهْمَدِ ........... تَلُوحُ كَبَاقي الْوَشْمِ في طَاهِرِ الْيَدِ 2 - وُقُوفاً بِهَا صَحْبي عَلَيَّ مطِيَّهُمْ ......... يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسَىً وَتَجَلَّدِ 3 -كأنَّ حُدُوجَ الَمْالِكِيَّةِ غُدْوَةً ............. خَلا يا سَفِين بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَدِ 4 -عَدُو لِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِينِ ابْنِ يَامِنٍ ......... يَجُوز بُهَا الْمّلاحُ طَوراً وَيَهْتَدِي 5 -يَشُقُّ حَبَابَ الَماءِ حَيْزُ ومُها بها ......... كما قَسَمَ التِّرْبَ الْمَفايِلُ باليَدِ 6 -وفِي الَحيِّ أَخْوَى يَنْفُضُ المرْ دَشادِنٌ ......... مُظَاهِرِ سُمْطَيْ لُؤْلؤٍ وَزَبَرْجَدِ 7 -خَذُولٌ تُراعي رَبْرَباً بِخَميلَةٍ ............... تَنَاوَلُ أَطْرَافَ الَبريرِ وَتَرْتَدِي 8 - وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمى كأَنَّ مُنَوّراً ........... تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٍ لَهُ نَدِ 9 -سَقَتْهُ إِيَاُة الشَّمْس إِلا لِثَاتِهِ ............. أُسِفّ وَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمدِ 10 -وَوَجْهٌ كأنَّ الشَّمْسَ أَلفَتْ رِداءَهَا ......... عَلَيْهِ نَقِيُّ اللَّوْنِ لَمْ يَتَخَدَّدِ شرح العشر ابيات : خولة : اسم امرأة كلبية ، الطلل : ماشخص من رسوم الدار ، والجمع أطلال وطلول ، البرقة والأبرق والبرقاء : مكان اختلط ترابه بحجارة أو حصى ، والجمع الأبارق والبراق والبرق ، ثهمد : موضع ، تلوح : تلمع ، واللوح اللمعان ، الوشم : غرز ظاهر اليد وغيره بإبرة وحشو المغارز بالكحل أو النقش بالنيلج ، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لعن الله الواشمة والمستوشمة " يقول : لهذه المرأة أطلال ديار بالموضع الذي يخالط أرضه حجارة وحصى من ثهمد فتلمع تلك الأطلال لمعان بقايا الوشم في ظاهر الكف تفسير البيت هنا كتفسيره في قصيدة أمرىء القيس ، التجلد : تكلف الجلادة ، أي التصبر الحدج : مركب من مراكب النساء ، والجمع حدوج وأحداج ، المالكية : منسوبة إلى بني مالك قبيلة من كلب ، الخلايا: جمع الخلية وهي السفينة العظيمة ، السفين : جمع سفينة ، النواصف : جمع الناصفة ، وهي أماكن تتسع من نواحي الأودية مثال السكك وغيرها ، دد ، قيل : هو اسم واد في هذا البيت ، وقيل دد مثل يد ، يقول : كأن مراكب العشيقة المالكية غدوة فراقها بنواحي وادي دد سفن عظام . شبه الشاعر الإبل و عليها الهوادج بالسفن العظام ، وقيل : بل حسبها سفنا عظاما من فرط لهوه وولهه ، إذا حملت ددا على اللهو ، وإن حملته على أنه واد بعينه فمعناه على القول الأول عدولي : قبيلة من أهل البحرين ، وابن يامن : رجل من أهلها ، الجور : العدول عن الطريق ، والباء للتعدية ، الطور : التارة ، والجمع الأطوار يقول : هذه السفن التي تشبهها هذه الإبل من هذه القبيلة أو من سفن هذا الرجل ، الملاح يجريها مرة على استواء واهتداء ، وتارة يعدل بها فيميلها عن سنن الاستواء ، وكذلك الحداة تارة يسوقون هذه الإبل على سمت الطريق ، وتارة يميلها عن الطريق ليختصروا المسافة ، وخص سفن هذه القبيلة وهذا الرجل لعظمها وضخمها ثم شبه سوق الإبل تارة على الطريق وتارة على غير الطريق بإجراء الملاح السفينة مرة على سمت الطريق ومرة عادلا عن ذلك السمت حباب الماء : أمواجه ، الواحدة حبابة ، الحيزوم : الصدر ، والجمع : الحيازم ، الترب والتراب والترباء والتورب والتيراب والتوراب واحد ، الفيال : ضرب من اللعب ، وهو أن يجمع التراب فيدفن فيه شيء، ثم يقسم التراب نصفين ، ويسأل عن الدفين في أيهما هو ، فمن أصاب فسمر ومن أخطأ فمر ، يقال : فايل هذا الرجل يفايل مفايلة وفيالا إذا لعب بهذا الضرب من اللعب . شبه الشاعر شق السفن الماء بشق المفايل التراب المجموع بيده الأحوى : الذي في شفتيه سمرة ، يقال : حوي الفرس مال إلى السواد ، فعلى هذا شادن صفة أحوى ، وقيل بدل من أحوى ، وينفض المرد صفة أحوى ، الشادن : الغزال الذي قوي واستغني عن أمه ، المظاهر : الذي لبس ثوبا فوق ثوب أو درعا فوق درع ، السمط : الخيط الذي نظمت فيه الجواهر ، والجمع سموط يقول : وفي الحي حبيب يشبه ظبيا أحوى في كحل العينين وسمرة الشفتين في حال نفض الظبي ثمر الأراك لأنه يمد عنقه في تلك الحال ، ثم صرح بأنه يريد إنسانا ، وقال قد لبس عقدين أحدهما من اللؤلؤ والآخر من الزبرجد ، شبهه بالظبي في ثلاثة أشياء : في كحل العينين وحوة الشفتين ، وحسن الجيد ، ثم أخبر أنه متحل بعقدين من لؤلؤ وزبرجد خذول : أي خذلت أولادها ، تراعي ربربا: أي ترعى معه ، الربرب : القطيع من الظباء وبقر الوحش ، الخميلة : رملة منبتة ، البرير: ثمر الأراك المدرك البالغ ، الواحدة بريرة ، الارتداء والتردي : لبس الدراء يقول : هذه الظبية التي اشبهها الحبيب ظبية خذلت اولادها وذهبت مع صواحبها في قطيع من الظباء ترعى معها في أرض ذات شجر أو ذات رملة منبتة تتناول اطراف الأراك وترتدي بأغصانه ، شبه الشاعر طول عنق الحبيب وحسنه بذلك الألمى : الذي يضرب لون شفتيه إلى السواد ، والانثى لمياء ، والجمع لمي ، والمصدر اللمى ، والفعل لمي يلمى ، البسم والتبسم والابتسام واحد ، كأن منورا يعني اقحوانا منورا ، فحذف الموصوف اجتزاء بدلالة الصفة عليه ، نور النبت خرج نوره فهو منور ، حر كل شيء: خالصة ، الدعص : الكثيب من الرمل ، والجمع الادعاص ، الندى يكون دون الابتلال ، والفعل ندي يندى ندى ، ونديته تندية يقول وتبسم الحبيبة عن ثغر ألمى الشفتين كأنه أقحوان خرج نوره في دعص ند يكون ذلك الدعص فيما بين رمل خالص لايخالطه تراب ، وإنما جعله نديا ليكون الاقحوان غضا ناضرا إياة الشمس وإياها : شعاعها ، اللثة : مغرز الأسنان ، والجمع اللثات ، الإسفاف : إفعال سففت الشيء أسفه سفا ، الإثمد : الكحل ، الكدم : العض . ثم وصف ثغرها فقال : سقاة شعاع الشمس ، أي كأن الشمس أعارته ضوءها . ثم قال : إلا لثاته ، يستثنى اللثات لأنه لا يستحب بريقها . ثم قال : إلا لثاته ، يستثنى اللثات لأنه لا يستحب بريقها . ونساء العرب تذر الإثمد على الشفاه واللثات فيكون ذلك أشد لمعان الأسنان التخدد : التشنج والتغضن يقول : وتبسم عن وجه كأن الشمس كسته ضياءها وجمالها ، فاستعار لضياء الشمس اسم الرداء ، ثم ذكر ان وجهها نقي اللون غير متشنج متغضن . وصف وجهها بكمال الضياء والنقاء والنضارة ، وجر الوجه عطفا على ألمى الحارث بن حلزة نحو (... - 54 ق. هـ = ... - 570 م) هو الحارث بن ظليم بن حلزّة اليشكري ، من عظماء قبيلة بكر بن وائل ، كان شديد الفخر بقومه حتى ضرب به المثل فقيل : أفخر من الحارث بن حلزة ، ولم يبق لنا من أخباره إلا ما كان من أمر الاحتكام إلى عمرو بن هند سنة ( 554 ـ 569 ) لأجل حل الخلاف الذي وقع بين القبيلتين بكر و تغلب توفي سنة 580 للميلاد أي في أواخر القرن السادس الميلادي على وجه التقريب . أنشد الشاعر هذه المعلقة في حضرة الملك عمرو بن هند رداً على عمرو بن كلثوم و قيل أنه قد أعدّها و روّاها جماعة من قومه لينشدوها نيابة عنه لأنه كان برص و كره أن ينشدها من وراء سبعة ستور ثم يغسل أثره بالماء كما كان يفعل بسائر البرص ثم عدل عن رأيه و قام بإنشادها بين يدي الملك و بنفس الشروط السابقة فلما سمعها الملك و قد وقعت في نفسه موقعاً حسناً أمر برفع الستور و أدناه منه و أطمعه في جفنته و منع أن يغسل أثره بالماء ... كان الباعث الأساسي لإنشاد المعلقة دفاع الشاعر عن قومه و تفنيد أقوال خصمه عمرو بن كلثوم ـ معلومات حول المعلقة : تقع المعلقة في ( 85 ) خمس و ثمانين بيتاً نظمت بين عامي ( 554 و 569 ) . شرحها الزوزني ـ و طبعت في اكسفورد عام 1820 ثم في بونا سنة 1827 و ترجمت إلى اللاتينية و الفرنسية و هي همزية على البحر الخفيف تقسم المعلقة إلى : 1 ـ مقدمة : فيها وقوف بالديار ـ و بكاء على الأحبة و وصف للناقة ( 1 ـ 14( 2 ـ المضمون : تكذيب أقوال التغلبيين من ( 15 ـ 20 ) عدم اكتراث الشاعر و قومه بالوشايات ( 21 ـ 31 ) مفاخر البكريين ( 32 ـ 39 ) مخازي التغلبيين و نقضهم للسلم ( 40 ـ 55 ) استمالة الملك ـ ذكر العداوة ( 59 ـ 64 ) مدح الملك ( 65 ـ 68 ) خدما البكريين للملك ( 69 ـ 83 ( القرابة بينهم وبين الملك ( 84 ـ 85 ( . قيمة المعلقة : هي نموذج للفن الرفيع في الخطابة و الشعر الملحمي و فيها قيمة أدبية و تاريخية كبيرة تتجلى فيها قوة الفكر عند الشاعر و نفاذ الحجة كما أنها تحوي القصص و ألواناً من التشبيه الحسّي كتصوير الأصوات و الاستعداد للحرب و فيها من الرزانة ما يجعلها أفضل مثال للشعر السياسي و الخطابي في ذلك العصر . و في الجملة جمعت المعلَّقة العقل و التاريخ و الشعر و الخطابة ما لم يجتمع في قصيدة جاهلية أخرى الأبيات العشر من المعلقة : 1- آذَنَتْنا ببَيْنهِا أَسْمَاءُ ..................... ربَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ اُلْثَّوَاءُ 2- بَعْدَ عَهْدٍ لَنَا بِبُرْقَةِ شَمّا ............... ءَ فَأَدْنَى دِيَارِهَا اٌلْخَلْصاءُ 3- فَالُمحَيَّاةُ فالصِّفاحُ فَأَعْنا ............... قُ فِتَاقٍ فَعادِبٌ فَالْوَفَاءُ 4- فَرِياضُ اُلْقَطَا فأوْدِيَةُ الشُّرْ ...............بُبِ فالشُّعْبَتَانِ فالأَبْلاءُ 5- لا أرى مَنْ عَهِدْتُ فيهَا فأبكي اٌلْـ ......... ـيَوْمَ دَلْهاً وَمَا يُحِيرُ اُلْبُكَاء 6- وَبِعَيْنَيْكَ أَوْقَدَتْ هِنْدٌ اُلْنَّا ................. رَ أَخِيراً تُلْوِي بِها اُلْعَلْيَاءُ 7- فَتَنَوَّرْتُ نَارَهَا مِنْ بَعيدٍ ............... بِخَزَازَى هَيْهاتَ منْكَ الصَّلاءُ 8- أوْقَدَتْها بَينَ اُلْعَقِيقِ فَشَخْصَيْـ ............نِ بِعُودٍ كما يَلُوحُ الضٍّيَاءُ 9- غَيْرَ أَنّي قَدْ أَسْتَعِينُ على اٌلَهْمٍّ ........... إذا خَفَّ بالثَّوِيٍّ النٍّجاءُ 10- بِزَفُوفٍ كَأُنَّهَا هقْلَةٌ أُمُّ .......................... رئَالٍ دوِّيَّةٌ سَقْفاءُ شرح العشر أبيات الاولى : الإيذان : الإعلام ، البين : الفراق ، الثواء والثوي : الإقامة ، والفعل ثوى يثوي يقول : أعلمتنا أسماء بمفارقتها إيانا ، أي بعزمها على فراقنا , ثم قال : رب مقيم تمل إقامته ولم تكن أسماء منهم ، يريد أنها وإن طالت إقامتها لم أمللها ، والتقدير : رب ثاو يمل من ثوائه العهد : اللقاء ، والفعل عهد يعهد يقول : عزمت على فراقنا بعد أن لقيتها ببرقة شماء وخلصاء التي هي أقرب ديارها إلينا هذه كلها مواضع عهدها بها يقول : وقد عزمت على مفارقتنا بعد طول العهد الاحارة : الرد من قولهم : حار الشيء يحور حورا ، أي رجع ، وأحرته أنا أي رجعته فرددته يقول : لا أرى في هذه المواضع من عهدت فيها ، يريد أسماء ، فأنا أبكي اليوم ذاهب العقل وأي شيء رد البكاء على صاحبه ؟ وهذا استفهام يتضمن الجحود ، أي لا يرد البكاء على صاحبه فائتا ولا يجدي عليه شيئا .. تحرير المعنى: لما خلت هذه المواضع منها بكيت جزعا لفراقها مع علمي بأنه لا طائل في البكاء ، الدله : ذهاب العقل ، والندليه إزالته ألوى بالشيئ : أشار به . العلياء : البقعة العالية يخاطب نفسه ويقول : وإنما أوقدت هند النار بمرآك ومنظر منك ، وكأن البقعة العالية التي أوقدتها عليها كانت تشير إليك بها .. يريد أنها ظهرت لك أتم ظهور فرأيتها أتم رؤية التنور : النظر إلى النار ، خزازى : بقعة بعينها ، هيهات : بعد الأمر جدا ، الصلاء : مصدر صلى النار ، وصلي بالنار يصلى صلى ويصلا إذا احترق بها أو ناله حرها يقول : ولقد نظرت إلى نار هند بهذه البقعة على بعد بيني وبينها لأصلاها ، ثم قال : بعد منك الاصطلاء بها جدا ، أي أردت أن آتيها فعاقتني العوائق من الحروب وغيرها يقول : أوقدت هند تلك النار بين هذين الموضعين بعود فلاحت كما يلوح الضياء غير أني : يريد لكني ، انتقل من النسيب إلى ذكر حاله في طلب المجد ، الثوي والثاوي : المقيم ، النجاء : الاسراع في السير ، والباء للتعدية يقول : ولكني أستعين على إمضاء همي وقضاء أمري إذا أسرع المقيم في السير لعظيم الخطب وفظاعة الخوف الزفيف : إسراع النعامة في سيرها ثم يستعار لسير غيرها ، والفعل زف يزف ، والنعت زاف ، والزفوف مبالغة ، الهقلة : النعامة ، والظليم هقل ، الزأل : ولد النعامة ، والجمع : رئال ، الدوية منسوبة إلى الدو وهي المفازة ، سقف : طول مع انحناء ، والنعت أسقف يقول : أستعين على إمضاء همي وقضاء أمري عند صعوبة الخطب وشدته بناقة مسرعة في سيرها كأنها في إسراعها في السير نعامة لها أولاد طويلة منحنية لا تفارق المفاوز لبيد بن ربيعة ( ... - 41 هـ = ... - 661 م) هو لبيد بن ربيعة بن مالك العامري، أبو عقيل، من هوازن قيس. كان من الشعراء المعدودين وأحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية، من أهل عالية نجد، أدرك الإسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم. يعد من الصحابة، ومن المؤلفة قلوبهم. ترك الشعر فلم يقل في الإسلام إلا بيتاً واحداً. وسكن الكوفة وعاش عمراً طويلاً. اهتم المستشرقون الغربيون بشعراء المعلقات وأولوا اهتماماً خاصاً بالتعرف على حياتهم، فقد قالت ليدي آن بلنت وقال فلفريد شافن بلنت عن لبيد في كتاب لهما عن المعلقات السبع صدر في بداية القرن العشرين: عاش أيضاً في الجاهلية والإسلام. عمر طويلاً وترك نظم الشعر بعد إسلامه. قصة إسلامه أسطورة ورعٍ، إذ أن أخيه أربد قدم إلى الرسول بتفويض من كلاب وقد عزم، كما يقال، على غدره وقتله. حين نطق بعض كلمات عاقة ضربته صاعقة برق واختفى كان لبيد شاعراً مخضرماً شهد الجاهلية والإسلام. هناك عدة روايات حول إسلامه. وفق الأغاني كان لبيد ضمن وفد ذهب إلى الرسول بعد وفاة أخ لبيد أربد، الذي قتلته صاعقة بعد يوم أو يومين من إلقائه خطبة ضد مباديء العقيدة الإسلامية. وهناك اعتنق الإسلام وكان طاعناً في السن. يقول آخرون إن تعليق القصائد على باب الكعبة كان عادة الشعراء كتحد عام في سوق عكاظ القادم، وهذا ما جعل لبيد يقول: ألا كل شيء ما خلا الله باطل*** وكل نعيم لا محالة زائل استقر لبيد في الكوفة بعد إسلامه حيث وافته المنية قرابة نهاية عهد معاوية (660 ميلادية) في سن 157 سنة كما يذكر ابن قتيبة أو 145 كما ورد في الأغاني، تسعون منها في الجاهلية وما تبقى في الإسلام. أرسل حاكم الكوفة يوماً في طلب لبيد وسأله أن يلقي بعضاً من شعره فقرأ لبيد الجزء الثاني من القرآن الكريم (سورة البقرة) وقال عندما انتهى " منحني الله هذا عوض شعري بعد أن أصبحت مسلماً." عندما سمع الخليفة عمر بذلك أضاف مبلغ 500 درهم إلى 2000 درهم التي كان يتقاضها لبيد. حين أصبح معاوية خليفة اقترح تخفيض راتب الشاعر، ذكره لبيد أنه لن يعيش طويلاً. تأثر معاوية ودفع مخصصه كاملاً، لكن لبيد توفي قبل أن يصل المبلغ الكوفة. أبيات العشر من المعلقة ِعَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا _ بِمِنَىً تَأَبَّـدَ غَوْلُهَا فَرِجَامُهَـا فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَـا _ خَلَقَاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُهَا دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهْدِ أَنِيسِهَا _ حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلالُهَا وَحَرَامُهَا رُزِقَتْ مَرَابِيْعَ النُّجُومِ وَصَابَهَا _ وَدْقُ الرَّوَاعِدِ جَوْدُهَا فَرِهَامُهَا مِنْ كُلِّ سَارِيَةٍ وَغَادٍ مُدْجِنٍ _ وَعَشِيَّةٍ مُتَجَـاوِبٍ إِرْزَامُهَا فَعَلا فُرُوعُ الأَيْهُقَانِ وأَطْفَلَتْ _ بِالجَلْهَتَيْـنِ ظِبَاؤُهَا وَنَعَامُهَـا وَالعِيْـنُ سَاكِنَةٌ عَلَى أَطْلائِهَا _ عُوذَاً تَأَجَّلُ بِالفَضَـاءِ بِهَامُهَا وَجَلا السُّيُولُ عَنْ الطُّلُولِ كَأَنَّهَا _ زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَهَا أَقْلامُـهَا أَوْ رَجْعُ وَاشِمَةٍ أُسِفَّ نَؤُورُهَا _ كِفَفَاً تَعَرَّضَ فَوْقَهُنَّ وِشَامُهَا فَوَقَفْتُ أَسْأَلُهَا وَكَيْفَ سُؤَالُنَا _ صُمَّاً خَوَالِدَ مَا يَبِيْنُ كَلامُهَا شرح أبيات المعلقة عفا لازم ومتعد ، يقال : عفت الريح المنزل وعفا المنزل نفسه عفوا وعفاء ، وهو في البيت لازم ، المحل من الديار : ما حل فيه لأيام معدودة ، والمقام منها ما طالت إقامته به ، منى : موضع يحمى ضرية غير منى الحرم ، ومنى ينصرف ولا ينصرف يذكر ويؤنث ، تأبد : توحش وكذلك أبد يؤبد يأبد أبودا ، الغول والرجام : جبلان معروفان . ومنه قول أوس بن حجر : زعمتم أن غولا والرجام لكم ومنعجا فاذكروا فالأمر مشترك يقول : عفت ديار الأحباب وانمحت منازلهم ماكان منها للحلول دون الإقامة وما كان منا للإقامة ، وهذه الديار كانت بالموضع المسمى منى ، وقد توحشت الديار الغولية والديار الرجامية منها لارتحال قطانها واحتمال . سكانها ، والكناية في غولها ورجامها راجعة إلى الديار ، قوله : تأبد غولها ، أي ديار غولها ورجامها . فحذف المضاف المدافع : أماكن يندفع عنها الماء من الربى والأخياف ، والواحد مدفع ، الريان : جبل معروف . ومنه قول جرير : ياحبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كنا التعرية : مصدر عريته فعري وتعرى ، الوحي : الكتابة ، والفعل وحى يحي والحي الكتاب ، والجمع الوحي ، السلام : الحجارة ، والواحد سلمة بكسر اللام ، فمدفع معطوف على قوله غولها يقول : توحشت الديار الغولية والرجامية ، وتوحشت مدافع جبل الريان لارتحال الأحباب منها واحتمال الجيران عنها. ثم قال : وقد توحشت وغيرت رسوم هذه الديار فعريت خلقا وإنما عرتها السيول ولم تنمح بطول الزمان فكأنه كتاب ضمن حجرا ، شبه بقاء الآثار لعدة أيام ببقاء الكتاب في الحجر ، ونصب خلقا على الحال ، والعامل فيه عري ، والمضمر الذي أضيف اليه سلام عائد إلى الوحي التجرم : التكمل والانقطاع ، يقال ، تجرمت السنة وسنة مجرمة أي مكملة ، العهد ، اللقاء ، والفعل عهد يعهد ، الحجج : جمع حجة وهي السنة . وأراد بالحرام الأشهر الحرم ، وبالحلال أشهر الحل ، الخلو : المضي ومنه الأمم الخالية ، ومنه قوله عز وجل "وقد خلت القرون من قبلي" يقول : هي آثار ديار قد تمت وكملت وانقطعت إذ بعد عهد سكانها بها سنون مضت أشهر الحرم وأشهر الحل منها ، وتحرير المعنى : قد مضت بعد ارتحالهم عنها سنون بكمالها ، خلون : المضمر فيه راجع إلى الحجج ، وحلالها بدل من الحجج ، وحرامها معطوف عليها ، والسنة لا تعدو أشهر الحرم وأشهر الحل ، فعبر عن مضي السنة بمضيهما مرابيع النجوم : الأنواء الربيعية وهي المنازل التي تحلها الشمس فصل الربيع ، الواحد مرباع ، الصوب : الإصابة ، يقال : صابه أمر كذا وأصابه بمعنى ، الودق : المطر ، وقد ودقت السماء تدق ودقا إذا أمطرت الجود : المطر التام العام ، وقال ابن الأنباري : هو المطر الذي يرضي أهله وقد جاد يجوده جودا فهو جود ، الرواعد : ذوات الرعد من السحاب ، واحدتها راعدة ، الرهام والرهم : جمع رهمة وهي المطرة التي فيها لين يقول : رزقت الديار والدمن أمطار الأنواء الربيعية فأمرعت وأعشبت وأصابها مطر ذوات الرعود من السحائب ما كان منه عاما بالغا مرضيا أهله وما كان منه لينا سهلا . وتحرير المعنى : أن تلك الديار ممرعة معشبة لترادف الأمطار المختلفة عليها ونزاهتها السارية : السحابة الماطرة ليلا ، والجمع السواري ، المدجن : الملبس آفاق السماء بظلامه لفرط كثافته ، والدجن إلباس الغيم آفاق السماء ، وقد أدحن الغيم ، الإرزام : التصويت ، وقد أرزمت الناقة إذا رغت ، والأسم الرزمة ، ثم فسر تلك الأمطار فقال : هي كل مطر سحابة سارية ومطر سحاب غاد يلبس آفاق السماء بكثافته وتراكمه وسحابة عشية تتجاوب أصواتها ، أي كأن وعودها تتجاوب ، جمع لها أمطار السنة لأن أمطار الشتاء أكثرها يقع ليلا ، وأمطار الربيع يقع أكثرها غداة وأمطار الصيف يقع أكثرها عشيا . كذا زعم مفسرو هذا البيت الأيهقان : بفتح الهاء وضمها : ضرب من النبت وهو الجرجير البري ، أطفلت أي صارت ذوات الأطفال ، المجلهتان : جانبا الوادي : ثم أخبر عن إخصاب الديار وأعشابها فقال : علت بها فروع هذا الضرب من النبت وأصبحت الظباء والنعام ذوات أطفال بجانبي وادي هذه الديار ، قوله : ظباؤها ونعامها ، يريد وأطفلت ظباؤها وباضت نعامها ، لأن النعام تبيض ولا تلد الأطفال ، ولكنه عطف النعام على الظباء في الظاهر لزوال اللبس . ومثله قول الشاعر: إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا أي وكحلن العيون ، وقوله الآخر: تراه كأن الله يجدع أنفه وعينيه أن مولاه صار له وفر أي ويفقأ عينيه ، وقول الآخر : ياليت زوجك قد غدا منقلدا سيفا ورمحا أي وحاملا رمحا ، تضبط نظائر ما ذكرنا ، وزعم كثير من الأئمة النحويين والكوفيين أن هذا المذهب سائغ في كل موضع ، ولوح أبو الحسن الأخفش إلى أن المعول فيه على السماع العين : واسعات العيون ، الطلا : ولد الوحش حين يولد إلى أن يأتي عليه شهر ، والجمع الأطلاء ، ويستعار لولد الإنسان وغيره ، العوذ : الحديثات النتاج ، الواحدة عائذ ، مثل عائط وعوط ، وحائل وحول ، وبازل وبزل ، وفاره وفره ، وجمع الفاعل على فعل قليل معول فيه على الحفظ ، الاجل أجلا ، الفضاء : الصحراء ، البهام : أولاد الضأن اذا انفردت ، وإذا اختلطت بأولاد الضأن أولاد الماعز قيل للجمع بهام ، وإذا انفردت أولاد العز من أولاد الضأن لم تكن بهاما ، وبقر الوحش بمنزلة الضأن ، وشاة الجبل بمنزلة المعز عند العرب ، وواحدة البهام بهم ، وواحد البهم بهمة ، ويجمع البهام على البهمات يقول : والبقر الواسعات العيون قد سكنت وأقامت على أولادها ترضها حال كونها حديثات النتاج وأولادها تصير قطيعا في تلك الصحراء فالمعنى من هذا الكلام : أنها صارت مغنى الوحش بعد كونها مغنى الإنس . ونصب عوذا على الحال من العين جلا : كشف ، يجلو جلاء ، وجلوت العروس جلوة من ذلك ، وجلوت السيف جلاء صقلته ، منه أيضا ، السيول : جمع سيل مثل بيت بيوت ، شيخ وشيوخ ، الطلول : جمع الطلل ، الزبر : جمع زبور وهو الكتاب ، والزبر الكتابة ، والزبور فعول بمعنى المفعول بمنزلة الركوب والحلوب بمعنى المركوب والمحلوب ، الإجداد والتجديد واحد يقول : وكشفت السيول عن أطلال الديار فأظهرتها بعد ستر التراب إياها ، فكأن الديار كتب تجدد الأقلام كتابتها .. فشبه الشاعر كشف السيول عن الأطلال التي غطاها التراب بتجديد الكتاب سطور الكتاب الدارس ، وظهور الأطلال بعد دروسها بظهور السطور بعد دروسها ، وأقلام مضافة إلى ضمير زبر ، وأسم كان ضمير الطلول الرجع الترديد والتجديد ، وهو من قولهم : رجعته أرجعته رجعا فرجع يرجع رجوعا . وقد فسرنا الواشمة ، الاسفاف : الذر ، وهو من قولهم : سف زيد السويق وغيره يسفه سفا النؤور : ما يتخذ من دخان السراج والنار ، وقيل : النيلج ، الكفف : جمع كفة وهي الدارات ، وكل شيئ مستدير كفة ، بكسر الكاف ، وجمعها كفف ، وكل مستطيل كفة بضمها ، والجمع كفف ، كذا حكى الأئمة ، تعرض وأعرض : ظهر ولاح ، الوشام : جمع وشم ، شبه ظهور الأطلال بعد دروسها بتجديد الكتابة وتجديد الوشم يقول : كأنها زبر أو ترديد واشمة وشما قد ذرت نؤورها في دارات ظهر الوشام فوقها فأعادتها كما تعيد السيول الأطلال إلى ما كانت عليه ، فجعل إظهار السيل الأطلال كإظهار الواشمة الوشم ، وجعل دروسها كدروس الوشم ، نؤورها اسم ما لم يسم فاعله ، وكففا هو المفعول الثاني بقي على انتصابه بعد إسناد الفعل إلى المفعول ، وشامها : فاعل تعرض وقد أضيف إلى ضمير الواشمة الصم : الصلاب ، والواحد أصم والواحدة صماء ، خوالد : بواق ، يبين : بان يبين بيانا ، وأبان قد يكون بمعنى أظهر ويكون بمعنى ظهر ، وكذلك بين وتبين بالتضعيف قد يكون بمعنى ظهر وقد يكون بمعنى عرف واستبان كذلك ، فالأول لازم والأربعة الباقية قد تكون لازمة وقد تكون متعدية ، وقولهم : بين الصبح لذي عينين ، أي ظهر فهو هنا لازم ويروى في البيت : ما يبين كلامها وما يبين ، بفتح الياء وضمها ، وهما هنا بمعنى ظهر يقول : فوقفت أسأل الطلول عن قطانها وسكانها ، ثم قال وكيف سؤالنا حجارة صلابا بواقي لا يظهر كلامها ، أي كيف يجدي هذا السؤال على صاحبه وكيف ينتفع به السائل ؟ لوح إلى أن الداعي إلى هذا السؤال فرط الكلف والشغف وغاية الوله ، وهذا مستحب في النسيب والمرئية لأن الهوى والمصيبة يدلهان صاحبهما
|
||||
2012-02-11, 16:27 | رقم المشاركة : 2 | |||
|
النابغة الذبياني (... - 18 ق. هـ = ... - 605 م) هو زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن مرّة بن عوف بن سعد، الذبياني، الغطفاني، المضري. شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، من أهل الحجاز، ينتهي نسبه كما قال التبريزي إلى قيس بن عيلان، ويكنى بأبي أمامة، وقيل بأبي ثمامة، كما هو وارد في "الشعر والشعراء"، وبأبي عقرب على ما يذهب إليه البغدادي في خزانة الأدب. والنابغة لقب غلب على الشاعر، اختلف النقاد في تعليله وتفسيره، أما ابن قتيبة فيذكر أنه لقب بالنّابغة لقوله: وحلّت في بني القين بن جسر- فقد نبغت لهم منا شؤون وردّ ابن قتيبة هذا اللقب إلى قولهم: "ونبغ- بالشعر- قاله بعد ما احتنك وهلك قبل أن يهتر". وفي رأي البغدادي، أن هذا اللقب لحقه لأنه لم ينظم الشعر حتى أصبح رجلاً. وربّما كان اللقب مجازاً، على حدّ قول العرب: نبغت الحمامة، إذا أرسلت صوتها في الغناء، ونبغ الماء إذا غزر. فقيل: نبغ الشاعر، والشاعر نابغة، إذا غزرت مادة شعره وكثرت. ولا يعرف شيئاً يذكر عن نشأة الشاعر قبل اتصاله بالبلاط، فيما خلا ما نقله صاحب الروائع عن المستشرق دي برسفال، من مزاحمة النّابغة لحاتم الطائيّ على ماوية، وإخفاقه في ذلك. وتتفق روايات المؤرخين على أن النّابغة نال حظوة كبيرة عند النعمان الذي قرّبه إليه بعد أن أحسن وفادته. ولا شك أن الشاعر نزل من نفس الملك منزلة طيبة فآثره هذا بأجزل عطاياه وأوفر نعمه، مما لم ينله شاعر قبله، ويذكر أبو الفرج في أغانيه أن النّابغة كان يأكل ويشرب في آنية من الفضة والذهب. وعن ابن قتيبة عن ابن الكلبي الرواية الآتية التي تثبت مكانة الشاعر عند النعمان. قال حسان بن ثابت: رحلت النعمان فلقيت رجلاً فقال: أين تريد فقلت هذا الملك قال: فإنك إذا جئته متروك شهراً، ثم يسأل عنك رأس الشهر ثم أنت متروك شهراً آخر ثم عسى أن يأذن لك فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه، وإن رأيت أبا أمامة النّابغة فاظعن، فإنه لا شيء لك. قال: فقدمت عليه، ففعل بي ما قال، ثم خلوت به وأصبت منه مالاً كثيراً ونادمته فبينما أنا معه في قبة إذ جاء رجل يرجز. فقال النعمان: أبو أمامة فأذنوا له، فدخل فحيا وشرب معه، ووردت النعم السود، فلما أنشد النابغة قوله: فإنك شمسٌ والملوكُ كواكب- إذا طلعت لم يبدُ منهنَّ كوكبُ دفع إليه مائة ناقة من الإبل السود، فيها رعاؤها، فما حسدت أحداً حسدي النّابغة لما رأيت من جزيل عطيته، وسمعت من فضل شعره. الأبيات العشر الاولى يَـا دَارَ مَيَّـةَ بالعَليْـاءِ ، فالسَّنَـدِ أَقْوَتْ ، وطَالَ عَلَيهَا سَالِـفُ الأَبَـدِ وقَفـتُ فِيـهَا أُصَيلانـاً أُسائِلُهـا عَيَّتْ جَوَاباً ، ومَا بالرَّبـعِ مِنْ أَحَـدِ إلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيـاً مَـا أُبَـيِّـنُـهَا والنُّؤي كَالحَوْضِ بالمَظلومـةِ الجَلَـدِ رَدَّتْ عَليَـهِ أقَـاصِيـهِ ، ولـبّـدَهُ ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بالمِسحَـاةِ فِي الثَّـأَدِ خَلَّتْ سَبِيـلَ أَتِـيٍّ كَـانَ يَحْبِسُـهُ ورفَّعَتْهُ إلـى السَّجْفَيـنِ ، فالنَّضَـدِ أمْسَتْ خَلاءً ، وأَمسَى أَهلُهَا احْتَمَلُوا أَخْنَى عَليهَا الَّذِي أَخْنَـى عَلَى لُبَـدِ فَعَدِّ عَمَّا تَرَى ، إِذْ لاَ ارتِجَـاعَ لَـهُ وانْـمِ القُتُـودَ عَلَى عَيْرانَـةٍ أُجُـدِ مَقذوفَةٍ بِدَخِيسِ النَّحـضِ ، بَازِلُهَـا لَهُ صَريفٌ ، صَريفُ القَعْـوِ بالمَسَـدِ كَأَنَّ رَحْلِي ، وَقَدْ زَالَ النَّـهَارُ بِنَـا يَومَ الجليلِ ، عَلَى مُستأنِـسٍ وحِـدِ مِنْ وَحشِ وَجْرَةَ ، مَوْشِيٍّ أَكَارِعُـهُ طَاوي المَصِيرِ ، كَسَيفِ الصَّيقل الفَرَدِ شرح ابيات المعلقة 1- العلياء: مكان مرتفع من الأرض.قال ابن السكت: قال: بالعلياء، فجاء بالياء لأنه بناها على عليت، والسند: سند الوادي في الجبل، وهو ارتفاعه حيث يسند فيه: أي يصعد فيه 2- ويروى وقفت فيها طويلا، ويروى طويلاناً وأصيلالاً فمن روى أصيلا أراد عشيا، ومن روى طويلا جار أن يكون معناه وقوفا طويلا، ويجوز أن يكون معناه وقفا طويلا، ومن روى أصيلانا ففيه قولان، أحدهما أنه تصغير أصلان وأصلان جمع أصيل كما يقال رغيف ورغفان، والقول الآخر بمنزلة غفران وهذا هو القول الصحيح، والأول خطأ لأن أصلانا لا يجوز أن يصغر إلا أن يرد إلى أقل العدد. وهو حكم كل جمع كثير، وقوله عييت يقال عيبت بالأمر، إذا لم تعرف وجهه وقوله: جوابا منصوب على المصدر أي عيت أن تجيب وما بها أحد ومن زائدة للتوكيد فأنا به عيي 3- ويروى أواري بضم الهمزة والنصب أجود، والأواري والأواخي واحد وهي التي تحبس بها الخيل، واللأي، البطء يقال التأت عليه صاحبته أي بعد بطء استبانها، والنؤي حاجز من تراب يعمل حول البيت والخيمة لئلا يصل إليها الماء والمظلومة الأرض من غير عمارة، ولا حجارة، وإنما قصد إلى الجلد لأن الحفر فيها يصعب فيكون ذلك أشبه شيء بالنؤي. 4- يروى بفتح الراء وضمها ردت عليه أقاصيه، وهذه الرواية أجود لأنه إذا قال ردت عليه أقاصيه. فأقاصيه في موضع رفع فأسكن الياء لأن الضمة فيها ثقيلة وإذا روي ردت فأقاصيه في محل نصب. والفتح لا يستثقل فكان يجب أن يفتح الباء إلا أنه يجوز إسكانها في الضرورة لأنه تسكين في الرفع والخفض، فأجرى النصب مجراهما وأيضا فإنه إذا روي ردت، فقد أضمر ما لم يجر ذكره أراد ردت عليه الأمة، إلا أن هذا يجوز إذا عرف معناه، وأقاصيه ما شذ منه ولبده سكنه أي سكنه حضر الوليدة والثأد الموضع الندي التراب، الثأد ثأد يثأد فهو ثئد 5- الأتي: النهر الصغير، أي خلت الأمة سبيل الماء في الأتي تحفرها، ورفعته ليس يريد به علت الماء، ومعناه [قدمته، وبلغت به] كما تقول ارتفع القوم إلى السلطان والسجفان ستران رقيقان يكونان في مقدمة البيت، والنضد ما نضد من متاع البيت 6- ويروى ارتحلوا، أخنى: أفسد لأن الخنا الفساد والنقصان، وقيل أخنى عليها أتى 7- يعني ما ترى من خراب الديار، والقتود خشب الرحل وهو للجمع الكثير وفي القليل أقتاد والواد قتد 8- مقذوفة: أي مرمية باللحم، والدخيس والدخاس الذي قد دخل بعضه في بعض من كثرته، والنحض: اللحم، وهو جمع نحضة بالحاء المهملة، والضاد المعجمة، والبازل الكبير، والصريف: الصياح، والصريف من الإناث من شدة الإعياء، ومن الذكور من النشاط. والقعد بالضم البكرة، إذا كان خشبا وإذا كان حديدا فهو خطاف، ويروى صريف صريف بالرفع على المصدر وعلى النصب أجود وعلى البدل أحسن. 9- زال النهار أي انتصف، وبنا بمعنى علينا، والجليل الثمام أي موضع فيه ثمام. والمستأنس الناظر بعينه ومنه قوله تعالى: (إني آنست نارا) أي أبصرت ومنه قيل إنسان لأنه مرئي ويروى على مستوحش وهو الذي أوجس في نفسه الفزع 10- خص وحش وجرة لأنها فلاة قليلة الشرب، والموشى الذي فيه ألوان مختلفة، طاوي أي ضامر، والمصير: المصار وجمعه مصران وجمع مصران مصارين أي هو يلمع كسيف الصقيل، والفرد الذي ليس له نظير ويجوز فيه فتح الراء وضمها. الأعشى بن قيس (... - 7 هـ = ... - 628 م) هو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضُبيعة، من بني قيس بن ثعلبة، وصولاً إلى علي بن بكر بن وائل، وانتهاء إلى ربيعة بن نزار. يعرف بأعشى قيس، ويكنّى بأبي بصير، ويقال له أعشى بكر بن وائل، والأعشى الكبير. عاش عمراً طويلاً وأدرك الإسلام ولم يسلم، ولقب بالأعشى لضعف بصره، وعمي في أواخر عمره. مولده ووفاته في قرية منفوحة باليمامة، وفيها داره وبها قبره. من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، كان كثير الوفود على الملوك من العرب، والفرس، فكثرت الألفاظ الفارسية في شعره. غزير الشعر، يسلك فيه كل مسلك، وليس أحد ممن عرف قبله أكثر شعراً منه. كان يغني بشعره فلقب بصنّاجة العرب، اعتبره أبو الفرج الأصفهاني، كما يقول التبريزي: أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم، وذهب إلى أنّه تقدّم على سائرهم، ثم استدرك ليقول: ليس ذلك بمُجْمَع عليه لا فيه ولا في غيره. كان الأعشى بحاجة دائمة إلى المال حتى ينهض بتبعات أسفاره الطويلة ويفي برغباته ومتطلباته فراح بلاد العرب قاصداً الملوك.. يمدحهم ويكسب عطاءهم. ولم يكن يجتمع إليه قدر من المال حتى يستنزفه في لذّته.. ثم يعاود الرحلة في سبيل الحصول على مال جديد، ينفقه في لذّة جديدة. أما ديوان الأعشى فليس أقلّ من دواوين أصحاب المعلقات منزلة عند النقّاد والرواة. عني به بين الأقدمين أبو العباس ثعلب- كما ذكر صاحب الفهرست- ثمّ عكف الأدباء على ما جمعه ثعلب، ينتقون منه القصائد والشواهد، وفي طليعة هؤلاء التبريزي الذي جعل قصيدة الأعشى اللامية "ودّع هريرة" إحدى معلقات الجاهليين كذلك اعتبرت لامية الأعشى: "ما بكاءُ الكبير بالأطلال" .. من المعلقات العشر في شرح آخر لتلك القصائد. وبين المستشرقين الذين أكبوا على شعر أبي بصير جمعاً واستدراكاً وشرحاً سلفستر دي ساسي (1826م- 1242هـ)، ثوربكه (1875م- 1292هـ)، ورودلف جاير الذي أمضى نصف قرن في صحبة الأعشى وشعره، بحيث أصدر في (1928م- 1347هـ) ديوان الشاعر القيسي في طبعة بعنوان: "الصبح المنير في شعر أبي بصير".. الابيات العشر من معلقته : وَدّعْ هُرَيْـرَةَ إنّ الرَّكْـبَ مرْتَحِـلُ وَهَلْ تُطِيقُ وَداعـاً أيّهَـا الرّجُـلُ ؟ غَـرَّاءُ فَرْعَـاءُ مَصْقُـولٌ عَوَارِضُـهَا تَمشِي الهُوَينَا كَمَا يَمشِي الوَجي الوَحِلُ كَـأَنَّ مِشْيَتَـهَا مِنْ بَيْـتِ جَارَتِهَـا مَرُّ السَّحَابَةِ ، لاَ رَيْـثٌ وَلاَ عَجَـلُ تَسمَعُ للحَلِي وَسْوَاساً إِذَا انصَرَفَـتْ كَمَا استَعَانَ برِيـحٍ عِشـرِقٌ زَجِـلُ لَيستْ كَمَنْ يكرَهُ الجِيـرَانُ طَلعَتَـهَا وَلاَ تَـرَاهَـا لسِـرِّ الجَـارِ تَخْتَتِـلُ يَكَـادُ يَصرَعُهَـا ، لَـوْلاَ تَشَدُّدُهَـا إِذَا تَقُـومُ إلـى جَارَاتِهَـا الكَسَـلُ إِذَا تُعَالِـجُ قِـرْنـاً سَاعـةً فَتَـرَتْ وَاهتَزَّ مِنهَا ذَنُـوبُ المَتـنِ وَالكَفَـلُ مِلءُ الوِشَاحِ وَصِفْرُ الـدّرْعِ بَهكنَـةٌ إِذَا تَأتّـى يَكَـادُ الخَصْـرُ يَنْخَـزِلُ صَدَّتْ هُرَيْـرَةُ عَنَّـا مَـا تُكَلّمُنَـا جَهْلاً بأُمّ خُلَيْدٍ حَبـلَ مَنْ تَصِـلُ ؟ أَأَنْ رَأَتْ رَجُلاً أَعْشَـى أَضَـرَّ بِـهِ رَيبُ المَنُونِ ، وَدَهْـرٌ مفنِـدٌ خَبِـلُ شرح الابيات :
قال أبو عبيدة: هريرة قينة كانت لرجل من آل عمرو بن مرثد، أهداها إلى قيس بن حسان بن ثعلبة بن عمرو بن مرثد فولدت له خليدا وقد قال في قصيدته والركب لا يستعمل إلا للإبل، وقوله وهل تطيق وداعا، أي أنك تفزع إن ودعتها قال الأصمعي] الغراء: البيضاء الواسعة الجبين، وروي عنه أنه قال الغراء البيضاء النقية العرض، والفرعاء الطويلة الفرع: أي الشعر [والعوارض الرباعيات والأنياب] تمشى الهوينى: أي على رسلها، والوجى يشتكي حافره، ولم يخف، وهو مع ذلك وحل فهو أشد عليه. وغراء مرفوع لأنه خبر مبتدأ ويجوز نصبه بمعنى أعني، وعوارضها مرفوعة على أنها اسم ما لم يسم فاعله والهوينى في موضع نصب على المصدر وفيها زيادة على معنى مصدر. المشية: الحالة، وقوله مر السحابة أي تهاديها كمر السحابة، وهذا مما يوصف به [النساء]. الحلي واحد يؤدي عن جماعة، ويقال في جمعه حلي، والوسواس جرس الحلي، إذا انصرفت: يريد إذا خفت، فمرت الريح، تحرك الحلي، فشبه صوت الحلي بصوت خشخشة العشرق على الحصباء تختتل وتختل واحد [بمعنى تسرق وتخدع] فهي لا تفعل هذا يقول لولا أنها تشدد إذا قامت لسقطت وإذا في موضع نصب والعامل فيها يصرعها ذنوب المتن: العجيزة والمعاجز مقر الوشاح. صفر الوشاح: أي خميصة البطن، دقيقة الخصر، فوشاحها يقلق عليها لذلك هي تملأ الدرع لأنها ضخمة، والبهكنة الكبيرة الخلق، وتأتى تترفق من قولك هو يتأتى لك لأمر، وقيل تأتى: تهيأ للقيام، والأصل تتأتى فحذف إحدى التاءين، تنخزل: تنثني، وقيل تتقطع ويقال خزل عنه حقه إذا قطعه الدجن: إلباس الغيم السماء. وقوله للذة المرء كناية عن الوطء ويروى تصرعه. لا جاف: أي لا غليظ والتفل: المنتن الرائحة وقيل هو الذي لا يتطيب. |
|||
2012-02-11, 16:29 | رقم المشاركة : 3 | |||
|
عَبيد بن الأبرَص ؟؟؟ - 25 ق.هـ / ؟؟؟ - 598 ق م عبيد بن الأبرص بن عوف بن جشم الأسدي، أبو زياد، من مضر. شاعر من دهاة الجاهلية وحكمائها، وهو أحد أصحاب المجمهرات المعدودة طبقة ثانية عن المعلقات. عاصر امرؤ القيس وله معه مناظرات ومناقضات، وعمّر طويلاً حتى قتله النعمان بن المنذر وقد وفد عليه في يوم بؤسه. ت تعريف / بمعلقة عبيد بن الأبرص على الرغم من هزال هذه القصيدة واضطرابها من الناحية الفنية، فإنها تعتبر من أشهر قصائد عبيد بن الأبرص، ذلك أن المنذر قد طلب إلى الشاعر أن يلقيها في حضرته. وقد أوردها التبريزي ضمن مجموعة (القصائد العشر). بدأها عبيدُ بذكر المنازل المقفرة وتقلّب صروف الزمان عليها، ثم انتقل إلى الحديث عن سنّة الحياة في تحوّل كل شيء، ونهاية الإنسان إلى الموت، ويستطرد في بقية القصيدة، أي في ثلاثة أرباعها، إلى وصف سفره بالنّاقة، ثم إلى وصف فرسه. وأجمل ما في القصيدة هو المقطع الأخير الذي وصف به المعركة التي جرت بين العقاب والثعلب وانتصارها عليه. وهو وصف يكاد ينسينا جفاف المطلع واتشاحه بالألوان القاتمة. وقد ذكرها ابن سيده مثلاً على "الشعر المهزول غير المؤتلف البناء". وقال ابن كناية "ولم أر أحداً ينشد هذه القصيدة على إقامة العروض. "وقيل أيضاً: "كادت ألا تكون شعراً". وكل هذا لم يمنع من شهرة القصيدة. اعتمدنا في ذلك على: مطاع صفدي وإيليا حاوي، موسوعة الشعر العربي: الشعر الجاهلي، إشراف د. خليل حاوي، تحقيق وتصحيح أحمد قدامة، بيروت: شركة خياط، 1974، جـ2، ص582. معلقة عبيد الأبرص أقفـرَ من أهلهِ مَلْحـوبُ *** فالقُطبيَّــات فالذَّنـــوبُ فَراكِـسٌ فثُعَيـلٍبــاتٌ *** فَـذاتَ فَـرقَـينِ فالقَـلِيبُ فَعَـرْدةٌ ، فَقَفــا حِـبِرٍّ *** لَيسَ بِها مِنهُــمُ عَـريبُ وبُدِّلَتْ مِنْ أهْلِها وُحوشًا *** وغًـيَّرتْ حالَها الخُطُــوبُ أرضٌ تَوارَثَهـا الجُدوبُ *** فَكُـلُّ من حَلَّهـا مَحْـروبُ إمَّـا قَتيـلاً وإمَّـا هَلْكـًا *** والشَّيْبُ شَـيْنٌ لِمَنْ يَشِـيبُ عَينـاكَ دَمْعُهمـا سَـروبٌ *** كـأنَّ شَـأنَيهِمـا شَـعِيبُ واهِيــةٌ أو مَعـينُ مَـعْنٍ *** مِنْ هَضْبـةٍ دونَها لَهـوبُ أو فَلْجُ وادٍ بِبَطْـنِ أرضٍ *** لِلمـاءِ مِنْ تَحْتِهـا قَســيبُ أوْ جَدولٌ في ظِلالِ نَخْـلٍ *** لِلمـاءِ مِنْ تَحتِهـا سَـكوبُ تَصْبو وأنَّى لكَ التَّصابي ؟ *** أنَّي وقَد راعَـكَ المَشـيبُ فإنْ يَكُـنْ حـالَ أجْمَعِهـا *** فلا بَـدِيٌّ ولا عَجـيبُ أوْ يـكُ أقْفَـرَ مِنها جَـوُّها *** وعادَها المَحْـلُ والجُـدوبُ فكُـلُّ ذي نِعْمـةٍ مَخلـوسٌ *** وكُـلُّ ذي أمَـلٍ مَكـذوبُ فكُـلُّ ذي إبِـلٍ مَـوْروثٌ *** وكُـلُّ ذي سَـلْبٍ مَسْـلوبُ فكُـلُّ ذي غَيْبـةٍ يَـؤوبُ *** وغـائِبُ المَـوْتِ لا يَغـيبُ أعاقِـرٌ مِثْـلُ ذاتِ رَحْـمٍ *** أوْ غـانِمٌ مِثْـلُ مَنْ يَخـيبُ مَنْ يَسْـألِ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ *** وســــائِلُ اللهِ لا يَخـيبُ باللهِ يُـدْرَكُ كُـلُّ خَـيْرٍ *** والقَـوْلُ في بعضِـهٍِ تَلغـيبُ واللهُ ليسَ لهُ شَــريكٌ *** عـلاَّمُ مـا أخْفَـتِ القُلُـوبُ أفْلِحْ بِما شِئْتَ قدْ يَبلُغُ بالضَّعْـ *** ـفِ وقَدْ يُخْـدَعُ الأرِيبُ يَعِـظُ النَّاسُ مَنْ لا يَعِـظُ الدْ *** دَهْـرُ ولا يَنْفَـعُ التَّلْبِيبُ إلاَّ سَــجِيَّـاتُ ما القُلُـو *** بُ وكمْ يُصَـيِّرْنَ شائنًا حَبِيبُ سـاعِدْ بِأرضٍ إنْ كُنتَ فيها *** ولا تَقُـلْ إنَّنـي غَـريبُ قدْ يُوصَلُ النَّازِحُ النَّائي وقد *** يُقْطَـعُ ذو السُّـهْمَةِ القَـريبُ والمَرْءُ ما عاشَ في تَكْذيبٍ *** طُـولُ الحَيــاةِ لـهُ تَعْـذيبُ يا رُبَّ مـاءٍ وَرَدتُّ آجِـنٍ *** سَـــبيلُهُ خـائفٌ جَـدِيبُ رِيشُ الحَمـامِ على أرْجائِهِ *** لِلقَـلبِ مِنْ خَـوْفِـهِ وَجِـيبُ قَطَعتـهُ غُـدْوة مُشِــيحًا *** وصــاحِبي بـادِنٌ خَبــوبُ غَـيْرانةٌ مُوجَـدٌ فَقـارُهـا *** كـأنَّ حـارِكَهــا كَثِـيبُ أخَـلَّفَ بـازِلاً سَـــديسٌ *** لا خُـفَّـةٌ هِـيَ ولا نَـيُـوبُ كـأنَّهـا مِنْ حَمـيرِ غـاب *** جَـوْنٌ بِصَفْحـَتِــهِ نُـدوبُ أوْ شَـبَبٌ يَـرْتَعي الرُّخامِي *** تَـلُـطُّـهُ شَـمْألٌ هَـبُـوبُ فـذاكَ عَصْـرٌ وقدْ أرانـي *** تَحْمِـلُنـي نَهْـدَةٌ سَـرْحوبُ مُضَـبَّرٌ خَلْـقُهـا تَضْـبيرًا *** يَنْشَـقُّ عَنْ وَجْهِهـا السَّـبيبُ زَيْـتِـيَّـةٌ نائـمٌ عُـروقُهـا *** ولَـيِّنٌ أسْــرُها رَطِـيبُ كـأنَّهـا لِقْــوَةٌ طَـلُـوبٌ *** تَـيْـبَسُ في وَكْـرِها القُـلُوبُ بَـانَـتْ علَى إرْمٍ عَـذوبـًا *** كـأنَّهـا شَــيْخةٌ رَقُــوبُ فَأَصْـبَحَتْ في غَـداةِ قُـرٍّ *** يَسْـقُطُ عَنْ رِيشِـها الضَّـريبُ فَأبْصَرَتْ ثَعْلَـبًا سَـريعـًا *** ودونَـهُ سَــبْسَـبٌ جَـديـبُ فَنَفَّـضَتْ رِيشَـها ووَلَّـتْ *** وَهْـيَ مِنْ نَهْضَـةٍ قَـريـبُ فاشْـتالَ وارْتاعَ مِنْ حَسِيسٍ *** وفِعْلـهُ يَفعَــلُ المَـذْؤوبُ فَنَهَضَـتْ نَحْـوَهُ حَثِـيثـًا *** وحَـرَّدتْ حَـرْدَهُ تَسِــيبُ فَـدَبَّ مِنْ خَلفِهـا دَبيبـًا *** والعَـيْنُ حِمْـلاقُهـا مَقْلـوبُ فـأدْرَكَتْـهُ فَطَـرَّحَتْــهُ *** والصَّـيْدُ مِنْ تَحْتِهـا مَكْـروبُ فَجَـدَّلَـتْـهُ فَطَـرَّحَتْــهُ *** فكَـدَّحَتْ وَجْهَـهُ الجَـبوبُ فعـاوَدَتْـهُ فَـرَفَّـعَـتْـهُ *** فـأرْسَـلَـتْـهُ وهُوَ مَكْـروبُ يَضغُو ومِخْلَـبُهـا في دَفِـهِ *** لا بُـدَّ حَـيْزومُـهُ مَنقُــوبُ |
|||
2012-02-11, 16:33 | رقم المشاركة : 4 | |||
|
السبع المعلقات (تحليل أنثروبولوجي) بنية المطالع في المعلقات – عبد المالك مرتاض |
|||
2012-02-11, 16:35 | رقم المشاركة : 5 | |||
|
المعلقات الشعرية |
|||
2012-02-11, 16:54 | رقم المشاركة : 6 | |||
|
موضوع شعر المعلّقات لو رجعنا إلى القصائد الجاهلية الطوال والمعلّقات منها على الأخصّ رأينا أنّ الشعراء يسيرون فيها على نهج مخصوص; يبدأون عادة بذكر الأطلال ، وقد بدأ عمرو بن كلثوم مثلاً بوصف الخمر ، ثمّ بدأ بذكر الحبيبة ، ثمّ ينتقل أحدهم إلى وصف الراحلة ، ثمّ إلى الطريق التي يسلكها ، بعدئذ يخلص إلى المديح أو الفخر (إذا كان الفخر مقصوداً كما عند عنترة) وقد يعود الشاعر إلى الحبيبة ثمّ إلى الخمر ، وبعدئذ ينتهي بالحماسة (أو الفخر) أو بذكر شيء من الحِكَم (كما عند زهير) أو من الوصف كما عند امرئ القيس .ويجدر بالملاحظة أنّ في القصيدة الجاهلية أغراضاً متعدّدة; واحد منها مقصود لذاته (كالغزل عند امرئ القيس ، الحماسة عند عنترة ، والمديح عند زهير . .) ، عدد القصائد المعلّقات لقد اُختلف في عدد القصائد التي تعدّ من المعلّقات ، فبعد أن اتّفقوا على خمس منها; هي معلّقات : امرئ القيس ، وزهير ، ولبيد ، وطرفة ، وعمرو بن كلثوم . اختلفوا في البقيّة ، فمنهم من يعدّ بينها معلّقة عنترة والحارث بن حلزة ، ومنهم من يدخل فيها قصيدتي النابغة والأعشى ، ومنهم من جعل فيها قصيدة عبيد بن الأبرص ، فتكون المعلّقات عندئذ عشراً .نماذج مختارة من القصائد المعلّقة مع شرح حال شعرائها أربع من هذه القصائد اخترناها من بين القصائد السبع أو العشر مع اشارة لما كتبه بعض الكتاب والأدباء عن جوانبها الفنية.. لتكون محور مقالتنا هذه :امرؤ القيس اسمه : امرؤ القيس ، خندج ، عدي ، مليكة ، لكنّه عرف واشتهر بالاسم الأوّل ، وهو آخر اُمراء اُسرة كندة اليمنيّة .أبوه : حجر بن الحارث ، آخر ملوك تلك الاُسرة ، التي كانت تبسط نفوذها وسيطرتها على منطقة نجد من منتصف القرن الخامس الميلادي حتى منتصف السادس . اُمّه : فاطمة بنت ربيعة اُخت كليب زعيم قبيلة ربيعة من تغلب ، واُخت المهلهل بطل حرب البسوس ، وصاحب أوّل قصيدة عربية تبلغ الثلاثين بيتاً . نبذة من حياته : قال ابن قتيبة : هو من أهل نجد من الطبقة الاُولى28 . كان يعدّ من عشّاق العرب ، وكان يشبّب بنساء منهنّ فاطمة بنت العبيد العنزية التي يقول لها في معلّقته : أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلّل وقد طرده أبو ه على أثر ذلك . وظل امرؤ القيس سادراً في لهوه إلى أن بلغه مقتل أبيه وهو بدمّون فقال : ضيّعني صغيراً ، وحمّلني دمه كبيراً ، لا صحو اليوم ولا سكرَ غداً ، اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ ، ثمّ آلى أن لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتّى يثأر لأبيه29 .إلى هنا تنتهي الفترة الاُولى من حياة امرئ القيس وحياة المجون والفسوق والانحراف ، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته ، وهي فترة طلب الثأر من قَتَلة أبيه ، ويتجلّى ذلك من شعره ، الّذي قاله في تلك الفترة ، الّتي يعتبرها الناقدون مرحلة الجدّ من حياة الشاعر ، حيكت حولها كثير من الأساطير ، التي اُضيفت فيما بعد إلى حياته . وسببها يعود إلى النحل والانتحال الذي حصل في زمان حمّاد الراوية ، وخلف الأحمر ومن حذا حذوهم . حيث أضافوا إلى حياتهم ما لم يدلّ عليه دليل عقلي وجعلوها أشبه بالأسطورة . ولكن لا يعني ذلك أنّ كلّ ما قيل حول مرحلة امرئ القيس الثانية هو اُسطورة . والمهم أنّه قد خرج إلى طلب الثأر من بني أسد قتلة أبيه ، وذلك بجمع السلاح وإعداد الناس وتهيئتهم للمسير معه ، وبلغ به ذلك المسير إلى ملك الروم حيث أكرمه لما كان يسمع من أخبار شعره وصار نديمه ، واستمدّه للثأر من القتلة فوعده ذلك ، ثمّ بعث معه جيشاً فيهم أبناء ملوك الروم ، فلمّا فصل قيل لقيصر : إنّك أمددت بأبناء ملوك أرضك رجلاً من العرب وهم أهل غدر ، فإذا استمكن ممّا أراد وقهر بهم عدوّه غزاك . فبعث إليه قيصر مع رجل من العرب كان معه يقال له الطمّاح ، بحلّة منسوجة بالذهب مسمومة ، وكتب إليه : إنّي قد بعثت إليك بحلّتي الّتي كنت ألبسها يوم الزينة ليُعرف فضلك عندي ، فإذا وصلت إليك فالبسها على الُيمن والبركة ، واكتب إليّ من كلّ منزل بخبرك ، فلمّا وصلت إليه الحلّة اشتدّ سروره بها ولبسها ، فأسرع فيه السمّ وتنفّط جلده ، والعرب تدعوه : ذا القروح لذلك ، ولقوله : وبُدِّلْتُ قرحاً دامياً بعد صحّة فيالك نُعمى قد تحوّلُ أبؤسا ولمّا صار إلى مدينة بالروم تُدعى : أنقرة ثقل فأقام بها حتّى مات ، وقبره هناك .وآخر شعره : ربّ خطبة مسحنفَرهْ وطعنة مثعنجرهْ ورأى قبراً لامرأة من بنات ملوك العرب هلكت بأنقره فسأل عنها فاخبر ، فقال :وجعبة متحيّرهْ تدفنُ غداً بأنقرةْ أجارتنا إنّ المزار قريبُ وإنّي مقيم ما أقام عسيبُ وقد عدَّ الدكتور جواد علي والدكتور شوقي ضيف وبروكلمان وآخرون بعض ما ورد في قصّة امرئ القيس وطرده ، والحكايات التي حيكت بعد وصوله إلى قيصر ودفنه بأنقرة إلى جانب قبر ابنة بعض ملوك الروم ، وسبب موته بالحلة المسمومة ، وتسميته ذا القروح من الأساطير .أجارتَنا إنّا غريبانِ هاهنا وكلّ غريب للغريب نسيبُ30 قالوا فيه : 1 ـ النبيّ(صلى الله عليه وآله) : ذاك رجل مذكور في الدنيا ، شريف فيها منسيّ في الآخرة خامل فيها ، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار31 . 2 ـ الإمام علي(عليه السلام) : سُئل من أشعر الشعراء؟ فقال : إنّ القوم لم يَجروا في حَلبة تُعرفُ الغايةُ عند قصبتها ، فإنْ كان ولابُدّ فالملكُ الضِّلِّيلُ32 . يريد امرأ القيس . 3 ـ الفرزدق سئل من أشعر الناس؟ قال : ذو القروح . 4 ـ يونس بن حبيب : إنّ علماء البصرة كانوا يقدّمون امرأ القيس . 5 ـ لبيد بن ربيعة : أشعر الناس ذو القروح . 6 ـ أبو عبيدة معمّر بن المثنّى : هو أوّل من فتح الشعر ووقف واستوقف وبكى في الدمن ووصف ما فيها . . .33 معلّقة امرئ القيس البحر : الطويل . عدد أبياتها : 78 بيتاً منها : 9 : في ذكرى الحبيبة . 21 : في بعض مواقف له . 13 : في وصف المرأة . 5 : في وصف الليل . 18 : في السحاب والبرق والمطر وآثاره . والبقية في اُمور مختلفة .استهلّ امرؤ القيس معلّقته بقوله : قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزِلِ بِسِقْط اللِّوَى بين الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِ وقد عدّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته ، إذ وقف واستوقف وبكى وأبكى وذكر الحبيب والمنزل ، ثمّ انتقل إلى رواية بعض ذكرياته السعيدة بقوله :فتوضِحَ فالمقراة لم يعفُ رسمُها لما نسجتها من جنوب وَشَمْأَلِ ألا ربّ يوم لَكَ منهُنَّ صالحٌ ولاسيّما يومٌ بدراة جُلجُلِ وحيث إنّ تذكّر الماضي السعيد قد أرّق ليالي الشاعر ، وحرمه الراحة والهدوء; لذا فقد شعر بوطأة الليل; ذلك أنّ الهموم تصل إلى أوجها في الليل ، فما أقسى الليل على المهموم! إنّه يقضّ مضجعهُ ، ويُطير النوم من عينيه ، ويلفّه في ظلام حالك ، ويأخذه في دوامة تقلّبه هنا وهناك لا يعرف أين هو ، ولا كيف يسير ولا ماذا يفعل ، ويلقي عليه بأحماله ، ويقف كأنّه لا يتحرّك . . يقول :ويومَ عقرت للعِذارى مطيّتي فيا عجباً من رحلِها المتحمّلِ فضلّ العذارى يرتمينَ بلحمها وشحم كهذّاب الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ وليل كموج البحرِ أرخى سدوله عليّ بأنواع الهمومِ ليبتلي وتعدّ هذه الأبيات من أروع ما قاله في الوصف ، ومبعث روعتها تصويره وحشيّة الليل بأمواج البحر وهي تطوي ما يصادفها; لتختبر ما عند الشاعر من الصبر والجزع .فقُلْتُ لَهُ لمّا تمطّى بصلبِهِ وأردف أعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ ألا أيّها الليلُ الطويل ألا انجلي بصبح وما الأصْبَاحُ منكَ بِأمْثَلِ فأنت أمام وصف وجداني فيه من الرقّة والعاطفة النابضة ، وقد استحالت سدول الليل فيه إلى سدول همّ ، وامتزج ليل النفس بليل الطبيعة ، وانتقل الليل من الطبيعة إلى النفس ، وانتقلت النفس إلى ظلمة الطبيعة . فالصورة في شعره تجسيد للشعور في مادّة حسّية مستقاة من البيئة الجاهلية . ثمّ يخرج منه إلى وصف فرسه وصيده ولذّاته فيه ، وكأنّه يريد أن يضع بين يدي صاحبته فروسيته وشجاعته ومهارته في ركوب الخيل واصطياد الوحش يقول : وقد أَغتدي والطير في وُكُناتِها بِمُنْجرد قيدِ الأوابدِ هيكلِ وهو وصف رائع لفرسه الأشقر ، فقد صوّر سرعته تصويراً بديعاً ، وبدأ فجعله قيداً لأوابد الوحش إذا انطلقت في الصحراء فإنّها لا تستطيع إفلاتاً منه كأنّه قيد يأخذ بأرجلها .مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِل مُدْبر معاً كجُلْمُودِ صَخْر حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ وهو لشدّة حركته وسرعته يخيّل إليك كأنّه يفرّ ويكرّ في الوقت نفسه ، وكأنّه يقبل ويدبر في آن واحد ، وكأنّه جلمود صخر يهوى به السيل من ذورة جبل عال . ثمّ يستطرد في ذكر صيده وطهي الطهاة له وسط الصحراء قائلاً : فظلّ طهاةُ اللحمِ ما بين منضج صفيف شواء أو قدير معجّلِ وينتقل بعد ذلك إلى وصف الأمطار والسيول ، التي ألمّت بمنازل قومه بني أسد بالقرب من تيماء في شمالي الحجاز ، يقول :أحارِ ترى برقاً كأنّ وميضَهُكلمعِ اليدين في حبيٍّ مكَلّلِيضيءُ سناهُ أو مصابيحُ راهب أهانَ السَّليطَ في الذُّبالِ المفتّلِقعدتُ له وصحبتي بين حامِروبين إكام بُعْدَ ما متأمّلِوأضحى يسحُّ الماء عن كلِّ فيقةيكبُّ على الأذهان دوحَ الكَنهْبَلِوتيماءَ لم يترك بها جذعَ نخلةولا اُطماً إلاّ مشيداً بِجَنْدَلِ استهلّ هذه القطعة بوصف وميض البرق وتألّقه في سحاب متراكم ، وشبّه هذا التألّق واللمعان بحركة اليدين إذا اُشير بهما ، أو كأنّه مصابيح راهب يتوهّج ضوؤها بما يمدّها من زيت كثير . ويصف كيف جلس هو وأصحابه يتأمّلونه بين جامر وإكام ، والسحاب يسحّ سحّاً ، حتّى لتقتلع سيوله كلّ ما في طريقها من أشجار العِضاه العظيمة ، وتلك تيماء لم تترك بها نخلاً ولا بيتاً ، إلاّ ما شيّد بالصخر ، فقد اجتثّت كلّ ما مرّت به ، وأتت عليه من قواعده واُصوله . لبيد بن ربيعة هو لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة . . الكلابيقال المرزباني : كان فارساً شجاعاً سخيّاً ، قال الشعر في الجاهلية دهراً34 . قال أكثر أهل الأخبار : إنّه كان شريفاً في الجاهلية والإسلام ، وكان قد نذر أن لا تهبّ الصبا إلاّ نحر وأطعم ، ثمّ نزل الكوفة ، وكان المغيرة بن شعبة إذا هبّت الصبا يقول : أعينوا أبا عقيل على مروءته35 . وحكى الرياشي : لمّا اشتدّ الجدب على مضر بدعوة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وفد عليه وفد قيس وفيهم لبيد فأنشد : أتيناك يا خير البريّة كلّها لترحمنا ممّا لقينا من الأزلِ وهو من الشعراء ، الّذين ترفعوا عن مدح الناس لنيل جوائزهم وصِلاتهم ، كما أنّه كان من الشعراء المتقدّمين في الشعر .أتيناك والعذراء تدمى لبانها وقد ذهلت أمّ الصبيّ عن الطفلِ فإن تدعُ بالسقيا وبالعفو ترسل الـ ـسّماءَ لنا والأمر يبقى على الأَصْلِ وأمّا أبوه فقد عرف بربيعة المقترين لسخائه ، وقد قُتل والده وهو صغير السّنّ ، فتكفّل أعمامهُ تربيتَه . ويرى بروكلمان احتمال مجيء لبيد إلى هذه الدنيا في حوالى سنة 560م . أمّا وفاته فكانت سنة 40هـ . وقيل : 41هـ . لمّا دخل معاوية الكوفة بعد أن صالح الإمام الحسن بن علي ونزل النخيلة ، وقيل : إنّه مات بالكوفة أيّام الوليد بن عقبة في خلافة عثمان ، كما ورد أنّه توفّي سنة نيف وستين36 . قالوا فيه : 1 ـ النبي(صلى الله عليه وآله) : أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل37 وروى أنّ لبيداً أنشد النبي(صلى الله عليه وآله) قوله : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطلُ فقال له : صدقت .فقال : وكلّ نعيم لا محالة زائلُ فقال له : كذبت ، نعيم الآخرة لا يزول38 .2 ـ المرزباني : إنّ الفرزدق سمع رجلاً ينشد قول لبيد : وجلا السيوف من الطلولِ كأنّها زبر تجدّ متونَها أقلامُها فنزل عن بغلته وسجد ، فقيل له : ما هذا؟ فقال : أنا أعرف سجدة الشعر كما يعرفون سجدة القرآن39 .القول في إسلامه وأمّا إسلامه فقد أجمعت الرواة على إقبال لبيد على الإسلام من كلّ قلبه ، وعلى تمسّكه بدينه تمسّكاً شديداً ، ولا سيما حينما يشعر بتأثير وطأة الشيخوخة عليه ، وبقرب دنوّ أجله; ويظهر أنّ شيخوخته قد أبعدته عن المساهمة في الأحداث السياسية التي وقعت في أيّامه ، فابتعد عن السياسة ، وابتعد عن الخوض في الأحداث ، ولهذا لا نجد في شعره شيئاً ، ولا فيما روي عنه من أخبار أنّه تحزّب لأحد أو خاصم أحداً .وروي أنّ لبيداً ترك الشعر وانصرف عنه ، فلمّا كتب عمر إلى عامله المغيرة ابن شعبة على الكوفة يقول له : استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام . أرسل إلى لبيد ، فقال : أرجزاً تُريد أم قصيداً؟ فقال : أنشدني ما قلته في الإسلام ، فكتب سورة البقرة في صحيفة ثمّ أتى بها ، وقال : أَبدلني الله هذا في الإسلام مكان الشعر . فكتب المغيرة بذلك إلى عمر فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد40 . وجعله في اُسد الغابة من المؤلّفة قلوبهم وممّن حسن إسلامه41 ، وكان عمره مائة وخمساً وخمسين سنة ، منها خمس وأربعون في الإسلام وتسعون في الجاهلية42 . |
|||
2012-02-11, 16:57 | رقم المشاركة : 7 | |||
|
تحليل كامل للمعلقات
السبْع المعلّقات [مقاربةسيمائيّة/ أنتروبولوجيّة لنصوصها] - د.عبد الملك مرتاض منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998 دراســـــــة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998 ما قبل الدخول في القراءة: -1- كيف يمكن لأسراب متناثرة من السِّمات اللّفظيّة- حين تجتمع، وتتعانق، وتتوامق، وتتعانق، وتتجاور، وتتحاور، وتتضافر؛ فتتناسخ ولا تتناشز- فتغتدِي نسْجاً من الكلام سحريّاً، ونظاماً من القول عطريّا؛ فأما العقولُ فتبهرُها، وأمّا القلوب فتسحرها. فأنَّى ينثال ذلك القَطْرُ المعطَّرُ، ويتأتّى ذلك السحر المَضمّخ: لهذا النسْج الكلاميّ العجيب؟ وكيف تقع تلك العناية البلاغيّة والتعبيريّة للشاعر، فيتفوّق ويَسْتَميزُ؟ ولِمَ يتفاوت الشعراء فيْ ذلك الفضل: فإذا هذا يغترف من بحر، وذاك ينحت من صخر، على حدّ تعبير المقولة النقديّة التراثية. ولِمَ، إذن، يتفاوتون في درجات الشعريّة بين محلّق في العلاء، ومُعْدٍ في سبيلٍ كَأْداء، وَسَارٍ في ليلةٍ دَأْدَاء؟ -2- ذلك؛ ويندرج أيُّ ضرْب من القراءة الأدبيّة، ضمن إجراءات التأويليّة- أو الهرومينوطيقا- الشديدة التسلّط على أيّ قراءة نقرأ بها نصّاً أدبيّاً، أو دينيّاً، أو فلسفيّاً، أو قانونيّاً، أو سياسيّاً... لكنّ الذي يعنينا، هنا والآن، هو النصّ الأدبيّ الخالص الأدبيّة. والأدبيُّ، هنا، في تمثّلنا ممتدّ إلى الشعريّ، شامل له، معادل لمعناه. وإنّا إِذْ نأتي اليوم إلى الشعر الجاهليّ بعامّة، وإلى القصائدِ المعلّقاتِ، أو المعلّقاتِ السبعِ، أو السَّبْعِ الطوال، أو السُّموط- فكلُّ يقال- لِنحاولَ قراءتها في أَضواءٍ من المعطيات جديدة، على الأقلّ ما نعتقده نحن: فإنما لكي نُبْرِزَ، من حيث نبتغي أن لا نبتغي، دور هذه التأويليّة المتسلّطة في تمزيق حجاب السريّة التي كان قُصارَاهَا حَجْبَ الحُمولةِ الأدبيّة للنص المقرءِ، أن المحلِّلِ، أو المؤَوَّلِ، أو مواراة الملامح الجماليّة للكتابة... وسواء علينا أقرأنا نصوص المعلّقات السبع ضمن الإِجراء الأنتروبولوجي، أم ضمن الإِجراء السيمائِياني؛ فإننا في الطوريْن الاثنين معاً نَدْرُجُ في مُضْطَرَبِ التأويليّة ولا نستطيع المروق من حيزها الممتدّ، وفضائها المفتوح، وإجراءاتها المتمكّنة ممّا تودّ أن تتّخذ سبيلَها إِليه... وإنّا لن ننظر إلى الشعر الجاهليّ نظرة مَنْ يرفضون أن يكون له سياق، أو أن ينهض على مرجعيّة، أو تكون له صلة بالمجتمع الذي ينتمي إِليه: من حيث هو بيئة شاملةُ المظاهر، متراكبة العلاقات؛ لأننا لو إِلى ذلك أردْنا، وإياهُ قَصَدْنا؛ لَمَا عُجْنا على مفهوم الأنتربولوجيا نسائله عن دلالاتها التّي تعدّدت بين الأمريكيّين والأوربيّين من وِجْهة، وتَطوّرت بين قرنين اثنيْن: القرن التاسع عشر والقرن العشرين من وجهة أخراة: كما كان شعراء ما قبل الإسلام يسائلون الربوع الدارسة، والأطلال البالية، والقِيعان التي هجرَها قطينُها، فعَزَّ أَنيسُها... لكنّنا لسنا أيضاً اجتماعِيّيَن نتعصّب للمجتمع فنزعم أنه هو كلّ شيء، وأنّ ما عداه ممّا يبدو فيه من آثار المعرفة، ومظاهر الفنّ، ووجوه الجمال، وأَسقاط الأدب؛ لا يعدو كلّ أولئك أن يكون مجرّد انعكاس له، وانتساخ منه، وانبثاق عنه... ذلك بأنّ الفنّ قد يستعصم، والجمالَ قد يستعصي، والأدب قد يعتاص على الأَفهام فلا يعترف بقوانين المجتمع، ولا بتقاليده، فيثور عليها، وينسلخ منها رافضاً إِيّاها؛ مستشرفاً عالَماً جديداً جميلاً، وحالماً ناضراً، لا يخضع للقيود، ولا يذعن للنواميس البالية... إِنّا لو شئنا أن نُدَارِسَ الأدب في ضوء المنهج الاجتماعيّ لكنّا استرحنا من كلّ عناء، ولما كنّا جشّمنا النفس ضنى القراءة في المعرفيّات الإنسانيّة، ولكنّا أخلدنا إلى هذه القراءة البسيطة التي تجتزىْ، مقتنعة واثقة من أمرها، بتأويل الظاهرة الأدبيّة، أو قل بتفسيرها على الأصحّ، في ضوء الظاهرة الاجتماعيّة، وتستريح؛ ولكنها لا تريح. بل إِنّ مفهوم التأويل الذي نصطنع هنا قد يكون في غير موضعه من الدلالة الاصطلاحية؛ إِذ عادة ما يكون هذا التأويل أدعى إِلى الجهد الفكري، والذهاب في مجاهله إِلى أقصى الآفاق الممكنة من حيث إِنّ المنهج الاجتماعيّ، في قراءة الأدب، لا يكاد يُعْنِتُ نفسّه، ولا يكاد يشقّ عليها، أو يجاهدها: إِذ حَكَمَ، سلَفاً، باجتماعيّة هذا النصّ، أي بابتذالِه؛ أي بتمريغه في السوقّيّة؛ أي بعزوه إِلى تأثير الدهماء. بل لا يجتزىْ بذلك حتى يجعَلَه نتاجاً من أثارها، ومظهراً من مظاهر تفكيرها، وطوراً من أطوار حياتها، بدون استحياء... المنهج الاجتماعيّ بفجاجته، وسطحيّته، وسوقيّته، وفزَعِه إِلى شؤون العامّة يستنطقها: لا يُجْدِي فتيلاً في تحليل الظاهرة الأدبيّة الراقية، ولا في استنطاق نصوصها العالية، ولا في الكشف عمّا في طيّاتها من جمال، ولا في تقصّي ما فيها من عبقريّ الخيال... فأَوْلَى لعلم الاجتماع أن يظلّ مرتبطاً بما حدّده بنفسه لنفسه، وبما حَكَم به على وضعه، وهو النظر في شؤون العوامّ وعلاقاتهم: بعضهم ببعض، أو تصارع بعضهم مع بعض، أو تصارعهم مع مَنْ أعلى منهم، حسَداً لهم، وطمَعَاً في أرزاقهم؛ كما قرر ذلك ماركسهم فأقام الحياة كلَّها على صراع البنية السفلى مع العليا... وعلى الرغم من أننا لا نعدم من يحاول ربط علم الاجتماع بالأنتروبولوجيا، أوجعل الأنتروبولوجيا مجرد فرعيّة اجتماعيّة، وأنّ قد يسمّى "الأنتروبولوجيا الاجتماعيّة" إِنما انبثق عن دراسة المجتمعات الموصوفة بـ "البدائيّة" (1): فإِنّ ذلك لا يعدو كَونَهُ حذلقةً جامعيّة تكاد لا تعني كبيرَ شيءٍ؛ وإِلاّ فما بالُ هذا العِلْمِ يتمرّد على علم الاجتماع، فيختلف عنه في منهجه، ويمرق عنه في تحديد حقوله؛ ممّا أربك علم الاجتماع نفسّه، فجعله يكاد لا يُعْنَى بشيء إِلاّ ألفى نفسه خارج الحدود الحقيقيّة التي كان اتخذها، أصلاً، لطبيعة وضعه؛ وذلك كشأن البحوث المنصرفة إلى الدين، وإلى الأسطورة، وإلى السحر، وإلى السياسة، وإلى علاقات القربى بين الناس، وإلى كل، مظاهر العادات والتقاليد والمعتقدات والبيئات الأولى لنشوء الإنسان... لقد استأثرت الانتروبولوجيا- أو علم معرفة الإنسان- بمعظم مجالات الحياة الأولى للإنسان، فإذا هي كأنها: "علم الحيوان للنوع البشريّ" (2)؛ إذ تشمل، من بين ما تشمله: علم التشريح البشريّ، وما قبل التاريخ، وعلم الآثار، وعلم وصف الشعوب، وعلم معرفة الشعوب، وعلم الاجتماع نفسه، والفولكور، والأساطير، واللسانيّات (3). فما ذا بقي لعلم الاجتماع أمام كلّ هذا؟ أم أنّ علم الاجتماع يستطيع أن يزعم أنه قادر على منافسة الأنتروبولوجيا في صميم مجالات اختصاصها؟ أنّا لا نعتقد ذلك. ولكن ما نعتقده أنّ الأنتروبولوجيا ليست علماً واحداً بمقدار ما هي شبكة معقّدة من علوم مختلفة ذات موضوع واحد مشترك هو الإنسان وتطوره التاريخيّ، وتطوره فيما قبل التاريخ أيضاً (4). وإذن، فليس علم الاجتماع إِلاّ مجرّد نقطة من هذا المحيط، هذا العُباب الذي لا ساحل له؛ وليس إذن، إِلاّ مجرّد جملة من الظواهر التي تظهر في مجتمع ما، لتختفي، ربما، من بعد ذلك، أو لتستمر، ربما، إلى حين: كظاهرة الطلاق، أو ظاهرة المخدّرات، أو ظاهرة الجريمة، في مدينة من المدن، أو في بلد من البلدان.... على حين أنّ الأنتروبولوجيا هي العمق بعينه، وهي الأصل بنفسه؛ فهي تمثّل الجذور الأولى للإنسان، وفيزيقيّته وطبيعته، وعلاقته مع الطبيعة، وعلاقته بالآخرين، وعلاقته بما وراء الطبيعة المعتقدات- الدين- الأساطير)، وعلاقته بالأنظمة والقوانين (الأنظمة السياسيّة)، وعلاقته بالأقارب أو ارتباطه بالأسرة، وعلاقته بالعشيرة أو القبيلة، وعلاقته بالمحيط بكلّ أبعاده الطقسية، والاقتصاديّة، والثقافيّة (وتشمل الثقافة في نفسها: جملة من المظاهرة مثل الأسطورة، والسحر، وكيفيّات التعبّد، وهلّم جرّا.....). فبينما عِلْمُ الاجتماع يتخذ، من بين ما يتّخذ، من الإحصاءات والاستبيانات إِجراءُ له في تحليل الظاهرة الاجتماعية وتفسيرها؛ نُلْغي العالِم الأنتروبولوجيّ "الغارق" في المجتمع الذي يدرسه، يُعْنَى بصميم المعيش في هذا المجتمع. وأيّاً كان الشأن، فإنّ كُلاً منهما اغتدى الآن يستعير من منهج الآخر، دون أن يلفي في ذلك غضاضةً (5). بيد أنّ الأنتروبولوجيا أوسعُ مجالاً، و أشدّ تسلّطاً على المجتمعات. ونحن نرى أنّ علم الاجتماع يتسلّط على الظاهرة من حيثُ كَوْنُها تَحْدُثُ وتتكرّر، وتشيع في مجتمع ما؛ أي كأنه يتسلّط على وصف ما هو كائن؛ على حين أنّ الأَناسِيَّةَ تتسلّط على المجتمعات التقليديّة، أو البدائيّة من حيث هي: فتصفها، ثم تحلّلها. فكأنّ علم الاجتماع يتسلّط على ظواهر اجتماعيّة منفردة ليصفها ويحلّلها، بينما الأَناسِيَّةُ تتسلّط على المجتمع البدائيّ في كلّيّاته فتجتهد في وصفها أوّلاً، ثم تحليلها آخراً. وإذن، فلأْمرٍ ما أطلق العلماء على هذه المعرفيّة اصطلاح "علم الأناسة"، أو "علم الإنسان"، أو "الأناسيّة (كما نريد نحن أن نصطلح على ذلك): فكأنها العلم الذي بواسطته، وقبل علم النفس ذاته، يستطيع معرفة الإنسان في أصوله العرقيّة، وتاريخه الحضاريّ، وعلاقته بالعالم الخارجي.. بل الإيغال في معرفة معتقداته، وعاداته، وتقاليده، وأعرافه، وكلّ علاقاته بالطبيعة والكون... -4- ذلك، وأنّا ألفينا الناس دَرَسوا الشعر العربيّ القديم، وينصرف، لدينا، معنى القِدَمِ، وَهُنَا، إِلى عهدِ ما قبل الإسلام تحديداً: من جملة من المستويات، وتحت جملةٍ من الأشكال، وتحت طائفة من الزوايا، وعبر مختلف الرُّؤى والمواقف، وبمختلف الإجراءات والمناهج: انطلاقاً من أبي زيد القرشي، ومحمد بن سلاّم، ومروراً بالقرطاجنّي إِلى كمال أبي ديب، ومصطفى ناصف... ونحن نعتقد أنّ الذي لا يخوض في الظاهرة الشعريّة، العربيّة القديمة، من النقاد لا تكتمل أدواتُه، ولا تَنْفُقُ بضاعتُه من العلم، ولا يقوم له وجه من المعرفة الرصينة، ولا يذيع له صيت في نوادي الأدب؛ ولا يستطيع، مع كلّ ذلك، أو أثناء كلّ ذلك، أن يزعم للناس من قرائه أنه قادر على فهم الظاهرة الأدبيّة في أيّ عهد من العهود اللاّحقة، ما لَمْ يَعُجْ على هذه الأشعار يستنطقها استنطاقاً، ويقصّ آثارها، ويتسقّط أخبارها: فيعاشر أُولئِكَ الشعراءَ، ويقْعُدُ القُرْفُصَاءَ لِرُواتِهم، ويتلطّف مع أشباح أَرِئْيّائِهِمْ؛ ثمّ على الديار البالية، ويقترِئُ الأطلالَ الخالية؛ يتتبّع بَعَرَ الأَرْأمِ في العَرَصات، ويقف لدى الدِمَنِ المقفرات: يباكي الشعراء المدلّهين، ويتعذّب مع العشاق المدنّفين.. ما لَمْ يأتِ الناقدُ العربيُّ المعاصر شيئاً من ذلك.... ما لم ينهض بهذه التجربة الممتعة الممرعة... ما لم يجتهدْ في أَن ينطلق من الجذور الأدبيّة... ما لم يُصْرِرْ على الاندفاع من أرومة الأدب، وينابيع الشعر العذريّة... ما لمْ يُقْدِمْ، إذن، على البّدءِ مما يجب البدء منه: يظلّ، أخرى اللّيالي، مفتقراً، في ثقافته النقديّة، وفي ممارسته الدرسية، وفي تمثّله الجماليّ أيضاً، إلى شيء ما.... هو هذا المفقود مما كان يجب أن يكون، في مسيرته الأدبيّة، موجوداً موفوراً... ولعلّ بعض ذلك التمثّل الذي نتمثّل به هذا الأمر، هو الذي حَملَنا على الإقبال على هذا الشعر الجميل الأصيل، والعُذْريّ الأثيل، نغترف من منابعه، ونرتشف من مدافعه؛ بعد أن كنّا في أول كتاب لنا، أصْلاً، عُجْنا على بعض شعر امرئ القيس نقرؤه ونحلّله، بما كنّا نعتقد، يومئذ، أنّه قراءة وتحليل... ولكن لاَ سواءٌ ما كنّا جِئناهُ منذ زهاء ثلاثين سنة، وما نزمع على مجيئه اليوم... إنّ الاستهواءَ لا يكفي. فقد يَهْوى أحدُنا موضوعاً فيقبل عليه، بحبّ شديد، يعالجه.. ولكنه، مع ذلك، قد لا يبلغ منه ما كان يريد... وإذن، فهوايَتُنا هذا الشعرَ القديمَ ليست شفيعة لنا؛ ما لم نجدّد في سعينا، ونبتكر في قراءتنا، بعد أن كان تعاوَرَ على هذا الشعر الكبير مئات من النقاد والمؤرخين والدارسين، قديماً وحديثاً.... ولو جئنا نحصي من المحدثين، منذ عهد طه حسين فقط، من تناولوا هذا الشعر لألفينا عدَدَهم جمّاً، وسَوادَهم كُثْراً.... فما الذي غرَّنا بالخوض فيما خاضوا فيه، مع تغازُر العدد، وتوافر المدد، واعتياص الصّدد؟ فلعلّ الذي حَمَلنا على التجرّؤ، ودَفَعنا إلى التحفّز، مع ما نعلم من عدد السابقين لنا، هو الحريّة التي جعلها الله لنا حقاً؛ وهو، أيضاً، حبّ إبداء الرأي الذي جعله الله لنا باباً مفتوحاً، وسبباً ميسوراً، إلى يوم القيامة. وهو، بعد ذلك، ما نطمع فيه من القدرة على المسابقة والمنافسة، وما نشرئبّ إلى إضافته إلى قراءات الذين سبقونا. ولَوْلا أعْتِقادُنا بشيء من هذا التفرّد الشخصيّ في هذه القراءة التي ندّعي لها صفة الجدّة في كثير من مظاهرها ومساعيها؛ لما أعْنَتْنَا النفْسَ، وجاهدنا الوُكْد، في هذه الصحائف التي نَزْدَفُّها إلى قرائنا في المشرق وفي المغرب، وكلّنا طمع في أنها ستقدّم إليهم شيئاً مما لم تستطع القراءات السابقة تقديمَه إليهم، إن شاء الله.... ولمّا كان حرصُنا شديداً على ذلك، ورجاؤُنا شديداً في تحقيق ذلك- وبعد تدبّر وتفكّر- بدا لنا أن نجيء إلى بعض هذا الشعر العربي القديم، ممثّلاً في معلّقاته السبع العجيبات البديعات، فنقرأه قراءةً تركيبيّة الإجراء بحيث قد تنطلق من الإجراء الأنتروبولوجيّ، وتنتهي لدى الإجراء السيمائياتّي؛ إذا ما انصرف السعْيُ إلى النصّ. وتنطلق من الإجراء الشكّيّ العقلانّي، وتنتهي لدى استنتاج قائم على المساءلة أكثر مما هو قائم على الحكم والجواب. وقد اغتدى، الآن، واضحاً أننا نحاول، في هذه التجربة، المزاوَجَة بين الأنتروبولوجيا والسيمائيّة لدى التعرض للنص، والمزاوجة بين المعلومات التاريخيّة وافتراض الفروض، لدى غياب النصّ، وحين التعرّض للحياة العامّة لدى العرب قبل الإسلام. وليست هذه المزاوجة بين الأنتروبولوجية، وما اصطلح عليه أنا بـ "السِيمائيّةِ"، أمراً مُستَهجَناً في مَسارِ علم المنهجة. فقد كنّا ألفينا بعض الدارسين الغربيين، ومنهم كلود ليفي سطروس، كان يزاوج بين الأنتروبولوجيا والبنوية؛ وكما كان يزاوج لوى قولدمان أيضاً بين البِنويّة والاجتماعية.... ونحن لم نجئ ذلك لمجرد الرغبة العارمة في هذه المزاوجة التي قد يراها بعضهم أنها تمّت، أو تتّم، على كُرْهٍ، وربما على غير طهْر!... ولكنّنا جئناه، اعتقاداً منّا أنّ الانطلاق في تأويل الظاهرة الشعريّة القديمة من الموقف الأنتروبولوجيّ هو تأصيل لمنابت هذا الشعر، وهو قدرة على الكشف عن منابعه... وعلى الرغم من أنّ كتابات ظهرت، في العِقديْن الأخيرين من هذا القرن، حول بعض هذا الموضوع، وذلك كالحديث عن الأسطورة في الشعر الجاهليّ مثلاً؛ فإنّ التركيب بين الأنتروبولوجيا والسيمائيّة، في حدود ما بلغناه من العلم على الأقلّ، لم ينهض به أحد من قبلنا. ونحن إنما نُرْدفُ الأنتروبولوجيا السيمائيّة لاعتقادنا أنّ الأولى كَشَفٌ عن المنابت، وبحث في الجذور؛ وأنّ الأخراةَ تأويلٌ لمِرامِزِ تلك الجذور، وتحليل لمكامن من الجمال الفنّيّ، والدلالات الخفيّة، فيها. فلو اجتزأنا بالقراءة الأنتروبولوجيّة (والمفروض أنّ النسبة الصحيحة لهذا الاصطلاح تكون: "الأنتروبولوجويّة"، ولكننا ننبّه إليها، راهناً، دون استعمالها، حتى تألف اللغة العربيّة، العُلَمائيّة، هذا التمطّط الذي يُطيل منها...) وحدها لوقعنا في الفجاجة والنضوب. كما أننا لو اقتصرنا على القراءة السيمائياتيّة (ونحن نريد بهذه النسبة إلى قُصْرِ الإجراءات والممارسات التحليليّة على التطبيقات السيماءويّة...) وحدها، لما أَمنّا أن يُفْضِيَ ذلك إلى مجرّد تأويل للسطوح، وتفسير للأشكال، ووصف للظواهر، دون التولّج في أعماق الموالج، والتدرّج إلى أواخّي المنابت. 5- وإنما فزِعْنا إلى هذه المقاربة الأنتروبولوجيّة- والمُرْدَفة أطواراً بالسيمائيّة- لأنّ النصوص الشعريّة التي نقرؤها قديمة؛ وأنها بحكم قدمها -أو جاهليّتها- تتعامل مع المعتقدات، والأساطير، والزجر، والكهانة، والقيافة، والحيوانات، والوشم، والمحلاّت (6)، وكلّ ما له صلة بالحياة البدائيّة، والعادات والتقاليد التي كانت تحلّ محل القوانين لدينا، لديهم... ونحن نعجب كيف لم يفكّر أحد من قبل في قراءة هذا الشعر، أو قراءة طرف من هذا الشعر على الأقلّ، بمقاربة أنتروبولوجيّة تحلّل ما فيه من بعض ما ذكرنا، أو من بعض ما لم نأت عليه ذكراً.. ذلك بأنّ أيّ قراءةٍ لهذه النصوص الأزليّة، أو المفترضة كذلك (عمرها الآن ستّة عشر قرناً على الأقلّ...)، لا تتخّذ لها هذه المقاربة ممارسة: قد لا نستطيع أن تبلغ من هذه النصوص الشعرية بعض ما تريد. وعلى أنّنا لا نودّ أن يَتَطالَل مُتَطالِلٌ فيزعَمُ، لنا أو للناس، أنّنا إنما نريد من خلال هذه القراءة، تحت زاوية المقاربة الأنتروبولوجيّة، وتحت زاوية المقاربة السيمائياتيّة أيضاً: أنْ نَسْتَبين مقاصد الشعراء.. فذاك أمر لم نرم إليه؛ وذاك ما لم يعد أحد من حذاق منظّري النصوص الأدبيّة ومحلّليها يعيره شيئاً كثيراً من العناية؛ ولكننا إنما نريد من خلال تبيان مقاصد تلك النصوص ذاتها، وكما هي، وكما رُوِيَتْ لنا؛ أو رُويَ بعضها ونُسِجَ بعضها الآخر على روح الرواية الأصليّة وشكلها؛ أي كما وصلتنا مدّونة في الأسفار... ومن الواضح أن من حق القارئ- المحلِّل- أن يؤوّل النصّ المقروء على مقصديّة الناصّ، ولكن دون أن يدّعيّ أن تأويله يندرج ضمن حكم الصّحة؛ إذ لا يستطيع أن يبلغ تلك المرتبة من العلم إلا إذا لابس الناصّ، وألَمَّ إلماماً حقيقياً بأحداث التاريخ التي تلابس النص والناصّ معاً، وعايش لحظة إبداع النص، وتواجَدَ في مكانه، وساءل الناصّ شخصيّاً عمّا كان يقصد إليه من وراء نسج نصّه المطروح للقراءة... ولِمَ قال ذلك؟ ولِمَ وَصَفَ هذا؟ ولِمَ، لَمْ يَصِفْ هذا؟ ولم كثّف هنا، ولم يُسَطّحْ؟ ولِمَ أومأ ولمْ يصرّح؟ أو، لِمَ صرّح ولم يُلَمّح؟ وهذا أمر مستحيل التحقيق.. إنّ تأويل النص قراءة للتاريخ، ولابحثاً عن الحقيقة، ولا التماساً للواقع، كما تدّعي المدرسة الواقعيّة التي تزعم للناس، باطلاً، أنّ الأدب يصف المجتمع كما هو؛ وأنها هي تستطيع أن تفسّره كما قَصَدَ إليه صاحُبه...، ولا طلباً للمَعيشِ بالفعل... ولكنه إنشاء لعالم جديد يُنْسَجُ انطلاقاً من عالم النصّ من حيث هو نصّ؛ لا من حيث مَقْصِدِيّةُ الناصّ من حَيْثُ هو ناصٌّ. ولا سواءٌ تأويلٌ يكون منطلقُه من مَقْصِديَّة النصّ فيقرؤُه بحكم ما يرى مما توحي به القراءة؛ وتأويلٌ يكون منطلقه من مقصديّة الناصّ فيقرؤه على أساس أنّه يتناول حقيقة من الحقائق (ولا نريد أن ينصرف الوهم إلى معنى "الحقيقة" في اللغة القديمة، وقد استعملت في المعلّقات..)، ثمّ على أساس أنه يخوض في أمر التاريخ... -6- لكن لما ذا الضَرْبَ، أو المُضْطَرَبُ، في كلّ هذه المستويات لتأويل قراءة نصوص المعلّقات السبع؟ أَلأَنَّ الأمر ينصرف إلى النصّ الشعريّ، والنصّ صورةٌ إن شئت، ولكنه ليْسَها وحْدَها؛ وهو تَشاكُلٌ إن شئت، ولكنه ليسَهُ وحده؛ وهو لذّاتٌ فنيّة روحيّة إن شئت، ولكنه لَيْسَهُما وحدهما، وهو تجليات جماليّة إن شئت، ولكنه ليْسَها وحدها؛ وهو سمات لفظيّة إن شئت، ولكنه ليْسَها وَحْدَها؛ وهو لَعِبٌ باللغة إن شئت، ولكنه لَيْسَه وحده؛ وهو أسْلبَةٌ وتشكيل إن شئت، ولكنه ليسهما وحْدَهُما؛ وهو فضاء دلاليّ يتشكّل من الصوت وصَدى الصوت، والإيقاع وظِلّ الإيقاع، والمعنى ومعنى المعنى؛ فيحمل كلّ مقوّمات التبليغ في أسمى المستويات...؟ أم لأنّ الأمر ينصرف إلى غير كلِّ ذلك...؟ ولمّا كان الأمر كذلك، كان لا مناص، إذن، من قراءة النصّ الأدبي، بإجْرائِهِ في مستويات مختلفات أصلاً، لكنها، لدى منتهى الأمر، تُفْضي، مُجْتَمعةً، إلى تسليط الضياء على النصّ، وإلى جعل التأويلات المتأوّلة حَوَالَهُ بمثابة المصابيح المضيئة التي تزيح عن النص الظلام، وتكشف عن مغامضه اللّثام.... -7- وممّا لاحظناه في قراءاتنا للمعلّقات أنّ هناك إلحاحاً، كأنه مقصود -أو كأنه دأب مسلوك في تقاليد بنية القصيدة العربيّة؛ أو كأنّه إرثٌ موروث من الأزمنة الموغلة في القِدَم، فيها: على ذكر أماكن جغرافيّة بعينها؛ مما حمل ياقوت الحموي على أن يستشهد، كثيراً، بهذه الأشعار الواردِ فيها ذِكْرُ الأماكن، في اجتهادٍ منه لتحديد الأمكنة في شبه الجزيرة العربيّة، وطرفي العراق والشام. ويبدو أنّ بعض الأمكنة كان من الخمول والغُمورَةِ بحيث لم يكنيعرف إلاّ في ذلك الشعر المستشهد به، ولا يكاد في سَوائِهِ... ويحمل هذا الأمر على الاعتقاد بأنّ شعراء الجاهليّة كثيراً من كانوا يظْعَنون من مكان إلى مكان آخر؛ كما أن الحبيبات اللواتي كانوا يتحدثون عنهنّ، أو يشبّبون بهنّ؛ كُنّ، هنّ أيضاً، بحكم اتسام تلك الحياة بالتّرحال المستمرّ، والتّظعانِ غير المنقطع، يتحملّن مع أهليهنّ... فكان، إذن، ذِكْرُ الأمكنة؛ من هذه المناظير، أمراً مُنتَظراً في أشعار أولئك الشعراء.... -8- وقد لاحظنا وحدة المعجم اللغويّ في نسج لغة مطالع المعلّقات بخاصّة، والشعر الجاهليّ بعامّة، بحيث لم يكن الشاعر، على ذلك العهد، يرعوي في أن يسلخ بيتاً كاملاً من شعر سوائه -إلاّ لفظاً واحداً- كما جاء ذلك طرفة بالقياس إلى امرئ القيس... أمّا سَلْخُ الأعجاز أو الصدور فحدّث عنها ولا حرج. فقد كان الشاعر إمّا أن يتناصّ مع نفسه، كما نلفي ذلك في سيرة شعر امرئ القيس، عبر المعلّقة والمطوّلة، مثل: *فعادى عداءً بين ثورٍ ونعجة (تكرر في المعلّقة والمطوّلة)، *وجاد عليها كلّ أسحم هطّال. (تكررا مرتين اثنتين في المطوّلة) *ألحّ عليها كلّ أسحم هطّال. على أننا نؤثر أن لا نفصّل الحديث عن هذه المسالة هنا، لأننا اختصصناها بفصل مستقلّ في هذا الكتاب. -9- كيف اختار شعراء المعلّقات، وسَواؤُهُمْ من غير شعراء المعلّقات من أهل الجاهليّة، استعمال الناقة في التّظعان إلى الحبيبة عِوَضاً عن الفَرَس؛ وبمَنْ فيهم امرؤ القيس الذي نلفيه يتحدث عن نحر ناقته للعذارى يوم دارة جلجل، ويعود إلى الحيّ، فيما تزعم الحكاية، رديفاً لفاطمة ابنة عمّه...؟ مع أنّ المسافة القصيرة التي كانت تقع بين الحيّ وغدير دارة جلجل يفترض أنها كانت قصيرة: فما منع امرأ القيس من اصطناع الفَرَس في تنقّله ذاك القصير؟ ولِمَ نلفي الفرسان والفُتّاكَ، مثل عنترة بن شداد، هو أيضاً، يتحدث عن ناقته، قبل أن يتحدث عن فرسه؟ فهل كان اصطناع الناقة في الأسفار دأباً مألوفاً لديهم لا يغادرونه، أم أنّ في الأمر سرّاً آخرَ؟ أم أنّ الخيل كانت عزيزة جداً لديهم، أثيرةً في نفوسهم؛ بحيث كانوا يَضِنّونَ بالارتفاق بها في الأسفار، ويذَرونَها مكرّمةً منعّمة للارتفاق بها في الحروب؟ بل لماذا كانوا يصطنعون جيادهم في الطرد، كما نلفي امرأ القيس يذكر ذلك بالقياس إلى جواده الذي يصفه بالعِتْقِ والكرم، وأنه كان سباقاً، وأنه يقيّد الأوابد..؟ فما بالُهُ حين اندسّ لِعَذارى دارة جلجل اصطنع الناقة وهي وئيدة السير، ثقيلة الخطو، مزعجة للتنقّل القريب، وهو الأمير الغنيّ الثريُّ: فأين كان فرسه؟ وما منعه من اصطناعه، وقد كان يفترض أنه يظهر بمظهر الفارس المغامر، وليس أدلّ على الفروسيّة والرجوليّة شيء كركوب الخيل، وحمل السلاح، في منظور المرأة العربيّة على ذلك العهد..؟ -10- ولا يمكن قراءة أيّ قصيدة من الشعر الجاهليّ، بَلْهَ قراءة أشهرِ قصائده سيرورةً، وأكثرها لدى الناس رواية؛ وهي المعلّقات السبع، دون التعرض لمسألة النحل والعبث بنصوصها، والتزيّد على شعرائها، والتصرّف في مادة شعرها: لبعد الزمان، وفناء الرجال، وانعدام الكتاب، وضعف الذواكر، وتدخّل العصبيّة القبليّة، وطفوح الحميّة الجاهليّة، وطفور المذهبيّة السياسيّة: لدى جمع الشعر الجاهليّ بعد أن مضى عليه ما يقرب من ثلاثة قرون من الدهر الحافل بالفتن والمكتظّ بالأحداث، والمتضرّم بالحروب. ولم يكن هناك شعر أدعى إلى أن يُتَزَيَدَ فيه، ويُدَسّ عليه؛ كشعر المعلّقات التي جمعها أحد أوْضَعِ الرواة للشعر، وأَجْرَئِهِمْ على العبث به؛ وهو حمّاد الراوية بعد أن كان مضى على قدم المعلّقات وجوداً ما يقرب من ثلاثة قرون. والآية على ذلك أننّا لاحظنا أبياتاً إسلامية الألفاظ، كثيرة وقليلة، في جملة من المعلّقات مثل معلّقات زهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم... ولنضرب لذلك مثلاً في هذا التمهيد بالأبيات الأربعة، والتي نطلق عليها "أبيات القِرْبة" والمعزوة إلى امرئ القيس في نصّ المعلّقة... فإنها، كما لاحظ ذلك بعض القدماء أنفسهم (7)، مدسوسة عليه؛ وكأنّ امرأ القيس استحال إلى مجرّد صعلوك متشرّد، وضارب في الأرض متذلّل، يحمل على ظهره القراب، ويعاشر في حياته الذئاب.. إننا لا نَقْبلُ بأن تُغْزَى تلك الأبيات الأربعة الصعاليكيّة: وقربةِ أقوامٍ جَعلْتُ عِصامَها على كاهلٍ مِنّي ذَلول مُرَحّلِ ووادٍ كجَوفِ العيرِ، قَفَرٍ، قطعتُه به الذئب يعوي كالخليع المُعَيّلِ إلى امرئ القيس، وذلك لعدم عيشه تلك التجربة، ولأنه كان موسراً غنيّاً، ولم يثبت قطّ أنه كان مضطراً إلى أن يحتمل القراب. بل لا نلفيه، في هذا الشعر يحتمل تلك القراب على ظهره فحسب، ولكنّا نلفيه متعوّداً على حملها، وإنما ذلك شأن الفقراء الصعاليك، وسيرة السفلة والمماليك... ثم لعدم حاجته أيضاً إلى أن يُخَاطِبَ السيَّد حين عوى في وجهه: فقلت له لمّا عوى إِنّ شَأْننَا قليلُ الغِنَى إن كنت لَمَّا تَمَوّلِ كِلانا إذا ما نال شيئاً أفاتَه ومن يحترثْ حرثي وحرَثكَ يهزل ونحن لا نرتاب في أبيات القربة الأربعة فحسب، ولكننا نرتاب، أيضاً، في أبيات الليل الأربعة التي يصف فيها الليل، وأنه كموج البحر في عمقه وظلامه، وهوله وإبهامه، وذلك لبعض هذه الأسباب: أوّلها: إنّ الأبيات الأربعة التي يزعم فيها الرواة الأقدمون- والرواة هنا مختصرون في شخص حمّاد الراوية وحده؛ إذ هو الذي جمع المعلّقات السبع وأغرى الناس بروايتها لما رأى من عزوفهم عن حفظ الشعر (8)- أنّ امرأ القيس يصف فيها الليل، هي أيضاً، لا تجاوز الأربعة، مَثَلُها مَثَلُ الأبيات الأربعة الأخراة التي شكّ فيها الأقدمون أنفسهم وعَزَوْها إلى تأبّط شرّاً (9)؛ ولذلك لم يتفقوا على إلحاقها بشعر امرئ القيس، على أساس أنها تخالف روح سيرة حياته لديهم.. وثانيها: إنّا وجدنا امرأ القيس حين يصف شيئاً يتولّج في تفاصيله، ويلحّ عليه بالوصف، بناء على ما وصلنا من الشعر الذي زعم الرواة الأقدمون أنه له: فنلفيه يصف حبيبته، وقل أن شئت حبيبتيْه- عنيزة أو فاطمة، وبيضة الخدر-، وقل أن شئت حبيباته إذا أدخلنا في الحسبان أمّ الحويرث، وجارتها أمّ الرباب، وعذارى دارة جلجل، وعنيزة، والحبالى، والمرضعات اللواتي كان طَرَقَ قبْلَها، أو قبَلَهنّ، وبيضة الخدر التي جاوز إليها الأحراس، وجازف بحياته من جلالها أمام من كانوا حِرَاصاً على قتله، وشداداً في معاملته. ولقد استغرق منه وصْفُ مغامراته ومعاهراته، مع هؤلاء النساء، سبعة وثلاثين بيتاً ربما كانت أجمل ما في معلّقته. ومن أجمل ما قيل في الشعر العربيّ على وجه الإطلاق. فكأنّها الشعر الكامل. وكأنها السحر المكتوب. وكأنّها الشَّهْدُ المشتار. وكأنّها النص الأدبيّ الكامل: تشبيهاً، ونسجاً، وأسلبةً، وصورةً، وابتكاراً، وجمالاً.. على حين أنّنا ألفينا وصف الفرس يمتدّ في شعره على مدى ثمانية عشر بيتاً. وربما كان وصف الفرس لديه أجمل وصف قيل، هو أيضاً، في هذا الحيوان الجميل الأنيق، في الشعر العربيّ إطلاقاً.. بينما استغرق وصف المطر في معلّقته اثني عشر بيتاً. فما معنى، إذن، أن تستغرق هذه المواضيع الثلاثة، كلّ هذه الأحياز عبر المعلقة المَرْقِسيّةِ، وتمتدّ على كلّ هذه الأَفْضَاءِ، ويَقْصُرُ وصفُ الليل، وحده، فلا يجاوز أربعة أبيات، كما يقتصر وصف القربة، وقطع الوادي الأجوف ليلاً، ومخاطبة الذئب، على أربعة أبيات، فقط أيضاً، ولِمَ كان الملك الضليّل طويل النفس في بعض، وقصيَره في بعضٍ آخرَ؟ وآخرها: إنّ وحدة القصيدة تأبى أن يُقْحَمْ وصْفُ الليل: وأنه موقر بالهُمُوم، مُثْقَلٌ بالخطوب؛ وأنه كان يبتليه بما لا يقال، ويضربه بما لا يتصوّر: بين وصف الحبيبات الجميلات، وذكر الملذّات الرطيبات، ووصف الفرس الذي لم يركَبْه امرَؤُ القيس للذاته يوم دارة جلجل؛ ولكنه امتطي مطيّته التي نحرها للحسان، فيما تزعم تلك الحكاية العجيبة.... فما معنى، إذن، ذكر الهموم والأتراح بين التشبيب والطرد؛ بين لذّات الحبّ، ولذّات الصيد؟ -11- كان أستاذنا الدكتور نجيب محمد البهبيتي حَكَمَ- كما سنناقشه في المقالة التي وقفناها على متابعة المرأة، بما هي أنثى، في المعلّقاتُ السبع، ضمن هذا الكتاب- برمزيّة المرأة، وبرمزيّة أسماء النساء في الشعر الجاهليّ (10) الذي المعلّقاتُ واسَطِةُ عِقْدِهِ. بينما ألفينا الدكتور علي البطل يعلّل الأسماء في الجاهليّة تعليلاً معتقداتيّاً (11)؛ بينما نجد أبا عثمان الجاحظ يذهب إلى غير ذلك سبيلا؛ فيرى أنّ ذلك لم يكن مرجعه إلى معتقدات دينيّة خالصة، ولكن إلى معتقداتية خرافية حميمة. وكانوا يأتون ذلك على سبيل التفاؤل والتبرّك، وخصوصاً لدى تبشيرهم بميلاد الذكور. فكان الرجل منهم "إذا ولد له ذكر خرج يتعرّض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنساناً يقول حجراً، أو رأى حجراً سمّى ابنه به، وتفاءل فيه الشدّة والصلابة، والبقاء والصبر، وأنه يحطم ما لقي. وكذلك إن سمع إنساناً يقول ذئباً، أو رأى ذئباً، تأوّل فيه الفطنة والخبّ، والمكر والكسب. وإن كان حماراً تأوّل فيه طول العمر والوقاحة، والقوة والجلَد. وإن كان كلباً تأوّل فيه الحراسة واليقظة وبعد الصيت، والكسب، وغير ذلك (....).. ووجدناهم (...) يسمّون بقمر، وشمس، على جهة اللقب، أو على جهة المديح..." (12). وممّا يقرّر الجاحظ حول هذه المسألة أنّ العرب كانت تفزع إلى مثل هذه الأسامي على سبيل التفاؤل، لا على سبيل المعتقدات التي يحاول بعض الباحثين المعاصرين تأوّلها (13)، وبرهاناتُهمْ على ذلك أدنى الوَهَن منها إلى الآد، وحججهم في ذلك أقرب إلى الضعف منها إلى القوة. ذلك بأنّ نصوصهم، في سعيهم، لا تكاد تذكر مع مثل هذه النصوص التي تتجسّد في مثل كلام الجاحظ، إذ ممّا يقرره أنه إذا: "صار حمار، أو ثورٌ، أو كلبٌ: اسمَ رجلٍٍ مُعظّم، تتابعت عليه العربُ تطير إليه، ثمّ يكثر ذلك في ولده خاصة بعده" (14). وواضح أنّ هذا الأمر، في التسمية، لا يبرح قائماً إلى يومنا هذا؛ فما هو إلاّ أن يشتهر زعيم من الزعماء، أو سياسيّ من الساسة، أو بطل من الأبطال، أو مصلح من المصلحين، أو مغنّ من المغنّين، أوعالم منالعلماء، أو أديب من الأدباء.... وإذا الناس يتهافتون على اسمه يسمّون به أولاهم: تبركاً وتحبباً، وتفاؤلاً وتشبّهاً. ولا يرى الجاحظ أنّ العرب إنما كانت تسمّي أولادها بمثل قمر وشمس على سبيل المعتقد بهذين الكوكبين الاثنين، أو على أساس أنّ العرب كانت تعبدهما وتقدّسهما، ولكنّ ذلك كان منها "على جهة اللقب، أو على جهة المديح"(15). -12- وعلى أننّا لا نريد أن يعتقد معتقد أنّا نرفض الترسبّات الدينيّة، الوثنية خصوصاً، والسحريّة، والمعتقداتية في الشعر الجاهليّ، كلّه أو بعضه؛ ولكن ما لانريد أن يعتقده معتقد هو أنّنا لا نميل إلى هذا التحمس، وهذا التحفز؛ وإلى الذهاب، بأيّ ثمن، إلى ذلك التعليل الأسطوري للصورة الشعريّة، وللوقائع، وللّغة... فقد كان الأعراب أغلظ أكباداً، وأحرص على التعامل في حياتهم اليوميّة بواقعها الشظف، ورتابتها المحسوسة، مع المادّة - من أن يقعوا فيما يريد أن يوقعهم فيه، على سبيل الإرغام، بعضُ الناقدين المعاصرين، وذلك بالذهاب إلى أنّ كلّ ما هو شمس أو قمر، أو ثوراً وبقر، أو عيراً وظبي، أو نمر أوكلب، أو ثعلب أو عجل، أو ليث أو ضبّ- ممّا كانوا يقدسونه فيما غَبَر من الأزمان، ومر من الدهْرِ الدَّهارير: لم يكن يدلّ بالضرورة على التمسّك تمسّكاً دينيّاً أو روحيّاً بتلك المعتقدات الوثنيّة؛ وإلاّ فماذا سيقال في النباتات والأشجار، والسحب والأمطار، والرمال والأنهار...؟ وإنما كانوا يسمّون أبناءهم بما كانوا يرون في بيئتهم البدويّة الشظفة: أنّه هو الأيّدُ الأقوى، أو الأشدّ الأبقى: سواء في ذلك الشجر والحجر؛ وسواء في ذلك الحيوان والهوامّ. على حين أنهم كا نوا يُؤْثِرونَ لعبيدهم الأسماء الجميلة الأنيقة اللطيفة مثل صبيح، ورباح.... ذلك بأنّ الأسماء التي تُرْعِبُ وتُخيف كانوا يرون بأنها قَمَنٌ بأن تُفْزِعَ يوم الوغى، وتُرْهِبَ في مآقِطِ النِزال، بالإضافة إلى ما كانوا يريدون أن يميلوا إليه من التفاؤل بالشيء لمجرّد منوحه لهم (16). -13- وممّا لا نوافق الدكتور البطل علىالذهاب إليه حول هذه المسألة حِرْصُه على الرجوع إلى أبعد الأزمنة إيغالاً في القدم، ثمّ إخضاع تلك الفترة إلى ما يطلق عليه "الفترة الطوطميّة" التي يحيل فيها قُرَّاءَه على الرجوع إلى الدكتور جواد عليّ الذي كان بسط هذه النظريّة الأنتروبولوجية بناء على تنظيرات مكلينان، وليس بناء على تنظيراته هو (17). وإنما كان الأولى أن يحيل قراءه على الأصل الذي هو جون مكلينان الذي تعود محاولاته النظريّة إلى سنة تسع وستين وثمانمائة وألف للميلاد حيث كان نشر بعض المقالات التي نبّه فيها إلى ما أطلق عليه الطوطميّة (18). لكن لم يلبث أن جاء فرازر فنشر كتابه المؤلف من أربعة مجلدات انتقد فيها ماكلينان حيث اغتدت الطوطمية لديه: "مؤسسة ذات خصوصيّة من المعتقدات البدائية وهي تتناقض (....) مع التفكير الدينيّ، كما كان يريده وليم روبرتصون سميث، ومع التفكير العقليّ الذي كان يعتقد فرازر أنه كان الناطق باسمه، في آن واحد"(19). وعلى أنّ الانتروبولوجيين انتقدوا انتقاداً شديداً تنظيرات فرازر، وفي طليعتهم الأسكندر قولد نويزر الذي رأى انّ إدراج ثلاث ظَواهِر في عِقْدٍ واحد من الزمن ضئيل العلميّة.. (20). وأياً كان الشأن؛ فإن الطوطمية في مفهومها الأدنى والأشهر،تعني وجود العبقرية الراعية (21) التي ينشأ عنها "الأنظمةُ الطوطمية" (22)، والتي حاول بعض العلماء تطبيقها على المجتمعات البدائية في استراليا، وأمريكا... ولكننا، نحن، لا نحسبها ممكنة الانطباق على المجتمع العربيّ قبل الإسلام، بحذافيرها... إنّ هناك دعائِمَ أربعاً تنهض عليها هذه النزعة الأنتروبولوجية، ولا تَوْفُرُ في الأسامي العربية القديمة وفوراً كاملاً؛ لأن الجاحظ وهو الأعلم بعادات العرب وتقاليدها، والأقرب إليها عهداً، والأدنى منها زمناً، والألصق بها نَسَباً؛ لم يذكر أنّ العرب كانت تسميّ أبناءها بأسماء الحيوانات على سبيل التقديس والتبرك؛ ولكنّ ذلك كان "على جهة الفال" (23)، وعلى سبيل حفظ نسب الجدّ، "وعلى شكل اسم الأب، كالرجل يكون اسمه عمر فيسمّي ابنه عميراً.. " (24). والآية على عدم ثبات مزعم الذين يزعمون بطوطميّة الأسماء العربية على عهد ما قبل الإسلام أنّ العرب كانوا يتسمون "أيضاً بأسماء الجبال: فتسموا بأبان وسلمى"(25). بل أنهم قد "سمّوا بأسد، وليث، وأسامة، وضرغامة، وتركوا أن يسمّوا بسبع وسبعة.وسبع هو الاسم الجامع لكلّ ذي ناب ومخلب" (26). إنّ من أصول الطوطميّة الأربعة تحريم أكل الحيوان المقدّس، والشجرة المباركة؛ بينما لم تكن العرب تتحرج في أكل أيّ من الحيوانات وثمر الأشجار التي كانت تسمّي بها أبناءها. وواضح أنّ الزجر من المعتقدات العربيّة الحميمة التي لا نكاد نظفر بها في الفكر البدائيّ لدى الإغريق، وقدماء المصريّين، والبابليين، والكنعانيين على هذا النحو الذي وقعنا عليه في النصوص الأدبيّة والتاريخية العربيّة. فليس الزجر سحراً، ولا ديناً، ولا حتّى معتقداً حقيقياً، ولكنه نحو من السلوك قام في معتقداتهم فسلكوه.. وأمّا تقديس الثور فإننا نلفيه في بعض الأساطير الكنعانيّة، حيث "كان الثور هو الحيوان المقدّس"(27) لدى الكنعانيّين. وربما لم تعبد الشمس في شمال الجزيرة قطّ، لأنّنا لم نعثر على صنم من أصنامهم هناك كان يمثّل على الحقيقة التاريخية الدامغة، الشمس المعبودة التي عبدت في مأرب على عهد الملكة بلقيس، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم [28]. وما نراهم قد تسمّوا به من مثل عبد شمس لعله لم يك إلاّ أثراً شاحباً لذلك التوهج الوثنيّ القديم الذي محاه الزمن، ودرسه الدهر حيث أنّ بلقيساً كانت تعيش في القرنين، الحادي عشر، والعاشر قبل الميلاد. "وقد كانت العرب- كما يقول ابن الكلبي- تسمّي بأسماء يعبّدونها؛ لا أدري أعبّدوها للأصنام، أم لا؛ منها "عبد ياليل" ، و "عبد غنم"، و "عبد كلال"، و "عبد رضى" (29). ومن الغريب حقاً أنّ الأساطير تذكر أن الكنعانيين كانوا يقدسون الثور؛ وفي الوقت ذاته نلفي الإله "بعل" يذبح لشقيقته عناة "ثوراً ويشويه؛ فتأكل؛ ثم تغسل يديها بالندى والماء" (30). إن هي، إذن، إلاّ أساطير في أساطير، والذي يحاول أن يستخلص منها علماً، أو يستنبط منها أحكاماً تاريخية، سيتورط في فخّ أسطوريتها فلا يفلح في بحثه، ولا يهتدي في أحكامه... ويرى الدكتور البطل بأن العرب لم يكونوا، في الأزمنة الغابرة، "أصحاب حضارة زراعية يعتدّ بها (....) ولعل هذا هو سر اتجاههم إلى الشمس وهي أظهر ما في حياة الصحراء، خالعين عليها صفة الأمومة؛ فاعتبروها الربة، والآلهة الأم. ولعل هذا هو سر تأنيث الشمس في اللغة العربية على عكس اللغات التي ربطتها بإلهٍ ذكر"(31): فالأولى: أن تأنيث الشمس، في اللغة العربية، لا حجة فيه على الأمومة، ولا على الإخصاب؛ لأن هناك أمماً أخراة ربما كانت تعبد الشمس، وهي، مع ذلك تذكّرها، فالتذكير والتأنيث، في اللغة، لا ينبغي له أن يخضع، في كل الأطوار، للمعايير التي يبني عليها الدكتور البطل حكمه. والثانية: أن الماء من الأمور التي لفتت عناية الإنسان القديم، ومع ذلك نلفي الماء مذكّراً، في اللغة العربية، وهو رمز للإخصاب، أكثر بكثير من الشمس (وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ) (32): حتى أن ملك الروم كان بعث إلى معاوية بقارورة وقال له: "ابعث إليّ فيها من كل شيء" (33)، فملأها له ماء. فقال ملك الروم لما وردت عليه: "للّه أبوه ما أدهاه" (34)؛ وذلك على أساس أن اللّه جعل في الماء كل شيء... وإن كنا نلفي هذا الماء مؤنثاً في كثير من اللغات الأخراة كالفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية... والثالثة: أن العرب لم تكن تؤنث الأشياء والظواهر للتعظيم والتقدير، في كل الأطوار؛ ولذلك قال أبو الطيب المتنبي: ولو كان النساء كَمَنْ فقدَنْا لفُضِّلَتْ النساءُ على الرجالِ وما التأنيثُ لاُسْمِ الشمسِ عَيْبٌ ولا التذكيرُ فخْرٌ لِلْهلالِ (35) وقد خاطب الله الكفار حين جعلوا له بناتٍ (أفرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزَّى، ومَنَاةَ الثالثةَ الأُخْرى. ألَكُمُ الذّكَرُ وله الأُنُثَى؟ تلك إِذَنْ قِسْمَةٌ ضِيزَى" (36). والرابعة: إنّ المشركين حين اتخذوا اللاّت يعبدونها من دون الله في الطائف وما والاها إنما "اشتّقّوا اسمها من اسم الله، فقالوا: اللاّتَ، يعنون مؤنّثة منه، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا"(37). ويؤيّد ذلك ما ذهب إليه الزمخشري في تفسير بعض هذه الآيات حين قرر: "إنّ اللاّت والعزّى ومناة: إناثٌ، وقد جعلتموهنّ لله شركاء، وما شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يُولدْنَ لكم، ويُنْسَبْنَ إليكم: فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله وتسمّونهنّ آلهة؟" (38). وإذن، فلا يمكن أن يكون التأنيث للشمس تفخيماً لها وتعظيماً ، ولا تقديراً لها وتقديساً. ولو كانوا أرادوا إلى ما أراد إليه الدكتور البطل، وبناء على بعض ما رأينا من أمر هذه الآيات الكريمات، وما استنبطنا من تفسيرها: لكانوا، في رأينا، ذكّروها، لا أنّثوها. فقد سقطت، إذن، تلك الحجة؛ ووهن: إذن، ذلك البرهان. والخامسة: إنّا لا نعتقد أنه كان للمرأة العربيّة، على عهد ما قبل الإسلام، مكانةٌ محترمة، ومنزلة اجتماعية تتبوّؤُها إزاء الرجل الذي يطلّقها لأوهى الأسباب، وكان يطلبها للفراش لا للعِشْرة؛ فلمجرّد أن حكمت أمّ جندب لعلقمة الفحل على أمرئ القيس بادَرَ إلى تطليقها (39). والسادسة: وأمّا مسألة عبادة الأرض، وأنّ المجتمعات الزراعيّة العتيقة "عبدت الأرض بوصفها أماً" (40)؛ فإنّ الإنسان البدائيّ عبد الأحجار، والأشجار، والشمس والقمر، والأرض والسماء، والحيوانات، والريح، وكل، مظاهر الطبيعة... فلا حجّة فيه على أنّ ذلك باقٍ في الصورة الشعريّة لما قبل الإسلام. فصنم "اللاّت" بينما يزعم بعض المفسريّن (41) أنه مؤّنث الله في لغتهم ومعتقداتهم جميعاً؛ كان الآخرون من المفسرين يرون أنّ اللاّت "كان(....) رجلاً يَلُتُّ السُّويْقَ، سويق الحجّ" (42). كما روى "عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن أنس، أنهم قرأوا "اللاّت" بتشديد التاء وفسّروه بأنّه كان رجلاً يلتّللحجيج في الجاهلية السويق، فلمّا مات عكفوا على قبره، فعبدوه "(43). فالمعبودات لم يكنَّ نساءً فحسب؛ ولكنْ كُنَّ رجالاً أساساً. بل إنّا أصنام العرب يغلب عليها التذكير أكثر من التأنيث. والسابعة: وأمّا اعتبار العرب أنهم ليسوا "أصحاب حضارة رزاعيّة يعتدّ بها "فإنا لا ندري كيف يمكن تناسي اليمن السعيد، وهو مهد العروبة، ومحْتِدُها الأوّل، وما كان فيه من زراعة نوّه بها القرآن (44)؛ وحيث كان سدّ مأرب العظيم قبل أن ينفجر؛ وحيث الجنتان عن يمين وشمال؛ وحيث البلدةُ الطيبة، والتربة الخصبة؛ وحيث الربُّ الكريم الغفور، وحيث كانت المرأة اليمنيّة "تمشي تحت الأشجار، وعلى رأسها مكتل أو زنبيل، وهو الذي تخترف فيه الثمار، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يُحْتاج إلى كلفة ولا قطاف؛ لكثرته ونضجه واستوائه" (45)؛ وحيث، كما يقرر ابن عباس كانت بلاد اليمن "أخصب البلاد وأطيبها: تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها وتسير بين الشجر، فيمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر" (46). أم لم يكن اليمن عربيَّ الأرض، عريق العروبة؟ أم لم يُبْنَ فيه أوَّلُ سدٍّ في تاريخ الزراعة على وجه الاطلاق؟ وإذن فكيف يمكن تَجْريدهمُ ممَّا هو ثابت لهم بالأخبار المتراوية، والآثار المتتالية، والوحي المنزّل، والتاريخ المفصّل؟ ومن الغبن العلميّ أن يحاول محاول بناء مسألة على هواء، وإقامتها على فراغ، بعد أن تستهويه استهواء، وبعد أن تشدّه إليه شدّاً؛ فيجتهد في أن يجعل من الحبّة قبّة، ومن القليل كثيراً، ومن العدم وجوداً.... وقد أحسسنا بشيء من ذلك ونحن نقرأ الدكتور البطل وهو يشقّ على نفسه، ويُعْنتُها ويُضْنيها، لإثبات ما لا يمكن إثباته باليقين الدامغ، والتاريخ الناطق، فيُحسُّ ببعض الخيبة في قرارة نفسه، فيقرر: "و لانقصد بهذا أنّ شعر هذه المرحلة المتأخّرة من تاريخ العرب، يحمل لنا في صورة الدين البدائيّ القديم، فقد كانت كثرة هذه الطقوس قد درست ولم يبق منها إلاّ آثار باهتة حتّى في الممارسات الدينيّة؛ ولكننا نرى أنّ الصور المتّرسبة في الشعر من الدين القديم هي من آثار احتذاء الشعراء لنماذج فنيّة سابقة، لم تصلنا، كانت وثيقة الصلة بهذا الدين..." (47). ونحن نوافق الدكتور البطل على بعض ما أثبتناه له هنا لأنه عين الحقّ، وخصوصاً قوله: "فقد كانت كثرة هذه الطقوس قد درست ولم يبق منها إلاّ آثار باهتة حتّى في الممارسات الدينيّة. وهو عين الحق؛ لأنّ التاريخ العربيّ القديم دَرَسَ وباد، ولم يعد يُرْوى ولا يُعاد: فقد بادت طسم، وجديس، وجرهم، والعماليق، وعاد، وثمود... فمنهم من تفانوا فيما بينهم في حروب مدّمرة لم تُبْقِ منهم ديَّاراً، ولا تركت لهم آثاراً؛ ومنهم من سلّط الله عليهم العواصف الهوجاء، والأمطار الطوفانيّة فأبادتهم؛ ومنهم من فنوا بتهدّم سدّ مارب(سيل العرم)، فلم يصلنا مما قالوا إلاّ أقلّة، ولم يبق للتاريخ من معتقداتهم القديمة، ومعقتدانهم الوثنية، إلاّ مظاهر شاحبة لا تسمن من جوع، ولا تروى من ظمأٍ؛ فألفينا الأقدمين يفزعون لملء الفراغ التاريخيّ الهائل إلى أساطير التوراة، وأكاذيب يهود... بينما ألفينا المحدثين يصطنعون افتراض الفروض طوراً، ويفزعون إلى الاحترافيّة الفكريّة، واصطناع الإجراءات التأويليّة طوراً آخر: من أجل التوصّل إلى نتائج يقيمونها، في كثير من أطوارهم، على افتراضات تنقصها الشروط المنهجيّة لفرض الفروض، أو على نصوص واهِيَة التاريخيَّةِ. وفي الحاليْن الاثنتَين لا نجد من يقنعنا في غياب النصوص التاريخيّة التي لم تكتب عن العرب قبل ظهور الإسلام، إذ لم يسرع الناس في التأليف، وجمع الأخبار بكيفيّة مستفيضة إلاّ ابتداء من القرن الثاني للهجرة.... وحين جاؤوا يكتبون تاريخ العرب: الأيام، والشعر، واللغة، والأديان: تكأَّدَهُمْ ذهابُ الذين كانوا يحملون هذا الشعر، وتلك الأخبار. ولقد سُقِطَ في أيدي بعض القبائل التي ضاع شعر شعرائها، أو لم يكن لها، في الأصل، إلاّ شعراً قليل، فعَمَدتْ إلى النحل... كما صادف الرواة المحترفون في تعطّش الناس لأخبار أهل الجاهليّة مصدراً للرزق الكريم، ومنزلة للعز المنيع؛ فكان حمّاد الراوية يعيث في الشعر العربيّ فساداً على مرأىً ومسمع من العلماء الذين قصروا عن إصلاح أمره... وإذا عجزوا هم عن إصلاحه، وكان الزمن الجاهليّ لا يبرح طرياً رطباً، فمن المستحيل علينا نحن اليوم إصلاحه... (48). ولم يكن الأصمعيّ الثقة العالم بقادر على إصلاح ما كان أفسده أستاذه خلف الأحمر الذي لازمه عشْرَ سنين؛ مثله مثل أبي عمرو بن العلاء العالم الثقة المتحرّج الذي كان يتردد ويتألّم ويتحرج، لأنه كان يعلم أنّ ما انتهى إلينا مما قالت العرب إلاّ أقّلُّهُ، ولو جاءنا وافراً لجاءنا "علم وشعر كثير" (49). -14- والذي يعنينا في كلّ ما أوردناه في الفقرة السابقة، وما ناقشنا به الصديق الدكتور عليّ البطل، أنّ تعليل التسميّة تعليلاً دينيًاً ليس أمراً مسلمّاً. ومن الأولى التفكير في تعليلها تعليلاً يقوم على التفاؤل والتبرّك، كما قرر ذلك أبو عثمان الجاحظ. ذلك، وأنّا عايشنا هذه المعلّقات السبع العِجَابَ أكثر من سنتين اثنتين: ظَلْنَا، خلالَهُما، نقرؤُها، ونعيد قراءتها، حتّى تجمّع لدينا مقدارٌ صالح من الموادّ ممّا لو جئنا نحلّله كلّه لكان هذا العمل خرج في مجلّدين اثنين على الأقلّ؛ بالإضافة إلى الموادّ الأخراة الكثيرة التي ينصرف شأنها إلى الشعر الجاهليّ بعامّة، والتي قد نعود إليها يوماً لبلورتها، وإخراجها للناس. ولغزارة المادّة المصنَّفة، والمنبثقة عن قراءات نصوص المعلّقات السبع، ورغبة منّا في أن لا يكون الكتاب الذي نقدَّم بين أيدي الناس أضخم ممّا يجب، وأطول ممّا ينبغي: ونحن نحيا عصر السرعة، والميل إلى القليل المفيد: ارتأينا أن لا يزيد تقديمها على أكثر من عشر مقالات كلّ مقالة تعالج مستوىً بذاته، أو محوراً بعينه: مثل إثنولوجيّة المعلّقات، وبنية الطلليات المعلّقاتيّة، وفكرة التناص في المعلّقات، والصناعات والحرف، وطقوس الماء، والمرأة، وجماليّة الإيقاع، وجماليّة الحيز... وهلّم جرّا. ذلك، وأنّا كنّا أزمعنا على تقديم فهارس تتناول من الحقول ذات العلاقة بالأنتروبولوجيا، لدى نهاية هذه الدراسة: ترصد بعض الظواهر التي لم نتمكّن من بلورتها، أو تحليلها في ثنايا هذه الدراسة مثل الألفاظ الدالّة على الزراعة، والزينة (أي الملابس والعطور والحليّ)، والألوان، والأديان، والمعتقدات، والألعاب... ثمّ أضربنا عن ذلك لمّا رأينا حجم الكتاب طال، وموادّه اتّسعت... -ولعلّنا أن نأتي ذلك في الطبعة الثانية إن شاء الله....
فعسى أن نكون قد وفّقنا إلى إضافة لبنة صغيرة، جديدة، إلى ذلك الصرح الأدبيّ الشامخ. |
|||
2012-02-11, 17:00 | رقم المشاركة : 8 | |||
|
|
|||
2012-02-11, 17:05 | رقم المشاركة : 9 | |||
|
قفا نبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزِلِ بِسقْطِ اللِّوى بين الدّخول فَحَومَلِ قائمٌ نسْجُه على ذكر الأمكنة، والحنين إليها، والازدلاف منها، والبكاء عليها، وبالتلذّذ بتردادها: فقرِنَتْ الحبيبة الذاهبة بالحيز الباقي، وبُكِيَتْ الراحلة بالمكان الدارس، والرسم البالي. ففي هذا البيت الذي يكمّله صِنْوُهُ الذي يليه، تصادفنا سلسلة من الأحياز الشعرية كأنّ النّاصّ كان يحرص أشدّ الحرص على أن يحدّد لنا من خلالها دار حبيبته، وموطن حبه، ومَسْقَطَ ذكرياته -أو لم نجده يُمَوقِعُ دار هذه الحبيبة بهذا المكان الذي لاتعرف الجغرافيا عنه شيئاً يذكر- وهو سِقْط اللِّوى- وإن كان الشعر قد يعرف عنه شيئاً يذكر...؟ ثم ألم تَمَوْقَعْ هذه الدار بين أربعة أمكنةٍ أخراةٍ كيما تكون هي واسطة عِقْدِها، ومركَزَ مَواقِعِها...؟ إنّ الشاعر العربيّ القديم لم يكن قادراً على قيل الشعر خارج المكان الذي كان يملأ عليه نفسه وروحه، ولا بالتخيّل خارج حبل الحنين العارم الذي كان يشدّه إلى هذا المكان شدّاً؛ فكان المكان، بالقياس إليه، بمثابة المادّة الكريمة التي يستمدّ منها إلهامه؛ بينما كانت الحبيبة، التي تقطنه، ثم تحمّلت عنه وزايلته إلى غير إياب، هي ينبوع الإلهام الثّرّ الذي كان يستلهمه: فيجهش بالبكاء، وتتبجّس نفسه بالحنين، ويطلق لسانه في الوصف، ويرسل ذاكرته مع الزمن الذاهب، والعهد الغابر، ثم لا يزال ينسج على الذكرى، والبكى، والحنين، نسوجاً متفرّعة عنها تقوم في وصف الناقة التي بفضلها استطاع أن يَعُوجَ على حيز الذكرى، ويَمرَّ دار الحبيبة المتحمّلة. كما تقوم في وصف البقرة الوحشية التي كانت تذكّره عيناها بعينيها؛ وفي وصف الرئم الذي كان يذكّره بياضه ببياضها، وجيدُه بجيدها، ورشاقته برشاقتها.... فحتى ما قد يَبدو، لأول وهلة، منفصلاً عن ملحمة المكان، بعيداً عن مناسبته، هو في حقيقته مُنْطَلقٌ منه، صابٌّ فيه، مُفْضٍ إليه. فلولا الناقةُ لما استطاع الشاعر الجاهليّ أن يعوج على طلل الديار المُقْفِرَةِ. ولكن ما كان ليكون لهذه الناقة شأنٌ لو ضربت به في أقاصي الأرض الشاسعة دون المَعاجِ على ذلك المكان الذي لم يكن يتجانَفُ عنه؛ وإنه كان، فيما يبدو، يتعّمد الجنوح له، والمَيْل عليه. ذلك، وقد ذهب جميل صليبا إلى أنه لا تمييز في المعنى بين المكان والحيز(3). والأسوأ من ذلك أنه ذكر لفظ (espace) مرادفاً للمكان في عنوان مقالته، ثم لم يلبث، من بعد ذلك، أن أطْلَقَ عليه "المحل" أيضاً، وكتب مُقابِلَه الفرنسيّ بين قوسين وهو (lieu): ليتضح المعنى في الذهن، وليتبدّد الغموض من العقل. ونحن لا نوافقه على ذلك: 1- لأننا نرى أن المكان لا ينبغي أن يكون مرادفاً للفظ الفرنسي (espace) والانجليزيّ (space) والإيطاليّ (spazio)؛ إذ لا أحد من عقلاء الأمم الغريبة يطلق (le lieu) على (L’espace) ولا ( L’espace) على المكان إن ( Lelieu ) ليس المحلّ بالمفهوم الضيق، وإنما هو المكان. وقد ألفينا الشيخ يعقد مادة أخراة في معجمه، تماشياً مع معجمات الفلسفة العالمية، تحت عنوان: "الأين" ويترجمها أيضاً بـ (lieu)(4). بيد أنه يلْبِسُه، تارة أخراة، بالحيز. ولم نجده خصّ هذا المصطلح بمادة على حدةٍ، كما كنا رأينا، حيث تناوله تحت مصطلح "المكان" الذي يبدو أنّ مفهومه ظلّ يلتبس، في المقررات الفلسفية العربية، بالمحلّ والحيز التباساً شديداً على الرغم من وجود بعض الإشارات التي توحي، في مقررات الفلاسفة المسلمين، بجزئيّة الأين، وكلية المكان. وكنّا نودّ لو أنّ مصطلح (espace) ترجم تحت مصطلح الحيز الذي نتعصب له وننضح عنه، ومصطلح (lieu) تحت مصطلح المكان. وكنّا نودّ لو أنهم دقّقوا في شأنه تدقيقاً صارماً في ضوء المفاهيم الفلسفية المعاصرة التي بلورت إلى حدّ بعيد. وبدون ذلك، وفي انتظار ذلك أيضاً، سيظلّ الالتباس شأننا، والخلط سيرتنا، في اصطناع هذه المفاهيم التي هي موجودة، أصلاً، في التراث الفكري العربي الإسلاميّ؛ وإنما الذي ينقصها هو التطوير والتدقيق، والتوسعة والبلورة. وإذن، فإننا نعتقد بسوء الترجمة التي اجتهد فيها جميل صليبا فاتخذها مقابلاً للمصطلح الغربي (Espase).وقد نشأ عن هذا المنطلق الذي نعتقد أنه خاطئ، تصوّر خاطئ، والشيخ يعرف هذا حقّ المعرفة. وفي هذه الحال، قد يكون مصطلح "الفضاء" حين يتخذه النقاد العرب المعاصرون مرادفاً لـ (l’espace): أهون شرّاً، وأخفّ ضرّاً، وإنما تردّدنا، نحن، في متابعة أولاء النقاد في اصطناع هذا المصطلح لما أحسسناه، من الوجهة الدلالية، من سعة معناه؛ فهو عامّ جداً. وإذا كان النقاد الغربيون يصطنعون مصطلح (l’espasce)، فلأنهم لا يريدون به حتماً إلى المكان، ولا إلى الفضاء بمعناه الشامل أيضاً؛ حيث كيّفوه فصرفوه في مصارف ضيقة فأفادوا من هذا الصرف. من أجل كلّ ذلك ترجمناه نحن بـ "الحيز" (5) لاعتقادنا بأنه بمقدار ما هو ضيّق الدلالة أو دقيقها حين ينصرف الشأن إلى معنى المكان؛ بمقدار ما هو أشدّ تسلطاً، وأقدر قدرة على التنّوع الدلاليّ الذي وضع له بحيث لا يمتنع في الغرب، كما لا يمتنع في دلالة الحيز، بالمعنى الذي نريده له، أن يتمطّط ويتمدّد، ويتشعّب ويتبدّد، ويتحرك نحو الوراء كما يمكنه أن يتحرك نحو الأمام، ويَصَّاعَدَ إزاء الأعلى كما يهوي إزاء الأدنى: ينكمش كما ينطلق، ويتقلّص كما يتطالل. وقد تعامل الفلاسفة المسلمون، ولكن بشيء من الغموض الذي لايُنْكَر؛ فهو لدى ابن سينا مثلاً: "السطح الباطن من الجرْم الحاوي المماسّ للسطح الظاهر للجسم المَحّوِيّ" (6). فالمكان لدى ابن سينا إذاً: سطح يتفرع عن السطح الأصليّ (الظاهر) الذي يَظْرِفُ الجسم (ولعل الجسم هنا بالمفهوم الفيزيائي، لا بالمفهوم المعجميّ البسيط). فكأنّ المكان لديه جزء مِمَّنْ، أو ممّا، يتجزّأ في المكان. أو قل: هو بعضٌ أدنى، لكلّ أعلى؛ أو جزء باطن، لكلّ ظاهر. فالحيز لديه (وذلك إذا حقّ أن نمرق به عن المتصوّر في ذهن ابن سينا أصلاً) كأنه مجرد هيئة محدودة في المكان؛ فالمكان أعمّ منها وأشمل؛ فما قولك في الفضاء الذي زعمنا أنه أوسع سعةً في الدلالة من المكان. ولو ذهبنانتلطّف في قراءة تعريف ابن سينا للمكان لألفيناه يدنو به إلى أدنى مستواه الدلاليّ. وكأنه كان يريد به، في منظورنا، إلى الحيز فطفر في تعبيره المكان. وأيّاً كان الشأن، فإنّ المكان لدى جميل صليبا هو الحيز نفسه بصريح عبارته (7). لا فرق بينهما و لاتمييز. ولا اختلاف في معناها ولا ابتعاد. هذا ذلك، وذلك هذا. فأيّما مفكّرٍ اصطنع الحيز فهو إنما يريد، أو يجب أن يريد، إلى معنى المكان. وأيّما ناقد استعمل المكان في كتابته، أو تفكيره، فهو إنما يريد غالباً إلى الحيز. وهذا أمر لانتفق معه عليه. وإذا كان علماء الكلام كانوا يرون أنّ الحيز، أو المكان (ما دام الفلاسفة العرب المسلمون، فيما يبدو، لم يميزوا المكان من الحيز، ولا الحيز من المكان بدقّة معرفية صارمة) هو "الفراغ" المتوهّم الذي يشغله الجسم، وينفذ فيه أبعاده"(8)؛ فإننا نلاحظ على هذا التعريف: 1-أنهم يصطنعون "الفراغ المتوهم"، وكأنهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك إلى أنّ الحيز لا يَرِدُ على الحقيقة؛ وإنما يَرِدُ على التخيّل والتوهُّم. وكأنه ينشأ عن هذا أنّ هذا التعريف أليق بالحيز كما نتمثله نحن في الأدب، منه بالفلسفة التي تنشد الدقة والإحاطة والصرامة والشمول الذي لا يغادر شيئاً ولا يتّركه إلاّ قرّره وناقشه. 2-إنّ هذا "الفراغ المتوهّم" يجب أن يضادّه "الفراغ المدرَك". فكان الأولى، في تصورنا، اصطناع هذا المصطلح الموصوف؛ إذ كان لفظ التوهّم، في اللغة العربية، منصرفاً لمعاني الغلط، وسوء الإدراك، والإغراق في السهو، والوقوع في التخيّل الشاحب أكثر مما هو منصرف إلى الدلالة والإدراك الدقيق (9).ولعلّ الآية على ذلك قول زهير: فلأياً عرفْتُ الدارَ بعد تَوَهُّمِ* حيث إن المعرفة والإدراك جاءا بعد معاناة التوهّم، ومكابدة التخيّل. وإذاً، فإنّا لا ندري كيف يَلْبِسُ هؤلاء المتكلمون التوهّم بالتحقّق، ومجرّد التخيّل بالإدراك الصارم؟ 3-أنهم يربطون هيئة هذا الفراغ، وهو غير الحيز لدينا (إذ ما أكثر من يكون الحيز في تمثّلنا عامراً لا خاوياً، وممتلئاً لا فارغاً) بوجود جسم ما يشغله ويملؤه. فكأنّ المكان لديهم كلّ حيز مشغول بجسم متشِكّل فيه، ماثلٍ فوق سطحه. على حين أنّ المكان لدى الحكماء الإشراقيين يتمثلونه "بعداً منقسماً في جميع الجهات، مساوياً للبعد الذي في الجسم، بحيث ينطبق أحدهما على الآخر، سارياً فيه بكلّيّته"(10). ولا نحسب أنّ هذا التعريف يبتعد كثيراً في إجماله عن تعريف المتكلّمين؛ وإنما يختلف عن تعريفهم في تفصيله؛ إذ تصوّر الإشراقيين للمكان أنه يتساوى، ضرورة، بَعْدُهُ بالبُعْد الذي في الجسم. فكأنّ المكان لا تتجسّد كينونته إلاّ بالكائن فيه؛ فتساوي بُعْد المكان بالبعد الكائن فيه لا يعني إلاّ بعض ذلك. والحق أَنّ هَذا التعريف لا يكاد يختلف عن التعريف الشائع في الفلسفة العامة (11)؛ وإنما المزعج في تمثّل الفلاسفة المسلمين هو عدم مَيْزِهِمُ المكان (lieu) من الحيز (espace) والحيز من المكان؛ مع أنهما مفهومان مختلفان في مقررات الفلسفة العامة؛ إذ كلّ منهما يذكر في بابه، لا في باب الآخر (12). من أجل ذلك لا نحسبنا مغالطين حين كنا زعمنا أنّ المفكرين العرب بعامة، والمحدثين منهم بخاصة، لا يكادون يَميزون المكان من الحيز، ولا الحيز من المكان، ولا المكان من المحل، الذي قرر فيه جميل صليبا ما قرر حين كتب: "المكان الموضع، وجمعه أمكنة، وهو المحل (lieu) المحدد الذي يشغله الجسم" (13). بينما نلفيه يطلق لفظ "lieu" الفرنسي، في موطن آخر، على الأين، في معجمه (14): فبأيّ القولين أو الأقوال نعمل؟ وما هذا الخلط المبين؟ إنّ الحيز، لدينا، لا يرتبط وجوده ولا مثوله، ضرورة، بالجسم الذي يشغله؛ لأننا نعدّ هذا الجسم الذي يشغله في حد ذاته حيزاً قائماً بنفسه فيه؛ فالشجرة لدينا من حيث هي هيئة نباتيّة تتكوّن من جذع وأغصان وفروع وأوراق: حيز يشغل مكاناً (وهذا المكان يشغل فضاء، وهذا الفضاء يشغل كوناً) إلاّ أنّ المكان لايكون إلاّ بهذا الحيز. فالحيز متفرّع، في تصوّرنا، عن المكان. فالمكان أصل ثابت، قائمٌ، باقٍ، لأنه مستقرّ الكينونة ذاتها، ولأنه موئل للكائنات من حيث هي لا تستطيع أن تُفْلِتَ من قبضته: صغيرة أو كبيرة، عاقلة أو غير عاقلة. فكما أن المَقام (بفتح الميم) مستقرّ للقيام من حيث هو هيئة حيزية، فإنّ المكان مستقرّ للكيان من حيث هو؛ فلا كينونة إلا بمكان. ولا مكان إلاّ بكينونة. فهما متلازمان لا يفترقان. بينما الحيز مجرد هيئة تعرض عبر المكان ذاته. من أجل ذلك ألفينا أرسطوطاليس يقرر، منذ القدم، أنّ المكان لا يتحرك، وأنه محيط بالشيء الذي فيه، وأنه ليس بجزء مما يحتويه (15). وإذا كان المكان ثابتاً باقياً، فإنّ الحيز عارض ناشئ طارئٌ فانٍ؛ وهو قابل للتغير والتبدل، والتمظهر والتشكّل. خذ لذلك مثلاً آخر الشخصية الروائية حين تتنقّل في حيزها من نقطة (1)، ثم تتوقف إما للاضطرار، وإما على سبيل الاختيار في نقطة (ب)، لتنتهي إلى نقطة (ج) حيث تقضي حاجتها، ثم تعود إلى نقطة (ا)، ولكن عن طريق نقطة(د)، لا عن طريق نقطة (ب): فإننا نعدّ حركتها هذه حيزاً متحركاً عبر المكان. فنحن إذاً، وبنعمة الله، نختلف مع الفلاسفة المسلمين الذين يربطون وجود المكان بالجسم الذي يشغله، فالمكان لديهم غائب ومنعدم خارج شغل الجسم إياه. ذلك ما فهمناه من مضمون تعريفهم ومنطوقه أيضاً. كما نختلف مع النقاد العرب المعاصرين الذي لا نراهم يتعاملون، في الغالب، إلاّ مع المكان الجغرافيّ (في التحليلات المُنْجَزَةِ حول السرديات مثلاً). أما حين يَمْرُقون به عن هذا الإطار، ويتناولون به الشعر تحت مصطلح "الفضاء"، فإننا لم نُلْفِهِمِ، وذلك في حدود إلمامنا بكتاباتهم التي يكتبون، تناولوا مفهوم الفضاء، من حيث هو مصطلح كما أرادوه أن يكون، فعرّفوه، وبلوروا دلالته انطلاقاً من الدلالة المعجمية إلى الدلالة المُصْطلحاتيّة. إن الحيز، كما نتصوره نحن، هو هيئة تتخذ لها أشكالاً مختلفة لا نهاية لتمثّلها: فتعرض لنا ناتئة ومقَعَّرةً، ومسطّحة، ومستقيمة، ومعوّجة، وعريضة، وطويلة؛ كما تمْثُلُ لنا في صورة خطوط، وأبعاد، وأحجام، وأوزان، دون أن ترتبط، بالضرورة، بما، أو بِمَنْ، فيها. ذلك، وأنّ في البادية العربيّة، أو في الحيز العاري، أو في الحيز المفترض كذلك: قد نلفي كلّ شجرة ذات دلالة، وكلّ نبتة ذا معنى، وكلّ صخرة ذات شأن، وكلّ منعطف طريق ذا مغزى، وكلّ عين ماء ذات خبر، وكلّ كثيب رمل ذا خطر.... حيث الحيز، ضمن ذلك الفضاء المنساح، هناك، أساس العلاقات بين الناس، وأساس التفكير في معنى الوجود، بل أساس العبادات والازدلاف إلى الله... ذلك بأنّ العرب كانوا يثوون بأرض براح، فلم يكن يحول بينهم وبين تلك الأحياز العارية في كثير منها، حائل، ولم يكن يحجز بينهم وبين تلك الأمكنة المتنوعة المناظر حاجز: فكانت ألصق بقلوبهم وأعلق بنفوسهم، وأمثل في أبصارهم وبصائرهم فلا تكاد تمحّي منها أو تزول. ذلك إلى ما كانوا يحيونه فيها، أو في بعضها على الأقلّ، من جميل الذكريات، وما كانوا يقضّونه فيها من معسول اللحظات... وللأحياز في هذه المعلّقات السبع حقّ علينا أن نصنّفها، انطلاقاً من قراءتها، لنرى ما كان يربطها، وما كان يناسب بينها: إذ هناك أحياز دالّة على المياه، وأخراة دالّة على الطرقات والمسالك، كما نلفي أحيازاً دالّة على الروابي والجبال، وأخراة دالّة على التلدات وكثبان الرمال.... وليس غريباً أن يكون للحيز شأن أهمّ في حياة أولئك الأعراب البادين من الحيز لدينا نحن اليوم الذي أصبحوا يتنقّلون في المدن الكبرى بباطن الأرض، ويسافرون بين القارات، وربما بين المدن المتقاربة أو المتباعدة، في الجوّ..... فلم يعد للحيز، كما نرى، في حياتنا الروحية والعاطفية والاجتماعية ما كان له في أخيلة أولئك الشعراء وعواطفهم الجياشة، ومشاعرهم الفياضة. وعلى الرغم من أنّ شعراء المعلّقات كثيراً ماكانوا يذكرون أماكن جغرافيّة لا تبرح معروفة إلى يومنا هذا مثل الحجاز، والعراق، ودمشق وقاصرين، واليمامة، وبعلبكّ، ونجد.....، وأماكن مقدّسة في الجاهليّة والإسلام مثل البيت الحرام، وأماكن مقدّسة في الجاهلية فقط إذ ترتبط بالطقوس الوثنيّة مثل صنم دوار: فإنّ الأغلبيّة الغالبة من الأمكنة الأخراة تنضوي تحت الحيز الشعريّ المحض. ولقد بلغ عدد هذه الأمكنة في المعلّقات زهاء ثلاثة ومائة موزّعة خمسة وعشرين حيزاً في معلّقة امرئ القيس وحدها، وثلاثة وعشرين في معلّقة الحارث بن حلّزة، وتسعة عشر لدى لبيد، واثني عشر لدى زهير، وعشرة لدى عنترة وعمرو بن كلثوم، بينما لم يرد في معلّقة طرفة إلاّ أربعة أحياز فحسب. ذلك، وأنّا لاحظنا أنّ هناك أحيازاً يشترك في ذكرها أكثر من معلقاتيّ واحد، مثل: وجرة: التي يشترك في ذكرها امرؤ القيس ولبيد، وتوضح: الذي يشترك في ذكره امرؤ القيس ولبيد أيضاً. والقنان: الذي يشترك في ذكره امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى (وورد لدى زهير مرتين اثنتين). والمتثلّم: الذي ورد ذكره لدى زهير وعنترة. وبرقة: التي وردت في معلّقتي الحارث بن حلّزة وطرفة بن العبد. وخزازى: الذي اشترك في ذكرها، أو ذكره، الحارث بن حلّزة وعمرو بن كلثوم. فهؤلاء المعلّقاتيّون يشتركون في ذكر أمكنة بأعيانها؛ ممّا يدلّ على وحدة الثقافة، ووحدة الخيال؛ كما يشتركون في ذكر أحياز كثيرة تختلف من معلّقاتيٍّ إلى آخر، إلاّ أنّ الاشتراك في ذكرها، والحرص على سردها: قد لايعني إلاّ شيئاً واحداً، من منظورنا الخاصّ على الأقلّ؛ وهو وحدة الخيال -كما أسلفنا القال- لديهم، ووحدة التقاليد الشعرية في ممارساتهم؛ وإلاّ فَلِمَ لم يَشُذَّ واحدٌ منهم عن البكاء على الديار، وعن النسيب بالنساء؟ وإذا كان عالي سرحان القرشي يذهب إلى انعدام وحدة الرؤية الفنيّة في المعلّقات السبع (16)؛ فإننا لا نذهب مذهبة، ولا نتقبّل رأيه الذي تدلّ بعض مقررات مقالته على ضده، وذلك حين يقرر، ضمنيّاً، وحدة الرؤية الفنية في المعلّقات السبع من حيث يقرر منطوقاً مغايرتها واختلافها إذ يقول: "ولو نظرنا إلى كلّ قصيدة من المعلّقات على حدة، لوجدنا لكلّ معلّقة بناء مغايراً لبناء المعلّقة الأخرى، حتى وأن تشابهت في بعض الجزئيّات مع المعلّقات الأخرى" (17). وإنّا لنختلف معه، لأنّنا كنّا حاولنا إثبات الوحدة الفنيّة والبنوية (ولا نقول البنائيّة لأنّ البناء عامّ، والبنية خاصة. والغربيّون يَمِيزُونَ هذا من ذلك مَيْزاً كبيراً....) في المقالة التي وقفناها، ضمن هذا البحث، على بنية الطلليّات المعلّقاتيّة.... ولا ينبغي أن يُنْظَرَ إلى مسألة اختلاف بنية المعلّقات نظرة سطحيّة، أو عجلى؛ إذ لو جئنا نتابع اللغة الفنيّة، أو حتى اللغة في مستواها المعجميّ البَحْت؛ لألفينا أولاء المعلقاتيين يلتقون التقاء عجيباً في اصطناع اللغة الشعرية (18)، وفي لغة الوصف، وفي لغة الألوان، وفي الإيلاع الشديد بذكر مواطن الماء (وقد أومأ إلى بعض الأستاذ سرحان نفسه، وإن لم يذكره في السياق الذي نودّ نحن ذكره فيه)، وفي الكَلَف الشديد بذكر الأحياز المتفِقَةِ الأسامي، أو المتشابهتها، وفي الإيقاع الشعريّ (أربع معلّقات وردت على إيقاع الطويل مثلاً)(19). يضاف إلى كلّ ذلك المضمون الحضاريّ العامّ: الطلل -المرأة -الناقة- الفرس- البقرة الوحشيّة- الظبي والرئم- النعامة.... فلا معلّقاتيّ يختلف عن الآخر إلاّ بما حبته به الطبيعة من تفرّد ذاتيّ ضيّق، أمّا البناء الفنيّ العامّ للقصيدة الجاهليّة بعامة، والقصيدة المعلّقة بخاصة؛ فإنه كان متشابهاً متقارباً، يكاد يغترف من ثقافة شعريّة واحدة، ويكاد يصف بيئة اجتماعية، وجغرافية أيضاً، واحدة. فقد كانت، إذن، مواقفهم، وأحداثهم، ومشاهدهم، وصورهم، ومعانيهم، وتعابيرهم، وتجاربهم، وتقاليدهم، ورؤيتهم إلى العالم، وإدراكهم للكون: تَتَشاكَهُ تشَاكُهاً يوحي بصدور هذا الأدب عن عقل متّحد، وفكر جماعيّ ذي مصدر متشابه. ذلك بأنّ المعاني والصور والتعابير والتراكيب تبدو أناشيد جماعيّة "أبدعها عقل الأمة، ونظمها ضميرها" (20). إنّ المعلّقات تنهض على بنية ثلاثيّة، كما كنّا عالجنا ذلك بتفصيل في المقالة السابقة، تتمثّل خصوصاً في الطلل، والمرأة، ثم: إمّا في الناقة، وأما في الفرس، وأما في مضمون آخر: فهناك إذن: ا+ب: وهما عنصران -ربما- لايخطئان حتّى معلّقة عمرو بن كلثوم التي استثناها الأستاذ القرشي.... فهما إذن عنصران ثابتان، ثم ترى الشاعر المعلقاتي يثّلث بمضون قد يتفق فيه مع سَوائِهِ (الناقة: طرفة- لبيد- عنترة، والفرس: امرؤ القيس- عنترة- وربما عمرو بن كلثوم، والحرب: زهير- الحارث بن حلّزة- عمرو بن كلثوم).... وأمّا مسألة شذوذ عمرو بن كلثوم في أنه لم يذكر الطلل، فإننا نعتقد أنّ هذا الاستثناء يقوم إذا تابعنا الترتيب الوارد لدى الزوزنيّ لهذه المعلّقة التي نعتقد أنّ ترتيبها يحتاج إلى إعادة ترتيب.... ذلك بأنّا نعتقد أن المطلع الحقيقيّ لهذه المعلّقة هو: قفي قبل التفرق يا ظعينا نُخَبِّرْك الِيقينا وتُخْبِرينَا قفي نسألْكِ هل أحدثْتِ صَرْماً لِوَشْكِ البَيْنِ أم خُنْتِ الأَمينا؟ ليأتي من بعد ذلك: ألا هُبّي بصحنِكِ فاصْبَحينا ولا تُبْقي خُمور الأندرينا ليأتي: وأنّا سوف تدركنا المَنايا مقدّرةً لنا ومُقَدَّرينَا قبل: بيوم كريهة ضربا وطعنا أقَرَّ به مواليك العيونا فتكون بنيةُ هذه المعلّقة قائمةً على التزام الوقوف على الطلل مضموناً يدلّ عليه منطوقه: قفي قبل التفرّق يا ظعينا نُخَبِّركِ اليقينا وتُخبْرِينا فهذه المرأة كانت ظاعنة لا مستقرّة، أزمعت الفراق، وآذنته بالبين، فتحمّلت في خدرها، عن حيّها.... فامرؤ القيس يتحدث عن البين: كأنّي غداة البين يوم تحملّوا لدى سَمُراتِ الحيّ ناقفُ حنظل وعمرو بن كلثوم يتحدث عن وشك هذا البين: لو شك البين أم خنتِ الأمينا؟ يوم ركبت الحبيبة ناقتها، وأزمعت التّظعان، وهمّت بالتَّزيالِ: فأين البَوْنُ، في هذا البين؟ شاعر جعل البين في الماضي فسرد وحكى، وشاعر آخر جعله في الحاضر فتساءل واستخبر أحدهما يقول: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وأحدهما الآخر يقول: قفي قبل التفرق يا ظعينا: الوقوف، والبين، والكشح، والمتن، وطول القامة، والساقان... فأين البَوْنُ، تارة أخراة؟ وعلى الرغم من أنّ الناس سيعترضون على هذا الترتيب الجديد الذي اقترحنا إجراءه على معلّقة عمرو بن كلثوم، وأن المطلع الذي جاءت عليه لدى الأقدمين هو المطلع الصحيح؛ فإننا لا نرى حلاًّ لهذه المسألة الفنية -إلحاق معلّقة عمرو بن كلثوم بمجموعة المعلّقات- غير إجراء هذا التغيير على ترتيبها... ولعلّ حجتنا في ذلك أنّ كافّة المعلّقاتيّين ممّن تحدثوا عن الخمر، مثل عنترة وطرفة، لم يبدأوا معلّقاتهم بالحديث عن الخمر، وإنما بدأوها بالحديث عن الطلل والمرأة، فكيف يشذّ عنهم عمرو بن كلثوم، والحال أنّ شعره الذي اقترحناه مطلعاً لمعلّقته وارد فيها؟ ألا يكون ذلك مجرد اضطراب وقع في الترتيب؟ وإلاّ فإنّ هذا الشعر أسهل ألفاظاً من أن يكون جاهليّاً!.... وأيّاً كان الشأن، فإنّ الثقافة الشعريّة واحدة لدى المعلّقاتين، حتى فيما قد يبدو لنا مختلفاً، فلا يمكن فهم معلقّة امرئ القيس إِلاّ في صَبِّهَا في الخضمّ الشعريّ المعلّقاتيّ العامّ؛ كما لا يمكن فهم زهير في تأملاته إلاّ بقرن شعره ببعض شعر طرفة، ولا فهم معلّقة الحارث بن حلّزة إلاّ في الإطار التاريخي والقَبَليّ للسياق الذي وردتْ فيه معلقة عمرو بن كلثوم، وهلمّ جرا... فالمعلّقات مدرسة شعريّة، ولا ينبغي أن تُدْرَسَ إلاّ ضمن هذا المنظور الفنيّ، وضمن وحدة التصور لدى المعلقّاتيّين؛ إذ كانت تضطرب في مُضْطَربٍ حيزيّ واحد، وتَدْرُجُ ضِمْنَ وحدةٍ زمنيةٍ واحدة أيضاً. فمعظم هذه المعلّقات قيل في قرن واحد، وفي بلاد العرب، فكيف يمكنُ مدارَسَتُها منفصلة عن بعضها بعض، والتماس مواطن الاختلاف بينها على أساس تفرّدٍ غير واردٍ، وتميّز غيرِ ماثلٍ. إنّ كلّ ما في الأمر أنّ المعلّقاتيّ قد يختلف عن الآخر في تفاصيل بعض المضامين المتناولة كتفرّد امرئ القيس بوصف الليل، وتفرّد لبيد بوصف البقرة الوحشية... ولكنّ الاختلاف الفنيّ لا ينبغي أن يُلْتَمَسَ في مثل هذه التفاصيل المضمونيّة، ولكن يلتمس في مستوى البنية العامة للمعلّقة التي تظلّ، في رأينا، هي هي: لدى هؤلاء مثل لدى أولئك، في معظم تماثلاتها الفنية.... وفيما يلي نحاول متابعة الأحياز وأنواعها التي وردت في المعلقات. أولاً: الحيز المائل: لقد صادفتْنا أحياز كثيرة تضطرب في الماء- كما سيستبين ذلك بالتفصيل في المقالة التالية من هذا البحث- أو تحيل على ماء، وتركض في سائل، أو توحي بمثولها فيما له دلالة على هذا السائل. ونحن حين ندارس الحيز لا نريد أن نحلّله على ظاهره، ونمضي عنه عِجَالاً؛ ولكننا نريد أن نتوقف لديه توقّفا، ونسائله مُساءَلَةً، ونَلوُصه على ما رَسَمْنا نحن في ذهننا من تأويليّة القراءة الأدبيّة التي هي حقّ أدبيّ مشروع للناقد إلى يوم القيامة. فنحن حين نقرأ، كما يذهب إلى بعض ذلك امبرتوايكو(21)، لا ينبغي، وبالضرورة الحتميّة، أن نهتدي السبيلَ إلى ما كان يريد إليه الناصّ من نصّه؛ فإنما الذي يزعم شيئاً من ذلك هو، حتماً، مكابِرٌ أو مغالط؛ ولكننا، إذن، نقرأ النص على أساس ما نريده له نَحْن... بيد أنّ ذلك لا ينبغي له أن يكون خارج سياقه، ولا بعيداً عن إطار مضمونه... ولولا أن لكلّ شيء حدّاً، وما جاوز الحدّ انقلب إلى سوء الضدّ؛ لَكُنَّا أَقدمنا على إِملاء مجلّد كامل في أنواع الحيز في المعلّقات... ومن أجل أن لا نقع في بعض ذلك، سنجتزئ بالتوقّف لدى نَماذِجَ قليلةٍ من أصناف هذا الحيز لِنَذَرَ لِمَنْ شاء أن ينسج على نهجنا المجال مفتوحاً... * ولا سيّما يوم بدارة جلجل: لقد ذهب الأقدمون، ومنهم ابن قتيبة(22)، والقرشي(23) إلى أنّ دارة جلجل غدير ماء كان يقع"بين شعبى وبين حسلات، وبين وادي المياه، وبين البردان -وهي دار الضباب- ممّا يواجه نخيل بني فزارة... وفي كتاب جزيرة العرب للأصمعي: دارة جلجل من منازل حجر الكندي بنجد" (24). ويبدو أنّ الناس كانوا يستحمّون فيه، وكانوا، فيما يبدو، يوردون إبلهم وأنعامهم فيه. وربما كانت العذارى يُيَمِمّنَه لينغمسن فيه، ويستمتعن بمائه تحت وهج شمس نجد، وَكُلْبة حرارتها، وأوج حمارتّها. ونحن لم نر حكاية أدنى إلى المشاهد السينمائيّة منها بالحقيقة من حكاية دارة جلجل. فهي كما رواها الفرزدق عن جده -وهي الرواية الوحيدة التي ترددت في المصادر القديمة(25)- لا تخلو من تناقض: فالأولى: كيف يحقّ لامرئ القيس، هذا الفتى الذي كان موصوفاً، أو كان يصف نفسه، بالإباحيّة والمجون أن يفضح سرباً من حسناوات الحيّ فيهِنَّ ابنةُ عمه فاطمة؟ وهل كان العربيّ يسمح بأن يهان شرفه إلى هذا الحدّ؟ وهل قتل عمرو بن كلثوم عمرو بن هند إِلاّ لأَنَّ أمه أرادَتْ أن تصطنع ليلى-أم عمرو بن كلثوم- حين التمست منها مناولتها الطبق(26)؟ فكيف يجرؤ العربيّ على قتل ملك همام من أجل هذه الحادثة، ولا يقتل حين تعرّى أخته أو حليلته أو ابنته اغتصاباً، وتهان في شرفها، والشمس متوهّجة، والنهار في ضحاه!؟ أَيْما ما قد يعترض به علينا مُعْتَرِضٌ -ولو على وجه الافتراض والتوقع- من أنّ امرأ القيس كان أميراً، ولم يكن أحد بقادر على أن يعرض له بسوء؛ فإننا نعترض عليه، كما اعْتُرِضَ علينا على سبيل الافتراض على الأقلّ، بأنّ إمارته لم تكن بقادرة على أن تشفع له في أن يفعل ذلك؛ وأنّ إمارته، على كلّ حال، كانت نسبيّة، كما كانت ملكيّة أبيه على بني أسد نسبية أيضاً؛ إذ لم يكن أبوه، في تمثّلنا، أكثر من شيخ قبيلة في حقيقة الأمر؛ وإلاّ فأين آثار مملكته، ومخلّفات حضارته؟ ثم من كان أعزّ نفراً، وأحدُّ شوْكاً، وأرفع قدراً: عمرو بن هند ملك الحيرة أم الملك الضلّيل؟ وإذن، فالضعف الأوّل يأتي إلى هذه الحكاية من هذه الناحية. والثانية: كيف يتفرّد النساء هذا التفرّد بالمسير فلا يخبر بشأنهنّ عبد، ولا تشي بأمرهنّ أمة: يتخلّفن وجهاً كاملاً من النهار دون أن يقلق على مصيرهنّ رجالهنّ فيسألوا عنهنّ...؟ والثالثة: كيف تتحدث حكاية دارة جلجل عن العبيد الذين جمعوا الحطب، وأجّجوا النار، فكان امرؤ القيس"ينبذ إلى الخدم منذلك الكباب(المتّخذ من لحم المطيّة المذبوحة للعذارى) حتى شبعوا"(27)؟ وهل كان الشَّيءُّ للحِسَانِ، أم للإماء والغلمان؟ ثمّ كيف تسكت الحكاية و عن ذكر أيّ أنيس من الرجال، لدى إِرادة انغماس الفتيات في ماء الغدير، ولدى إصرار امرئ القيس على أن لا يسلّم أياً منهنّ ملابسها إِلاّ إذا ما خرجت من ماء الغدير عارية، واستعرضت جسدها أمامه مقبلة ومدبرة، وكما ولدتها أمها!.. ثمّ فجأة يظهر العبيد حين يقرر الشاعر نحر مطيّته للنساء؟ ألم يكن ظهور هؤلاء العبيد لمجرد غاية فنيّة، لا من أجل غاية واقعيّة حتّى تجنّب الحكاية امرأ القيس تكلّف جمع الحطب على أساس أنه سيّد أمير، وتجنّب، في الوقت ذاته، أولئك النساء اللواتي كنّ يصطحبن فاطمة ابنة عمّ امرئ القيس على أساس أنهنّ سيدات عقيلات، لأنهنّ رفيقات ابنة عمّ الأمير المزعوم؟ (وإن كنّا ألفينا رواية ابن قتيبة تومئ إلى وجود عبيد كانوا مع النساء، ولكن كيف ظلّ دور العبيد منعدماً على هذا النحو....؟) والرابعة:إنّ مطلع الحكاية يوحي بأنّ أولئك النساء كنّ مسافرات إلى حيّ آخر من ذلك الوجه من الأرض، على حين أنّ آخرها يوحي بأنهنّ أُبْنَ إلى حيّهنّ، وأن سفرهنّ لم يتمّ، وأن الرحلة لم تحدث، وأنهنّ لم يعدن إلى حيّهنّ حتى جَنَّهُنَّ، والشاعِرَ، الليلَ(27): فما هذا الخلط العجيب، والتناقض المريب؟ والأخراة، إنّ أبا زيد محمد بن أبي الخطاب القرشيّ يذهب إلى أنّ صاحبة دارة جلجل هي فاطمة ابنة عمّ امرئ القيس(28)، بينما يذهب ابن قتيبة إلى أنها فاطمة بنت العبيد بن ثعلبة ابن عامر العذرية(29)، على حين أنه كان يعدّ عنيزة"هي صاحبة دارة جلجل" (30). وإنما يدلّ هذا الخلط، وسوء الضبط، على شكّ في الصحّة، وريبة في الرواية: لذهاب الرجال، وانقطاع الزمان، وخيانة الذاكرة، وفساد الرواية. وعلى أننا لا نريد أن نذهب إلى أبعد الحدود في البرهنة على أدبيّة هذه الحكاية وخياليّتها، وأنّ مسألة دارة جلجل مجرد حكاية جميلة إن وقع بعضها على نحو ما، فإنّ باقي ما ذكر من تفاصيلها لا يمكن لعاقل أن يصدّقه بِجَذاميره، ولا أن يتقبّله بحذافيره. ونعمد الآن إلى تحليل بعض هذا الحيز المائيّ، ليس على أساس ما نعتقد من أسطوريتّه، ولكن على أساس ما اعتقد الناس من صدق واقعيّته. والحق أننا، بعدُ، شَرَعْنَا في بعض هذا التحليل حين حاولنا تناول الخلفيّة التاريخيّة، والأسس التاريخانِيّة، لا التاريخيّة، لهذه الحكاية الجميلة وحيزها البديع. 1. إننا نلاحظ أنّ النساء اللائي تعاملن مع هذا الحيز المائيّ الجميل لم يكنّ عجاِئَز شُمْطاً، ولا هِرَماتٍ شُعْثاً؛ ولكنّهنّ كنّ حِساناً رائعاتِ الجمال، باديات الدلال، نحيلات الخصور، طويلات القدود، سوداوات العيون، مشرقات الثغور، منسدلات الشعور. 2. إنهنّ كنّ مخدومات منعَّماتٍ، وثريّات مُوسِرَاتٍ، وإلى بعض ذلك أومأتْ رواية ابن قتيبة إِذْ ذكرت أنّ أولاء الفتيات"نزلن في الغدير، ونحّين العبيد، ثم تجردّن فوقعن فيه"(31). 3. لعل من الحقّ لنا أن نتمثّل هذا الغدير فنتصوره بمثابة مسبح صافٍ ماؤُه، أزرق لونه، وأنه، من أجل ذلك، لم يك حِمْئاً ولا مَوْحَلاً: تسوخ فيه الأقدام، ويتحرّك الماءُ والطين فيه فتتّسخ له الأجساد إذا غطست... بل كان إذن حيزاً مائِياً غيرَ ذلك شأناً؛ وإلاّ لَمَا أمكن للنساء السَّبْحُ فيه، والاستمتاع بمائه. 4. ولنا أن نتمثل ما كان يحيط بهذا الحيز المائيّ من أشجار، ونباتات؛ وما كان يكيّف به الهواء الصادر عنه، والذي يفترض أنه كان رطيباً. ولنا أن نتمثّل ما كان يجاور هذا الغدير أيضاً، وهو حيز مقعّر حتماً؛ وأنه كان مرتفعاً عنه قليلاً أو كثيراً. ولنا أن نتمثّل الطرقات والثَّنِيَّاتِ التي كانت تُفضي إليه، أو تُفْضي منه. ولنا أن نتمثّل أسراب النساء الأخريات، في غير ذلك اليوم الذي حدث فيه للشاعر ما حدث مع العذارى، واللائي كنّ ييمّمنه للتنزه والاستحمام؛ ولنا أن نتمثّل الإماء اللواتي كنّ يقصدنه ليغسلن على ضفافه الملابس والفرش، وكل ما يغسل وينظّف... 5. إنّ أيُّ مدفع للماء، غديراً كان أمْ بِئْراً، أم نَهْراً، أم عَيْناً، أم ساقية، أم سربّا: يكون مَظَنَّةً للحياة الناعمة، والخصب الضافي، والعمران القائم. فكأنّ دارة جلجل كانت هي الغدير الذي كان يستقي منه الحَيُّ لإِرْواءِ الأنعام، وغالباً ما كانوا يشربون هم أيضاً منه؛ وكلّ ما في الأمر أنهم كانوا يُمْهِلُوَن الجِرارَ حتى ترْسُب حَمْأَتُها، ويَقَرُّ في القَعْرَةِ طِينُها، ليصْفُوَ الماءُ وبَرِقَّ؛ فيشرَبوه مَرِيئاً. فلم يكن هذا الحيز، إذن، منقطعاً عن الحياة الاجتماعية والحضاريّة للحيّ الذي كانت العذارى تَقْطُنُهُ؛ وإِنما كانت حكاية العُرْي مجرَّدَ مظهرٍ شعريّ غذاه الخيال الشعبيّ المكبوت فسار بين الناس على ما أراد ذلك الخيال؛ فأضاف إليه ما لم يكن فيه، حتى يتلاءم مع ما كانوا يودّون أن يكون الأمر عليه: فتسير به ركبانهم، وتتحدث به وِلْدانُهم. ولنلاحظْ أن حكاية العُرْي تفرّد بذكرها الفرزدق رواية عن جده، وأنها دوّنت، لأول مرة، بعد منتصف القرن الثاني الهجري؛ فكأنها دوّنت بعد عهد امرئ القيس بأكثر من قرنين اثنين. ولا يذر امرؤ القيس، في حقيقة الأمر، شيئاً عن هذا المشهد الذي لم يكن يمنعه من ذكره لادين وقد كان وثنيّاً، ولا خوف وقد كان أميراً عزيزاً، ولا مروءة وقد كان، فيما تزعم الرواة، عاهراً زانياً(32). فما منعه من أن يفصّل القول في حادثة في هذا الحيز المائيّ الجميل، فيذكر هو ما ذكرت الرواة؟ وهل كان عَييّاً بَكِيّاً غيرَ مبينٍ،. وهو الشاعر العملاق، والفصيح المِهْذَار، واللسِنُ المِكْثار؟ وإِنما اجتزأ هو بذكر عقره مطّيته للعذارى، ولم يقل أكثر من ذلك، ولم يتحدّث عن العُرْي لا تَكْنيَةً ولا تصريحاً... أفلا تكون مسألة العُرْي حكايةً لفقها الرواة؟ 6. وإذا سلّمنا بصحّة هذه الحكاية، وما علينا أن نكون سذَّجاً؛ فإنّ هذا الحيّز يغتدى عجيباً مثيراً: غديرَ ماءٍ مكتظّ بأجسام الفتيات العاريات، وفتىً قريباً منهنّ في اليابسة، جاثِماً على ملابسهنّ وهو ينظر إلى عوراتهنّ المغلّظة في شَبَقٍ شديد، ثمّ يستحيل المشهد العاري العامّ إلى مشاهِدِ عُرْيٍ جُزْئِيَّةٍ تمثل في ثُنائِيَّةِ الحركة التي تُحْدثها الفتاة وهي تخرج من الغدير عارية وحركة الرجل وهو يسلّمها ثيابّها، أو أنها هي نفسها تنحني على ثيابها لتأخذها لتستر بها جسدها والفتى ينظر ويتلّهّى: لا هو يخاف، ولا هو يستحي، ولا هو يرعوي!.. إنه مشهد على ما فيه مِنْ فعل الاغتفاص والاغتصاب- من الوجهة الأخلاقية والوجهة القانونيّة أيضاً؛ فإِنه من الوجهة الخياليّة لو وقع في أدب الغرْب لكانوا ملأوا به الدنيا وأقعدوها، ولكانوا صوّروه ألف تصوير، ولكانوا أخرجوه في تمثيلهم ألف إِخراج... 7. من غير الممكن أن لا نتمثّل في وهمنا حيز هذا الغدير الذي كان مسبحاً لأولئك العذارى... ونحن، مع ذلك، لا نستطيع، ولو أردنا وأصرَرْنا، أن نتمثّل حيّزه على وجه الدقّة: لغياب النصوص، وانعدام الوثائق، وغفلة الرجال، وشحّ الأخبار. بيد أنّ ذلك ما كان ليحظرنا من أن نساءل ولكن على أن لا نجيب، وقد يُلْتَمَسُ الجواب في إحدى المساءلات نفسها: فكيف كان، إِذن، شكل هذا الغدير(33)؟ وكم كان حجم مساحته؟ وهل كان مستطيلاً، أو مربّعاً، أو دائرياً، أو على شكل آخر من الأشكال الهندسيّة؟ وهل يمكن أن نفترض أنه لم يكن صغيراً جداً فلا يجاوز حجم شكل العين، ولا كبيراً جداً فيبلغ حجم البحيرة؟ ولكنّ ذلك كلّه لا يظاهرنا على أن نحدّد شكل هذا الغدير/ الأسطورة، ولا مساحته؛ وإنما تُتْرَكُ ملكة الإدراك، وطاقة التخيّل، مفتوحتين على كلّ احتمال، وتحت كل تأويل. فالقراءة الحيزيّة، من هذا المنظور بالذات، يجب أن تظلّ مفتوحة... 8. وعلينا أن نتمثل وجهاً آخر لهذا الحيز المائيّ: وهو سطحه حين تشرق عليه الشمس صباحاً، وسطحه حين توشك أن تغرب عنه مساء، وحين يداعبه النسيم الرُّخاءُ، وحين تعصف عليه السافِيَات... فسطحه تراه يتغير ويتشكل ويتبدل تبعاً لطبيعة الشمس، وشكل مائه يتغيّر تبعاً لحركة النسيم العليل فيتحرك السطح قليلاً قليلاً، أو لعصف السوافي فيتحرك السطح بعنف واغتفاص شديدين؛ فتراه متخذاً له تموّجات تحددها الاتجاهات الأربعة-المفترضة- للرياح العاصفة. فإن كانت الريح إنما تهبّ من جهات مختلفة، وهي التي تسميّها العرب المتناوِحَة، اتّخذ هذا الحيز المائيّ له شكلاً آخر... 9. ومن حقّنا أن نتساءل-وما لنا لا نتساءل؟- عن أشكال ضفاف هذا الغدير، فتبعاً لهذه الأشكال، تتحدّد الأحياز التي تحيط به. ونحن نفترض أن تكون جهة واحدة من هذه الضفاف، على الأقلّ، أعلى من الجهات الأخرى، وإلاّ فمن أين كانت هذه الأمواه تتجمع حتى تشكّل غديراً صالحاً لأن يسبح فيه الناس؟ وقد كِلفَتْ معلقة امرئ القيس بذكر الأحياز المائيّة كما نلاحظ ذلك في المجازات التالية: - على قطن بالشيم أيمن صَوْبِهِ(أي مطره) - كأنّ مكاكيّ الجِوَاءِ غُدّيَّةً(لا يمكن أن تتجمّع الطيْرُ إلاّ في جِوَاءٍ، أي وَادٍ، فيه ماء وخضرة...) - ومرّ على القَنانِ من نَفَيَانِه(ممّا تطاير من قَطْرِ مائه) - فأضحى يَسُحُّ الماءَ حول كُتَيْفَةٍ - يكبّ على الأذقانِ دَوْحَ الكَنَهْبِلِ(استطاع السيل الجارف أن يجتثَّ الدوح) - كأنّ السِبْاع فيه غَرْقَى عَشيَّةً(لا يكون الغرَق إلاّ في الماء، والمقصود هنا: انغمارُها، وغطْسُها) - كأنّ ثبيراً في عرانينِ وبْلِهِ كأنّ ذُرَى رِأْسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً من السيل والأَغْثَاءِ فلْكَهُ مغْزِلِ - غذاها نَمِيرُ الماء غير المُحَلَّلِ... وإذا كانت الخطّة التي رسمناها في هذا العمل لا تسمح لنا بأن نحلّل هذه الأحياز المرقسيّة كلها، بعد أن كنّا توقّفنا، طويلاً، لدى حيز مائيّ واحد وهو غدير دارة جلجل؛ فإِنَّ ذلك، مع ذلك، ما كان ليحول بيننا وبين أن نلاحظ أنّ ما لا يقلّ عن تسعة أحياز أخراة، كما رأينا، تنطلق من ماء، أو تُحيل على ماء. ولكنْ غالباً ما كان الشأن ينصرف إلى أمواه المطر والسيول وما يضطرب حَوالَها... ولا نحسب أنّ الإيلاعَ بوصف المطر، في معلّقة امرئ القيس، والتلذّذ بذكر الماء، والتبدّع في وصف السيول والأغثاء التي تجترفها: كان وارِداً على سبيل الاتفاق والعفويّة، ولكنّ ذلك كان، في منظورنا؛ لأنّ العرب كانوا يحبّون الماء، فكانوا يَدْعُوَن لِمَنْ يُحِبّون بالسقْيا، وكانوا يتسقّطون مواطن المطر، ويتتبّعون مهاطله، ويرتعون النبات الذي ما كان لينبت إلاّ بوابل المطر، أو طَلِّهِ... من أجل ذلك تصرفّوا في أسامي درجات هذا المطر فإذا هو غيث، ورَذاذ، وجَدىً، ووابِلُ، وطَلٌّ، ووَسْمِيٌّ، وَوَليٌّ(34)، وحَيَا، وسَحاب، وسَمَاء، وشُؤبْوب، وهلمّ جرا... والآية على العناية الشديدة التي كان يوليها العربيّ للخصب والماء، أنّ الحياة نفسها، في اللغة العربية، وارادة في تركيب الحَيَا والْحَيَاءِ، وهما المطر. فكأنّ الحياء يحيل على الحياة، وكأن الحياة تحيل على الحياء؛ لأن الحياة لا يجوز لها أن تقوم خارج كيان الماء... ****** وتصادفنا ظاهرة العناية بالصور المائية، أي بالصور الشعريّة التي تضطرب أحداثها في الماء، أو حواله، في معلّقة لبيد أيضاً. وقد تردّدت هذه الصور المائيّة، أو المضطربة في الحيز المائيّ أو السائل، سبع مرات على الأقلّ لدى لبيد. والحقّ أنّنا وقعنا في حيرة من أمرنا حين أزمعنا على تحليل نموذج من الحيز المائيّ لدى لبيد، كما كنّا جئنا ذلك لدى امرئ القيس؛ إذ لولا صرامة متطلّبات المنهج المرسوم لكنّا قرأنا كلّ هذه الصور المائية الفائقة الجمال في هذا الشعر اللبيديّ العذريّ... ولكن لا مناص من الاجتزاء بوقفة واحدة، حول نموذج واحد من الحيز المائيّ لدى لبيد؛ فَأَسَفاً وعُذْراً. وجلا السُّيولُ عن الطلولِ كأَنها زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَها أَقْلاَمُها لقد كنّا حلّلنا حيز امرئ القيس المتمثل في غدير دارة جلجل، فتوقفنا، طويلاً، لدى شكله وموقعه، وما قد يحيط به، وما قد يتأثر به، وما قد يؤثّر فيه، وما قد كان حَوالَهُ من النعمة والنعيم، والرغد والجمال. وأمّا هنا، ولدى لبيد، فالحيز المائي لم يعد يرى في هذه الصور الحيزيّة؛ إذْ كان غدير دارة جلجل إنما كان ثمرة من ثمرات تجمّع ماء المطر في حيز مقعّر بعينه؛ فإنّ السيول التي صنعت الحيز لدى لبيد لا نراها، ولكننا نرى آثارَها. لقد أصابت الأمطار هذا الحيز، وهذا الوجه من الأرض فخدّدت سَطْحَه، ووسَمَتْ وَجْهَه فبدا منه ما كان خافياً، وظهر ما كان مستتراً متوارياً؛ ومن ذلكم تلك الطلول التي كانت الرمال نسجت عليها كُثباناً حتى وارَتْها؛ فكان المارُّ ربما مَرَّها فاعتقد أنها كثبانٌ ليس تحتها بقايا حياةٍ، وأنقاض حضارة، وآثار مجتمع... حتى جاءت هذه السيول، فلم تبرح تُلِحّ عليها بالجَرْفِ حتى انجرفت، فبدت خدودٌ هنا، وخدود هناك، وبدا معها بقايا الديار المقفرة: أثافِيّها ونُؤيِها، ومَحَلِّها ومُقَامِها؛ فخَزِنَ لذلك غَوْلُها فِرجَامُها، كما حزن لذلك مَدافِعُ الرَّيَّانِ حين عُرّبَتْ رُسومها، فاغتدت كشكل الكتابة على الصخور... كانت الطلول مدفونة تحت الرمال، جاثمة تحت التراب، فكانت الذكريات معها مدفونةً، فكانت القلوب من حبّها مشحونة. لقد كانت مغبّرَّة، مُرَمَّلَة، مُتَرّبةً، لا تكاد تبدو للعين؛ فلمّا أصابتْها هذه السيول الجارفة، والناشئة عن هذه الشآبيب الهاطلة؛ لمَّعَتْها فاغتدت كباقي الوشم في ظاهر اليد، وأظهرتها فأمست كلوحة مكتوبة تجدد مَتْنَها أقلامُها بالكتابة فلا تمَّحِى ولا تزول... 1. نلاحظ أنّ لبيداً يصطنع، في هذه اللوحة الحيزيّة، وسيلةً حضاريّة لم تبرح تشعّ بالنور على الإنسانية، وهي الكتابة. فحيزه يمتزج بآثار المطر الهاتن المفضي إلى تمثّل الزَّبْر الماثل. فهل كانت الكتابة شائعةً على النحو الذي يذكره لبيد بحيث كانت الألواح، وكانت المكتوبات عليها، أم إنما كان يومئ إلى مجرد الحفريّات المنقوشة على الصخور والأحجار، والتي يُفَترضُ أن لبيداً، وعامّةَ المستنيرين في عهود ما قبل الإسلام كانوا يلمّون بها فيتمثّلونها في أنفسهم على ما هون ما؟ إنّ منطوق بيت لبيد ومضمونه لا يُبْعِدَان أيّاً من الاحتمالين الاثنين... 2. إنّ الصورة الحيزيّة المائيّة هنا، كما سبقت الإيماءة إلى بعض ذلك، تقوم على خلفيّة حضاريّة لا يكاد التاريخ يعرف عنها إلاّ نُتفَاً قِلاَلاً، ونُبَذاً صِغَاراً. فالإشارة إلى الكتابة، هنا في بيت لبيد، إشارة دقيقة، وفي الوقت ذاته بريئة. فهي إذن توحي بوجود حضارة مكتوبة في الجزيرة قبل الإسلام الذي لم يُبْعَثْ في مجتمع جاهل متخلّف كما قد يتصوّر بعض المؤرخين، ولكنه بُعِثَ في مجتمع مستنير متعلم كانت حضارتُه الفّنية والجماليَّةُ والتقاليديّة تنهض على أسس وقيم مثل تمجيد الفصاحة، وتجويد الكلام، وقرْض الشعر، وارتجال الخُطَب، وارسال الحكم والأمثال وحماية المستجير(35). بل لقد كان في قريش"بقايا من الحنيفيّة يتوارثونها عن إسماعيل صلى الله عليه وسلّم، منها حجُّ البيت الحرام وزيارته، والختان والغسل، والطلاق والعتق، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والرضاع والصهر" (36). وقد زعم الزجّاجيّ أن"الحَنِيفَ في الجاهليّة مَنْ كان يَحُجُّ البيت، ويغتسل من الجنابة، ويختتن" (37). 3. إنّ الصورة الشعريّة، في هذا البيت الَّلبِيدِيّ، تنهض على حيز معلَّقّ في كَتِفِ جبل، حيث السيل حرْبٌ للمكان العالي؛ كما يعبّر أبو تمّام. فَلِعُلُوّ هذا الحيز، وحَزْنه، واتسامه بالارتفاع: يَسُرَ على السيل أن يعرِّيَهُ من ترابه، ويجرّده من رماله، فيتخدّد ويتجرّد، ويبدوَ ما كان منه متوارياً؛ فيغتدِيَ ظاهراً بادِياً. فلو كان هذا الحيز مقعَّراً أو مسطّحاً ممتدّاً على وجه من الأرض سهل، لما استطاع السيل أن يعرّيه؛ بل لكانت أغثاؤُه زادته انغماراً فوق انغمار: فلا تبدو الطلول، ولا تتعرّى الرسوم. 4. نؤكّد ما كنّا أومأنا إليه آنفاً من أننا، هنا، إنما نحن بصدد ملاحظة الحيز بعد حدوث فعل السيول؛ فهو حيزٌ مائيٌّ باعتبار العلاقة المفعوليّة التي تعرض لها. فكما أنّ الأحياز المائيّة(البحار- الأنهار- الآبار- العيون- الغدران...) كانت، أو تكون، ثمرةً من ثمرات تَهاتُنِ الأمطار؛ فإنَّ هذه الطلول التي كانت مغمورةً تحت ركام الرمال والتراب والأغثاء لم تغتَدِ كذلك إلاّ بفعل هذه الأمطار. 5. إنّ الحيز الميت الموحي بالحزن، والمفضي إلى القتامة والوجوم، بفعل السيول السائلة، والأمواه الجارفة؛ يستحيل إلى حيز آخر قمين بالجمال والنور، وهو رسوم الكتابة، وأشكال الخطوط. فالأقلام هنا كأنها بمثابة السيل الفاعل الذي لا يبرح ينشط ويتحرّك، ويدْفَع ويحتفر، إلى أن يَتّركَ أُثرَه بادياً على وجه الأرض وسطحها الهشّ؛ بينما المُتونُ تقابلُ سطح الأرض القابل لأنّ تعملَ فيه السيولُ فتخدِّدَه وتَسِمَهُ وسَمْاً. فكأنّ السيول أقلامٌ تَكتْبُ؛ وكأنّ الطلول متون كانت من أجل أن يُكْتَبَ فيها، أو عليها. فاللوحة الحيزيّة هنا مركّبة، ولا تُفْهَمُ إلا بتعويم هذا التركيب وإذابته في بعضه بعضٍ. فكما أنّ الأقلام تزبر بحروفها التي هي علامات تَتِّركُ على المَتْن المزبور؛ فإنّ السيول بحرفها وغشيانها سَطْحَ الأرض تَتَّرِكُ، هي أيضاً، على هذا المتن الأرضيّ علاماتٍ هي تلك الآثار الطليليّة المختلفةِ الأشكالِ التي تبدو من بعيدٍ كالكتابة على متن من المتون، أو وجه من الوجوه. 6. نلاحظ أنّ هذه اللوحة الحيزيّة المركّبة تنهض على مظاهِرَ تشاكليّة مثل تشاكل السيول التي تحفر بسيلانها سطح الأرض فتتّرك عليه علاماتٍ؛ وتطبعه بأماراتٍ؛ مثل الأقلام التي تَزْبُرُ بسيلان حِبْرها على الورق فتذر عليه أيضاً علامات. فالطلول تتشاكل مع الزّبر، والأقلام تتماثل مع السيول، ومتون الوَرق تتجانَسُ مع سطح الأرض الوارد في صدر البيت ضِمْناً، وقد غاب، لمقتضيات التكثيف الشعري، منطوقاً. 7. يجمع هذا الحيز المائيّ-الَّلبِيديّ- بين المظهر الأنتروبولوجيّ المتجسّد في الطلول البالية، وإن شئت في هذه التخديدات التي تذرها السيول على وجه الأرض بما ينشأ عن ذلك من طقوس تعامل الناس مع المطر، وخصوصاً في المناطق الصحراويّة، وبين المظهر السيماءَوِيّ الماثِلِ في سمة الكتابة التي تتركها المزابِرُ على القرطاس فتغتدي سماتٍ دالّةً يتفاهم المتلقّون من خلالها . فالألفاظ المكتوبة، أو اللغة الخرساء، تغتدى مُمَاثِلاَتٍ(إقُونات) للأصوات الدالّة الغائبة ضمناً. فالألفاظ إذن سمات حاضرة دالّة على سمات غائبة. فالدلالة هنا تقوم على مبدأ المُمَاثِلِيةِ. 8. إنّ هذه الطلول كانت قائمة، ولكنها كانت شديدة البلى، متناهية الشحوب؛ فلما جاءت السيول جَلَتْها، وصقَلت آثارَها، فتجدّدت كفعل الكاتب حين يجدّد حروف كتابته على صفحة ورقة: فتبرُزُ بعد أمِحّاءٍ، ويتوهَّجُ لونُها بعد شحوب. 9. كأنّ النص هنا يصوِّرُ حيزاً حاضراً على سبيل العناية باللوحة الأماميّة. أمّا ما نطلق عليه نحن"الحيز الخلفيّ"، وهو الذي كان علّة في إيجاد الحيز الماثل، فالحديث عنه لم يكُ إلا عَرضاً؛ إذ السيول هي التي كانت علّة في تخديد الأرض، فالأخاديد سمة حاضرة دالّة على سمة غائبة هي السيول، فهي تنضوي تحت الصور السيماءَوِيَّةِ القائمة على مثول القربنة. ونلفي صوراً لِلَوحاتٍ حيزية أخراة تَمْثُلُ في معلقّة لبيد كقوله: رُزِقَتْ مرابيعَ النجوم وصابَها ودْقُ الرَّواعِد: جَوْدُها فَرِهَامُها يعلو طريقَةَ مَتْنِها مُتواتِرٌ في ليلةٍ كَفَرَ النجومَ غَمامُها من كلّ سارية وغادٍ مُدْجِنٍ وعَشيَّةٍ متجاوبٍ إرزامُها فَمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرّيَّ رَسْمُها وأسْبلَ واكِفٌ من دِيَمةٍ يُرْوي الخمائلَ دائِماً تَسْجامُها عَلِهَتْ(جزعت) تَرَدَّدُ في نِهَاءِ(غدير) صُعَائِدٍ... ***** ولعلّ عنترة أن يكون ثالث المعلّقاتيّنين الذين عُنُوا عنايةً شديدة برسم الحيز المائيّ، ووصف الأمكنة الخصيبة التي هي ثمرة من ثمرات تهاتن الأمطار، وتساقط الغيوث. ونحن لا يسعنا إلاّ أن نتوقّف لدى الصورة الشعريّة المائية التي أبدع فيها، فحلّق وتفرّد... وهي تلك التي تَمْثُلُ في قوله: أو رَوْضَةً أُنُفاً تضَمَّنَ نَبْتَها غَيْثٌ قليلُ الدِمْنِ ليس بمُعْلَم جادَتْ عليها كُلُّ عينٍ ثَرَّةٍ فتركْنَ كلَّ حديقة كالدِرْهم سَحّاً وتَسْكاباً فكُلُّ عشيّةٍ يَجْرى عليها الماءُ لم يَتَصرَّمِ فهذه اللوحة الحيزيّة بديعةُ المظهر، جميلة المنظر؛ فغيْثُها نظيف شريف؛ فكان نبتُه أنيقاً ناضراً، ومُخضَوْضِراً فاخراً؛ قد تغافص في هذه الحديقة الأُنُفِ فتكاثر واعشوشب، وَرَبَا واخْضَوْضرَ. لقد سقت الغيوث هذه الحديقة سَحّاً وتَسْكاباً، وأمطرتها جَوْداً غَدَقاً، وتَهْتَاناً طَبَقاً؛ حتى اهتزّت وربّتْ، واخْضَرَّتْ وأزهرَّتْ: 1. إنّ أوّل ما يسم هذا الحيز الخصيب البديع هو اخضرار نبْته، وتغافص عشبه متنامِياً متعاليا. 2. لم يكن هذا الحيز مخضرَّاً، أصلاً؛ ولكنه اخضرَّ بفعل تهاتن الأمطار، وتساكب الغيوث الكريمة عليه، فاستحال من مجرد حيز قاحل، إلى روضةٍ أُنُفٍ خَصِيبٍ. 3. إن هذا الحيز الأماميّ البديع، لا يلبث أن يُفضي إلى حيز أبدعَ منه بَدَاعَةً، وأروع منه روعةً؛ وهو الحيز الخلفيّ الناشئ عن الحيز الأماميّ الذي هو، في الأصل، مشهد تهاتن الأمطار خيوطاً بيضاءَ ممتدّة امتداداً عموديّاً من عَلُ إلى تَحْتُ؛ فتلك الخيوط المائيّة(القطر المتهاطل) -وهي حيز مائيّ- هي التي تفضي، بفعل تَسكابها المِلْحاح، وتَسْجامِها المِغْزار، إلى تشكيل حيز آخر هو هذه الِبَركُ المائيّة الصغيرة التي تحتقنها الأرض في أيّ بقعة منقعرة منها؛ حتى إذا ما أصابتها الشمس، وأشرقت عليها بأشعّتها، رأيت هذه العيون كالمرايا المثبتة على وجه الأرض، أو كالدراهم المستديرة الشّكل، الفضيّة اللون، الناصعة المنظر. فالحيزّ الغائب هو هذه الأشعة الشمسيّة التي بفضلها استحالت العيون المائيّة إلى ذات مرآة تُشَاكِهُ مَرْآةَ المرايَا الضخمة اللَّقَى في الفَلْوَاتِ، والعاكسة لأشِعَّةِ الشمس المتوهّجة. 4. ولعلّ من الواضح أنّ حيز العيون/الدراهم، أو العيون/ المرايا: لم يكن ممكِناً مشاهَدَةُ مَرْآتِهِ من مكان مستوٍ، ولكن من مكانٍ عالٍ. فكأنّ هذه الأمطارَ كانت تهاتنَتْ على سهول شاسعة، فتركتها عيوناً، عيوناً؛ ولكنّ مشاهدتها لم تكن ممكنة إلاّ من أَعالِيها، ومن فَوْقِ ذُرَاهَا، لِتَبْلُغَ رَوْعَةُ الجمالِ الطِبيعِيّ غايَتَاهَا... 5. واستخلاصاً من بعض ما حَّلْلنا، يمكن أن نعدّ هذا الحيز المائِيَّ متحوّلاً، أي أنه ليس أصلياً، لأنّ الأصل فيه القُحولَةُ لا الخِصْبُ، واليبس لا الإمراعُ الرَّطْب، ولم يغتِد إلى ما اغتدى إليه إلاّ بفضل الحَيَا النازل، والسماءِ الهاتن. فكأنّ هذا الحيز الخصيب الماثل في هذه اللوحة، يشكّل مُمَاثِلاً(إقونة) ناقصاً لحيز غائب. أو قل إنه على الأقل معلول لعلّة غائبة، فيكون الخصب معلولاً للماء، والماء معلولاً للسحاب؛ فهو إذن إمّا مُماثل ناقص، أو قرينة كاملة. أو ليس الخِصْبُ الماثل في هذا النص المؤلَّف من ثلاثة أبيات، إنما هو سمة حاضرة وقعت بفضل سمة غائبة، وهي المطر النازل؟ (38). 6. وبينما مَرآةُ العيونِ الثّرَّةِ، أو الغُدْران الصغيرة، التي تشكّلت بها الأرض المسقيَّةُ بماء المطر هي أيضاً إمّا مُمَاثل ناقص(غدران الماء الماثلة للعَيْنِ) تماثل مياه الأمطار الغائبة عن العين)؛ فإنّ الغدران لم تَكُ، وهي السِّمةُ الحاضرة، إلا قرينةً للسمة الغائبة التي هي الغيث الهاتن. 7. إنّ هذا الحيز المائيّ، أو الحيز الخصيب، له شبه بحيز لبيد: وجَلا السيولُ عن الطُّلولِ كأَنها زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقْلامُها من حيث تأثيرُ المطرِ في الأرض، غير أن صورة لبيد توحي بالوحشة، وصورة عنترة توحي بالأنس. ولا سواء مطر يُعَرّي الأرض فيذكّر بمدفونات الذكريات، ومطر يسقيها فتغتدي مُخْصِبَةً مخضرّة، ومُمْرِعة مُعْشِبة. 8. ويسْتَمِيزُ هذا الحيز-العَنْتَرَيّ- المسقِيُّ بتحديد علاقته بالزمن بحيث لا يكاد يحدث له ذلك إلاّ في العَشايا والأمساء. والذي يعرف الجزيرة العربيّة وَجَنوبَها خصوصاً يدرك مدى صدق هذا الوصف. ولعلّ من فوائد أمطار الأماسي أنّ الناس في معظمهم يكونون قد قضوا مآربهم اليوميّة فيكونون إمّا آبُّوا إلى بيوتهم، وإما هم بصدد الإيَابِ، كما أنه يتحاين مع حلول الليل ورطوبته التي تسمح للأرض بارتشاف الماء على مهل؛ ممّا يجعل النفع بهذا المطر أكثر. ولو تساكب المطر ضُحىً، ثمّ جاءت عليه الشمس المحرقة لكانت أتَتْ على رطوبة الماء، وجفّفتْ قشرة الأرض؛ فلا ينتفع النبات، أثناء ذلك، إلاّ قليلا. ***** وأمّا الحيز المائيّ لدى المعلّقاتيّين الآخرين فإنه شحيح الوجود، وربما يكون طرفة بن العبد أذكرَهم له، وأكثرَهم تعامُلاً معه، وإن ظلّ هذا الحيز المائيّ إمّا بحريّاً ونهريّاً، كما في قوله: - يجوز بها الملاّحُ طوارا ويَهْتَدِي - يَشُقُّ حبابَ الماءِ حَيزْومُها بِها - كَسُكَّانِ(ذَنَبِ السفينة) بُوصِيّ(ضرب من السفن) بِدِجْلَةَ مُصْعدِ؛ وإمَّا صحراويّاً، ولكنه يظلّ مع ذلك خِصْباً مثل قوله: - (...) تَرْتَعِي حدائِقَ مَوْليّ الأَسِرَّةِ أَغْيَدِ ولكن أين ذلك من اللوحات الحيزية المائيّة البديعة التي كنّا صادفناها لدى امرئ القيس، ولبيد، وعنترة بن شداد؟ ولا يقال إلاّ مثلُ ذلك في الحارث بن حلّزة، وعمرو بن كلثوم، وزهير بن أبي سلمى. **** ثانياً: الحيز الخصيب: قد لا يختلف الحيز الخصيب عن الحيز المائيّ، فذلك ملحق بهذا، وهذا علّة في ذاك. وليس إِفراد الحيز الخصيب، هنا بالذكر، إِلاّ من باب التفصيل والتجزِيءِ. فمن ذلك ما جاء في معلقة زهير بن أبي سلمى: بها العِينُ والآرامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً وأطلاؤُهُنَّ ينهَضْ من كُلِّ مَجْثَمِ فهذه الرسوم الدَّوارِسُ، والطُّلولُ البَوالي، والدُّيارُ الخَوالي، أخضارَّ نباتُها، وتغازَر ماؤُها، فاغتدت مَراتِعَ خصيبةً للبقَر والثيران الوحشية؛ كما أمست مغانِيَ لِلأْرْءَامِ يتراكض فيها، ويطوّفن بين أرجائها. فلولا خِصْبُ هذا الحيز المسكوت عن اخضراره منطوقاً، ولكنه وارد في هذا البيت مضموناً: لما صادفْنا هذه الحيوانات الوحشيّة التي لا تعيش في مألوف العادة إلاّّ في الأماكن الخصيبة، والمغاني الرطيبة. وقد طاب لها المقام فيها إلى أن توالدت فتكاثرت بحيث لا نلفي الأبقار الوحشيّة وحدها هي التي تنعَمُ بهذا الإمراع والسكون؛ فقد يدلّ ذلك على أنّ وجودها هناك كان مجرّد عبور، ولكننا نصادف أَطلاءَها وهنّ ينهضن من كلّ مجثم، ويتواثبن في كلّ مرتع. وإنما يدلّ قوله"من كلّ مجثم" على التكاثر والتسافد. ومثل ذلك لا ينشأ إلاّ عن الخصب الذي هو بمثابة الرخاء للإنسان. وتصادفنا لوحة حيزيّة أخراة خصيبة في بعض معلّقة لبيد، وتتجسّد في قوله: من كلّ ساريَةٍ وغادٍ مُدْجنٍ وَعِشيَّةٍ مُتجاوِب أَرْزَامُها فَعَلا فروع الأيْهقانِ وأطفَلَتْ بالجَلْهتَيْن ظِباؤُها ونَعامُها - والعينُ ساكنُةُ على أطْلائِها - فالضيف والجارُ الجَنِيبُ كَأنّما هَبَطا تَبَالَةَ مُخْصِباً أهَضْامُها فالأولى: إنّ هذه الصور الحيزيّة مُمرعة الخِصْب، شديدة الخضرة؛ فكأنها تمثّل حال الربيع في أوج طوره، وذروة اعْشِيشَابِه؛ فهل هي صورة حقيقيّة عاشها الناصّ فرسمها لنا رسْماً عبقرياً، أم هي مجرّد صورة جماليّة كان يتمثلَّهُا للطبيعة العذريّة فضمّنها نَصُّه، فأحسن نَسْجَه؟ والثانية: إننا نصادف تقارباً بلغ التشابه والتماثل بين قول عنترة: سَحّاً وتَسْكاباً فكُلُّ عشيّةٍ يجرى عليها الماء لم يَتَصرَّمِ وبين قول لبيد بن أبي ربيعة: من كلّ سارية وغادٍ مُدْجِنٍ وعَشيَّةٍ متجاوبٍ إرْزامُها وأيّاً كان الشأن؛ فإنّ بلاد العرب، وخصوصاً المرتفعات اليمنيّة، تتهاطل أمطارها، في الغالب، بالرعود أولاً، وبالعشايَا آخِراً. وما ورد لدى عنترة ولبيد قد يكون مجرد توكيد لهذه الحال الطقسيّة التي تبرح قائمة إِلى يومنا هذا. والثالثة : إنّ قول لبيد: والعِينُ ساكنةٌ على أطلائِها يُشارِكهُ قولَ زهير: بها العِينُ والأرآمُ يمشِينَ خِلْفَةً وأطلاؤُهُنَّ ينهَضَ من كُلِّ مَجْثَمِ وكلّ ما في الأمر أنّ أبقار لبيد لا تبرح محتضنة لأطلائها؛ على حين أنّ أبقار زهير كأنها كانِتْ تخلّت عن الحَضْن، وسَمحت لأطلائها بأن تسرح معها فتتلاعب في هذا الخصب الكريم، وهذا الحيز الرطيب. ولعلّ هذا التشابه أن يدلّ، كما كنّا أومأْنا إلى بعض ذلك من قبل، على أن نصوص المعلقّات تشكّل وحدة واحدة على ما قد يبدو فيها من تفرّد؛ فالتفرّد إنما يَمْثُلُ على مستوى المعالجة والطرْح، لا على مستوى القضّية والمضمون. بل إننا لَنلاحظ أنّ التشابه يطفر على مستوى النسج وتوظيف اللفظ... والرابعة : إنّ هناك تماثُلاً آخرَ يمثل في بيتَيْ زهير السابقيْن، وبيت لبيد: فعلا فروعُ الأيهقانِ وأطفلَتْ بالجلهتين ظباؤها ونَعامُها فصورة الخصب في حيز زهير غائبة، وإنما يدلّ عليها الحال التي تعيشها الأبقارُ العِينُ، وأطلاؤهنّ المَرِحاتُ. على حين أنّ صورة الخصب في لوحة لبيد مفصّلة بشكل أدقَّ حيث إنه يذكر ارتفاع نبْت الأَيِهَقَانِ بفعل الغيوث المتهاتنة والمتتابعة... ولقد بلغ الخصب بهذه الْعِينِ إلى أن تسافدت، فتوالدت بما أطفلت بضفَّتيْ هذا الوادي الخصيب. فالشأن في هذه اللوحة الحيزيّة المخضرّة ينصرف إلى الماء الجاري في الوادي المسكوت عنه، والذي تتضمّنه الجَلْهَتَانِ(الضفّتان)-؛ وإلى جَلْهَتَيْ هذا الوادي وقد جاء ذكرهما نَصّاً. والخامسة : نجد كلاًّ من زهير ولبيد يتحدث عن ثلاثة أصناف من الحيوانات الوحشية- التي ترتبط حياتُها بالخصب والماء، والكلأِ والسَّماءِ-: العِين(الأبقار الوحشيّة)، والآرم- أو الأْرْآم- (الظباء البيضاء)، والأطلاء(أولاد البقر في السنّ الأولى التي قد لا تتجاوز شهراً واحداً) (39). بيد أنّ لبيدا يفوق زهيراً بحيوان وحشيّ رابع هو النَّعام. ولعلّ ذلك أدعى إلى زيادة الخِصْبِ في حيزه، وأدلّ على تكاثر نباته، على الرغم من أنّ هذه الحيوانات كلها قادرة على العيش في الصحراء. ولكن لا ينبغي أن تتمثَّل هذه الصحراء على أنها مجرّد حيز أجرد أجدب، قاحل ما حل: لا نبت فيه ولا شجر، ولا عشب ولا كَلأَ؛ إِذ كلّ هذه الحيوانات إنما تتغذَّى من حُرِّ الكلأِ وخالِصِ أوَراقِ الأراكِ... والسادسة: إنّ أطفال الظباء والنعام يؤكّد الخصب الخصيب لهذه اللوحة الحيزيّة لسببين: 1- لوجود الوادي وضفّتيه. 2- لا يمكن أن يقع الأطفالُ والحَضْنُ إلاّ إذا كان المكانُ خصيباً، والجوّ ملائماً للتكاثر والتسافد. والسابعة: ومن الآيات على ثبوت خصب هذا الحيز، وإِلحاح النص المعلقّاتي عليه، معاودة لبيد الحديث عنه في موطن آخر من معلقّته، وهو قوله متحدثاً عن زوج البقرة والثور: فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيّ وَصدَّعَا مَسْجُورَةً مُتَجاوراً قُلاَّمُها محفوفَةً وسْطَ اليَراعِ يُظِلُّها منها مُصَّرعُ غابةٍ وقِيَامُها ففي هذين البيتين نصادف لوحة حيزية عجيبة الخصب، فهناك: 1- الماء(السريّ وهو النهر الصغير، ومسجورة: أي عيناً مسجورة؛ أي عيناً نضَّاحَةً بالماء)، 2- الغابة، 3- اليراع (وهو القصب بما فيه اخضرار وبُسُوقٍ وتَرَهْيُؤٍ حين يُصيبه النسيم)، 4- يُظِلُّها(والضمير فيه يعود على اليراع). فهنا لا يصادفنا الشجر وحده، ولا الماء وحده، ولكنهما اجتمعا؛ بل لقد اجتمع كلّ منهما في صورتين اثنتين: السريّ الذي هو نهْر صغيرٌ جارٍ، والعَيْن المسجورة بالماء، الطافحة به؛ فإن شئت، إذن، نظرت إِلى الماء في هذا الحيز جارِياً، وهو ذاك الماثل في هذا السرِيّ الذي قيّض الله مثله لمريم حين وضعت عيسى(40) -فكانت تتشرّب من مائه، وتننسّم من نسيمه- فعَلْت؛ وإن شئت، إذن، تظلَّلْت بظِلال اليَراع، وظِلال أشجار الغاب، أَتَيْتَ... فكأنَّ هذا الحيز يمثّل طبيعة بعض بلاد الألب؛ ولكنّ الذي يذهب اليوم إلى بلدة إبّ مثلاً، باليمن، يدرك حقيقة هذه اللوحة الحيزيّة الخصيبة، وإنّ بلاد العرب، فيما يبدو، كانت من الخصب والماء على غير ما هي عليه الآن... ***** ذلك، وأنّا كنّا، في الأصل، رَصْدَنَا أضرُباً أُخراةً من الحيز في هذه المقالة، ابتغاءَ تحليلِها، ولكن لَمَّا طال النفَس، أضرَبْنا عن ذلك إلى حين. ومما كنّا رصدناه من أنواع الحيز ما أطلقنا عليه: الحيز المتعالِي، والحيز المضيء، والحيز المنشطر، والحيز العارِي... وقد اجتزأنا، كما رأينا، بالحيز المائيّ، والحيز الخصيب، وركّزنا خصوصاً، على المظاهِر الجماليّة في تحليلاتنا لذيْنِكَ الضربَيْن من الحيز. فذلك، ذلك. إحالات وتعليقات
إشارة إلى قوله تعالى: (فَنادَاها مِنْ تحتِها أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ ربُّكِ تَحْتَكِ سَرِياً)، مريم، 24 . |
|||
2012-02-11, 17:07 | رقم المشاركة : 10 | |||
|
طقوس الماء في المعلقات أصاحِ ترى برقا أُرِبكَ وَميضَه كلَمْعِ اليديْن في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ إلى قوله: كأنّ السِّباعَ فيه غَرْقى عَشِيَّةً بأرجائه القُصوْى أنابيشُ عُنْصُلِ ولعلّ الذي حمل امرأ القيس على تخصيص نسبة صالحة من أَبابيتِ معلّقته لوصف المطر من وِجْهة، وتخصيص هذا الوصف بنهايتها من وجهة أخراة: أن يكون الطقس اليمنيّ الذي يعرف إلى يومنا هذا بظاهرة الأمطار الرعديّة الغريزة، والتي لدى هطلها قد تمتلئ بها الأدوية، وقد تسيل بها المنحدرات، فتجرف الأغثاء، وتسقي الأرض، وتروى النبات في أزمنة معيّنة من السنة، وفي ساعات معيّنة من النهار. لم يكن ممكناً لأمرئِ القيس، وهو العربيّ اليمنيّ، أن ينتقل بين القبائل، ويضرب في الأرض لاهياً أوّلاً، وطالباً بثأر أبيه آخراً، ثم لا يصف ما كان يعرض له من هذه الأمطار الرعديّة الشديدة الغزارة التي كانت تصادفه كلّ مساء من أسفاره، فكانت تضطره، غالباً، إلى أن يَلْتَحِدَ، وَصَحْبَهُ، إلى كَتِفِ جبل، أو جِذْع شجرة عظيمة، أوْ أيّ مُلْتَحَدٍ من المُلْتَحَدات... كانت الرعود والبروق، وكان القَطْر الطَّلُّ، وكان المطر الثَّرُّ: تساور سبيلَه كلّ مساء من مُقاماته وتَظعانَاتِه؛ فلم يكمن له بُدٌّ من أن يصف ما كان يستمتع به طوراً-وهو الشاعر-، ويزعجه طوراً آخر: فيتأذّى له، وذلك حين تَظعانه غالباً. ويمكن أن نلتمس أكثر من علّة لوصف أُمْرِئِ القيس المطر، واهْتِمامه بالماء، وَكَلَفِهِ بكلّ ما يسيل فتختصب له الأرضُ، ويربو له النبت: فالأُولَى: أنّ البلاد العربيّة، منذ القِدَم، شحيحة، فيما يبدو، بالمطر، ضنينة بالهطل، تميل طبيعتها إلى الجفاف والإمحال، وإلى اليبس والجدب. فكان الناس ينتظرون تَهتان الغيث بفراغ الصبر، وحرارة الشوق، وشدّة التطلّع. والآية على ذلك أنهم كانوا يستسقون في طقوس معتقداتيّة، وممارسات فولكلوريّة عجيبة؛ حين كان المطر يعوزهم فيُلِمُّ عليهِم الجَدْبُ، وتشحّ من حولهم السماء. ولم يكن امرؤ القيس بدعاً من بقيّة الشعراء في الجاهلية، ولكنه، ربما فَسَحَ لهم في المجال، وهيَّأ من أجلهم السبيل؛ إذ نلفي عامّة شعراء أهل الجاهلية يلتفتون إِلى ظاهرة المطر، فإمَّا أن يصفوها وصفاً، وإِمَّا أن يجتزئوا بذكرها عَرَضاً(4). والثانية: إنّ امرأ القيس كان ينتقل بين القبائل، وكان يختلف إلى الأسواق، وكان يتردّد على الحانات، وكان في كلّ ذلك لا يعدم مطراً هاتنا، وغيثاً هاطلاً؛ فكان مشهد خيوط الماء وهي تتساقط من فوقه يؤثّر في شاعريّته المرهفة فتفيض بما تفيض به، إلى أن جاء ينشئ معلقّته العجيبة فاختصّ المطر بخاتمتها ليكون ذلك أبقى من النفسْ، وأَذْكَرَ في القلب، وأجرى على اللسان. فهو يذكر المطر في مطلعها، ضمناً، حين يقول مثلا: ترى بعر الأرآم في عرصاتها وقيعانها كأنه حَبُّ فُلْفُل فلولا المطر الهاتن لما كانت الآرام راتعة في تلك العرصات، ولا مَرِحَةً في تلك القيعان والتَّلَعَات: تمرح وتلعب، وتتواثب وتتراكض... ولكنّ وصف الطلل صَرَف وهْمَه في وصف المطر والفراغ له إلى حين الانتهاء إلى خاتمة معلّقته فأشبعه وصفاً بديعاً جعلّنا نُحِسّ بأن الأرض، كأنها، كلّها، بدأت تتحرك بوديانها، والجبال تلقي بأَغثائها، والسواقي تتغازر بأَمْواهِها، فتُحيل سطحَ الأرض كلَّه إلى خصب وجمال ونعيم... وإذا كانت السعادة امتدّت إلى الطير فاغتدَيْنَ صادِحاتٍ، وإلى الحيوانات الأخراةِ فأمسَيْن سابحات؛ فما القول في بني البشر، وفيمن يُحسّون بجمال الطبيعة وعبقريّة تجليّها مزدهية مختالة كالحسناء المتبرّجة... والأخراة: كأنّ امرأ القيس لِمَا كان يرى من أهمية الماء، من حيث هو عنصر للحياة، وللمطر من حيث هو وسيلة للخصب والعمران، ولما كان يرى من تهالك الأحياء على التنافس على مساقطه، وربما التحارب على غدرانه ومدافعه: شاء أن يسجّل، ربما من حيث لم يكن يشعر، ولكن على الطبيعة السمحة، في معلّقته، مشاهد الماء، ومناظِرَ المطر، وَمَرائِيَ العيون والغدران. لم يكن في البلاد العربيّة إلاّ آبار وعيون قليلة احتفظت لنا بها كتب الموسوعات والمسالك بمعظم أسمائها(5). كان العرب إذا أحبّوا أحَداً، كما أومأنا إلى ذلك مراراً، دَعَواْ له بالسَّقْيا، وحتى التحيّة، في اللغة العربية، قد يكون اشتقاقُها من الحَيَا(6) الذي هو الخصب والمطر. وناهيك أنّ الحَيا، بالقصر، إن شئت، والحياء، بالمدّ، إن شئت(7)، وهما اللذان يعنيان المطر؛ وردا في المادّة نفسها التي ورد فيها مادَّةُ الحياة. فماذا كان يكون الشعر الجاهليّ لو خلا من ذكر المطر، ووصف السيول، وملاحظة الأنواء، والتغنّي بالخصب، والتلهّي بالحيا؟ وهل كان يمكن لامرئ القيس أن يضطرب في تلك المضطربات من الجَدْب والخِصْب، ومن الرعد والبرق، والهَطْل والهَتْن؛ ثمّ لا يحتفل بكلّ ذلك في شعره فيخلدّه عبر الأزمنة المتطاولة؟... المطر والمعتقدات في المعلقات لا نظنّ أن هناك من ينكر أنّ المطر في عامة المجتمعات البدائية، ومنها المجتمع الجاهليّ، يرتبط بطقوس فولكلورية، وبمعتقدات وثنيّة، وربما بمعتقدات دينيّة صحيحة كسنّة الاستسقاء التي يمارسها المسلمون كلّما ألحّ عليهم الجدب، وشحّت الأمطار في موسم الحرب والزرع... بيد أنّ هذه الفكرة لا ينبغي لها أن تطفح فتفيض فتغرق كلّ ما حوالها من المعقولات... ذلك بأنّ بعض الدارسين العرب المعاصرين أرادوا أن يؤوّلوا كلّ شيء تأويلاً أسطوريّاً في الحياة الجاهليّة، وأن يربطوا كلّ صغيرة وكبيرة بخرافات بائدة لا نلفي لها أثراً صحيحاً في النصوص الشعريّة المظنونة بالصحة، وفي الأخبار المرويّة المظنونة بالثقة، ولا، ربّما، حتى في الحفريات الأثرية... ومن ذلك ما ذهب إليه الدكتور مصطفى ناصف حين توقّف لدى بعض أبيات امرئ القيس المطرية، ومنها: أصاحِ ترى برْقاً أُريك وميضه كلمع اليدين في حَبيّ مُكَلَّل يُضيء سناه أو مصابيحُ راهِبِ أمالَ السَّليط بالذُّبَالِ المُفَتَّل فذهب إِلى أنَّ: البرق يُشبه في تحركه تحرّك اليدين، أو مصابيح الرهبان التي يصبّ الزيت عليها. وبعبارة أخرى: حينما هيّأ الراهب المصباح سقط المطر، فالمطر استجابة لدعوات راهب عظيم. ويمكن أن نرى تقلّب الكفين سمة من سماته أيضاً. ويبدو أنّ مصباح الراهب وتقليب الكفين أعانا على ولادة المطر. فالولادة ظاهرة في قول امرئ القيس: إنّ السحاب متراكم، يشبه أعلاه الإكليل، وقد لمع البرق وتلألأ في أثنَائه. هذه صورة واضحة الدلالة على فعل الانبثاق العظيم. وليس عندي شكّ في أنّ المعنى الروحيّ لولادة المطر قد فهِمَه شعراء العربية(8). ونحن نعتقد أنّ مثل هذا الربط الحميميّ لإسراج الراهب مصباحه، ولابداء المرأة الحسناء معصميها، بتهتان المطر قد لا يقوم له أمر، ولا يستقيم له شأن. وهو يزداد سوءاً حين يقوم على التوكيد واليقين: على أنّ المذهب الذي ذهب إليه الشيخ سليم صحيح. (ويؤكّده قوله: "وليس عندي شكّ في أنّ المعنى الروحيّ لولادة المطر قد فهمه شعراء العربيّة"). وذلك من أغرب المواقف العلميّة التي يمكن أن يقفها باحث-مشهود له بحصافة الرأي- من قضيّة شائكة، بعيدة الزمن، بعيدة الحدوث: فالأولى: هل كان العرب جميعاً مسيحيّين يربطون حياتهم الروحيّة بالأديرة والكنائس؟ وهل كانت توجد ديور بمكّة ويثرب، والحيرة، وسوائها من الحواضر العربيّة الأزليّة إذا استثنينا بعض الحواضر ذات التأثير الثانويّ كنجران مثلاً...؟ وهل يمكن أن نغيّر مجرى حياة أمّة كانت تقوم، أساساً، على الوثنيّة، والجاهليّة، والعصبيّة العمياء، والثأر، وعدم الارعواء في إراقة الدماء، والطيران نحو الشرّ: فنجعلها وديعة روحيّة، تنهض على التعبّد والتحنّث؟ ولو ربط الكاتب بعض ذلك بما اتفق عليه المؤرخون واللغويون القدامى من وجود بقايا حنيفيّة في المجتمع الجاهلي لَعَسَيْنا أن نسلّم له بِبَعْضِ ما ذهب إليه؛ لكنّه وقد ربط ذلك صراحة، بما لا يبعد عن هذه الحنيفيّة(9)، فإننا لا نستطيع الموافقة على رأيه... إنّ بضعة أديرةٍ كانت بشبه الجزيرة العربيّة كلها ما كان لها لتؤثّر في الحياة العقليّة، والدينية، والروحيّة، كلّ هذا التأثير... ولقد نعلم أنّ كل بيت عربيّ كان فيه صنم صغير يعبده صاحبه وأسرته(9)، فكيف إذن يقوم هذا النص التاريخيّ الماثل في أنه لم يكن: "يظعن في مكة ظاعن منهم(...) إلاّ حمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم. فحيثما نزلوا وضعوه فكانوا به كطوافهم بالكعبة"(10). مع ما قرره مصطفى ناصف؟ بل لقد كان العرب في جاهليّتهم الأولى إذا لم يجدوا حجراً يعبدونه، من بعض تلك الحجارة، جمعوا حثية من التراب، وجاؤوا بالشاة فحلبوها عليه، ثمّ طافوا بها(11). والثانية: أنّ العرب لم تكن تستمطر ببركة الأحبار والرهبان، كما لم تكن تستسقي بعناية الأديرة والكنائس؛ ولكنها كانت تستمطر بالأصنام والأوثان؛ فقد أجيب عمرو بن لحيّ حين سأل أهل مآب: ما بال هذه الأصنام التي تعبدون؛ أن: "هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا"(12): فماذا بقي من برهان في قول امرئ القيس: يضيء سناه أو مصابيح راهب إلاّ صورة شعرية ماديّة بريئة ممّا حمّلت إياه من هذه المعتقدات والروحيات والرهبانيات...؟ وهل يمكن أن يبقى معنى لقول الدكتور ناصف: "حينما هيّأ الراهب المصباح سقط المطر؛ فالمطر استجابة لدعوات راهب عظيم". بعد الذي رأينا من قولي ابن الكلبي وابن كثير القديمين، واللذين يثبتان فيهما وثنية الاستمطار، ومعتقداتية الاستسقاء، وأن الروحانية المسيحية التي يجعلها الدكتور ناصف علة في تأويل بيت امرئ القيس قد تغتدي غير ذات معنى... وإلاّ فعلينا أن نرفض ما ذهب إليه كلّ من ابن الكلبي وابن كثير، ونقبل برأي مصطفى ناصف. وإلاّ فعلينا، أيضاً، أن نرفض النصوص التاريخية التي تبدو موثوقة، ونقبل بمجرد قراءة تأويلية لنص شعري؟ وأنا لنعجب كيف فات الدكتور ناصف، وهو الملم بالتراث، والضارب في مضطرباته كلّ ضربان، أن يلّم على هذه النصوص القديمة ويستظهر بها لدى قراءة نصوص الشعر الجاهلي...؟ والثالثة: إنّ لمعان اليدين الذي يحتج به المتعصبون للقراءة الأسطورية لنصوص الشعر الجاهلي، وبخاصة نصوص المعلقات، والقائمة على المبالغة والتهويل والتضخيم، والذي ورد في قول امرئ القيس: * كلمع اليدين في حبيّ مكلّل كان تعبيراً، فيما نحسب، جارياً؛ أو كان تعبيراً مسكوكاً كما يريد أن يعبّر بعض المعاصرين، في اللغة العربية على تلك العهود الموغلة في القدم إذ كان كل عربي يطلق على إشارة اليد بالثوب، أو السوار، أو نحوهما: لمعانا(13)؛ ومن ذلك: 1- حديث زينب، رضي اللّه عنها، : "رآها تلمع من وراء الحجاب، أي تشير بيدها" (14). 2- ورد هذا التعبير نفسه في بيت للأعشى أيضاً: حتى إذا لمع الدليل بحبه سقيت وصبّ رواتها أشوالها(15). 3- وورد معناه في قول عديّ بن زيد العبّادي: عن مبرقات بالبرين تبدر وبالأكفّ اللامعات سور(16). والأخراة: إن طقوس الاستمطار لم تكن لديهم قائمة على استدرار البركة من الرهبان العظام؛ كما زعم الدكتور مصطفى ناصف؛ ولكنهم: "كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات، وركد عليهم البلاء، واشتد الجدب، واحتاجوا إلى الاستمطار؛ اجتمعوا، وجمعوا ما قدروا عليه من البقر؛ ثم عقدوا في أذنابها، وبين عراقيبها السلع والعشر(17)؛ ثم صعدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النيران، وضجّوا بالدعاء والتضوع. فكانوا يرون ذلك من أسباب السقيا" (18). فأين مصابيح الرهبان من هذا؟ وما صلة تشبيه ينصرف إلى تصوير انعكاس الضوء وانتشاره[وهو تشبيه ضوء كاسح بضوء شاحب من باب تقريب الصورة في ذهن المتلقي] بالاستمطار والاستسقاء في الجاهلية بالاستمطار والاستسقاء في الجاهلية الأولى؟ إن ما أورد أبو عثمان الجاحظ، بناء على ما كان ورد في شعر أحد أكبر الشعراء الذين سجّلوا العادات والتقاليد والطقوس الفولكلورية العربية القديمة؛ وهو أمية بن أبي الصلت، يبعد تأويل مصطفى ناصف لذينك البيتين المرقسيّين المنصرفين إلى طقوس استمطار المطر... بادّعاء أن امرأ القيس إنما كان يومئ إلى تقليب الكفين؛ وأن العرب كانت تستظهر ببعض ذلك على استمطار المطر... كما أن ما كنا استشهدنا به من أشعار قديمة؛ بما اشتملت عليه من لمع اليدين: قد يضعف من مذهب الشيخ في جعل العرب وكأنهم لم يكونوا يستسقون إلاّ بركة أمثال ذلك" الراهب العظيم" على حد تعبيره. ثم أين كان الشيخ من الحنيفية الإبراهيمية التي كانت لا تبرح بقية باقية منها في بلاد العرب؛ والتي كانت تسم سلوك كثير من عقلاء العرب وأشرافهم وسراتهم إلى أن جاء اللّه بالإسلام؛ فكانوا يحجون إلى البيت العتيق، ويغتسلون من الجنابة، ويختتنون، ويتحنثون(19)؟ وكيف أهمل الحديث عنها لدى قراءة شعر امرئ القيس، فذهب في تأويله إلى ما ذهب؟ ***** 2. الغدران: الغدران ابنة الأمطار، مَثَلُها مثل العيون والأنهار. وقد مِرْنا بين هذه الغدران والأمطار التي هي المتسبّبةُ في تكوينها كِأَنَّ الأمطار قد تتهاتن ولكن إمّا أن تتسربَ داخل الثرى وتَغِيَضَ في أعماقها، وإِمَا أَنْ تَسِيَل بها الأوديةُ العميقةُ نحو المنحدرات البعيدة التي قد تمضي بها إلى نحو البحار. ويضاف إلى ذلك أنّ الغدران تمثّل، في المجتمعات البدائيّة، البحيرات والمسابح في المجتمعات المتطوّرة؛ حَذْوَ النعلِ بالنعل. فإنما العذارى، الوارد ذِكْرُهُنَّ في بيت امرئ القيس: فظل العذارى يرتمين بلحمها وشحْمٍ كَهُدَّابِ الدِمَقْسِ المُفَتَّلِ يمّمن الغدير القريب من الحيّ إمّا لغسل الثياب، وإمّا للسباحة والاستحمام. وللغدران، بعد، أثناء ذلك، خاصّيّة تمثل في أنها مَظَنّةٌ للخِصْب والجمال، والحياة والعمران. فالأمطار قد توجد اليوم، ولكنها قد لا توجد من بعد ذلك إلاّ بعد أسابيع، وربما بعد شهور؛ فتجفّ الأرض من جديد، ويذبل النبات، ويستحيل كلّ أخضر إلى شبه أسود، وتحزن الطبيعة بعد مرح وازدهاء. على حين أنّ الغدران مَظَنَّةٌ لأَنْ يَمْكُثََ ماؤُها، بحكم طبيعتها ووظيفتها أيضاً، شهوراً طِوالا فتتشكّل الحياة الوديعة الخصيبة من حولها ضفافها، وترتع الحيوانات وترتوي منها، وتزقزق الأطيار، وتخضرّ الأرض بجوارها إلى حدّ الازدهاء. ونودّ أن نتوقّف لدى غدير دارة جلجل، تارةً أخرى. فقد تفرّد، فيما نعلم، برواية أسطورته الجميلة جدّ الفرزدق(20). وقد ظلّ تفسير دارة جلجل في قول امرئ القيس غيرَ متداوَلٍ بين الناس، في حدود ما انتهى إليه علمنا على الأقلّ، إلى نهاية القرن الأوّل الهجري حين حكى الفرزدق لفتيات البصرة، العاريات أيضاً، حكايتَها... ونلاحظ أنّ الفرزدق وقع له ما وقع للشاعر الآخر -امرئ القيس- قبل ذلك بقرنين على الأقل حيث يتكرر مشهد عرى النساء وهنّ يغتسلن في غدير بقرب البصرة، وأنّ الفرزدق وحده هو الذي اهتدى السبيل، أو ضلّ تلك السبيلَ؛ فوقع على أولئك النساء وهنّ يَستَحْمِمْنَ في ماء ذلك الغدير... وإنه حين استحى وعاد أدراجه يريد الابتعاد عنهن، هنّ اللواتي رَغِبْنَ إليه في أن يحدّثهنّ بحديث دارة جلجل... وإذا صحّت هذه الحكاية الجميلة، المتعلّقة، هذه المرة، بالشاعر الفرزدق، لا بالشاعر امرئ القيس، وبنسوة من البصرة لا بنسوة من نجد؛ فإنّ حكاية دارة جلجل لم تَكُ مشهورةً بين عامّة الناس في البصرة التي كانت عاصمة إشْعاع ثقافيّ وأدبيّ ونحويّ لدى نهاية القرن الأول للهجرة، وإلاّ لافْتَرَضْنا أنه يكون في أولئك النساء المستحمّات في الغدير مَن تعرف شيئاً عن حكاية غدير دارة جلجل؛ إذا نفترض أنه كان في أولئك النساء-نساء البصرة- مَن تروى شيئاً من شعر امرئ القيس الغزليّ... ومن العجيب، في كلّ الأطوار الممكنة والمستحيلة معاً، أنْ لا تُرْوَى هذه الحكاية الجميلة المتعلقة بغدير دارة جلجل عن خلف الأحمر، وخصوصاً عن حمّاد الراوية الذي كان هو الذي روى نصوص المعلّقات كما بلغتنا... (21). وعلى ما في حكاية دارة جلجل من جمال سينمائيّ، وإثارة، ومغامرة، وعُرْي، وإباحيّة؛ وكلّ ما يمنعه المجتمع المحافظ عن الناس... فإنّ الذي يعنينا فيها خصوصاً مائيَّتُها(22). فالأولى: إن ساحة العذارى -مع عنيزة التي لا يعرف التاريخ- بواقعيّته وأسطوريّته معاً- إلاّ اسمها(23)- في هذا الغدير- لم تحدث لأوّل مرة في التاريخ، ولكننا نفترض أنهنّ كنّ ييمّمنه كلّما كنّ يُرِدْن النزهة والمتاع ببرودة الماء وزرقته وجماله. ومن الواضح أنّ امرأ القيس لم تسنح له تلك الفرصة مصادفة، ولكننا نظنّ أنّ ذلك كان دأباً لديه ولديهنّ جميعاً، مألوفاً؛ فربما كنّ يقصدن الغدير في يوم معيّن، طوال موسم معيّن. من أجل ذلك استطاع أن يتسقط أخبار النساء، نساء الحيّ، ويقص آثارهنّ إلى أن وقع له معهنّ ما وقع، فيما يزعم جدّ الفرزدق الذي يبدو أنه حين حكى حكاية دارة جلجل لحفيده(وقد ذكر الفرزدق أنه كان في سنّ الصبا حين حكاها له إذ يقول: "وأنا يومئذ غلام حافظ"(24) إنما كان يرمي بها إلى ما يرمي الأجداد حين يحكون حكايات لأحفادهم الصغار: التسلية والمتعة، قبل الواقع والتاريخ... والثانية: إنّ منظر الماء في الغدير، ومنظر العذارى عاريات في هذا الغدير، ومنظر ما يَحْدَوْدِقُ بِجَلْهَتَيْ هذا الغدير: كُلُّها يُحِيلُ على المشاهد البديعة الحسنة؛ فبمقدار ما هي مثيرة، نلفيها، في نفسها، عفويّة بريئة. فكأنّها تمثّل سلوك الطبيعة الأولى، وتجليّات الجمال الغَجَريّ في توحّشه وعذريتّه وحصانته من الاستعمال، ومنعته من الابتذال. فلم يك لأولاءِ النساء، فيما نفترض، أكثر من فلقة واحدة، كنّ يرتدينها لتستر أجسامهنّ، وربما عوراتهنّ فحسب، فمَنْ يدري...؟ ففي مشهد هؤلاء السابحات، في هذا الغدير المغمور بالماء، تكمن العادة في ممارستهنّ السباحةَ عارياتٍ فيه، وَتَمْثُلُ الحضارةُ في حيث إنَّ فِعلَ السِباحةِ يدلّ على الحدّ الأدنى من التمثّل العالي للحياة، والتذوّق المرهف للجمال، والتمتّع الواعي بالطبيعة. كما يكشف عن أنّ النساء العربيّات، على عهد الجاهليّة، كنّ يتنقّلن في الحيّ، أو بين الأحياء، أسراباً أسراباً؛ وكنّ في الغالب يمشين في موكب سيّدة ماجدة، وعقيلة موسِرة(وقد تبلورت هذه العادة الحضارية على عهد الدولة العباسيّة فكانت الخيزران والعبّاسة وزبيدة وغيرهنّ يمشين في عشرات من الجواري...). ويبدو أنّ هذه الماجدة الموسرة هنا كانت عنيزة. فمن أجلها إذن وقع تنقّل العذارى من الحيّ إلى الغدير ابتغاء السبْح والنزهة؛ ومن أجلها، أيضاً، كان امرؤ القيس يقصّ أثار النساء، ويتجسس على حركاتهنّ ومتّجهاتهنّ... والثالثة: لقد نشأ عن هذه الحادثة-التي نميل إلى أسطوريّتها- شأن آخر لم نكن لنعرفه لولاها: فقد أفضى استيلاء الفتى على ملابس العذارى، وتردّدهنّ تردّداً طويلاً قبل الخروج إلى ملابسهنّ من الغدير وهنّ عاريات، إلى تدبير حَدَثٍ آخر يبدو متكلَّفاً ملفقّاً، ومتدبّراً مقحماً؛ وهو دعوةُ العذارى الفتى الشاعر إلى أن يستضيفهنّ؛ فاستجاب لرغبتهنّ، واقترح عليهن نحر ناقته لهنّ... وهنا يطفر عنصر المائدة، وهي مسألة تحلو مدارستُها تحت زاوية الأنتروبولوجيا: كيفيّة النحر، والسلخ، وجمع الحطب، وإيقاد النار، وَخضْئِها وتأجيجها، ثم وضع اللحم عليها لينضج بفعل الشَيّ؛ ثم تناول الطعام على ضفاف ذلك الغدير مع العذارى... إنّ هذا المنظر يجمع كل معاني الجمال في أرقّ معانيه، وأروع تجليّاته، وأبدع مشاهداته... فالحيز يستحيل هنا إلى فضاء عبقريّ كأنّه سرّ الحياة ومعناها الأول... ولمّا كان الحدث هنا، غير تاريخيّ، ولكنه تاريخانيّ؛ ولمّا كان، إذن، سينمائيّاً على الطريقة الهوليوديّة؛ فقد قبلت عنيزة وصُوَيْحِبَاتُها دعوةَ الشاعر المغامر... فنحر الفتى لهنّ مطيّته، وظلوا يشتوون لحمها، ويشربون من بعض خمر كانت في بعض رحله. ويتسرّب الشكّ إلى تاريخيّة هذه الحادثة، لبعض هذه الأسباب: أوّلها : إنّ فيها تناقضاً مريعاً، وأموراً لا تتفق مع طبيعة الأشياء، ولا مع تقاليد المجتمع العربي الذي يقوم على الغيرة الشديدة على المرأة... وثانيها : إنّ الأسطورة، أو ما نراه نحن كذلك، تذكر لدى طفوح حادثة نحر الناقة: عبيداً لم يذكروا من قبل. فهل كان يمكن لفتىً مغامر يتتبّع فتيات في ضاحية من الحيّ أن يصطحب معه عبيداً وخدما؟ وثالثها : يدلّ نحر الناقة على أنّ امرأ القيس لم يكن يتنزّه، ولا يغازل، ولا يتمتّع من لهو؛ ولكنه كان أزمع على سفر طويل، وتَظعان بعيد. وإلاّ فمالَه لم يّتّخذ ركوبته فرساً، واتّخذها ناقة؛ وهي للفارس ليست الرَّكوبَةَ المثاليّة، ولا الركوبة الشديدةَ السرعةِ التي يحرص عليها الظاعن في تَظْعَانَاتِه القصيرة.. كان يجدر بالشاعر الأمير أن يتنقّل على فرسه لا على مطيّته، لأنّ سفره كان للنزهة، ولأنّ الحكاية الأسطوريّة، تزعم أنه كان معه عبيد... ألم يكن من الأولى أن يمتطي هو حصانه، ويترك بعض الجنائب يقودها العبيد لبعض خدماته في الطريق؟... ورابعها : إنّ هؤلاء النساء حين كنّ أزمعن على الذهاب إلى الغدير(وكان يوماً معلوماً كما يفهم ذلك من نصّ الحكاية نفسها: "فلم يصل إليها(أي لم يصل امرؤ القيس إلى ابنة عمه فاطمة) حتى كان يوم الغدير") (25): ألم يكن من الأولى لهنّ أن يصطحبن معهنّ طعاماً ما، يلي بمتطلّبات النزهة؟ فما بال نحر الناقة، إذن؟ إلاّّ أن تكون تكملة لما كان معهنّ، وإضافة إلى ما كان لديهنّ، فنعم. ولكن، لا نَعَمْ! فقد ثَرِبَتِ العذارى امرأَ القيس فاصطنعن عبارة: "فضَحْتَنا، وحبَسْتنا، وأجعتنا" (26). والشاهد لدينا في هذا هو قولهنّ "وأَجعْتَنا"، وهي عبارة تدلّ على أنهن يَمَّمْنَ الغديرَ ولا طعام معهنّ. وآخرها : تصور هذه الحكاية هؤلاء العذارى، ومعهنّ هذا الرجل، وكأنهم كانوا يعيشون في جزيرة نائية عن العالم، أو في غابة متوحّشة، أو في فلاةٍ قّفْرٍ: لا نظام، ولا قِيَمَ، ولا شرف، ولا غيرة، ولا حِمِيَّة جاهليّة... إنها حكاية ساذجة، على جمالها، تصور المجتمع العربي، على عهد الجاهليّة، مجتمعاً متحّللاً، إباحيّاً، من رغب إلى امرأة وَصَلَها؛ كما وقع ذلك لامرئ القيس بالأمر المقدَّر، والسلوك المدبّر؛ فظلّ بياضَ نهاره مع هؤلاء النساء، واستولى على ملابسهنّ كيما يَرَاهُن َ كلّهن عارياتٍ: ثمّ لم يحدث من بعد ذلك شيء... بل إنّ أولئك الحسان هن اللواتي دعونه إلى أن يُطعمهنّ من لحم ناقته؛ بحيث لم يغضبن جَرَّاءَ اغتصابِهِنَّ(إجبارهنّ على أن يراهنّ وهُنَّ عَوارٍ). كما لم تغضب ابنة عمّه عنيزة التي أذلَّها وأهانها، وأقسرها على ما لم تك إليه راغبة أمام صويحباتها، وربما أمام العبيد أيضاً(مادام ذِكْرُ العبيد ورد في نصّ هذه الحكاية): فأين الشهامة العربية التي تتحلّى بها سِيَرُ الرجال، والتي تكتظّ بها نصوص الشعر؟ وأين الشرف العربيُّ الذي تحفل به مواقف الأبطال، في المجتمع الجاهليّ؟ أَلَمْ تَتفانَ بكر وتغلب، ابنا وائل، وهما أختان، من أجل جرح ضرْع ناقة كانت للبسوس خالة جساس بن مرة الشيبانيّ: على مدى أربعين سنة؟ وإذا اندلعت حرب طاحنة من أجل شرف ناقة امرأة كان جسّاس بن مرّة أجارها، في رواية، وأنها خالته في رواية أخرى، ومن أجل شرف طائر كان أجاره كليب وائل(27) أعزّ العرب: فما القول في شرف امرأة سيدة، بل في شرف سيدات عربيّات كنّ يتنزهن فوقع اغتصابهنّ...؟ وكانوا يأنفون أشدّ الأنفة أن يزوّجوا بناتهم لأيّ رجل شاع بينهم أنه وقع في غرام من يريد التزوج منها: خشية العار، وحرصاً على السِّمْع، ورغبة في حسن الصِّيتِ. أم لم يقتل رباح بن الأسل الغَنَويُّ شأس بن زهير لمجرّد أن حليلته نظرت إليه(ونلاحظ أنّ المرأة هي التي حانت منها التفاتة فشاهدت الرجل وهو يغتسل في عين، وبدون قصدٍ منها هي... لا هو الذي كان ينظر إليها؛ ومع ذلك لم يرحمْه بعلُها، فرماه، وهو غافل في العين، بسهم كان فيه حتفه...) (28)؟ وعلى أننا لا نريد استيعاب هذه المسألة، ولا استقراء البحث فيها، هنا، لأنها معروفة لدى الناس... فكيف إذن يجوز أن نصدّق أنّ دارة جلجل حادثة تاريخية، وأنّ حكاية تعرية العذارى، ومعاقرتهنّ الخمر، ومغازلتهنّ في وضح النهار -وقد كنّ عقيلات كريمات- ممّا يجوز أن يحدث في حيٍّ من أحياء العرب؟ إنّ إيمائَة امرئِ القيس إلى يوم دارة جلجل، ربما كان مجرّد نظرة مختلسة، أو حديث عابر، أو إشارة بعين... فجاء إليها حُكّاةُ الأخبار، ورُواةُ الأساطير، والمُلْتَذُّونَ بما لم يكن، والمتعلّقون بما لم يوجد؛ فأضافوا إليها ما ليس فيها، وأَدخلوا عليها هذه المسحة السينمائيّة، باللغة العصريّة؛ كيما تكونَ مثيرةًً للعجب، وحاملة على الانتباه، وباعثة على التلذّذ والتمتّع... وإلاّ فما لهم سكتوا عمّا وقع لامرئ القيس مع أمّ الحارث الكلبيّة، وأمّ الرباب، وَسَوَائِهَما... إن لم يكن ما ذكره في شِعْرِه مجرّد تَبَاهٍ وادِّعاء، كما كان يفعل بعده عمر بن أبي ربيعة؟ فقد عهدنا الشعراءَ يتزيّدون ويتنفَّجون، وخصوصاً في تصوير صِلاتَهم بالنساء، وخصوصاً امرأ القيس الذي كان يتهم بأَنَّهُ مُفَرَّكُ يَزْهَدُ فيه النساء(29)، ويرغب عنه الحسان، على ما كان موصوفاً به من الوسامة والجمال.... إنّ ما تشتمل عليه الحكاية التي كَلِفَتْ كلفاً شديداً بتجميل الحيز، لم يكن له صلةٌ، في الغالب، حقيقةٌ بالتاريخيّة، ولكنّ صلته بالتاريخانيّة وثيقة. إنّ تلك الحكاية الجميلة تصوّر المجتمع العربيّ قبل الإسلام: كأنّه مجتمع يعيش في غابة، بحيث لا يوجد فرق بين حيوان وإنسان، وبين إِنْسٍ وَجَان... ولم يكن فيه محرّمات محرّمة، ولا ممنوعات ممنوعة: فكل، من رغب إلى شيء ناله، ومن تطلّع إلى رغبة اشْتارَها؛ كما جاء ذلك امرؤ القيس الذي عاد إلى الحيّ ممتطِياً غارِبَ بعير ابنةِ عمه فاطمة(بعد أن كان نحر مطيّته للعذارى، واشتواها لهنّ)، وهو يقبّلها، وهو يعانقها، وهو يغازلها، أمام القبيلة كلها(أمام صويحباتها- وأمام إِمائها، وأمام العبيد....): وَلاَ دَيَّارَ يُنْكِرُ عليه فِعْلَتَه، ولا أحَدَ يَنْعَى عليه سلوكَه... بل آب الشاعر المغامِرُ، العاشق الوامق، أَوْبَة الأبطال إلى الحيّ والقبيلةُ كلها تنظر ولا تعجب، تَرَى ولا تنكر!... لكنّ الذي يعنينا في رسم هذا الحيز الجميل، ليس الجانب التاريخيّ، بالذات، ولكن الجانب التاريخانيَّ الميثولوجيّ خصوصاً... إنّ الذي أردنا التوقّف لديه، من حادثة دارة جلجل، ليس المنحى العقليّ، ولا الواقعيّ، ولا التاريخيّ، ولكنّ الأسطوري، أو التاريخانيّ؛ نكرر ذلك. إنّ الذي يتأمّل أمر هذه الحكاية يُحِسُّ إحساساً شديداً بأنّ حاكيها كأنه كان يريد أن يشبع رغبة عارمة كامنة: يشبعها من اللذة الجسدية، ومن ملء العين بِالأَجْسَادِ النسويّة العارية، تحت الطبيعة العارية، وتحت وهج أشعّة الشمس المشرقة، وعلى ضفاف غدير أزرق الماء... إنه لا يمكن أن يوجد مشهد أجمل من هذا على الأرض... ولا يمكن أن نلتمس حيزاً أروع من هذا الحيز الشعريّ الجميل الذي لا ينبغي أن نكون سذَّجاً فنلتمس البحث في صدقه أو عدم صدقه، أو نسعى إلى مناقشة تاريخيّته من عدم تاريخيته... لأنه لم يكن حيزاً من أجل تصوير واقع التاريخ، ولا وجه الجغرافيا، ولا سيرة الواقع المَعِيشِ في تلك الحقبة من الدهر؛ ولكنه حيز شعريّ خالص؛ كانت الغاية منه إمتاعَ المتلقَّي الشغوف بمثل هذه الحكايات، حكايات العشق والعري، في كل زمان ومكان... فذلك، إذن، ذلك. وهناك مواقع أُخراةٌ للماء، وذِكْرٌ لضُروبٍ ممّا يسيل كماء المطر، وماء العين والبئر، وماء السيل، وماء العَرَق، وماء الدمع، في معلّقة امرئ القيس... لم نرد التوقف لديها لسببين اثنين: أولهما: إنّنا عجلون إلى تحليل المطر والماء في بعض المعلّقات الأخراة. ولا ينبغي أن يجاوز الحديث عن امرئ القيس طورَه، من حيث لا يبلغ عن سِوَائِهِ شأْوَه. وآخرهما: وهو نتيجة للأوّل، إنّا لو جئنا نحلّل كلّ أحياز الماء بما فيها من جمال، لكان هذا المقال استحال إلى كتاب كامل؛ إذ سينشأ عن ذلك السعي أننا نتوقف لدى جمالية الحيز المائيّ، ولدى أحياز أخراة ذات صلة بهما... وهي سيرة فعلاً تذهب بنا، في هذا السعي، إلى بعيد... ***** ثانياً: طقوس الماء في معلقة لبيد لم تخْلُ معلّقة واحدة، من بواقي المعلّقات، من ذكر المياه، أو الأمطار، أو الغدران، أو العيون، أو ما في حكمها، أو ما يكون ملازماً لها، أو ما يكون ذا صلة بها. وربما يكون لبيد أكثر المعلّقاتيّين، مع امرئ القيس، ذِكْراً للسوائل والسيول، والأمطار والغدران؛ إذ ورد في معلقته ذِكْرٌ لمدافع الرَّيَّان، وَوَدْق الرَّواعد، والجَوْد(بفتح الجيم)، والرِهام، والغَاد المُدْجن، والسيول، والسَرِيّ، والواكف من الدِّيمَة، والتَّسجام، والغَمام، والنِهاء(مفرده: َنِهْي(بفتح النون وكسرها): وهو الغدير)، وَأَسْبل، والخلج... فكأنّ لبيد بن أبي ربيعة كان يريد أن يسقي شعرَه بهذه السواقي، كما يحتفظ بالماء، ويترقرق بالجَوْد، ويطفَح بالغمَام... وهي سيرة لعلّ الذي حمله عليها ما تتطلّبه الحياة من الماء الذي هو أصل الحياة. إذْ بدونه لا يكون ازدهار، ولا خصب، ولا رخاء، ولا جمال... ونودّ أن نتوقّف لدى بعض العناصر الدالّة على الماء لدى لبيد، ومنها: *عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهَاءِ صُعَائِدٍ. إن النِّهاء، في اللغة العربيّة القديمة، يعني الغُدْران. وإذا كان امرؤ القيس أومأَ إِلى ما كان له في غدير دارة جلجل من مغامرات مع النساء، وإن لم يصرّح بذلك تصريحاً، وإن لم يصفه وصفاً... فعزّ على الرواة ذلك وهواة التزيّد في الأخبار فشحنوه بأسطورة النساء العاريات، وما نشأ عن ذلك من مائدة مثلت في نحر المطيّة المرقسيّة للعذارى، ثم العمْد إلى شي لَحْمِها لَهُنَّ، وسَقْيهنّ خمراً كانت معه... فإنّ لبيداً لا يربط الغدران بالنساء، ولكنّه يربطها بالحيوان. فكأنّ الحيز الجميل لديه منصرف إلى الحيوان، قبل الإنسان.. إنه يصف، في هذا المصراع الشعريّ، بقرة وحشيّة فقدت جُؤْذَرَها بعد أن أصابه الصيّادون بسهامهم فقتلوه من حيث لم تستطع، هي، حِمايَتَه، ولا إنقاذَه من مخالب الإنسان القَرِمِ إلى اللحم، والذي لا يشبع إلاّ إذا التهم لُحْمان الحيوانات: صادَفْنَ منها غِرَّةً فأَصَبْنَها إِنْ المَنَايَا لا تَطيش سِهَامُها لقد ظلّت البقرة الأمّ تنتظر، من حول هذه الغدران الجميلة التي كانت تقع في صُعائد؛ فكانت تلوذ نجاة ببعض الشُّجيراتِ التي تَكْفُرُها وتُخْفْيها عن أعين الصيّادين القرِمين: ظلّت تنتظر ابنها لعله أن يَؤُوبَ، وتَرْقُبُ صغيرها عساه أن يعود: طَوالَ ليالٍ سَبْعٍ، بأَيّامها: عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهاءِ صُعَائِدٍ سَبْعاً تُؤَاماً كامِلا أَيَّامُها ظلت البقرة الوحشية بغدران صُعائد تنتظر، وتترقب، وتتحسّس، وتتمسك بالأمل الخُلَّب، والرجاء الكُذَّبِ، لعل جُؤْذَرها أنْ يعودَ؛ ولكنْ أنَّى له ذلك وقد هَلَكَ برمية صياد؟... ومع ذلك، بقيت تلك البقرة تقاوم اليأس؛ فكانت تَأْتَوِي إلى تلك الشُّجيرات التي كانت تتوقّى بها من المطر الهاطل، والوكف الهاتن: لعلّ صغيرها أن يعود... البقرة عالِهَةٌ حَيْرَى... ولَبَنُها يتغازَرُ في ضَرْعِها... لقد أَلِفَتْ أن تستقبل الجُؤْذَرَ وهو يرضع من لبنها... فأيْنَ صغيرُها إذن ذاك الوديعُ البريءُ الذي كان يعتقد، أو كانت أمّه تعتقد، بغزيرتها الفطريّة أنّ الله وهَبَه الحياةَ ليحيا، لا ليحيا لكي يَخْتَطِفَ منه ذلك الصيّاد القاسي ما وهبه الله من حياة...؟ إنّ لبيداً لا يصوّر، هنا، جمال تلك الغدران، بمقدار ما كان يودّ، أو يودّ نصّه(إذا أوّلناه بحسب مقتضيات مَقْصِدِيَّةِ النص، لا بحسب مقتضيات مقصِديَّةِ الناصِّ): تصوير المآسي التي تقع، حَوَالها، في ذلك الحيز العاري المَخُوفِ، في صراع أبديٍّ بين الإنسان والحيوان، وبين الحيوان والطبيعة، وبين الطبيعة والإنسان: من أجل البقاء. كان الصراع حَوَالَ غُدْران صُعائد: صراعاً وجوديّاً... فلم يعد الماء سبباً من أسباب الحياة، ولا عنصراً من عناصر الخِصْب والرخاء؛ ولكنّه اغتدى سبباً من أسباب الموت والفناء.... البقرة الوحشيّة الثكلى تُيَمِّمُ الغديرَ لأَنْ تَشَرَب مع إِشراقة شمس الصباح، وبعد ليلة نديّة ممطرة؛ فكانت ترى قوائمها تسيخ في الرِّمال والثَّرى... وتيمّمه أيضاً من أجل البحث الغريزيّ عن صغيرها المفقود... فيصادفها جمع من الصيّادين القرِمين إلى لَحْمِها؛ فيشدّون عليها بكِلابهم ويحاولون رَشْقَها بسهامهم؛ ولكنها تَشُدُّ هي، بدافع الدفاع عن الوجود المشروع، على الكلاب الملاحقة لها؛ فتقتل منها سُخَامَاً وَكَسَابِ؛ ثم تطلق، من بعد ذلك، قوائمَها للريح حتى لا تُصيبَها سهامَ الصيّادين المرسَلة عليها من كلّ اتجاه... إنها محنة وجوديّة رهيبة تمرّ بها هذه البقرة المسكينة التي لا يرحمها على الأرض أحد من البشر... فهي لم تفقد جُؤْذُرُّها فحَسْب، ولكنها، الآن توشك أن تفقد نفسَها أيضاً... فهبوطُها تلقاءَ غدران صُعائد، الحيزِ المائيّ الجميل، بحثاً عن صغيرها الضائع كاد يأتي عليها، فيلحقها بولدها المُتَقَصِّدِ. يا لها مأساةً تعيشها هذه البقرة على ضفاف هذه الغدران التي كان من المفروض أن تمرح من حولها وترتع، عوض أن تشقى وتقلق!.. الغدير لدى امرئ القيس مصدر للسعادة والمرح والنزهة والجمال والمتاع، ولكنه لدى لبيد مصدر للشقاء والترح والتعب والشظف والصراع من أجل البقاء؛ إذْ لا الصّيادون الذين كانوا يكْمُنون قريباً منه لهذه البقرة الوحشية لاصطيادها حقّقوا ما كانوا يريدون إليه، حقاً؛ حيث على مدى سبعة أيّام من الانتظار والترقّب لم يستطيعوا الظَفر إلاّ بذلك الجُؤذَرِ الغضّ الذي لا يسمن ولا يغني؛ ولا البقرة الوحشيّة استطاعت أن تحتفظ بجؤذرها الفتيّ، وترتع معه، وتشبعه من لبنها الدافئ، وحنانها الغامر... خسر الإنسان، لدى نهاية الأمر، والحيوان أُلْمَعَا، أمام هذه الطبيعة المتجسّدة في غدران صُعائد... فكأنها غدرانُ شؤمٍ ونكَدٍ، لا غدرانُ خير ورغَدٍ. والرياح لدى لبيد كأنها ريح. والأمطار لديه كأنها مطر؛ وكأنّ الطبيعة حين تضطرب وتنشز إنما تُبْدِي عن غضَبِها وعُبوسها: فتربدّ سماؤُها، ويتغازر ماؤُها، وتسيل وديانها، وتدوّي بالرعد فِجاجُها؛ فيتضافر ما هو فوق، مع ما هو تحت: ليجعلا مِمَّنْ، ومِمَّا، يعيش على هذه الأرض مُعَنّىً معذّباً، وخائفاً مترقّباً: باتتْ وأسبلَ واكِفٌ من دِيَمةٍ يَروي الخمائلَ، دائِماً تَسْجَامُها يعلو طريقَةَ مَتْنِها مُتَواتِرٌ في لَيْلَةٍ كَفَرَ النّجومَ غَمامُها الليل، الظلمات، الحَيا المتواتر، والقَطْرُ المُتهاتن: لا النجوم تُرَى فتُضيء بعض هذه الأصقاع من الأرض؛ ولا السماء تُقْلِعُ فيتاح للأحياء أن يَأْمَنُوا على أنفسهم غضبة هذه الطبيعة الهوجاء. فالبقرة لم تُصّبْ بفقدان جُؤْذُرِها فَقَطْ، ولكنها أصيبت، في ليلها ذلك البهيم، ببَلِيَّةٍ ممطرة باتت تُلِحُّ عليها بدِيمَتها السُّجُومِ. وما عُفْرُ اللَّيالي، كالدَّآدِي! ليلةٌ دَأْدَاءُ كَفَرَ الغَمَامُ نُجومَها، وَغَطَّى السحابُ قمرَها وأَدَيمَها، وتناوحت رياحُها: فلم يعد أحدٌ يرى فيها شيئاً: إن مَدَّ يده انقطعتْ، وإن حرّك رجلَه تعثَّرَتْ. ليلُةٌ لا تَسْمَعُ فيها إلاّ تناوُح الرياح، وتصايُحَ الحيوانات، وتباكِيَ الأطفال... وكلُّ هذه الأهوالِ التي هالَتْ الأرضَ في هذه الليلةِ الدَّأْدَاءِ إنما كان أسبابُها آتِيَةً من هذا الواكِفِ السُّجُوِم، وهذا المطر الهَتُونِ الذي يَفْتَأُ يَسْجُمُ ويدوم. فعــــل الـمــــاء وكأنَّ للماء عقدةً مع المعلّقاتيّ لبيد، فهو حين يصف ديار حبيبته يُنحِي باللوائم، من طرْف خفيّ، على جبروت الماء وما تسبّبه من مآسٍ وشقاء، وأتراح وعناء. فهذه السيول سارعت إلى الديار حتى اغتدت عافية. ولولا هذه السيول المتسلّطة لقاومت تلك الديار عوامل الزمن، فظلت كما عَهِدَها الشاعر حين غادرها... لكنّ السيول الجارفة لم ترحمه ولم ترحَمْها، فأمست أثراً بعد عين، ولم تُبْقِ منها السيولُ إلاّ آثاراً تُحْزِنُ أكثرَ مما تُفْرِح، وتشقي أكثر مما تُسْعِد... إنّ الماء هنا أيضاً لا يكون مَظِنَّةً للسعادة والرَّخاء والنعيم، بمقدار ما يكون مَظِّنةَ شقاءٍ وقساوة وجحيم. بيد أنّ هذا الماء بأشكاله المختلفة: من غُدران، وأنهار، وأمطار، وسيول، وعيون، لا يلبث أن يثوب إلى جِبِلَّتِهِ الأولى التي يُسِّرَتْ له؛ وهو إخصاب الأرض وتخْضِيرُها، وإِنبات النباتات والتمكين لها في النَّماء. ويمْثُل ذلك خصوصاً في وصف الرسوم والديار، وما آلَ إليه أمرُها بعد أن تَحَمَّل عنها قطينُها: رُزقَتْ مرابيعَ النُّجوم وصابَها ودْقُ الرواعِدِ جَوْدُها فَرِهامُها مِنْ كلِّ ساريةٍ وغادٍ مُدْجِنٍ وَعِشيَّةٍ مُتَجاوبٍ إرزامُها فَعَلاَ فروعُ الأيهقانِ وأطفلَتْ بالجَلْهَتَيْنِ: ظِباؤُها ونَعَامُها والعِينُ ساكنةٌ على أَطْلائِها عوذاً تَأَجَّلُ بالفَضاءِ بهامُها وجلاَ السُّيولُ عن الطُّلولِ كأنَّها زُبُرٌ تُجِدُّ مُتبونَها أَقْلاَمُها إنّ هذه الطبيعة المتجسدة في هذه اللوحة الحيزية الخصيبة العجيبة، والمترسمة عبر هذه الأبيات الخمسة لَهِيَ ذاتُ طبيعة عذريّة، كريمة، سعيدة، سخيّة، غنيّة، معطاء. فهذه الديار، أو قل: هذه الآثار الباقية من الديار، ألحّت عليها الأمطار حتّى أصبحت سيولاً تجرفها، وصابَها ودْقُ الرواعد بما هي أمطار غزيرة حتى لم تَتَّرِكْ حجراً، ولا شجراً، ولا غُثاءً، إلاّ اجتثّتْه اجتثاثاً، واقتلعته اقتلاعاً؛ فتخدّد وَجْهُ الأرض، وارتسمت على سطحه ارتسامات كأَنَّها خطوط الكتابة حين تخطّ على صفحة القرطاس. وماذا عن النهر؟ وماذا عن هذا الأَيْهَقَان المُخضِّر، المُمَرِع الناضِر؟ ثم ماذا عن هذه الظباء المتواثبة وِبَهامِها الرَّاتعة؟ ثمّ ماذا عن هذه العِينِ-هذه الأبقار الوحشّية الواسعات العيون- وهي ساكنة في هذا الوادِ المُمْرِعِ: على أطلائها؟ ثمّ ماذا عن هذه الطبيعة العذريّة الساحرة؟ ثمّ ماذا عن هذه الأمْواهِ الزرقاء، المتغازرة الجارية؟ وكيف سكنت الأبقار وهي تُرْضِعُ أطلاءها؟ وكيف مرحت الظباء وهي تتواثب مع بهامها؟ كأنّ عبقريّة الحياة، بكل ما فيها من نضارة وبهاء، ووداعة وسخاء، لم تتجَلَّ إلاّ في هذا الوادِي الخصيب، ولم تَمْثُلُ إلاّ في هذا الربيع الرطيب؟ الرعود تُدوّي فيتجاوب دَوِيُّها عبْر مَهاوِي الأودية، وخلال الفجاج السحيقة؛ فالأصوات تنحدر من نحو العلاء إلى نحو أعماق الفجاج التي تشبه المهاويَ اللاّمتناهِيَةَ لِعمقها، وَبُعْدِ قَعْرِها. وإنها لَعَشَايَاً عجيبةٌ تلك التي تُرزِمُ فِجَاجُها وَتِلاعُها، وَتَصْدَى جبالُها وسفوحُها. وإنها لعَشَايَا رطيبةٌ هذه التي يدجن سَحابُها، وتغدق سارِيتُها، فتَسْقِي الأرض، وتُسِيلُ الوديان، وتُحْيي الموات، وتُنبت النبات... إن الماء يعود، هنا، إلى طبيعته الأولى. إنه يتّخذ له وظيفة طقوسيّة بحيث تتجاوب السماء مع الأرض، ويتضافر الأسفل والأعلى، وتتهيّأ كلّ الكائنات الحيّة لاستقبال هذا الماء، هذا المطر، هذا الحيا: بما هو له أهل من العناية والاحتفاء والاحتفال: والإنسان في كلّ ذلك يستوي مع النبات والحيوان. بل رُبَّتَمَا ألفينا هذا الدأْبَ يتجلَّى في سلوك الحيوانات أكثر ممّا يبدو في سلوك الإنسان الذي يعنيه على كلّ حال، كثيراً، أمرُ هذا المطر الذي بفضله يتغافص نبْتُ النبات، وتربُو فروعُ الأيقهانِ، وتُخْصِبُ الجَلْهَتَانِ، وتتناسل الأبقار فتتكاثر حتّى يكتظّ بها الوادي، وتتلافح الظباء فتتعدّد حتى تحتلف بها السفح: فيَيْسُرُ على الإنسان اصطيادُها إن شاء، ويتمتع بالنظر إليها إن شاء، وَيَعُبُّ، في ماء المطر إن شاء... فالماء هنا هو الحياة نفسها. فما كان للإنسان ليكون لولا هذا الماءُ الذي بفضله كان له كلُّ شيءٍ على الأرض ممّا يشتهي أكلَه أو شربَه، أو لمْسَه أو شَمَّه... وإذن، فغدران صُعائد الشقيّة المُشقية مَعاً ليستْ إلاّ أمراً عارضاً، وشأناً عابِراً، لتلك البقرة الوحشية التي اصْطِيدَ طَلْؤُها فأمستْ ثَكْلَى: تبغم وتخور، وتضطرب من حولها وتدور، لعلّها أن تقع على جُؤْذُرِها المفقود، ولكن سُدىً!.. الأبقار هنا ساكنات على أطلائها تُرْضِعُها من ألبانها، بعد أن كانت اُرْتَعَتْ وَرَتَعَتْ، وشرِبَتْ فَرَوِيَتْ. وإنما يدلّ سكونُها على أمريْن اثنين: أولهما: إن كثرة الكلأ جعلتْها تَشْبَعُ من الارتعاء من أوّل مَرْتَعٍ. فقد أغنتْها الأكلاءُ والأعلاف والأعشاب عن أن تركُضَ وراء العُشَيْبَاتِ الشاحبة الذابلة المتباعدة المواقِعِ: تقْضِمُها وَتخْضِمُها. وآخرهما: إنّ سكون هذه العِينِ قد يعود إلى أنها كانت آمنةً على نفسها من الصيادين الذين هم أيضاَ، لِمَا كان أصابهم من خِصْبٍ، صابَهُمْ من جَدىً، أمْسَوْا في غنىً، ولو على هونٍ ما، عن اصطياد هذه الأبقار والتماسِها تحت كلّ صقع. أو لتكاثر هذه الأبقار، في ذلك الموسم الخصيب، أَمِنَتْ على نفسها، في هذا الوادي الذي يبدو أنه كان منقطعاً عن العمران، بعيداً عن السكّان. إنّ الحيز، هنا، بديع، لأنه مُمرع خصيب، وجميل، لأنه مُخْضَوْضِرٌ قشيب؛ ونضير، لأنه يقوم أساساً على غزارة الماء، الهاطل من السماء.... ويغيب الصيّادون، هنا، عن هذا المشهد العجيب، كما يغيب عنه الرِعاءُ: فأيْنَ سهام الصيّادين المترصّدة؟ وأين المرتادون ليجلُبوا على هذا الوادي بشائِهِمْ ونَعامهم فيغضّ بهم وبها، ويصطخب بأصواتهم وصيحاتهم؛ فيمسي هذا الحيز مضطرباً بالحركة، مصطِخباً بالأصوات...؟ ***** ثالثاً: طقوس الماء في معلقة عنترة لم يَكُ عنترة بِدْعاً من المعلَّقاتييّن الآخرين في معلقته التي ورد فيها ذكر العيون، والسَّحّ، والتسكاب، والقرارة، وماء الدحرضين، والروضة الأنف، والغيث، والنبت، وحياض الديلم، كما ورد فيها ذكر الشراب-الذي هو سائل- مراراً... غير أنّ الماء في معلّقة عنترة لا ينهض على وجوديّة عارمة، كما لاحظنا ذلك في معلّقة لبيد العجيبة، وخصوصاً حين يربط وجود غديرٍ صُعائد بحياة البقرة التي هي إن ظلّت بعيدةًعن الغدير أوشكت أن تهلك ظَمَأً، وتمعن يأساً من العثور على طَلْئِها، وإن هي هبطت إلى الغدير فإنها توشك أن تتعرَضَ لِخَطَر الموت، ولسِهام الصّيادين المترصّدة، ولمطاردة الكلاب المتحرّشة، ولكلّ الطوائل والمحن... فما عسى كانت أن تصنع وقد بُليَتْ بأمريّن اثنين كلاهما مُرٌّ وضُرٌّ: الثكل، والوقوع تحت طلب الصيادين الجشعِين... صورةُ الماء، وطقوسُ السوائل في معلّقة عنترة أبسط من ذلك كثيراً... إنها لا تحمل فلسفة الصراع من أجل البقاء، ولا المناضلة من أجل الحياة، إلاّ في صورة تنشأ، أصلاً، عن هَطْلِ المطر، وتَغازُرِ الماء، واندلاع الربيع، وفيض الخصب. وهي صورة الذباب التي كان أبو عثمان الجاحظ أُعْجِبَ بها إعجاباً شديداً، والتي يجسدها قوله في وصف الروضة الأُنفِ التي يجتابها الذباب، وتكثر من حولها الحشرات: أو روضةً أُنفاً تَضَمَّنَ نبْتُها غيثٌ قليلُ الدِمْنِ ليْس بمُعْلِمِ جادَتْ عليها كُلُّ عين ثَرَّةٍ (31) فتركْنَ كُلَّ حديقةٍ كالدِرْهَمِ فترى الذُّبابَ بها يُغنّي وحّدَه هَزَجاً كفعل الشّارِب المترنِّمِ غرِداً يَحُكُّ ذراعَه بذراعه فِعْلَ المُكِبّ على الزِّنَادِ الأَجْذَمِ (32). إنها ملحمة الماء والخصب في هذه اللوحة الحيزيّة البديعةِ الجمالِ، والتي تتغافص فيها السمات اللفظيّة المائيّة، والسمات التي لها صلة بجمال الماء؛ فَيَقُصُّ بعضها بعْضِاًً، وذلك مثل: الروضة الأُنفُ، والنبْت، والغيث، والدمن، والربيع، والجود، والبكر الحرّة(السحابة الممطرة)، وقرارة الماء، والسَّحّ، والتسَّكاب، وجَرَيان الماء الذي لا يتصرّم سيلانُه... وإذا كانت أمواهُ النهر وضفَّتيْه الخصيبتَيْن ذُكِرَتْ لدى لبيد في معرض الأمْن الذي استتبّ في ذلك الوادي حتى أمِنَتْ فيه الأبقارُ الوحشيّة على نفسها وعلى أطلائها من غائلة الصيادين؛ كما كانت أمنتْ معها الظباء وبهامُها؛ فإنّ الخصب هنا -الروضة الأنف وما كان له صلة بها- ذُكِرَ عَرَضاً من أجل تشبيه ثَغْرِ الحبيبة عبلة وُوضوح غروبها، وطِيبُ مُقَبَّلِها أوّلاً، ثم من أجل وصف ربوعها الدراسة، وديارها البالية: فذكر مع ذلك، أثناء ذلك، هذا الذباب السعيد الذي خلا بهذه الروضة الأنف، إذا حقّ للحيوان أن يسعد: وذلك بفضل ما وقع له من هذا الخصب الخصيب، وهذا الجو الرطيب، وهذا الكَلأ المتكاثر، وهذا النبت المتغافص، فصار من فرْط سعادته ورِضاه، غِرداً هِزجَاً، ومتغنيّاً مترنّماً، يحك الذراع بالذراع، كفعل المكبّ الأجذم حين يقدح بعودين اثنين. أخيراً: وقد كان الجاحظ أعجب، بهذه الصورة الغجريّة العذريّة، إعجاباً شديداً فلاحظ أن عنترة لم يُسْبَقْ إليها في الشعر العربيّ، ولم يلاحقه فيها أحد من الشعراء مخافَة أن يقصروا عما بلغه هو فيها من الجودة وحسن التصوير؛ فزعم أنْ لوْ "أنَّ امرأَ القيس عَرَضَ في هذا المعنى لعنترة لافتضح" (33)، وأنّ الشعراء كانوا يقلّدون كلّ "تشبيه مصيب تامّ"(34) سبق إليه شاعر منهم" إلا ما كان من عنترة في صفة الذباب، فإنه وصفه فأجاد صفته، فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرض له أحد منهم"(35). ونحن قد كنّا رددنا على أبي عثمان، في غير هذا المقام، حيث إننا لا نشاطره الرأي، وأنّ الشعراء لم يتحاموا هذه الصورة بمقدار ما تجانَفوا عنها لقذارتها وَبَشَاعَتِها. فلو كانت هذه الصورة تتعلّق بثغِر امرأة جميلٍ، أو بشذى وردةٍ عبق، أو بقدِّ حسناءَ ممشوقٍ- كاتفاقهم في وصف المرأة بالكشح اللطيف (امرؤ القيس)، أو الأهضم (عنترة)، أو كشح جنوبيّ (عمرو بن كلثوم)... أو بعيني الحبيبة السوداويْن المشبّهتين غالباً بعيون ظباء وجرة (امرؤ القيس- لبيد)، وببقر وَحْشِ تُوضِحَ.... لكانت الشعراء تَسَابَقَتْ إليها، وتهافتَتْ عليها، وَكَلِفَتْ بها كلفاً شديداً؛ ولكانت، إذن، جَرْت في أشعارها، ولتكاثرت حتماً في آثارها... أمّا والأمر منصرف إلى الذباب الساقط، وهيئته المستبشعة، وقذارته المستسمجة، وإلى طنينه المزعج، وغنائه المضجر، ولسعاته المؤذية، وتكالبه على الناس لَيَعَضَّ جلودهم، ولِيَسَّاقَطَ على شرابهم فيتحاموه، وليحطّ على طعامهم فيعافوه... حتى إنه ورد في الأثر الشريف بأنّ "الذباب في النار" (36). وقد كانت العرب تكنوا الرجلَ الأبخر: "أبا ذباب" (37). أفيعقل مع كلّ ما ذكرنا، أن تتهافت الشعراء على صورة الذباب القذرة المتوحّشة لتلهج بها بدل المناظر الجميلة، والمشاهد العجيبة، والأصوات الرنينة، والحركات الرشيقة التي تأتيها الحَشَراتُ الأخراة الجميلة والنافعة كالنحل والفراش...؟ وأياً كان الشأن، فإنّ الذي يعنينا، هنا والآن، أنّ المطر هو الذي كان علّة في إخصاب حيز الروضة الأنف التي تكاثرت حشراتها، وتكالب ذبابها؛ فكانت تنتقّل من نبتة إلى نبتة، ومن عشبة إلى عشبة أخراة: التماساً للغذاء، وطلباً للحركة، ورغبة في التسافد... والذي نلاحظ أنّ الماء كأنه أشدّ ارتباطاً بالحيوان منه بالإنسان، إلاّ ما كان من غدير دارة جلجل (الحيز المائي الذي صوّره امرؤ القيس الفتى المتأنِق الذي لم يبرح يطوّف في بلاد العرب، إلى أن انتهى به التطواف إلى الشام، ثم إلى بلاد الروم، ثم إلى قصر القيصر...) وإلاّ فإننا كنّا ألفينا لبيدا يتحدث عن البقر العِيَنِ وهنّ ساكناتٌ على أطلائِها، على جَلْهَتَي الوادي، دون ذكر للإنسان الذي كان هو الأَوْلَى بالإحساس بالخصب، والأجدر بالحرص على تَسجام الغَيث. كما نلفي الشَّأْنَ نفسَه لدى عنترة في وصف الحديقة الغنّاء التي ربط كلّ ما فيها من نبات وزهور وأعشاب وأكلاء بهذا الذباب التي تحوم خِلالَها بدون توقّف ولا مَلَلٍ ولا كَلَلٍ. فالماء، إذن، في التمثّل البدائي أنه كان للحيوان والنبات، ثم الإنسان الذي يتسقّط مساقطه، ويرتدي مراعَيه حين يجودها فتربو وتنمو. وكأنّ الإنسان مجرّد شريك للحيوان الذي هو هنا ذو حقوق متساوية معه، فيه. ***** رابعاً: طقوس الماء في المعلقات الأخراة لم تَخْلُ أيُّ معلقّةٍ من ذِكْرِ الماء، والتعامل مع المطر، وربطه بالحياة البدويّة الصحراوية بكلّ ما فيها من شَظِف العيش، وشقاوة السعْي، وشحّ الطبيعة وقساوتها. ولعلّ زهير بن أبي سلمى أن يأتي، بعد لبيد، وامرئ القيس، وعنترة، في المرتبة الرابعة من حيث الإيلاعُ بذكر الماء، ومن حيث القدرةُ على توظيفه في معلّقته، ومن حيث، خصوصاً، ربُطُه بالحياة والأحياء، وذلك حين يقول: بها الْعِينُ والأرآمُ يمشِينَ خِلْفَةً وأطلاؤُها ينهَضْ من كُلِّ مَجْثَمِ (....) وفيهنّ ملهَّىً لِلَّطِيفِ ومنظَرٌ أنيقٌ لِعَيْنِ الناظِر المتَوسِّمِ وقوله أيضاً: * فهنّ ووادِي الرَّسِّ كاليَدِ لِلْفَمِ* *فلمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرقْاً جِمَامُهُ* ولكننا نلاحظ أن زهيراً يتناصّ في هذه اللقطة الشعرية مع عنترة في الأبيات التي قدمناها منذ قليل، ومع لبيد قوله: فعلا فروع الأيهقان وأطفلَتْ بالجَلْهَتَيْنِ ظِباؤُها ونَعامُها( ...) *والعِينُ ساكِنَةٌ على أَطْلائِها* وربما مع قول امرئ القيس أيضاً: تَرَى بَعَرَ الأرآم في عَرصاتِها وقيعانِها: كأنه حبُّ فُلْفُلِ فكلُّ هذه الصوِر يَتَقَارَبث ويتشابه، وَيَنْسُجُ بعْضُها على بعضها الآخر. فهناك: العِينُ، والأطلاء، والأرآم المتلاعبة، لدى زهير، حتّى كأنّ الصورتيْن في المعلّقتين هما صورة واحدة. وهناك منظر أنيق لعَيْن الناظر المتوسّم، لدى زهير أيضاً. بينما هناك لَعِبَ الربيعُ بربْعِها المتوسمّ، لدى عنترة. على حين أنّ امرأ القيس لم يذكر إلاّ بعر الأرآم في العرصات، فذكر السمة الحاضرة (البعر) الدالّة على السمة الغائبة (الأرآم)؛ فكلامه يجري مجرىً سيماءَوِياً قائِماً على اصطناع القرينة من باب: لا دُخانَ بلا نار. وعلى أنه يمكن أن يُقْرَأَ على أنّه سمة مُماثِليَّةٌ(إقونيّة)، إذا راعينا أنّ مثل هذا البَعَر الأسود المتساقط في العَرَصات لا يدل لدى العارفين، على إبل، ولا على شاة، ولا على بقر، ولا على ظباء. وإذ اختصَّتْ هذه السمةُ الحاضرة بالسمة الغائبة التي لا يمكن أن تخرج عن جنس الظباء البيض، فقد اغتدى هذا الكلامُ وارِداً مَوْرِدَ ما نطلق عليه نحن في مصطلحاتنا "المماثل" (أي"الإقونة"، بالمصطلح الأجنبيّ). وصورة الحيوانات في معلّقة زهير، صورة تقوم على الماء والخصب: *رَعَوْا ظِمْأَهُمْ * بها العِينُ والأرآمُ يمشين خِلْفَةً وأطلاؤُها ينهضْ من كلّ مَجْثَمِ إذ لولا الغيث النازل، والمطر الهاطل؛ لما وقع هذا الرعْيُ لهذا الكلأ المُخْضَوْضِرِ، ولما تواجدت هذه الأبقار الوحشية، وهذه الظباء الجميلة: المُطْفِلَة. فولا الإمراعُ لَما حدث تلاقح هذه الحيوانات وتسافُدُها، ولما أطفلت، إذن، ما أَطْفَلَتْ. لكننا نلاحظ، أثناء ذلك، أنّ زهيراً يتفرّد، عن بعض المعلقّاتّيين الآخرين، بربطه الماء بالإنسان، وخصوصاً بمواقف الجمال، ومآقط الحُسْنِ والدّلال، أي بالنساء الجميلات السَّاحرات، فكأنّ الماء لم يكن، من منظوره، إلاّ من أجل الحسناوات؛ وإلاّ من أجل أن يسْعَدْنَ في رِياضه، وَيرْفُلْن في أزهاره، ويستمتعن بَسَيلانِهِ وهو يسيل، ويتشنّفن بخريره وهو يَخِرُّ: *فهنّ ووادي الرسّ كاليد لِلْفَمِ *وفيهنّ ملهىً للطيف ومنظرٌ أنيق لعَيْن الناظر المتوسِّم *فلمّا وردن الماء زُرْقاً جِمامُه فلأوّل مرة نصادف في معلّقة تخصيصَ الماء للإنسان، صراحةً ، ووقْفَه عليه، وجعْلَه يستمتع به، ثم جَعْلَه، خصوصاً، يُحِسّ به: *فلمّا وردن الماء زرقا جِمامُه وضعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيِّمِ فما هنّ إلاّ أن يَردْنَ هذا الماء الصافِيَ الرقراق الذي تكتظّ به هذه البئر الثَّرَّةُ؛ وإذا هنّ يُبْهَرْنَ بما في هذا الماء الزّلال من جمال، وعذوبة، وصفاء، وشفافة: فيقرّرِن الإضراب عن المسير، ويُزمعن على الثواء من حوله: فيُطَنِبْنَ الخيام، ويُزَمِعْنَ المُقام. فلم يكن تخييمُ أولاءٍ النساء، ومعهنّ بعولُهُنَّ وأطفالُهنّ وأقاربهنّ، هنا، إلاّ من أجل جمال هذا الماء؛ إذ كان هو عنصر الحياة الأوّل، وسرّها الأكبر. فنساء دارة جلجل لم يكدن يستمتعن بالماء إلاّ ساعةً من نهار، لَمَّا تعرّضن للمضايقة والفضيحة حين استحوذ امرؤ القيس، فيما تزعم الحكاية، على ملابسهن، ثمّ زايلْنَه، وربما إلى غير إياب. بينما الماء لدى لبيد وعنترة لا يكاد يتصّل شأنه إلاّ بالحيوانات. فكأن سعادة تلك الحيوانات من سعادة الإنسان، أو كأنّ تلك الصور الخصيبة، والمشاهد المُمْرِعَة، سمة حاضرة تجسّد سمة غائبة: هي حياة أولئك البدو الذين كانوا يرتادون الكلأ، ويتسقّطون مواقع الماء، ويتوخّون المآقط التي يكون فيها خصب وريٌّ، وعُشْب وَكَلأٌ. فتسمنُ أنعامُهم متى ارتعوها، وتَرْوَى إبِلُهم متى أوردوها؛ إذْْ كانت حياتُهم من حياتها، بل وجودهم من وجودها. وأمّا عمرو بن كلثوم فإنه يرقى بالماء إلى أنه أساس الوجود، وسرّ العزّة، وقوام السلطة؛ وأنه وقومَه كانوا لا يبالون، حين يطلبون الماء ويلتمسون الخصب، أن يقتلوا من يُلفونه في سبيلهم من أجله: ونشرَبُ إِن ورَدْنا الماءً صفْواً ويشرَبُ غيرُنا كدَراً وطِيناً إنّ هذا البيت يواري وراءه عالَماً معقّداً من الصراع الضاري من أجل الماء، في الحياة الجاهليّة، حيث كثيراً ما كانوا يتقاتلون على الماء، أو حول الماء، أو من أجل الماء. ويعني ذلك أنّ القبائل الخاملة، كانت ربما التمست من الماء أملحه، ورضَيتْ من العيون بأكدرها: فكان الماء العذب الزلال وَقْفَاً على القبائل العزيزة، والبطون الماجدة التي تقوى على البطش والصراع. ***** إنّ الماء حين يذكر في المعلقات، إنَّما يذكر: 1. إمّا غيثاً هاتِناً تُخْصِبُ عليه الأرضُ، وينمو به النبت: 2. وإمّا شآبيبَ غزيرةً تقع منها السيول، وتسيل بها الأودية: *من السيل والأغثاء فلكهُ مغزَلِ(امرؤ القيس)، *وألقى بصحراء الغبيط بَعَاعَهُ(نفسه)، *كأنّ السباع فيه غرْقَى عِشيَّةً(نفسه)، *وجلا السيولُ عن الطُّلولِ (لبيد)؛ 3. وإمّا غُدْراناً يسبح فيها العذارى، وتَرْوَى منها الحيوانات: *ولاسيما يوم بدارة جلجل(امرؤ القيس)، *شرِبَتْ بماء الدُّحْرُضَيْنِ فأصبحَتْ زوراءَ تنفُرُ عن حِيَاضِ الدَّيْلَمِ(عنترة)، عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهاءِ صُعَائِدٍ سَبْعاً تُؤَاماً كاملاً أَيَّامُها(لبيد)؛ 4. وإمّا عيوناً ثرثارة يغتسل فيها الناس، ويستقون منها ما يشربون: *فمدافِعُ الرَّيَّانِ(لبيد)، *فتركن كلّ حديقة كالدرهم (عنترة)، *فلمّا وردن الماء زرقا جِمَامُهُ وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِر المتوَسِّمِ(زهير)؛ 5. وإمّا أنهاراً صغيرة، يكثر الخصب على ضفافها: *فتوسّط عرض السرى(لبيد)، *وأطفلَتْ بالجَلْهَتَيْنِ ظِباؤُها وَنَعَامُها(لبيد أيضاً)؛ 6. وإمّا عُيوناً أو آباراً يشتدّ من حولها الصراع، فلا ينالها إلا الأعزّ، ولا يُبْعَدُ عنها إلاَّّ الأذلالّ: *ونشرَبُ إِن ورَدْنا الماء صفوا ويشرب غيرُنا كَدراً وطينا(عمرو بن كلثوم)؛ 7. وإمّا بحراً طامِياً، تمخر فيه الفُلْكُ: *يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حيزومُها بِها (طرفة)، *وماءُ البحر نَمْلَؤُه سَفِينَا (عمرو بن كلثوم). إحالات وتعليقات:
جادت عليه كُلُّ بِكْرٍ حُرّة فتركن كلّ حديقة كالدرهم ولا ينبغي للضمير لديه أن يعود على شيء مذكَّر في البيت السابق، كما أن الشرح الذي كتبه حول هذا البيت ليس جيّداً حيث الاضطرابُ فيه بَادٍ. بينما رواية القرشيّ أعلى وأدنى إلى منطق الترتيب لهذه الأبيات: لولا ما ورد فيها من هذا البيت الذي لا يخفَى التكلُّفُ في دَسِّهِ، وخصوصاً ما جاء في صدره: وبحاجب كالنون زُيِّنَ وجْهُها وبِنَاهِدٍ حَسَنٍ وكَشْحٍ أهْضَم فعلينا أن نكون سُذَّجاً غَفَلَةً لكي نصدّق أنّ الشاعر الجاهليّ كان يُشَبِه شكْلَ الحاجِبِ الأَزَجِّ بشكل حرف النون(وهو على كل حال تشبيه سيئ، لأنّ شكل النون مقوّس أكثر بكثير من شكل الحاجب الذي يشبه شكله شكل الهلال مثلاً... فالحاجب الذي يشبه شكل النون يجب أن يشبه شكل حاجب الشيطان، كما يجب أن يتمثّله الخيال...)، فهنا يستحيل عنترة من حامل للرمح والسيف، إلى حامل للقلم والقرطاس، وهو أمر غيرممكن. وإذن فالبيت منحول مدسوس، والذي نحله ليس ذكيّاً ولا مثقفا بالثقافة التاريخية... والذي يعنينا، هنا، أكثر هو أنّ معاد الضمير لدى القرشي، مطابق لما ورد في رواية الزوزنيّ، ولكنّ معاده واضح حيث يلتفت إلى رَبْعِ عبلة: ولقد مررتُ بدار عَبْلَةَ بعدما لَعِبَ الربيعُ بِرَبْعِها المتوسِّم ويضاف إلى كلّ ذلك أن رواية الجاحظ "كلّ عين ثرّة"، ورواية الزوزني والقرشي: "كلّ بكر حرّة". ونحن كنّا نؤثر أن تكون رواية صدر بيت عنترة على هذا النحو: *جادَتْ عليها كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ* فلعلّ تلك الصياغة أدنى إلى أن تتلاءم مع ما سبقها من معان... 31. الزوزني، شرح المعلّقات السبع، 140- 141؛ والجاحظ، م. م. س.، 3. 312؛ والقرشيّ، م. م. س.، ص 95. 32.الجاحظ، م. س.، 3. 127 . 33.م. س.، 3. 311 . 34.م. س.، 3. 331- 312. 35. ابن منظور، م. م. س.، ذبب. 36.م. س. |
|||
2012-02-11, 17:19 | رقم المشاركة : 11 | |||
|
تَأْوي إلى اْلأَطْنابِ كلُّ رَذِيَّةٍ مِثْلِ البَلِيَّةِ قَالِصٍ أَهْدامُها مات بموت تلك العادة المعتقداتيّة التي لا يمكن فَهْمُها إلاّ بتعويمها في الرؤية الأنتروبولوجية، ولكنّ لفظها ظلّ مستعمَلاً في معنىً آخرَ؛ وهو المعنى الشائع الاستعمال في اللغة المعاصرة، حين ينطق، أو حين يكتب. ولا يقال إلاّ بعضُ ذلك في لفظ "الحقيقة" التي كانت تستعمل، في اللغة الجاهليّة، استعمالاً واسعاً بمعنى ما يَحِقُّ عليك حِفْظُه، فكانت"حقيقة الرجل: ما يَلْزَمُهُ حِفْظَهُ وَمَنعُه، ويحق، عليه الدفاعُ عنه من أهل بيته" (1). وكانت العرب كثيراً ما تردّد، حول هذا المعنى، وحين يريدون إلى مدح بمكارم الأخلاق، ومآثر الأفعال: "فلانٌ يَسوق الوسيقَة، وينسل الوديقَة، وَيَحمِيْ الحقيقة"(2). وقد ورد لفظ الحقيقة في معلّقة عنترة بهذا المعنى: ومِشَكِّ سابغةٍ هتكْتُ فُرُجَها بالسيف عن حامي الحقيقة مُعْلَمِ فالحقيقة إذن لدى قدماء العرب كانت تعني ما يجب، أو ما يحق، عليك حمايتُه؛ أو ما هو حقّ لك من الأشياء والممتلكات، ثمّ تنوسي هذا المعنى القديم، لهذا اللفظ الجميل، بضعف الحميّة الجاهليّة التي لم يبرح الإسلام يحاربها، واغتدى موقوفاً على معنى الشيء اليقينيّ في التصورّ لدى الفلاسفة، ولدى أهل التصوّف أيضاً. ومثل لفظ"الضريبة" الذي اغتدى اليوم يطلق في لغة أصحاب الضرائب والجبايات، والذين يتابعون الناس في أرزاقهم يقتطعون منها، على مقدار معلوم يقتطع من مرتّب الموظف، أو يفرض على التاجر ورجل الأعمال، وكلّ ذي دَخْل(وبالمناسبة فإنّ لفظ"الدّخل" كان يطلق، في العربيّة القديمة، على ما يناقض المظهر الخارجيّ للمرء، وقد خلّدت هذا المعنى تلك الفتاة العربيّة التي أجابت أباها لمّا سألها عن أمر فتيان إخْوَةٍ جاؤوا جميعاً يختطبونها، فلمّا حارت في أمر اختيار أحَدِهِمْ قالت: "ترى الرجالَ كالنَّحْل، وما يُدْرِكَ ما الدَّخْل؟": بينما أصبح لفظ"الدخل" يطلق في لغة التّجار ورجال الأعمال، وعلماء الاقتصاد، على الرزق الذي يقع للموظف، أو المواطن، أو الربح الذي يقع للتاجر...)؛ في حين أنه كان يطلق على الشيء الذي يُضْرَبُ بالسيف، والشخص الذليل الذي كان يُضْرَبُ بالسيف، فلا يَضْرِبُ هو: "المُضَّرب". وقد جاء هذا اللفظ بهذا المعنى، في معلّقة الحارث بن حلزّة: ليس منّا المُضَرَّبونَ ولا قيـ ـسٌ، ولا جَنْدَلٌ، ولا الحَذَّاء ولعلّ الذي أبعد العربيَّة القديمةَ على ما يجري به الاستعمال المعاصر، الشائع، ثلاثةُ أمورٍ: أولهما: موت المعاني التي استُعْمِلَتْ فيها العربيّة القديمة، مثل العتيرة، والحقيقة، والمُضَرَّب، وكثير من تلك المعاني كان مندرجاً في طقوس وثنيّة بادَتْ. وثانيها: شيوع الأميّة اللغويّة، وغلَبَة الكسل، وانعدام حبّ المعرفة، لدى كثير من الناس. ولم تبق هذه الأميّة اللغويّة مقصورةً على عامة الناس فحسب، ولكنها جاوزتهم إلى الكتاب والشعراء أنفسهم؛ فإذا هم لا يكادون يستعملون إلاّ ألفاظاً بسيطة قليلة في كتابات كثيرة: فغاب الدور الجماليّ للّغة، في أعمال أدبيّة يفترض أنّ الوجود اللغويّ فيها هو الذي يمنحها الشرعيّة، ويشرئّب بها نحو الخلود. ولقد نشاهد كلّ يوم في الفضائيات الأجنبيّة الساقطة علينا من أَجْوَاءِ أوربا أنّ هناك برامَج ثقافيَّةً وترفيهيّة كثيرة تقدّم إلى الناس باللغة، وعن اللغة... بينما الذين يشرفون على البرامج المبثوثة عبر الأثير، في معظم بلدان الوطن العربيّ، لا يملكون أن يقدّموا مثل تلك البرامج الثقافيّة اللغويّة الجميلة؛ لأنّ الصحفيّ العربيّ في أوّل درس يتلقّاه في مدرسة الصحافة، يقال له: اللغة للمختصّين، وللذين يدرّسون اللغة العربيّة في المدارس والجامعات... أمّا أنت فعليك بالكتابة، وبكتابة لا تكلّف نفسَها معرفة أكثر من ثلاثة آلاف لفظة!... والله المستعان!... وآخرها: طفوحُ معانٍ جديدة، بحكم التطوّر الحضاريّ المذهل، ثم بحكم التطور الطبيعيّ للمجتمعات والأشخاص بحيث أنّ إنشاء ألفاظ جديدة كثيراً يكون شؤماً مشؤوما على حياة ألفاظ قديمة فتموت، أو تُمَاتُ، وتُنْسَى، أو تُتَنَاسَى... وهذا قانون ينطبق، في الحقيقة(بالمعنى الحديث)، على جميع اللغات الإنسانية التي تَطَوُّرُها واتّسِاعُها وتَبَحُّرُها لا يحَدْثُ في كلّ الأطوار، دون أن يَضِيرَ ما قَدُمَ من الألفاظ، وما غَبَرَ من المعاني. من أجل ذلك، ارتأينا أن نطلق على لغة المعلّقات، في بعض استعمالاتها على الأقلّ. صفة التوحّش، لا صفة الغرابة؛ وصفة العذريّة، لا صفة البَداوة. ولمَّا كان الأصلُ في كلّ تركيب لغويّ، هو اللغةَ نفْسَها في لَعِبِها بنفسها؛ ولمَّا كانت هذه اللغة هي المادّةَ الأولى التي يتشكّل منها التركيب، ويتركَّب منها النسج، ولمّا كانت هذه اللغة التي قيل عبرها الشعر الجاهلي وحشيَّةً، غجريّة: كأنّها نبْعُ الماء حين يتبجّس، أو شذَى الوردِ حين يعبق، أو خضرةُ النبْتَة حين تَدْهَامُّ، أو زَرْقَةُ السماء حين تصفو، أو إِشراقة الشمس حين تتوهَّج، أو نور القمر حين يتلألأ: سمحةً كعطاء الطبيعة، وكريمةً كقَطْرِ الغيث، وعبِقَةً كنفَس الفجر، ودافئةً كَلَبَنِ الثدي، كان التركيب اللغويّ الذي هو أثر من آثار عطائها، وشكل من ثمرات تشكّلها: غجريّاً مثلها. خذ لذلك مثلاً قول لبيد: *في لَيْلَةٍ كَفَرَ النجومَ غَمَامُها* فإننا نلاحظ فيه: 1. فعلى المستوى النحويّ تقديمُ المفعول على الفاعل، على غير المألوف من التركيب، بحيث يمكن للقارئ، أو المتلقيّ، أن يقع في غَلَط إذا تسرّع في قراءته فيرفع المفعول، وينصب الفاعل، قبل أن يَنْبَه إلى وجه الكلام، ويهتدي السبيلَ إلى صواب الإعراب. 2. وعلى المستوى النحويّ أيضاً-لأنّ النحو ليس إِقامة الإعراب فحسب، ولكنه إقامة المعنى أيضاً- نلاحظ أنّ لفظ "غمامها"، هنا، مُشْكِلٌ بحيث يمكن أن تعود الهاء منه إِمّا على"ليلة"، وإِما على"النجوم": دون أن يمتنع إمكانُ توجيهِ إعرابِ على إعرابِ، وتخريج على تخريج. 3. وعلى المستوى الدلاليّ فإنّ اصطناع لفظ "كَفَرَ" الشائع في اللغة العربيّة، منذ ظهور الإسلام، بمعنى الشرك بالله، أو الشكّ في وجوده، أو القطْع بعدم وجوده: يوهم القارئَ العاديّ فيتسرّع وَهْمُهُ إلى المعنى الإسلاميّ، لا إلى المعنى الوصفِيّ لهذا اللفظ الذي كان معناه في أصل الوضع للسَّتْرِ والإِخفاء والمُواراة. 4. نلاحظ أنّ إضافة الهاء المُشْبَعَة بالسكون المفتوح الممدود، إلى الميم من لفظ (أو "ضَرْب"، كما يصطلح العَروضيّون): "غَمَامُها" ينهض بوظيفة إِيقاعيّة وجماليّة عجيبة؛ فلو أُورِدَ هذا المصراعُ على التركيب البسيط، فقيل: *في ليلةٍ كَفَرَ فيها الغَمَامُ النجومَ لخرج عن كلّ انزياح؛ ولَمَزَق من دائرة الخرْق النسجي، والتوتُّر اللغويّ؛ وإذن، لَمَا كان له مثل هذا الوقع الجميل، وهذا التنغيم البديع. كما أنه لو أُوِرَد على طريقةِ النسج في هذه القصيدة، ولكنْ بتقديم وتأخير المفعول، وقيل: *في ليلةٍ كفَرَ الغَمَامُ نُجومَها لفسد الإيقاع، ولخرج من صوت الضمّ إلى صوت الفتح؛ وإذن لانْكَسَرَ الصوت؛ وإذن لحدث اضطراب مُريع في مسار الإيقاع الشعريّ الأخير لهذه القصيدة الوحشيّةِ الخارقةِ الجمال. ويبدو أنّ نسج هذه القصيدة يُعَدُّ أُمَّ النسوج الشعريَّة التي قيلت على شاكلتها، على نحو أو على آخر، ابتداءً من الفرزدق إلى أبي الطيب المتنبي: وفاؤُكما كالربْع أَشجاه طاسِمُهْ بِأَنْ تُسْعِدَا والدَّمْعُ أشقاه ساجِمُه(3) إلى أبي الحسن الحُصْرِيّ في داليته البديعة (وهي الداليّة التي تناصّ معها كثيراً من الشعراء منهم نجم الدين القمراوي، وناصح الدين الأزّجانيّ، وأحمد شوقي...)(4) فنسج على غرار قصيدة لبيد، مع وجود الفارق، ولكن مع استلهام روح الإيقاع، متناصّاً معه: يا ليلُ الصَّبُّ مَتى غَدُهُ أقيامُ الساعة مَوْعِدُهُ؟ ولعلّ من الواضح أنّ إعادة الضمير على سابق في هذا الإيقاع، واجْتِعَاَلَ هذه الهاءِ عنصراً إيقاعيّاً، إضافيّاً، بجانب ما قبله: يفجّر اللغة بما فيها من الطاقات النغميّة، والعطاءات الصوتيّة؛ فيغتدى النسج كأنّه منظومة من الأنغام المتتالية المتصاقبة التي تخرج ألفاظ اللغة من مجرّد سمات صوتيّة فيزيائية دالة على مدلول، إلى سمات جماليّة تستحيل بالوظيفة اللغويّة من الذهن إلى السمع، ومن المدلول إلى الدالّ... وممّا يمكن أن يندرج ضمن ما نطلق عليه التركيب الوحشيّ للغة العربيّة، قول لبيد أيضاً: *قَسَمَ الخلائِقَ بيننا عَلاَّمُها* فهذا التركيب بعيدٌ عن النسْج المألوف للغة العربية وأسلوبِها"الأَرْطودُوْكْسِي" بين الناس؛ وَفَهْمُ معناه لا يتأتَّى إلا باستعمال الذكاء، والاندماج في روح النّصّ حيث تصادفنا جملة من الانزياحات النسجّية منها: 1- تقديم المفعول على الفاعل، هنا أيضاً، كما كنّا لاحظْنا ذلك لدى تحليل المصراع الشعريّ السابق، وهو قوله: *في ليلة كَفَرَ النجومَ غَمامُها* وإن كان المفعول هنا، على موقعه المتقدّم، يبدو أكثر اطمئناناً في النسج، وأشدّ استقراراً في التركيب، وذلك على أساس أنّ القارئ العربيّ الذكِيَّ يُدرك، لأوّل وهلة، أن الذي يَقْسِمُ الأرزاقَ بين الناس لا يكون إلاّ علاَّمَ الغيوب؛ فهو الفاعل الأعظم، والمقِّدَّر الأكرم. 2- إن الضمير الوارد، هنا، في هذا المصراع الشعري اللَّبِيديّ، جَاءَ لِمُجَرَّدِ إِشباعِ الإيقاعْ بصوت إضافيّ، بعد الميم التي كأنَّها، لو أُبْقِيَ على ضَمِّها غير الممدود لكان في ذلك قمْعٌ للنفَس، وقهر لاندفاع الصوت، وغَفْص لمخْرَجِه، وَكَبْت لمنتهاه: أعِيدَ على الخلائق، ولكن بتغليب الكائنات غير العاقلة على العاقلة، وكأنّ الحياة كانت لا تبرح في تلك اللحظة الشعريّة العذريّة، تمثّل النشأة الأولى للإنسانيّة. وكأنه لم يكن هناك أي فرْقٍ بين ما لا يعقل، وبين من يعقل، ولذلك وقع التغليب. وعلى أننا نعلم، من الوجهة النحويّة الخالصة، أنه يجوز إعادة الضمير على جمع التكسير على هذا النحو دون حرج. ولكننا أردنا إلى تأويل هذا الضمير سيماءَوِياً، لا نحويّاً. 3- إنّ التركيب في هذا المصراع لا يستقيم، كما يجب أن يلاحظ ذلك كل مُتَلقٍ من الناس، وأنه مكثّف إلى درجة أن المتلقّي هو الذي عليه تأويلُ الصياغة، وتخريجُ المعنى، وتركيب النسج على الوجه المألوف، إن شاء أن يَفْهَم. وهو ببعض ذلك كأّنّه شعر حديث جداً، لأنّ الباثّّ، هنا، يرسم نصف صورة، ويترك للمتلقّي تكملةَ رسْمِ النصف الآخر من هذه الصورة. ويغتدي المفعول، حين يُعْمِلُ المتلقي ذهنه، منصوباً على المُغَالَطَةِ (ونحن نتجرَّأُ على النحاة باقتراح هذا المصطلح الذي فرضتْه إجراءات هذه القراءة)، وهو هنا نائب لمفعول غائب اقتضاه التكثيف الشعري: يتمثل في لفظ"الرزق". وعلى بعض ذلك يغتدي تقدير نسج هذا المصراع العجيب: * قَسَم العلاَّمُ الرِزقَ بين الخلائق. فكأنّ التكثيف اقتضى تغييُبُ لفظ "الرزق"، المفهوم لدى المتلقّي الذكيّ، وتعويضه بمَنْ ينتفعون به وهم الخلائق: من الوِجْهة الدلاليّة، كما اقتضى حذف لفظ "الرزق" واتخاذ "الخلائق" نائباً له، للدّلالة عليه من الوجهة النحويّة. أمّا الهاء التي أُشْبِعَ بها صوتُ الميم من اللفظ الأخير في المصراع (الضرب)؛ فقد جاء، كما أَسْلفْنا الْقَالَ، لينهض بوظيفة جماليّة أساساً؛ ولكن لا يمتنع من أن ينهض بوظيفة إضافيّة تتجسّد في تعميق الدلالة، وتوكيد المعنى. ولو جئنا نقرأ مثلاً هذا البيت لعمرو بن كلثوم: ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ هِجَانِ اللَّونِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا لتأكّد لنا ما كنّا زعمناه في شيء ممّا كنّا قرأناه من بعض شعرِ لبيدٍ، ولاٌ ستبانَ لنا أنّ هذا النسِج حوشيّ غجَريّ في معناه، وفي تركيبه: 1. فأَيْمْا في معناه فإنه يُشّبِهُ ذراعَيِ المرأةِ بذراعَي الناقة؛ وهي صورة في منتهى السوء، وانحطاط الذوق البدويّ، وقصوره عن إدراك جمال الحياة، وجمال الأشياء. ولعلّ الذي حمله على ذلك هو حرصه على إقناع المتلقّي بضخامة هذه المرأة: طولِ قامةٍ، وضخامَةِ جسدٍ. وإذِ اغتدتْ ذراعاً هذه المرأة العجيبة ذراعَيْ عيْطلٍ من النُّوق؛ فقد وُصِفَتْ بأنَّها كومُةُ من اللُّحْمانِ، وكثيبٌ من الأعصاب: فهي فارعة طويلة، وضخْمة بدينةٌ؛ فكأنّها مجموعة من النساء مجسّدة في امرأة، وطائفة من الأجساد مطويّة في واحد، وعلى الرجل الذي يريدها كلّها، أو يريد شيئاً منها: أن يكون، على الأقلّ، في مستوى طولها وعَرْضها، وبَدانتها وضَخامتها... وهذه أوصاف كلّها عيوب، ونعوت كلّها منفِرّات من المرأة، لا مرِغبات فيها. وبياض هذه المرأة مثْلُ أَمْرِ ذراعيْها. فكما أنّ ذراعيها تشبهان ذراعي الناقة في الضخامة والبضاضة، فإنّ لونها، أيضاً، يشبه بياضُه بياضَ الناقةِ الأَدْمَاءِ. وتذوب هذه المرأة في هذا الحيوان، في هذه الناقة، أو البقرة الوحشيّة، لتتّخذ لها وصْفاً آخَرَ منهما؛ فكأنّ خيال الناصّ كان من القصور والحرمان بحيث لم يستطع قطّ مجاوزة صورة تلك الناقة التي كان يشاهدها ويركَبُها، فصوَّرَ فيها صاحَبَتَه، وجعلها امتداداً منها، أو امتداداً لها. ولمّا جاء الناصّ يصف هذه المرأة، أو قل جاء ليؤكّد الوصف، بياض اللون، اصطنع لفظ "الِهجان"، وهو لفظ لا يكاد يطلق إلاّّ على البيضِ من النُّوق، وإِلاَّ على البِيضِ من العقيلات. وأنهى الصورة التي أراد من ذكرها تجميلَ صاحبتِه وتقديمها للمتلقّين في صورة من الحُسْن والجمال، بِجَعْلِ هذه المرأة ناقةً لمَّا تَقْرَأَ: أي لمَّا تَحْمِلْ. فهاتان الذَّراعان السمينتان، الغضّتان البضّتان، كأنهما ذراعا ناقة فتيّة ضخمة الجسم، طويلة العنق؛ لَمَّا تتجشّم الحمل... وقد رأينا أنّ جمال هذه المرأة المسكينة انقلب من سحر الأنوثة، وفتنتها، ولطافتها، ورشاقتها؛ إلى مجرد كثيبٍ من اللّحمان المترهّلة، وقامة غليظة عملاقة تشبه هيئة النخلة المتهاوِيَة. 2. وَأيَمْا في تركيبه فإِنه تغْلُبُ عليه هذه الأوصاف التي هي، أصلا، للناقة، ثمّ استعيرت لهذه المرأة: فإذا العيطل، والأدماء، والبكر، وهجان اللون، وَعَدَم القَرْءِ. ولو جاء معاصر يقرؤها لأَلْفاها ألفاظاً مسلوكةً في اللغة الغجريّة المنصرفة إلى هذا الحيوان الذي كان يلازم العرب ويلازمونه، وهو الناقة. فعلى ما يبدو في هذا النسج من أُلْفَةِ التركيب العربيّ، فإنّ المادة اللغويّة المنسوجَ منها تَجْعَلُهِ في مُجْتَعَلِ التوحُّش، وتعود به إليها. إذ الكلام واردٌ في معارِضَ حَوَالَ المرأةِ في معناه، وحوْل الناقِة في لفظه؛ فإذا صورة المعنى تطفو على صورة النسج، وإذ الدالُّ حيوان، وإذا المدلول إنسان. أو قل إنه لا يمكن فَهْمُ هذا البيتِ فهْماً صحيحاً إلاّ بتعويمه في الأنتروبولوجيا والسيمائيّة معاً. فهو من الوِجهة الأولى يضطرب في مجتمع بدائيّ ينهض فيه الحيوان بوظيفة مركزيّة في الحياة اليوميّة، وَيُنْظَرُ فيه إلى الأشياء نظرة بدائيّة، ويُتَمَثَّلُ فيه الجمال بناء على ما بلغته الحياة الخياليّة في ذلك المجتمع... وهو من الوِجهة الأَخراةِ نُلفي الناقةَ تنهض، في هذا البيت، بوظيفة السمة الحاضرة، الدالّة على السِّمَة الغائبة. وليست السِّمَةُ الحاضرة هي المقصودة في الكلام، ولكن السمة الغائبة... وتذوب الصورة الغائبة في الصورة الحاضرة، أو قل إنّ الصورة الحاضرة هي التي تُذيبُ الصورة الغائبة فيها حتى ترقى بها إلى مستوى المُماثِل(الإقونة): إذْ لم تكن هاتان الذِّراعان المشاهَدَتانِ إلاّ صورةً للذراعيْن الغائبتين؛ كما أنّ هذه العَيْطل الأدْمَاءَ الحاضرةَ ليست إلاّ صورة كاملة مُمَاثِلَةً للمرأة الغائبة... ويمكن قلْبُ الصورة المُماثِليَّة بتعويم صورة المرأةِ في صورة الناقة؛ حيث إنّ هذه ذابت في تلك، وتلك ذابت في هذه؛ فلا ندري أيٌّ منهما يُرادُ؟ ولا ندرِي في أيّ منهما كان الناصّ يفكّر، وأيّاً منهما كان يَصِفُ، وأيَّاً منهما كان يَحِبُّ؟ إِنَّ منزلة الناقة تستوي هنا بمنزلة المرأة فليس بينهما فرق. ولو جئنا نتابع أبياتاً لهذا، وأبياتاً لذلك، من المعلّقاتييّن، لَما أمِنَّا أن يستحيل هذا المجاز، في هذه المقالة، إلى فصل طويل، وربما إلى مجلدّ كامل. من أجل ذلك نجتزئ ببعض ما قدّمنا. ولكن قبل أن ننفض اليد من ذلك نودّ أن ننبّه إلى أنّ الشّاهديْن السابقَيْن لهذا: على الرغم من عذريّتهما النسجيّة، إلاّ أنّ التصوير فيهما كان بديعاً، وأنّ البَداوة لم تَحْرِمْهُما من فيض فيّاض من الجمال العبقريّ؛ فكأنّ مثل ذلك الشعر يظلّ، أبد الدهر، مصدَرَاً من مصادر الإلهام وينبوعاً من ينابيع الجمال. **** ثانياً: النسج اللغويّ بالتشبيه ليس هناك أيّ أدبٍ في العالم، وبأيّ لغة كُتِبَ، وفي أي نسْج نُسِجَ، وتحت أيّ خيال أنْشِئَ: تراه يخلو من التشبيه. وليس التشبيهُ مقصوراً على المبدِعين، شعراء وكتّاباً، وَحْدَهُمْ، ولكنه زينةٌ يصطنعها كلّ المتعاملين باللغة في حياتهم اليوميّة، وفي تعاملاتهم التبليغيّة الابتذاليّة، وفي تعابيرهم الشعبيّة، حيث تلفي المرأة البدويّة تستعمل التشبيه، بلغتها العاميّة، وَحَسَبْ مستواها الذهني والثقافي؛ فتصيب المحَزَّ، وتقطع المفصَلَ. وحيث تلفي الشاعر الشعبيّ يصطنع هذه الزينة الكلامية، في شعره، فتراه يشبّه صغير الحجم بكبيره، وناضر الوجه بأنضر منه، وطويل القامة بأطول منه، وهلمّ جرا... وقد لاحظنا أنّ كثيراً من الأوصاف التي كنّا نلفيها لدى الشعراء الجاهلييّن لا تبرح متداوَلَةً بين الشعراء الشعبييّن، في العالم العربيّ بعامة، مع اختلاف في النسج، وتفاوت في درجة التعبير. فإذا كان العربيّ القديم كان يصطنع عبارة "بعيدة مَهْوَى القُرْطِ" ليصف بها عنق المرأة في طوله، وإذا كان امرؤ القيس يشبّه جِيدَ صاحبتِه بجيد الرئم في طوله-غير الفاحش- وفي لطفه واستوائه؛ فإننا نلفي شاعراً شعبيّاً جزائريّاً يستعمل الرَّقَبَةَ عَوِضَ العُنُق، ويستعمل الطْول صراحةً عَوِضَ التكنية عنه ببُعْدِ مَهْوَى القُرْطِ، أو تشبيهه بجيد الرئم... وقد توقف البلاغيّون العرب لدى التشبيه، طويلاً، فقتلوه تعريفاً وتصنيفاً، وتقسيماً وترتيباً؛ ولكنّ الذي فاتهم، فيما يبدو، أنهم لم يميلوا إلى تناول جماليّته، وما يضفيه على النسج الأدبيّ من حسن فنّيّ بديع. فكأنهم تعاملوا معالتشبيه، كما تعاملوا في أطوار كثيرة مع الاستعارة أيضاً، تعاملاً إجرائيّاً؛ فغلب التصنيف والتقسيم على التحليل، وطغَا التعريف والترتيب على إبراز ما يجب أن يكمُنَ فيه من جمال يرقى بالنسج الأٍسلوبيّ من مجرد كلام عاديّ مبتذل، إلى كلام فنّيّ بديع. وقد اجتهد في أن يُدَارِسَ التشبيه من الوِجْهة النفسيّة، ولكن ضمن التقسيم البلاغيّ المدرسيّ(5). ولعلّ أوّل من حاول أن يراعي الجانب الجمالي، في البلاغيّات بوجه عامّ، كان الأستاذ عليّ الجارم في كتابه المدرسيّ "البلاغة الواضحة". ولكن مساعيه، هي أيضاً، لن تجاوز المنطلقات التقليدية لمفهوم الإجراءات البلاغيّة، وتقسيماتها الركبكة... وإنّ ما نودّ التوقّف لديه نحن، هنا، هو أنّ التشبيه حتى في حال اشْتِيَاقِهِ إلى التقبيح، وتعلّقه بأداء وظيفة التشويه: يظل، في منظورنا، راكِضاً في رياض الجمال، وسابحاً في مروج الخيال. فالشاعر حين يقول: وإذا أشارَ مُحَدِّثاً فكَأَنَّه قِرْدٌ يُقَهْقِهُ، أو عجوزٌ تَلْطِمُ! فلا يعني حُبُّ التقبيح والتشنيع في رسم هذه الصورة، أنَّ التشبيه، من حيث هو إجراءٌ فنَيَ جماليَ، يلتحق بغاية أبي الطيب من إِرادة تشويه هيئة هذا المتحدّث الذي يشبّه هنا بصورة القِرْد حين يُقَهْقِه، وصورة العجوز الشمطاء حين تلطم. فالجمال الفنّيّ يكمن، بالذات، وهنا، في هذا القبح الجميل. أي أنّ عبقرية النسج تكمن في أنّ الناصّ استطاع أن يُصوِّرَ لنا القبيح الدميم، في صورة تشبيّه جميلة، فصوّر لنا الدميم البشع في صورة أدبيّة طافحة الجمال. فكأنّ المفارقة تقوم في أن الدميم من الأحياء، والرديء من الأشياء: قد يذوّبها الأديب الكبير في نسج عبقريّ فتغتدي الدمامة في نفسها، كأنها دمامة جميلة في نسج الكلام. فلا شيء أسوأ من مَرآةِ قِرْدٍ وهو يضحك، ولا شيءَ أبشعُ من منظر عجوز وهي تلطم على وجهها؛ بيد أن نقل هذه الصورة المركّبة من منظريّن بشعِيْن إلى صورة شخص بشع يتحدّث بيْن أصحابه، ثم ربط المناسبة بينهما بجَعْل الصورة الأولى كأنها الصورة الأخراةُ لهذا الشخص: هو الذي جسّد عبقريّة النسج، وجمال التصوير، وحُسْن التشبيه: فتوارَتِ البشاعةُ، أو كأَنْ قَدِ! والسرّ في كلّ ذلك، ذلك الجمالُ الطافح الذي أنشأ هذا النسيج الكريم من الألفاظ، من مجرد الألفاظ؛ فتكوّنت علاقة بين بَشِعٍ واحدٍ، وبشعيْن اثنيْنِ؛ ولكن عَبْرَ عرائِسَ من الألفاظ، وعجيباتٍ من الصور. ومما لاحظناه في تشبيهات امرئ القيس أنه كان يعمد، أطواراً، إلى تشبيه قويّ بضعيف، ومتوهّج باهر، بشاحب ذابل: أي أنه كان يصطنع ما يمكن أن نطلق عليه"التشبيه المقلوب". ولعلّ بعض ذلك يَمْثُلُ في قوله، مثلاً: أصاحِ تَرى برْقاً أُريكَ وَميِضَهُ كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ فهذا الوَمَضَانُ الخاطِفُ للأبصار، حين يَمِضُ في السَّحاب المركوم: لا يعدو أن يُشْبِهَ حركةَ اليديْن الصغيرتين. وماذا في حركة اليدين من وَمَضَانٍ، وماذا فيهما من سُرعة الحركة حتى يُشَبَّه بهما وميضُ البرق الخاطف؛ إلاّ أن يكون تشبيهاً مقلوباً؟ وذلك، مع أنّ الذي يقرّره البلاغيّون هو أنّ التشبيه يقوم على ضرورة بروز الحالة التي يراد تشبيهُها: في المشبَّه به، أكثر من المشبّه: فيشبّه الضعيف بالأضعف منه، والقويّ بالأقوى منه، والجميل بالأجمل منه، وهلمّ جرا... كما يقرّرون أنّ التشبيه، من وجهة أخراة، يقوم على تشبيه المجرّد بالمحسوس... ولكنّ هذه المقرّرات لا يمكن الالتزام بها لدى الكتابة الإبداعيّة التي تنهض على الإبداع في اللغة، وفي النسج، وفي الصور... وليس على تقليد الصور البالية، والتشبيهات العتيقة...، كما كان يقرر ذلك القدماء، ومنهم ابْنُ طَبَاطِبَا(6). وقد لاحظنا أنّ التشبيهات لدى امرئ القيس تتنازعها ثلاثَةُ محاوِرَ كُبرى: وهي البياض، واللمعان، والنضارة، والصفاء، وما في حكمها. ثمّ الحركة والتبختر والاهتزاز وما في حكمها. ثمّ الطول والاعتدال والنحافة والرِّقّةُُ والاستواء. ونسعى الآن إلى متابعة ذلك خلال شعره. أولاً: البياض والصفاء والإشراق والبريق 1. البياض والطراوة: *وشَحْمٍ كَهُدَّاب الدِمَقْسِ المُفَتَّلِ* 2. البياض والصَّقْل والصفاء: *ترائِبُها مصقولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ* 3. البياض القائم على التمازج مع الأصفر(الصفاء): *كبِكْرِ المُقاناةِ البَيَاضِ بِصُفْرَةٍ* 4. البياض والصفاء والإشراق: تُضيءُ الظلامَ بالعِشاءِ كَأَنَّها منارةُ مُمْسَى راهبٍ مُتَبَتِّلِ 5. بياض اللون، وطول الذيول، وسُبوغ الشعور، وتبختر الحركة: معاً: فَعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنَّ نِعَاجَه عَذَارَى دَوَارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ 6. بياض: أطرافُه سُودٌ: فأَدْبَرْنَ كالجِزْعِ المُفَصَّلِ بَيْنَهُ بِجيدِ مُعَمٍّ -في العشيرة- مُخْوَلِ 7. البياض واللّمعان(له علاقة بالبياض)، وسرعة الحركة: أصاحِ تَرى برْقاً أُريِكَ وميضَه كلمْع اليديْن في حِبَيٍّ مُكَلَّلِ 8. البياض المخطّط: كأنَّ ثبيراً في عَرانينِ وَبْلِهِ كبيرُ أناسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ 9. البياضُ واللّمعان: كلمْع اليديْن في حَبيٍّ مُكَلَّلِ يُضيء سناه، أو مصابيحُ راهبٍ أمالَ السليطَ بالذُّبال المُفَتَّلِ **** ثانياً: الحركة السريعة، والاهتزاز، والتبختر: 1. فعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنّ نِعاجه عَذارى دَوارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ 2. على الذَبْل جَيَّاش كأنَّ اهتزامَه إذا جاشَ فيه حِمْيُهُ- غَلْيُ مِرْجَلِ 3. كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِبْدُ عن حَالِ مَتْنِهِ كما زلَّتِ الصفواءُ بالمُتَنَزِّلِ 4. دريرٍ كخُذْروفِ الوليدِ أَمَرَّهُ تتابُعُ كفَّيْه بخَيْطٍ مُوَصَّلِ 5. له أيْطَلاَ ظَبْيٍ وساقا نَعامةٍ وإرخاءُ سِرْحانٍ وتقريبُ تَتْفُلِ 6. مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً كجُلمودِ صَخْرٍ حَطَّه السيلُ مِن عَلِ 7. كأنّ ذرى رأس المُجَيْمِرِ غُدْوَةً من السيل والأغثاءِ فلْكَهُ مِغْزَلِ **** ثالثاً: الطول والاعتدال والنحافة والدّقة والاستواء: 1. وكَشْحٍ لطيفٍ كالجَديلِ مُحَضَّرٍ 2. وفرعٍ يَزِينُ المَتْنَ أسْوَدَ فاحِمٍ أَثيثٍ كقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ 3. وجيدٍ كجيد الرئْم ليس بفاحش إذا هي نَصَّتْه، ولا بِمُعَطَّلِ 4. وتعطو برَخْصٍ غيِر شَشْنٍ كأنه أساريعُ ظَبْيٍ، أَوْمَساويكُ إِسْحِلِ ثم تأتي معانٍ أُخَرُ مِثْلُ القوّة والفراهة والفتاء: كأنّ على المتنين منه إذا انتحى مَدَاكَ عَروسٍ، أو صَلاَيَةَ حَنْظَلِ ثم تأتي معانٍ أُخَرُ متفرّقةٌ مثلُ الاستدارة والدقّة، والتلاؤم في الطبع، والعَبَق وانتشار الشذى، والظهور، وتداخل الأصوات وتكاثرها، والرسوب، والثبات والسكون... لكننا إن قرأنا هذه التشبيهاتِ قراءةً تَشاكُلِيَّةً، وهو إِجراء سيماوِيٌّ، أمكَننا أن نُلْحِقَ بعُضَها بما سبق من التشبيهات المتواتِرَةِ المعانِي مثل الشذى أو العبق الذي هو هنا متلائم مع سيرة النساء اللواتي تكررت صُوَرُهُنَّ الجميلات فتبوَأّنَ المنزلة الأولى من الاهتمام عبر نصّ معلقة امرئ القيس. فبَضاضة جسد المرأة وغضاضَتُه: لا شيءَ أولى بالتلاؤم معه كالعطر والشذى. ويمكن أن يضاف إلى ذلك، التلاؤم في الطبع بين أمّ الحُويرِثِ وجارَتِها أمِّ الرَّباب. وأمّا تَداخُلُ الأصوات، أَصواتِ المَكَاكِيِّ، مَكاكِيّ الوادِي في الغُدِيَّةِ الربيعيَّةِ فلا ينبغي أن يستأثِرَ به شيء كجمال المرأة ودلالها وحركتها وحديثها، ورقّة صوتها، وحسن تَرَهْيُئها، وإشراقة ابتسامتها... إنّ معظم الصور التشبيهيّة واردة في معلّقة امرئ القيس في إطار الإحساس اللطيف، بل الشعور الحادّ، بالجمال في صوره المختلفة، ومظاهره المتباينة: في أصوات الطير، في حركة العذارى، في عطر النسا، في ركض الحِصان، في شآبيب الصَّفْواءِ، في السحاب السابح في الفضاء، في حركة خُذروف الوليد، في غَلْيِ المِرْجل، في جُلمود الصخر المندفع من الأعلى نحو الأدنى، في جِيدِ الرئْمِ الجميل- أوفي جِيدِ الجميلة التي يشبه جيدُها جِيدَ الرئم- في الشَّعَرِ الأسود الأَثِيثِ، في البَنان الناعمة الرقيقة، في صفاء الترائب وَصقْلِ النَّحْرِ، في مصباح الراهب المضيء عِشَاءً... ونلاحظ أنّ هذه الصور منتزعةٌ من صميم بيئة الناصِّ وحياته اليوميّة، وتقاليد مجتمعه البدويّ: الطبيعةُ مادَّتُها، والتعايُشُ معها أداتُها. وحين نعمد إلى محاولة تحليل الأسس التي نهضت عليها التشبيهات لدى طرفة، نلاحظ أنه يختلف اختلافاً بعيداً عن امرئ القيس الذي صرف معظم عنايته إلى تشبيه الحِصان أوّلاً، ثم المرأة ثانياً، ثم من بعد ذلك تأتي الطبيعة والأشياء. على حين أن التشبيهات، لدى طرفة، تنصرف، أساساً، إلى الناقة بتواتر بلغ أربعاً وعشرين مرة من تسع وثلاثين، ثم يأتي الرجل بعشر مراتٍ، ثمّ الطبيعة والمرأة بثلاث مرّات لكلّ منهما. فالتشبيهات الواردة في معلّقة امرئ القيس متوازِنَةٌ بحيث توزّعت على المرأة، والحسان، والطبيعة، والأشياء، لكنّ الحصان هو الذي استأثر بالمنزلة الأولى بأربع عشرة مرّة، ثمّ المرأة بعشر، ثم الطبيعة والأشياء، مجتمعةً، بسبع. فاهتمام امرئ القيس يتوزّع، أساساً، على هذه الحقول الثلاثة. وإذا كان الحصان، لديه، نال المرتبة الأولى من العناية فلأنّه كان أميراً فارساً؛ ولأنه كان صيّاداً مقامراً، ولأنه كان متنزِّهاً سائحاً. وإذا كانت المرأة، لديه، وردت في المنزلة الثانية من الاهتمام فلأنه كان شاعراً عاشقاً، ومغامراً فاسِقاً(7) ومنادِماً فائقاً(7)؛ فكانت المرأة بالقياس إليه أساساً من أسُسِ الحياة، ومُتْعةً من مُتَعِها، وَملَّذَّة من ملذَّاتها. فكأنّه كان يعّدها مجرّد أنثى يتمتّع بها، ويلهو معها غير مُعْجَل؛ ثمّ لا شيء وراء ذلك. وهو ببعض ذلك يختلف عن عنترة الذي كان يحبّ امرأة واحدة، بوفاء، ويَمِقُها بِكَرمٍ، كما يختلف عن عمرو بن كلثوم الذي نلفيه يمجّد نساء قبيلته اللواتي كنّ يَقُتْنَ الخيْلَ للمحاربين أثناء المعركة، وكنّ يحْضُضْن الرجال على القتال، في حروب البسوس، حتى يتجنّبن سُبَّةَ السَّبْيِ، وعار الذُّلِ. فالمرأة لدى عمرو بن كلثوم خُصوصاً، اثنتان: إحداهما للمتعة واللهو والنعيم، وتتمثّل في القِيان والجواري الميسَّرات لِمَا خُلِقْنَ له لديه، وإحداهما الأخراة هي السيدة الكريمة، والدُّرَّةُ العقيلة: التي كانت تشارك الرجل عَذابه ونعيمَه، وأملَه وألَمَه، وَضَنْكَ عيشهِ ورغده... بينما المرأة لدى امرئ القيس لا. فهي ذلك الكائن اللطيف الذي وقف عليه، بعد الحصان، معظم تشبيهاته. إنها كانت لديه مجرّد جسَدٍ غضّ: للتمتّع العارض، والتلذّذ العابر، ثمّ لا شيء من بعد ذلك، يترتّب على ذلك. كانت مجرّد أنثى إذن. من أجل ذلك نجد ذِكْرَاً لنساء كثيرات في معلّقته؛ وكأنّ كلّ واحدة منهنّ كانت تمثّل جزءاً من حياته، أو لحظات سعيدات في حياته، ووجهاً من وجوه مغامراته معها. ثم، لعلّ من أجل ذلك، ألفيناه يصيب في تشبيه النساء، ويجوّد في إجراء الحِوار بينه وبينهنّ، ويبدع في تصوير علاقته بهنّ: وكيف كان يجاوز إليهنّ الأحراسَ، وكيف كان يلهو بالبِيض منهنّ في غيرِ عجلة من أمره، وكيف كان يَتَأَوّبُهُنَّ إذا جَنَّهُنَّ، وجَنَّهُ، الليلُ؛ وإذا نَضَضْنَ للنوم ملابِسَهُنَّ... وربما تعود عبقريّة التشبيه التصويريّ للمرأة لديه، إلى كَلَفِهِ بها، وعِشْقِه إيّاها، وملازمتِهِ لها طويلاً؛ ثم إلى ممارساته العمليّة معها معاً. ثمّ إلى جُرأته على الجَهْرِ بفِسْقِه، والصَّدْعِ بفَضائح علاقاته الجنسية: إذا مارس العِشْقَ والاضطجاع... وهي سيرةَ عَفَّ عنها سَواؤُهُ من نُظرائِهِ المعلقّاتييّن . وعلى الرغم من أنّ طرفة بن العبد يأتي في المنزلة الأولى، من حيث عدد التشبيهات التي اشتملت عليها معلّقتُه، على سبيل الإطلاق؛ فإنّ تشبيهاته، مع ذلك، لم يتوقف النقاد والبلاغيّون القدماء لديها إلاّ قليلاً، من حيث أُعْجِبُوا إعجاباً مَهُووساً بمعظم تشبيهات امرئ القيس؛ وخصوصاً ما ورد منها حوال المرأة والحِصَان. ولا نحسب أنّ الأقدمين جانبوا الصواب، إذا حقّ لنا إصدارُ حُكِم قيمةٍ، فيما كانوا يذهبون إليه. من أجل ذلك، قد نقضي بأن امرأ القيس وإن كان يأتي في المرتبة الثانية من حيث الترتيب العددي، بعد طرفة، بزهاء واحد وثلاثين تشبيهاً، مقابل زهاء تسعة وثلاثين تشبيهاً لدى طرفة: إلاّ أنّ ذلك ما كان ليكون مانعاً من عدّ امرئ القيس أحسن المعلقاتيين تشبيهاً، وأجملهم تصويراً، وأقربهم إلى الذوق العربي العام؛ فظل ذلك قائماً على امتداد ستة عشر قرناً. ولعل الذي أضرّ بطرفة أنّ كلّ عبقريته الشعرية أهدرها في وصف الناقة في لغة بدويّة، وألفاظ حوشيّة، وتعابير وحشيّة، وصور غجريّة لم تلبث أن فقدت رُواءَها مع مرور الزمن، وأضاعت طلاوتها مع كُرِّ الأيام. على حين أنّ موضوع المرأة الذي عالجه امرؤ القيس، بإثارة وإباحيّة، هو موضوع، يظل إنسانيّاً، ماثِلاً لدى الناس إلى يوم القيامة، على الرغم من اختلافهم في النظرة إليه... لقد استغنى كثير من الناس عن الناقة فلم يعودوا يعنون بها، ولا يلتفتون إليها ولا يتّخذونها همّاً في حياتهم، بينما من النِّفاق أن يَزْعُم الرجال أنهم قادرون على الاستغناء عن المرأة التي هي الحياة وسِرُّها وهِبَتُها وإِكْسيرها، ونضارَتُها وعَبَقُها. فقد عرفْنا إذن علّة خُلودِ تشبيهاتِ امرئِ القيسِ، ودُرُوسِ تشبيهاتِ طَرَفَة، وَسَوَائِهِ من المعلّقاتيّين الآخرين. وإنّا وقد ذكرنا المعلّقاتيّين الآخرين الخمسة، فما بالُها لديهم؟ وما شأنُها في معلقاتهم؟ وهل قصَّرَتْ، لديهم عن تشبيهات امرئ القيس وطرفة، أو فاقَتْها؟ لِنَرَ ذلك. إنّ التشبيهات لدى الخمسة الآخرين تتفاوَتْ في الكثرةِ والقِلَّةِ، والرداءةِ والجَوْدَةِ: ولكنها مجتمعة لدى هؤلاء الخمسة(لبيد- زهير- عنترة- عمرو بن كلثوم- الحارث بن حلّزة) لا تمثّل إلاّ أقلّ من نصفها لدى الأوّلين: امرئ القيس، وطرفة. بيد أنّنا لاحظنا، أثناء ذلك، أن عنترة يأتي في المرتبة الثالثة بتسعة عشر تشبيهاً موزّعة، بحسب تكاثر التواتر، على الناقة، ثم الرجل، ثم المرأة، ثم الظَّليم، ثم الذُباب، ثم المطر؛ ولبيداً في المرتبة الرابعة بستّة عشر تشبيهاً موّزعة، بحسب تكاثر التواتر، على البقرة الوحشية، ثم على المرأة، ثم الطبيعة والأشياء، ثم الناقة، ثم الرجل، ثمّ الحصان بتشبيه واحد فحسب، وعمرو بن كلثوم في المرتبة الخامسة بأربعة عشر تشبيهاً موزَّعَةً، بحسب تكاثُرُ التواتر، على الرجل؛ ثم على المرأة، ثم الطبيعة والأشياء، ثم الحصان بتشبيه واحد فقط-مثله في ذلك مَثَلُ لبيد-؛ والحارث بن حلّزة في المرتبة السادسة بأحد عشرَ تشبيهاً موزّعةً، بحسب تكاثر التواتر، على الرجل، ثم الناقة، ثم الطبيعة والأشياء؛ وزهير بن أبي سلمى في المرتبة الأخيرة بأربعةِ تشبيهاتٍ فقط، موزعّةً على المرأة بتشبيهيْن اثنين، وعلى الطبيعة والأشياء بتشبيهيْن اثنيْن آخرين. وربما قلّت التشبيهات لدى زهير لأنه كان في معلّقته، خصوصاً في القسم الحكميّ، مجرَّدَ حكم متأمِّلِ يَبُثُ تجاربَه، ويَسوق تعاليمَه، ليتعلّم بها الناس ويُفيدوا منها في حياتهم ممّا به يبتلون. **** ثالثاً: النسج اللغوي، في المعلقات، بين نظام الفعل ونظام الاسم لاحظنا في المقالة التي عرضنا فيها لتحليل الإيقاع المعلقاتيّ أنّ هناك نصوصاً منها تميل إلى نحو ما أطلقنا عليه، في شيء من التجاوز والتساهل: "الحميمّية"، أو "الانضواءِ على الذات"؛ وذلك بناء على تأويل دلالة الخَفْضِ في اللغة العربيّة، مثلاً. وإذا كنّا لا نطمع في أن يتفق الناس معنا على ما ذهبنا إليه؛ فإنّنا قد نكون أفلَحْنا في تحفيزهم، على الأقلّ، إلى البحث عن تأويلٍ آخر، عن قراءة جديدة أخراة، من آلاف القراءات التي اقتُرِئَتْ بِها هذه النصوصُ ماضِياً، والتي ستقرأ بها مستقبلاً. وإذا كنّا جئْنا نثير مسألَة نظامِ النسج اللغويّ فبِما رغْبَةٍ عارِمةٍ مِنَّا في الكشف عن الظاهرة النسجيّة التي تستأثر بنظام اللغة، وبنية التعبير لسطح هذه النصوص الشعريّة العذريّة. وقد انتهينا من خلال الإِحصاء الذي اضْطُرِرْنا إليه (والذي لا نحمل أي عُقْدَةٍ له أو عليه، فهو لدينا مجرّد من الإجراءات التي قد نعمد إليها، في بعض المستويات من قراءتنا، وذلك ابتغاء استكشاف ظاهرةٍ ما، حين نعتقد أنه لا يمكن استكشافَها إلاّ به، أو إلاّ عَبْرَه): إلى أنّ النسج الشعريَّ يهيمن عليه النظام الاسْمِيُّ لدى عامّة المعلقّاتيّين إِلاّّ لدى زهير الذي يغلب، في نسجه الشعريّ، النظامُ الفعليّ، لِمَا سنعلّله من بعد حين. وقد رأينا، والحال أنّ الشأنَ منصرِفٌ إلى نسج شعريّ، أن نراعي مَطْلَعَ صَدْرِ البيت، وآخر عجزه على أساس أنهما مفتاحَا البيتِ الشعريّ. ولم نُرِدْ أن ننزلِقَ إلى ملاحظة النظامين الفعليّ والاسميّ في أكثّر من هذين المستويْين الاثنين خشْيَة أن يُفضي ذلك إلى تطويل قد لا يكون فيه، لهذا البحث، غَناء كبير. والحُكْم العامُّ الذي نستخلصه من هذه المتابعات المنصرفة إلى مطالع الأبَايِيتِ، وأواخر أعْجَازِها: أنّ الشعراء كانوا يجنحون للتعامُل مع النظام الاسميّ أكثر من جنوحهم للتعامل مع النظام الفعليّ، لأسباب مختلفة، منها: 1. إنّ نسجْ الأسلوب العربيّ ينهض أساساً على النظام الاسميّ أكثر من نهوضه على النظام الفعليّ. وهو قادر، على نقيض اللغات الأوربية وحتى بعض اللغات الشرقيّة، على الاستغناءِ عنِ الفعل من حيث لايستطيع الاستغناءَ عن الاسم. أَضْرِبُ لذلك مثلاً نَصَّ البسملةِ الذي يُردّده كلَّ يومٍ قريبَاً من مليارِ مُسْلم في العالَم، فإنه لا يشتمل على أيّ فعل. ودَعْكَ من تخريجاتِ النُّحاةِ وفي طليعتهم الشيخ عبد القادر الجرجاني؛ والتي فيها يزعمون أنّ الباء في"بِسم اللَّهِ" متعّلقة بفعل تقديرُه: "أَقْرَأُ، أَوْ أَتْلُو" (8). وعلى أنّ تقدير عامّة النحاة هو: "ابْتَدِئُ". فنحن لسنا نجنح إلى هذه التقديرات والمتعَلَّقات، ونحن نبحث في أمر المعلقّات، التي لا تتعلّق إلاّ بأوهام اغتدت فيما بعد قواعد للإعراب؛ وإلاّ فإن الله تبارك وتعالى، لو كان شاء إلى ما شاؤوا، وقصد إلى ما إليه قصدوا، لكان قال كما قالوا. والآية على ضعف هذا المذهب أنّ الله تبارك وتعالى حين أراد إلى أن يتبرَّكَ بأسمه، وَصَلَهُ بالاسْمِ لا بالفعل، فقال: "باسِمْ اللَّهِ مُجْرَاهَا ومُرسَاهَا(9)، ولم يَقُلْ: "أُجْرِيَها ببِسْمِ اللّهِ، وأُرسِيَها". وقد لاحظنا، أيضاً، أنّ سورة النحل لا يوجد فيها إلاّ ثلاثة أفعال فحسب من بين سبعة عشر اسماً على الأقل؛ مَثَلُهُا مَثَلُ سورة الفاتحة التي تشتمل على أربعةِ أفعالٍ فحسب من حيث نُحصِيْ فيها من الأسماء ما لا يقلّ عن واحد وعشرين. وقد يمكن النسجُ بالاسم وحده، في اللغة العربيّة، دون أن يَعْتَاَصَ ذلك على الفُصحاء الأبْبِنَاء، والَّلِسِنين البُلغُاء؛ كما نلاحظ ذلك في بعض خطبة قسّ بن ساعدة الإيادي الذي كان يُضْرَبُ به المثل في فصاحة اللسان، والقدرة على نسج البيان(10): "(...) في هذه آياتٌ محكمات، مَطَرٌ، ونبات، وآباءٌ وأمهات، وذاهبٌ وأت، ونجوم تَمور، وبحور لا تَغُور، وسقف مرفوع، ومِهَادٌ موضوع، وليلٌ داج، وسماءُ ذاتُ أبراج"(11). ففي هذه الكلمة لم يرد الفعل إلاّ مرتيْن اثنتيْن من بين عشرين اسماً؛ وكما يمكن أن يُلاحَظَ ذلك في بعض نصّ إحدى خطب الحجّاج، إذ يقول: "يا أهل العراق، يا أهل الشِّقاق والنِّفاق، ومساوئَ الأخلاق، وَبني اللَّكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والَفْقْع بالقَرْقِرَ..."(12): فهنا نجد خمسةَ عشرَ اسْمَاً بدون ورودِ أيّ فعلٍ، وبدون أن يمكن أن يذهب أحد من الناس إلى أنّ مثل هذا الكلام كان محتاجاً إلى أن يَتَعلَّق بغيره الغائب، على نحو أو على آخر... ومثل هذا في العربية كثير مشهور، ومتواتر معلوم؛ بحيث لايحتاج معه إلى برهنة ولا إلى تدليل. 2. إن النظام الإسْميَّ يفيد الثبات والسكون؛ ولعلّ السكون هو الدَّيْدَنُ الغالب على حياة الجاهلية الذين كان الرُّتُوبُ يحكم حياتَهم، والسكون يقيّدها. وكانتْ تلك السيرةُ تُحَتِّمُها نوعيَّةُ الطبيعة المحيطة بهم، والبدائيّة التي كانت تحكم حياتَهم، بحيث كانت أسفارهم الطويلة، قليلةً، وإقاماتهم، أو تنقلاتهم القصيرة، كثيرة. لا تغير في نظام العيش، ولكن الرتوب... يعيش الأبناء كعيشة الآباء، ويعيش الأحفاد، كعيشة الأجداد. من خرج عن نظام القبيلة، وعاداتها، عُدَّ مارِقاً، ومَنْ تنكّر لتقاليدها اعْتُبَر عاقّاً مُفَارِقاً. وإذن، فإنّ النظام الاسميَّ في نسج اللغة في المعلّقات السبع لا يعدو كونَه امتداداً للحياة الجاهليّة بمظاهرها الاجتماعيّة والعقليّة والاقتصادية والثقافيّة التي كانت تتجسّد، خصوصاً، في رواية الشعر، وفي إنشاده في المحافل والمناسبات الكبرى وفي التغنّي به في التظّعان. كما أنّ الأشعار التي كانت تتردّد في المآقِطِ المختلفة كانت تتشابه وتتقارب أشكالُها، ومضامينها: البكاءُ على الأطلال، ووصْفُ جمال النساء، ثم وصْفُ النُّوقِ والسَّفَر، أو الخيلُ، أو المطر، أو البلاء في الحرب... أو سَوْقٌ لبعض الحِكَمِ، وضَرْبٌ لبعض الأمثال، وذِكْرٌ لبعض الوقائع... فلم يكن الثبات الذي يقتضيه النظام الاسِميُّ في نسج اللغة، عَبْرَ المعلقات، متمثِلاً في الحياة بمعانيها المادّية فحسب؛ ولكننا نلفيه ثابتاً أيضاً، في المظاهر الأدبيّة والثقافيّة (بناء القصيدة- نظام القبيلة- تقاليد الرعي والتماس الكَلأ، وهلمّ جرا من سائر المظاهر الأنتروبولوجيّة). 3. الاسْمُ يحيل على الكائن الحيّ ويعيّنه، فهو يحيا: يحبّ ويكره، إن كان عاقلاً، ويضطرب ويتحرّك، إن لم يكُنْهُ. على حين أنّ الفعل حدَثٌ، والحدث لا ينشئ نفسه، ولا يقوم بذاته بمعزل عن الاسم؛ عن الكائن الحيّ الذي يُسَبّبُهُ، أو يكون نتيجة له، أو يكون مندمجاً فيه.. فالفعل- وإذن النظام الفعلي، بجَذامِيرِه- لا ينبغي له أن يكون إلاَّ مجرّدَ تابِعَ للنظام الاسِميّ، خاضعٍ له، ناشئٍ عنه. 4. قد يجتزئ الاسم وحده في الكلام؛ إذا ظاهرتْه قرينةٌ ما، مثل قوله تعالى: "الرّحْمن"(13). فاسم الجلالة: الرحمن، هنا آية بنفسه؛ ولم نجد ذلك حَدَثَ في فعل من الأفعال. فالاسْمُ هو صاحب الشأن والبال؛ أما الفعل فلا يأتي إلا خَدَماً له، وسائِراً في فلكه. 5. وإذا كانَتْ بعض المعلّقات(خصوصاً معلّقة زهير) تَغَلَّبَ فيها النظامُ الفعليّ على النظام الاسميّ؛ فلأَنَّحكيمُ المعلّقاتيين عَمَدَ إلى بثّ الحكمة، وإرسال الأمثال، وتذكيرٍ بمآسي الحرب، وتصوير لبشاعتها، وتزهيد الناس في سفك الدماء، وترغيبهم في أن يجعلوا المحبّة والسلام يسودان بينهم. ومثل هذا السلوك الذهنيّ ينشأ عنه قلةٌ في استعمال الأسماء، وكثرةٌ في استعمال الأفعال. ولعلّ الذي ظاهر على ذلك أنّ نظام النسْج في معلَّقة زهير اقتضى أن ينتهي كثير من أبياتها بأفعال مضارعة، إذْ نلفي اثنيْن وعشرين بيتاً من بين اثنين وستين ينتهين بأفعال أغْلَبُهَا مُضارِعٌ. وهي سيرة من النسج الشعريّ ليست عاديّة. ونحن حين اصطنعنا عبارة"نظام النسج"، في هذه المعلّقة، فلأننا، فعلاً، لاحظنا أنّ أسلوب الكَمِّ يكاد يختلف، هنا، عنه في سائر المعلّقات. فكأنّ نظام النّسْج في معلّقة زهير ينهض على تسخير هذه الفُيوض الفائضة من الأفعال المضارعة المجزومة التي كان وراء جزمها، في عامّتها، ذلك العامل الجازم لفعلين اثنين، وهو: "مَنْ"، وأخواته مثل "متى"، و"مَهْما"... التي تكرّرت، في جملتها، زُهاءَ أربعٍ وعشرينَ مرَّةً. وعلى أنّنا لو انزلقنا إلى عدِّ الأفعال المضارِعة المجزومة المعطوفة على الجُمل الأصليّة الناشئة عن إعمال الجزم لوجدنا النص الزُّهَيْرِيَّ يَعْجُّ بها عجيجاً، مثل: يوخّرْ، فيوضعْ، فيدّخرْ، يعجَلْ، فينقم. ومثل: وَتَضْرَ، فتضْرَم، وتلقحْ، تنتج، فتُتْئَم، فتُنْتج، فتغلل.... وإذا كان اسم "مَنْ" جاء في العربيّة للدلالة على العقلاء، إلاّ لدى الانزياح(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ...) (14)؛ فِلأَنَّ الناصّ كان يريد من وراء هذا الاستعمال إلى مخاطبة العقلاء حقاً، وتخصيصهم بالخطاب فعلاً. كان الشاعر الحكيم يريد أن يخاطبهم، فيؤثّر فيهم، ويبلغ غايته منهم؛ فيعدل بهم عمّا كانوا فيه من جَهالةٍ جهلاء، وما كانوا يَخْبِطون فيه من حروب هوجاء، وما كانوا يشنّونه من غارات شعواء، وما كانوا عليه من التساهل في سفك الدماء: باسْمِ الشجاعة، واستحلال أموال سَوائِهِمْ تحت عادياتٍ تَعَوَّدوها... وإذا كانت لغة عنترة تجري في بعض ما نحن بصدده من افتخار بسفك الدماء، وتمجيد القتل وخوض الحروب، وتصوير لمكارم الأخلاق كلّها في طعن الفرسان بالرماح، وَشَكِّ الرجال بالسلاح، وجندلتهم في سَاحِ الوغَى، وتغنٍّ بمناظر الموت البشعة، وتبجّج بمشاهد الدماء وهي تنزف من أجساد البشر، وهم يَتَهَاوَوْنَ على الأرض صَرْعىً لَقىً كأجْذاع النخْل: بفعل العَضْبِ بالسيوف، والطَّعْنِ بالعوالي: فإنَّ الصورة لدى زهير هي غيرها لدى عنترة. فكأنّ عنترة قاتل محترف: *قيلُ الفوارسِ: ويْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ* ومحاربٌ متخصّص في جندلةِ الأبطال، على حين أنّ زهيراً رجلُ سلامٍ، ومحبّة، وعقل... وأيّاً كان الشأن؛ فإنّ الفكرة التي نهضت عليها معلقة زهير كانت تقتضي فيْضاً من هذه الأفعال، كأنه لِيَصِفَ بها، بطريقٍ غير مباشر، معارِكَ الحرب، وأهوالُ الموت، ومناظر العذاب والخرابِ. فكأنّ زهيراً لا يصف الحرب وأهوالَها وآلامها وأتراحَها ومِحَنَها وشقاءَها في اللغة، ولكنه كان يصفها باللغة. وكأنَّ هذه اللغة، اللغة الزهيريّة، حركات الفرسان وهم يتقاتلون ويتصاولون ويتطاعنون: في خِفّةِ حركةٍ، وفي كرٍ وفر، وفي إقبال وإدبار، وفي وَثَبَانٍ وَرَوَغَانٍ... بينما نلفي نظام النسج اللغويّ لدى عنترة، وقد اقتضى المقام أن نقرن بينهما، هنا، ينهض على تصوير الحركة الفعليّة، الماديّة: للتقاتُلِ والتَّطَاعُنِ والتَّنَاحُرِ والتصاولُ بين الفرسان؛ وقل إن شئت بين عنترة وَحْدَهُ والفرسان الآخرين الذين كانوا يَعْرِضون له، أو يجرؤون على التَّطالُلِ على فروسيّته ورجوليته، وشجاعته التي سارت بذكرها الركبان... فاللغة لدى عنترة تنهض بوصف ما يحدث، فكأنّها سخّرت لِسَوَائِها، على حين أنّ اللغة لدى زهير تنهض بوصف الخارج فيها؛ فكأنها مسّخرةٌ لذاتِها، من أجل ذاتها. فكأنّ العمل باللغة في معلقة زهير يتّخذ من النسج باللغة غايةً له. فلغة زهير تصوّر الخارج عَبْرَ فَيْضٍ من وجدان الذات، فكأنّها تحويل للخارج نحو الداخل: لِتَركِّبَهُ، ثم تَبُثَّه نحو الخارج في صورة أخراةٍ جديدة. بينما اللغة لدى عنترة كأنها تصوير للخارج في واقع الداخل، وإٍسقاط للواقع الخارجيّ على حميميّة الذات. وإذا كانت التقريريّة هي التي تحكم نظام النسج لدى زهير في معلّقته، مَثَلُه مَثَلُ عمرو بن كلثوم، وربما طرفة أيضاً؛ فإنّ السرديّة هي التي تحكم نظام النسج لدى المعلّقّاتيّين الآخرين على الرغم من أنّ صفة السردية تجمع معظم المعلّقاتيّين، إن لا نقل كلّهم، إذا انصرف الوهم إلى المطالع الطللّية. لكنّ امرأ القيس يظلّ أشدهم تعلّقاً بالسرديّة، وأكثر استعمالاً لها، وقد كان ذلك أثار عنايتنا منذ أكثر من ربع قرن(15). وأياً كان الشأن؛ فإنه يمكن أن نقرر أنّ المعلّقاتيّين السبعة، في نظام النسج اللغويّ المستعمل في معلّقاتهم، هم إمّا سُرَّادٌ، وذلك عَامٌّ في مطالِعِهم؛ وإمَّا مُقَرِّرُونَ؛ وذلك خاصّ بأصحاب الحكمةِ والتأمّل، ولا سيما طرفة وزهير. ثم يقع التفاوت فيما بينهم على درجات من حيث الإغراقُ في السْردِ فحسب؛ أو الإغراق في التقرير فحسب؛ أو الجنوح للسرد أكثر من التقرير، أو الميل إلى التقرير أكثر من السرد... ومن الواضح أنّ هذا الوضع يؤثّر في طبيعة الأسلوب، وشكل اللغة، ونظام النسج. وهناك مسألة أخراةٌ عالجْناها، في غير هذا المقام، وهي أننا لاحظنا أن نظّام النسج كان يخضع، لدى هؤلاء المعلّقّاتيّين، لطبيعة المضمون المتناوَل، ولحال الوضع العاطفيّ الماثل، للمعلّقاتي حين يُنشئ شعرَه. فمَنْ النسْج ما يغْلُب عليه ما أطلقْنا عليه الضجيجيَّةُ كما في معلقتي عمرو بن كلثوم والحارث بن حلّزة، ومنه ما يطْغُو عليه الحميميَّةُ والذاتيَّةُ مثلما يصادفنا بعض ذلك لدى امرئِ القيس، وربما لدى عنترة أيضاً، ولدى طرفة في وجه من معلّقته. وقد كنّا لاحظنا أنّ الضجيجيّة تعني ذَوَبّان الذاتِ في الآخَرِ، وليس الآخَرُ هنا إلاّ القبيلةَ التي ينتمي إليها المعلّقاتي، فَيَنْضَحُ عنها، وَيُرَوِّجُ لِمَكَارِمِهَا، ويتغنّى بمآثرها، حتى يجعلها في ذروة من المجد، وقُلَّةٍ من السُّؤْدد. بينما الحميميّة إنما تُعْنى بتوهّج الذات، وطفوح قوة النفْس، وبروز شدة الحضور الداخلي، أو الحميميّ الذاتيّ، للمعلّقاتيّ: فإذا هو لا يلتفت إلا قليلاً إلى العالم الخارجي، ولا يكترث بما حوله، ولكنّ التعبير عن عالَمَه هو الذي يعنيه في المنزلة الأولى. **** رابعاً: زخرفيّات نسجيّة أخرى وممّا يمكن أن يكون له صلة بنظام النسج اللغويّ في المعلّقات ما لاحظناه من طفور بعض الأدوات الإنشائيّة، بتعبير البلاغيّين، وأدوات الزخرفة اللفظيّة باصطلاحنا: وذلك مثل الاستفهام، والقَسَمَ، والنداء، والتعجّب ونحوها. وقد لاحظنا أنّ الاستفهام، بنوعيه البسيط والإِنكاري، يأتي في المرتبة الأولى بثلاثة وثلاثين استفهاماً، والنداء يتبوأ المنزلة الثانية بتسع عَشْرَةَ حالَةَ نداءٍ، والقسمَ يَردُ في المرتبة الثالثة بإِحدى عشرة حالة قَسَمِ، من حيثُ يتبوَّأُ التعجُّبُ المرتبةَ الأخيرة بسبع حالاتٍ تعجّبٍ فحسب. والذي لاحظناه أيضاً حول هذه الظاهرة أنّنا ألفينا كلّ المعلّقاتيّين مستفهمين، مع تفاوت بينهم في كثرة الاستعمال: كثرة تتراوح بين تسعة استفهامات لدى الحارث بن حلّزة، واستفهاميْن فحسب لدى امرئ القيس. ولعلّ أداة الاستفهام أن تكون زخرفة كلاميّة تجلو الرتابة عن النسج، وتنفض غبار السكون الأسلوبيّ عن الكلام، وتحمل المتلقيّ على التيقّظ والتّحفّز، وتدفعه إلى استعمال مَلَكَته الذوقيّة، وطاقته الذهنيّة من أجل أن يجيب عمّا أثير من تساؤلات، وطُرِحَ من استفهامات. إنّ الاستفهام، وخصوصاً الإنكاريَّ منه-وهو كثير- مُساءَلَةٌ، وَحَيْرةٌ، وقلق. ولعلّ المُساءلة أن تكون دعوة إلى المعرفة، والمعرفة أرقى مستويات الإدراك. والاستفهام إبداءٌ لما في النَفْس من فضول معرفيّ، وَبَوْح بما في القلب من وجدان الذات، وكشْف عمَّا في الضمير من حَيرة حَيْرَى: فإِذا ما كان مخبوءاً يغتدي مكشوفاً، وإذا ما كان مستكيناً يُمْسِي مُعرّىً. وبينما كنّا ألفينا امْرَأ القيس يتبوَأ المنزلة الثانية بالقياس إلى زَخْرَفَةِ التشبيه (واعتبرناه الأوّل من حيث تنويع تشبيهاته، وجمالها، وإِصابتها-كما يعبّر الجاحظ- وابتكارها وابتداعها): نلفيه الأخير في زخرفة الاستفهام. فكأنّه وقع تبادلٌ في المواقع النسجيّة بين المعلّقات فإذا هذه تُغْرِقُ في التشبيهات، وتلك تغرق في الاسْتِفَهامات، والأخراة تجنح لِلْقَسَم، وهلمّ جرّا... وإنما ألفينا الحارث بن حلزة يغرق في استعمال الاستفهامات فيبلغ بها تِسْعَ حالاتٍ متبَّوئاً المنزلةَ الأولى بين المعلقّاتيين لأنه كان يدافع عن قضيّة، وَيَنْضَحُ عن مَوْقِفٍ. لقد كان قصاراه إِقْنَاعَ المتلقّين بظلم قبيلة تغلِب مجسَّدَةً، أو مُجَسَّداً، في موقف عمرو بن كلثوم، وتجاوزه كل طَوَرْ، وعَدَوه كل حدٍ: في الادِعِاءِ على بَكْر، وذهابه في كلّ ذلك المذاهب المستحيلة من سَوْقِ التُّهَمِ بالباطل... وقد لاحظْنا أن الحارث لم يندفع في نسج الاستفهامات من ذاته إلاّ مرة واحدة: لا أرى مَنْ عَهِدْتُ فيها فأَبْكِي الـ ـيوم، وما يُحيِرُ الْبُكَاءُ؟ وعلى أنّ هذا الاستفهام وارِدٌ ضمنياً، إذ يمكن أن تُقَرَأَ عبارة: "وما يُحَيُر الْبُكَاءُ" على معنى النفْي، لا على معنى الاستفهامِ؛ على الرغم من أنّ قراءتها على معنى الاستفهام يمنحها قوةًً دلالية أجمل وأقلق وأغنى؛ وكأن الحارث كان يريد أن يقول بالتسطيح النثري: وهل رأيتم، قط، بكاءً حارَ جَواباً، وردَّ خِطاباً؟ وهو كما يقرر الزوزنيّ: "استفهام يفيد الجحود"(16) فهذا الاستفهام: الشعريّ، الانزياحيُّ، الجميل(وهو جميل حقّاً لأنه خَرَقَ قواعد الصياغة المألوفة فاستفهم في غير مكان الاستفهام؛ وهي سيرة نعهدها لدى كبار الشعراء، وفصحاء الأبيناء) أفضى إلى الاستنكار والقَلَقِ، والحَيْرة والسُّمود. وأمّا بقيّة الاستفهامات فتنطلق، في عامّتها من الضمير الجمعيّ: من صرخة القبيلة، ومن صوت العشيرة، مثل: أم علينا جَرَّى قُضاعَةَ أم ليـ ـس علينا، فيما جَنَوْا، أَنْدَاءُ؟ إنّ معظم التشبيهات لدى الحارث بن حلّزة واردة في معنى الإنكار والحجود، والرفض والنفي. وهو مازاد هذه التشبيهات فَيْضَاً جماليّاً بديعَاً، لأنّه يحمل جماليّة في نفسه من حيث هو مُساءلة، أي إيقاظٌ لانتباهِ المتلقّي ودَفْعَه إلى المشاركة في تشكيل الرسالة المطروحة، كما يحمل جماليّة أخراة تتمثّل في أنّه يحمل مُخادَعةً للمتلقّي، ومُغَالطَةً للمستقبل الذي يعتقد، لأول وهلة، أن الرسالة أُلقِيَتْ عليه ليجيب عنها، بينما هي تحمل جوابَها في نفسها، وإقناعَها في ذاتها، وإنكارَها في نسجها. على حين أنَّنا ألفيْنا كُلَّ الاستفهامات الواردة لدى طرفة بن العبد، وهي ستّة، وهي تمثّل المرتبة الثانية بعد الحارث بن حلّزة، تنطلق من ذات الناصّ، وتنبع من نفسه، وتنبثق عن جَوَّانيته، لأنه كان بصدد نَعْيِ نَفْسِه، فيما يزعم مؤرخّو الأدب (17): فكان مُضطَرَّاً إلى التساؤل عن كثير ممّا يَحْدُثُ مِنْ حَوْلِهِ، أو قُلْ: ما يحدث له، أو قل: ما يحدث له عبر هذا العالم الغريب، وما يتعرّض له من ظلم ومَضاضَةٍ: * وأنْ أَشْهَدَ اللّذّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخِلْدِي؟ * ستَعْلَمُ، إن متْنا غَداً، أَيُّنا، الصَّدِي؟ وأمّا منطلق مُساءلات عمرو بن كلثوم، وقد تواترتْ خمسَ مرّاتٍ، وهو الشاعر الذي كان يبشّر بقضيّة القبيلة، ويدافع عن مجدها، وينضَحُ عن شَرَفها: فإنّها وردت، هي أيضاً، وعلى سبيل الإطلاق، في معرض التحدّث عن الجماعة، والتكلّم باسمِها، ورفع العقيرة بصوتها: بأيِّ مشيئةٍ، عمرو بْنَ هِنْدٍ تُطيع بنا الوُشاةَ وتَزْدَرِينا؟ أَلَمَّا تَعْلَمُوا، مِنَّا ومنكم، كتائِبَ يَطَّعِنَّ ويَرْتَمينَا؟ بينما انطلقت استفهامات عنترة، وهي خمسة أيضاً، من أعماق نفسه؛ إذْ كان بصدد النَّضْحِ عن حَقِهِ في الحريّة، وَجدارته بالوجودِ؛ وإذْ كان على شجاعته وَحُسْنِ بَلائه في الحروب كان أبوه يتردّد في إلحاقِه بنَسَبِه، كما أنّ حُبَّهَ عَبْلَةَ أَجَّجَ في قلبه رسيس الهوى فأنطقه بما أنطق، وألهمه بما ألهم: فجعله يخاطبها، وهي بعيدةٌ عنه، معاتباً إيّاها عن عدم مُساءَلَتِها عن بَلائه في الحروب، ومتابعتها لمقاماتِه في الوغى؛ وكيف أنّ الخيل كانت تعرفه لفُروسيّته، وكيف أن الفرسان كانت تتَهَيَّبُه لشجاعته: إلاّ هي التي ظلّت جاهِلَةً، أو متجاهلةً، بما كان يجب عليها أن تعلم من أمره، وتعرفَ من شأنه: هَلاَّ سأَلْتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ إن كنتِ جاهلةً بما لم تَعْلَمِي؟ وقد أثار انتباهَنا، هنا، شيءٌ آخرُ في نظام النسيج اللغويّ للمعلّقات؛ وهو هذه النداءات المتكررة، والأصوات المتعالية: الدالّة على الدَّلَهِ وَالْوَلَهِ، والقَلق والفَزَع، والتخوّف والترقّب. وكانت هذه النداءاتُ ربما خرجت عن إطارها الاستعمالِيّ المألوفِ، لتخرق القاعدة، ولتغتدي مُنزاحةً مُنساحةً، مثل ما نلفيه لدى امرئِ القيسِ الذي خاطب الليل فجعله يَعْقِلُ نداءه، ويعي خطابه (وإن كنّا شكَكْنا في أنّ الأبيات الأربعة التي يصف فيها الملك الضليل الليل، قد تكون له... وقد عللّنا ذلك في موقعه من هذه الدراسة...)، ومثل ما نجده لدى زهير الذي يخاطب الرَّبْعَ ويدعو له بالسَّلامة، وكأنّه عاقِلٌ واعٍ، وسامِعٌ سَاعٍ. ذلك، وقد ألفينا هذه النداءات الصريحة، أو النداءات المنزاحةَ الواردة في صور التعجب، تبلغ زهاء تِسْعَةَ عَشَرَ. وقد توزّعت على عامّة نصوص المعلقات إلاّ معلقة الحارث بن حلّزة إنها خَلَتْ من أيّ نداء أو تعجّب. أمّا التواتر فكان يتراوح بين ستّةِ نداءاتٍ (عمرو بن كلثوم)، ونداءٍ واحدٍ (زهير بن أبي سُلمى). وإذا كنّا زعمنا أنّ الاستفهام يعبّر عن مدى القلق الناشئ عن فضول المُساءلة النائشة عن الحَيرة والتعجّب، فإنّ النداء لا يَقِلُّ جماليّة من حيث هو مظهرٌ تعبيريّ أنيق رشيق، وخصوصاً حين ينزاح النداء فينصرف إلى ما لا يعقل، أو حين يَحَارُ فينصرف إلى التعجّب كقول امرئ القيس: ألا أَيُّها الليلُ الطويلُ ألا انجلِِ بِصُبْحٍ، وما الإصباحُ منك بأَمْثَلِ فهذا الليل لطول زمنهِ، وكثافة ظلمته، وكثرة هُمومه، وشِدّة أهواله، ولمُلازِمة النَّاصِّ له، ولملازِمة الليل للنَّاصّ: مسافِراً يتسقَّطُ المجْد، وظاعِناً يحاول السُّؤُدْدُ، وأرِقاً يتجرّع العِشّق، وساهِراً يَحْتَسِي كؤوس الرَّاح، وشاعراً يلتمس بناتِ الشعر: اندمج في هذا الليل، واندمج الليل فيه، فذاب، ما كانَ بينهما من فروق: أحدهما إنسان حيّ عاقلٌ واعٍ، وأحدهما الآخر زمن مظلم غير عاقل ولا واع: فإذا هذا ذاك؛ وإذا ذاك هذا؛ وإذا النَّاصُّ يُلفي سبيلَه على ليله؛ فتنزاح له الحُجُب، وتتكشّف له الأسرار، وَيُؤْتَى من هذه الأسرار ما يُتيح له الفهمَ عن الليل؛ بل يُتيح له ما يجعله: يجعل هذا الليلَ يفهم عنه، وَيَعِيَ خطابه، ويستجيب لندائه... وإنه لِسِحْرُ الشعر! وإنه لَجمال النسْج الأدبي العبقريّ. وإنّها لَعُذْرِيَّةُ الخيال، ووحشيّة اللغة الشعريّة... وإذا كنا توقّفنا لدى نداء امرئ القيس، هذا، فلِمَا رأَيْنا من اشتماله على انزياح لغويّ عجيب، وانسياج نسْجيّ مبكِرٍّ في الشعر العربيّ. أمّا النداءات الأخراة وعلى كثرتها في معلّقة عمرو بن كلثوم مثلاً؛ فإنها لا تجاوز حدود الاستعمال المألوف الذي إن كان يعني قلقَاً وعجَبَاً، وَحيرةً وتطلّعاً؛ فإنه، مع ذلك، وعلى الرغم من ذلك، لا يستطيع أن يرقى إلى مستوى الاستعمال المنزاح، مثل قوله: أَبَا هِنْدٍ فلا تعْجَلْ عليْنا وأَنظِرْنا نُخَبِّرْكَ اليقينا؟ وربما كان أجمل نداءات عمرو بن كلثوم حين قَرَنَ بين الاستفهام والنداء، في مثل قوله: بأيِّ مشيئةٍ، عمرو بْنَ هندٍ، تُطيع بنا الوُشاةَ، وتَزْدَرينا؟ أمّا المظهر النسجيّ الآخر الجديرُ لِلَّتَوَقُفِ، والقمينُ للْمُلاحظة؛ فهو القَسَمُ الذي هو زينةٌ من زيناتِ النسج الأدبيّ في الأدب العربيّ: شعره ونثره. فقد كان الفصحاء يتفنّنون في هذه الأقسام، ويتأبَّهُونَ بها، ويتبجّحون باستعمالها لِمَا كانوا يُحسِّون، إحساساً فطريّاً، فيها من الجمال الدافق، والوهَج الطافح: فكانوا يسحرون المتلقّين سحراً، ويأْسرونهم أسْراً. فلا عجب أن نلفي هذه المعلّقاتِ تُنَمِّقُ نُسِوجَها ببعض هذه الأقسام فنلفيها تتكرّر لدى ثلاثة معلقّاتيّين هم طرفة، وزهير، وامرؤ القيس. بيد أنّها لم تكد تتكرّر لدى هؤلاء إلاّ عشرَ مرات: أربعاً لدى الأوّلين، واثنتَيْنِ لدى الآخر. وقد وردت تلك الأقسام في صورة العبارات التالية: *لعَمْرُكَ، ولَعَمْرِي(أربع مرات)، *آليت، وأقسمت، وحلفت (ثلاث مرات)، *يميناً، ويمين الله(مرتين اثنتين)، *وجَدِّكَ(مرة واحدة). وقد وردت هذه الأقسام الثمانية، لدى طرفة وزهير، على لساني هذين المعلقّاتيّين أنفسهما، بينما القَسَمان الاثنان الآخران الواردان في معلّقة امرئ القيس ورداً على لسان إحدى النساء اللواتي شبَّب بهنّ: *ويَوْماً على ظَهر الكثيب تعذَّرَتْ عَلَيّ، وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ *فقالت: يَمِينَ اللّهِ مالكَ حيلَةٌ وما إِنْ أَرَى عَنكَ الغِوايَةَ تَنْجَلِي ولكن يبدو أنّ القسم، هنا، ومن الوجهة الدلالية الخالصة، لا يعني الرفض، ولا يعني التقديس؛ بمقدار ما هو كلام تقوله المرأة حين تريد باطناً ولا تريد ظاهراً. فالتَّأَبِّي، والتَّأَلِيَّ لدى هذه المرأة لم يكن يُقْصَدُ منه التمنُّعُ الحقيقيّ، ولا التأييسُ منها، ولا التزهيدُ فيها؛ بمقدار ما كان ضَرْبَاً من الغَنَجِ والإِغراء بها، حتّى قيل: إنّ البيت الثاني هو أغنج بيت قيل في الشعر العربيّ على سبيل الإطلاق(18). فكأنّ النسيج الشعريّ لدى امرئ القيس أبداً يَسْتَمِيزُ عن النسوج الشعريّة لدى زملائه المعلّقاتيّين، ويتفرّد عنها، إن لاّ نقل يتسامى عليها. فالقَسَم لديه، هنا، مُنْزاحٌ لأنّه لا يحتمل ظاهِرَ الدلالة، بينما نلفي الأَلاَيَا، لدى طرفة وزهير، لا تخرج عن وَضْعِها اللغويّ، المألوف لدى الناس مثل قول زهير: فأقسمتُ بالبيتِ الذي طاف حوله رِجالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُريشٍ وجُرْهُمِ يَميناً لَنِعْمَ السيّدان وجَدْتُما فالتَّالِيَّ، هنا في بيت زهير، مسلوكٌ في مَسْلَكِهِ المألوف؛ بحيث إنّ النَّاصُّ يُقْسِمُ يميناً بالبيت العتيق الذي كان تعاقب على بنائه أقوامٌ وأمم منها جُرْهُمٌ وقريش (ولأمر ما كانت قريش تؤثر شعرَ زهير على صِحَابِه، زاعمةً أنّه"لا يعاظِلُ بين الكلاميْن، ولا يتتبّع وحشيّ الكلام، ولايمدح أحداً بغير ما فيه" (19)، بينما قد يكون ذلك عائداً إلى أنّه لأنه ربما ذكر قريشاً في معلقته؛ وإلاّ فأين المُعَاظَلَة التي نجدها، مثلاً، في شعر امرئ القيس... فهناك شعراء لم يمدحو قطّ منهم عمرو بن كلثوم، وربما عنترة أيضاً(بينما مدائح امرئ القيس-وهي قليلة- لا يمكن أن ترقى إلى مستوى شعره في المعلّقة أو المطولّة-، فالمَدْح في مسألة تفضيل زهير غير وارد إذن، فلماذا ذكر؟ إلا أن تكون المفاضلة كانت بينه وبين سَوَاءِ المعلقّاتِيّينَ، والحال أنها كانت بينه وبينهم؛ فهم أَكْفَاؤُه وأَنْدَادُه. وهناك شعراء ظلت لغة شعرهم جاريةً على كلّ لسان، ومعانيهم مسرعةً إلى كلّ جَنان؛ منهم امرؤ القيس، فأين الوحشيّة اللغويّة المزعومة التي تتحدّث عنها تلك الرواية...؟ وَلِمَ قَدَّمَ الرسولُ الكريم، صلى الله عليه وسلم، امرَأَ القيس(20)، ضمناً، بينما لم تقدّمه قريْشٌ...؟) إنّ هذين السيّدين اللذين هما هرم بن سنان، والحارث ابن عوف: لَكَرِيمان ماجدان، بسعيهما إلى وقف سَفْكِ الدماء"بين عبس وذبيان، وتحمّلهما أعباءَ دِيَاتِ القَتْلَى"(21). فالقَسَمْ، على شرف مستعملِه، لا يخرج هنا عن الإطار المألوف للنسْج الأدبيّ؛ فليس فيه خرّق ولا انْزِيَاحٌ. ومثل ذلك يقال في بقية الأَلاَيَا الأخراةِ التي لا تكاد تخرج عن الاستعمال المألوف إلا ما رأينا من قَسَمَي امرئِ القيس على لسان فاطِمته. وعلى أنّ هناك مُزَخْرَفِاتٍ أخراةً صادفتنا ونحن نقرأ نصوص المعلّقات وهي التعجّب، والدُّعاء، والتحيّة والتمنّي... وقد صادَفنا بعض ذلك، خصوصاً، لدى زهير، وعنترة، ولبيد، وامرئِ القيس، وطرفة. ولكنّ ذلك كلّه لم يجاوز تسع مزخرفات مثل قول امرئ القيس حكايةً عن حبيبته وهي تدعو إليه: دعاء المتدلِلَّةِ المتغِنّجَة، الوامقة العاشقة، لا الحاقدة الحانقة؛ فكأنّها كانت، إذن، تدعو له: *فقالَتْ: لَكَ الوَيْلاتُ، إنَّكَ مُرْجِلي وهنا، أيضاً، نُلفي هذا الدعاءَ مارِقاً عن نظام الاسْتعمال المألوف، ونازحاً عن أصل الاستخدام المعروف: فإذا هو معدول به عن وضْعه الأصليّ. ذلك بأنّ الدعاء إمّا أن يكون عليك، وإمّا أن يكون لك؛ فإذا كان عليك فهو بالويل والثبور، وهو بالشقاء والتِّبارِ؛ وهو بكلّ ما هو سيّء ضار... وأمّا إذا كان لك فهو بالسَّقْيا والخَيْر، والرحمة والسعادة، والتوفيق والفَلَجْ. والويل، في ظاهره، مصروف إلى مصارف الشرّ، ومدفوع إلى وجوه الضَّيْر، لكنّ ذلك كله مجرّد مغالطة أسلوبيّة يحملها سطْح النسج: إذا كان السياق يقتضي أنّ الوبل، هنا، لا يزال يفقد من غُلُوَاءِ شِرّهِ وضيْره إلى أن يغتدِيَ مجرّدَ كلامٍ أبيضَ، أي إلى أن يغتدِيَ عبارةً تَحَبُّبٍ وَتَوَدُّدٍ، وقولَةِ إِغْراءٍ وتقرُّبٍ، وإعلانَ دُعاءٍ وتَوَمُّقٍ؛ فكأنَّ معنى هذا الدعاء الجميل: ارْفُقُ بِي أيها الحبيبُ الغالِ؛ والتزِمْ شيْئاً من الحِذَارِ حينُ تُقَبِلُّني؛ وأنا في غبيطيَ الصغير؛ فإنّك توشك أن تُوقعني أَرْضَاً، وإنّي أخشى أن تَقَعَ، قبل أن أَقَعَ أنا أيْضاً، أرْضاً! ومع ذلك، فامْضِ فيما أنتَ فيه ماضٍ؛ فإني مُلْفِيَةٌ فيه اللذاذَةَ، ومُحِسَّةٌ فيه بالنعيم!... فامْضِ، إذن، فيما أنت فيه، وَلأُرْجَلْ، أثناء ذلك، أَلْفَ إِرْجَالَةٍ!...ويَحْكَ امْضِ... ويحك ادْنُ.. ونُلْفِي زُهيراً يُحِيّي طَلَلَه الْبَالِ، وربْعَه الدارِسَ، فيخاطبه: فلَمَّا عرْفتُ الدارَ قلت لربْعِها، تَكَلَّمي أَلا عِمْ صباحاً، أيُّها الربْعُ، واسْلَمٍِ كما نلفي عنترة يخاطب حبيبته، يحيّيها، ويدعو لها: يا دارَ عَبْلَةَ، بالجَواءِ، تَكَلَّمِي وعِمِي صَباحاً، دارَ عَبْلَةَ، واسْلَمِي وقد يكون هذا البيت من أجمل الشعر العربيّ زخرفةً، فقد جمع فيه الناصّ بين عدّة مُزَخْرَفاتٍ: المزخرِفُ الأوّلُ يَمْثُلُ في النداء الذي تكرر مرتيْن اثنتين: يا دارَ...+ دار عَبْلَةَ (نداء بالياء، ونداء آخر بحذف حرف النداء). ولقدْ يمكن أن نُؤَوِّلَ استعمالَ أدَاةِ النداء أوّلاً، ثم العدول عنها آخِراً، في موقف واحد، وفي بيت واحد؛ لم يكن إلاّّ تجسيداً لِمَا كان يلتعج في نفسْ الشّخصية الشعريّة التي كانت ترى مُبْتَدأَ الأمِر، أنّ دار الحبيبة، فِعْلاً، بعيدةٌ من حيث الحيزُ، من أجل ذلك كان الأليقُ بالنسج استعمالَ أداة النداء الدالّة على بعيد. ولكن لَمَّا دَعا لدار الحبيبة، عاد في موقفه، وكأنه اسْتَحَى أنْ يُخاطِبَها بأداة النداء الدالّة على البعيد، فناداها، تارةً أخراةً، بوجهٍ آَخَرَ من الكلام، واصطنع زَخْرَفَةً دالة على الاقتراب والالتصاق؛ فكأنّ عَبْلَةَ كانت مستقِرَّة في نفسه، وكأنها كانت كَظِّلهِ لا تُزايلهِ، وتقارفه ولا تفارقه، فقال: دارَ عبلة...
وأمّا المزخرِفُ الثاني فَيْمثُلُ في تَحيَّةِ الحبيبة والتسليم عليها، وقد اصطنع الناصّ عبارة أهل الجاهليّة في التحيّة، وهي: عِمِي صباحاً. والمزخرف الثالث يَمْثُلُ في الدعاء، وهو قوله: اسلَمِي! على حين أنّ المزخرِف الرابع يَمْثُل في استعمال الطَلب الوارد، ظاهريّاً، في صورة الأمر، وهو قوله: تَكَلَّمي. وعلى أنّ ذكر الحيز الذي كانت تقطنه عبلة أمرٌ واردٌ ضمن الإغراق في هذا التحبّب وهذا التومّق؛ إذْ ذِكْرُ المكان تخصيصٌ لِلاسْمْ؛ فكأنّه ذِكْرٌ لَعَبْلَةَ مرتين اثنتين... فما يدري المتلِقّي وقد تكون العَبَلاَتُ كثيراتٍ... فلمّا خصّ عَبْلَتَه بمكان الجَواءِ، بمقامها زادَ دلالةَ التسميةِ تَخْصيصاً. وأمّا المزخرِف الذي يُحَسَّ ولا يَلْمَسُ، وَيُفْهَمَ ولا يُنْطَقُ؛ فهو مخاطبةُ الشخصيّة الشعريّة ما لا يعقل إذا خاطب دارَ عبلة وكأنها كائِنٌ حَيٌّ عاقل يَفْهَم عنه، ويَسْمع منه، وذلك غاية الدَّلَهِ والسُّمود.... ونكاد نلاحظ في بيت زهير ما لاحظناه في بيت عنترة حيث إنّ النّاصّين يَدْعُوانِ من خلال الدعوة لداريَ الحبيبتيْن، في الحقيقة، للحبيبتيْن |
|||
2012-02-11, 17:23 | رقم المشاركة : 12 | |||
|
|
|||
2012-02-11, 17:29 | رقم المشاركة : 13 | |||
|
يتبع باذن الله ........................... |
|||
2012-02-15, 20:40 | رقم المشاركة : 14 | |||
|
انا خصني بحث على الشعر العذري.......... |
|||
2012-02-16, 22:11 | رقم المشاركة : 15 | |||
|
لقد كثر الحديث عن التناص في العِقدين الأخيرين بين النقاد الحداثيين، والجامعيّين المشتغلين بالدرس الأدبيّ؛ حتى اغتدى جارياً على كلّ لسان، وعالقاً بكل جَنان، ودائراً في المجالس، ومتداوَلاً في المآقط. ولقد سبق لنا، في كتاباتنا الأخيرة أن تناولنا الحديث عن التناصّ، أو التناصيّة على أصحّ ما ينبغي أن يقابل المفهوم الغربيَ [INTERTEXTUALITE]: إما تنظيراً، وإما تطبيقاً(1)؛ كما سبق لنا أن أحلنا على كثير ممن تناولوا هذا المفهوم السيماءويّ الجميل من الأجانب والعرب(2) جميعاً. وحين جئنا اليوم نتناول نصوص المعلقات السبع أثار انتباهنا ما في هذه النصوص الشعرية من مواقف متشاكلة على المستوى المضمونيّ، وألفاظ متشاكلة، أو مكررة، على المستوى الشكلي: لدى أولئك وهؤلاء؛ بحيث لاحظنا نسوجاً تعبيرية متشاكلة ومتماثلة. وواصح أن الأول من المعلقاتيين يُفترَض أن يكون هو المؤثّر، واللاحق له هو المتأثر. ذلك هو قانون الزمن، وناموس الإبداع؛ ولا ينبغي أن يدفعه إلاّ معارض مكابر، ومناوئ مغالط. ومن العسير الذهابُ إلى أن مثل هذه الأمور تندرج ضمن إطار ما كان يطلق عليه في النقد العربي القديم"وقوع الحافر على الحافر"؛ ذلك بأن المعلقاتيين السبعة، كما كنا حققنا ذلك في مقالة ضمن هذه الدراسة، كانوا متعاصرين جميعاً؛ فكانوا يشكّلون مدرسة شعرية واحدة... وقبل أن ننزلق إلى تناول هذا الموضوع الذي اختصصنا به هذه المقالة، نودّ أن نومئ إلى نصّ لأبي عثمان الجاحظ عثرنا عليه في قراءاتنا إياه؛ ونحسب الناس لم يحيلوا عليه، ولا نبهو إليه، ولا احتفلوا به، وهو -من بين النصوص النظرية، التي كنا أومأنا إليها في مقالة لنا بعنوان"فكرة السرقات الأدبية ونظرية التناص" [ونشرناها في مجلة"علامات"، بجدة، 1991]؛ وهي: لعبد العزيز الجرجاني، ولجملة من النقاد العرب الأقدمين الآخرين(3)- تنبّهُه إلى أن الشعراء عالات على بعضهم بعض، وأن الإبداع الذي به يتبجحون قد يكون نسبياً جداً؛ إذ"لا يُعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تام، وفي معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم، أو في معنى بديع مخترع؛ إلاّّ وكلّ من جاء مَن الشعراء، من بعده أو معه، أن هو لم يَعْدُ على لفظه فيسرق بعضه أو يدّعيه بأمره: فإنه لا يَدَعْ أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكاً فيه، كالمعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم، وأعاريض أشعارهم، ولا يكون أحدهم أحقَّ بذلك المعنى من صاحبه..."(4). ومثلُ هذا النصّ النقديّ العجيب هو الذي كان يحملنا، دَوْمَاً، على الانطلاق من التراث نحو الحداثة، أو من الحداثة ولكن بالاستناد إلى التراث؛ وذلك على أساس أنّ التراث النقديّ العربيّ، غنيّ بالنظريّات والآراء النقديّة... والذين يكابرون فيتحاملون على هذا التراث لا يَعْدُوَن أن يكونوا واحِداً من اثنيْن: إمّا لأنَّهم يجهلون هذا التراث، وإمّا لأنهم، لبعض ما في قلوبهم من مَرَضٍ، يمقتونه فيقعون في المكابرة. ولاحجّة لهم في الحاليّن، ولا سَدَادَ لرأيهم في الطوريْن. فأبو عثمان، هنا يُؤَكِّدُ أنّ هناك معانِيَ مشتركةً، أو اغتدت مشتركة، بفعل تكالب الشعراء عليها، ولهجهم بها، واحتفالهم عليها؛ فإذا لا دَيَّارَ منهم أحقّ بذلك المعنى من صاحبه. ولنلاحظْ أَنَّ الجاحظ لم يقع فيما كان يسمّيه النقاد الأقدمون، وخُصوصَاً عَلِيَّا الجرجانيّ،"السرقات". إنّ هذا المصطلح الأخلاقيّ، القضائيّ مزعجٌ ومُؤْذٍ، ولايستقيم به الطريق للنقد في أيّ عهد ، إذْ كانت السرقة أمراً محرَّماً، وسُلوكاً مشنّعاً، في كلّ الأديان والشرائع والقوانين الوضعّية، والحال أنّ الأديب كثيراً ما لايتعمّد، بالتجربة والممارسة، هذه السرقة، ولا يقصد إليها؛ وربّما لا يريدها أصلاً؛ ولكنّ سلوكه يكون، في الغالب، من باب وقوع الحافر على الحافر؛ أو من باب تشابه المواقف فتتشابه معها الألفاظُ: كالبكاء على الأطلال، وكالنوح على الديار، وكالحنين إلى الربوع الدارسة، وكالوقوف على الدِّمَنْ البالية. وتماثل العواطف كحبّ الشعراء لحبيبات كنّ يعشن في تلك الديار التي لم يبق لهم منها إلاّ آثارُها، بعد أن تَحَمَّل عنها أهلها، وزايلَها أصحابُها... فقد كان واقعاً اجتماعياً محتوماً، وكان على الشعراء أن يخوضوا فيه، ويصوّروا تجاربهم من حوله. ولم يكن من المنصف أن يسكت اللاّحقون عنه، لمجرّد أن السابقين تناولوه... إنّ الجاحظ، إذن، رفض، ضمنيّاً، مصطلح السرقات وأثبت أنّ هذا المصطلح غيرُ سليم، وهو إذن غيرُ مقبول. ولا نعرف شاعراً مُغلِقاً، ولا خطيباً مِصْقَعاً، ولا مترسِّلاً مُفَوَّهَاً: سَطَا، متعمِّداً، على آثار مَن سَبقه من الأدباء فسرقها علانية؛ وقلّدها من باب العيّ والعجز، والبَكاءة والفَهَاهة.. فإنّما كان الفصحاء الأبْيِنَاءُ ربما جال بِخَلَدِهم بعضُ نسوجِ سَوَائِهِمْ فرَكَضَتْ على أَلسنتهم وهم يخطبون، أو جرت علىأقلامهم وهم يكتبون ولا ينبغي لِسُرَّاق الأدب والأفكار أن ينضووا تحت لواء المتناصّين. فكلُّ سارق ساطٍ؛ ومَن كان ساطياً سارقاً كيف يمكنه أن يكون كاتباً أدبياً؟ فالمسألة محسومة من أصلها إذن. والأمر يجب أن ينصرف إلى التناصّ، أو التّكاتُب الذي هو سلك تأثيريٌّ تأثُّرِيٌّ معاً، وفاعِليٌّ تَفَاعِليٌّ جميعاً: بين كبار الأدباء... أمَّا السرقة الأدبيّة فلا يَعْمِدُ إليها إلاّ صغارُ النفوس، والمحرومين مِمَّن لم يخلقهم الله ليكونوا أدباء فتحدَّوْا إرادته، وحاولوا أن يَكُونُوهُمْ فأمْسَوْا من الخاسرين. وقد لاحظنا حين جئنا نقرأ الشعر الجاهليّ بِعَامَّة، والمعلّقات بخاصّة، أنّ تأثير امرئ القيس فيمن عَداهُ من الشعراء العرب الأقدمين واضح ظاهر. ويبدو أنّ الشعراء الأقدمين لم يكونوا يتحرجون في تناول بعض الأَبَايِيتِ، أو مصاريع منها، أو أجزاء من مصاريعها، على سبيل التضمين، أو قل بلغة العصر على سبيل التناصّ؛ فإذا الواحِدُ منهم لا يرعوى عن أن يكرّر ما كان قاله سَوَاؤُهُ، دون أن يُلْفِيَ في ذلك حرجاً أو حُوباً. ويمكن أن نمثّل لبعض ذلك في مقدّمة هذه المقالة من آثار امرئ القيس في الشعر العربي: جاهلِّيه، وإسلاميِّه، وأُمَوِيّه، دون إعنات النفسْ في متابعة ذلك إلى أزمنة أخرى متأخرة، أو إلى شعراء آخرين، على العهود الأولى للشعر العربيّ. فهل يمكن، نتيجة لذلك، عَدُّ امرئِ القيس ناصّاً، ومعظم الشعراء الباقين في الجاهلية، وصدرٍ من عهد الإسلام، متناصّين معه، مُعْجَبِين به؛ محاكين له؟ فعلى الرغم مِنْ أنّ امرأ القيس نفسَه يعترف بأنه، هو أيضاً، تناصَّ مع امرئ قيسٍ آخَرَ، يُدْعَى ابْنُ حُمَام(5) حين زعم أنه هو الذي كان بكى الديار من قبله(6)، بل زعمت كَلْبٌ أنّ الخمسةً الأبياتَ الأولى كلّها من معلّقة امرئ القيس هي لابن حُمام(7): فإنّ معظم الشعراء على عهد الجاهلية خصوصاً، بل شعراء العهود المتأخرة، ظلّوا يتناصّون معه في وصف الديار، وفي وصف النساء، وفي وصف الخيل، وفي وصف الليل، وفي وصف المطر... فمنهم من كان يتعلّق به جودةً، ومنهم من كان ينأى عنه ولا يزدلف منه. ولو لم يكن امرؤ القيس أميناً حين أومأ إلى هذا الشاعر المنقرِض السيرةِ، والذي لا يعرف عنه النقادُ الأقدمون شيئاً، ولا سَمِعُوا "شعره الذي بكى فيه، ولا شِعْراً غير هذا البيت الذي ذكرَ امْرؤُ القيس" (8)، لَمَا عُرِفَ ابْنُ حمام هذا بين نقّاد الشعر الأقدمين باسمه على الأقلّ. والحق أنّ عبارة ابن سلاّم الجمحي تفتقر إلى نقاش، لأنّ قوله: "غير هذا البيت الذي ذكر امرؤ القيس" : يفهم منه أنّ امرأ القيس ذكر فعلاً بيتاً من الشعر لامْرِئِ القيس بن حُمام، يقول امرؤ القيس في مطولته الشهيرة: أَلا عِمْ صَباحاً أيُّها الطَّلَلُ البَالِي وهل يَعمِمَنْ مَن كان في العُصُرِ الْخَالي؟ ويقول عنترة: يا دَارَ عَبْلَةَ بالجَوَاءِ تَكَلِّمِي وعِميِ صَباحاً، دَارَ عَبْلَةَ، واسْلَمِي ويقول زهير *أَلا أنْعم صباحاً أيُّها الربْعُ واسْلَمِ* وعلى أنّنا سنعالج، بعد حين، ما يتمحّض للتناصّ في المعلقات. ويقول امرؤ القيس: وجِيدٍ كجيدِ الرئم ليس بفاحشٍ إذا هي نصًّتْه، ولا بمُعَطَّلِ ويقول قيس بن الخطيم: وجيدٍ كجيدِ الرئم حالٍ يَزِينُهُ على النَّحْرِ منظومٌ وفصل زبرجَدِ (11) ويقول امرؤ القيس: فبات عليه سرْجُه ولِجامُه وبات بعيني قائِماً غيْرَ مُرْسَلِ ويقول الراعي: فبات يُريِه عِرْسَهُ وبَنَاتِهِ وبَتُّ أُراعي النجمَ أيْنَ مَخَافِقُه؟ (12) ويقول امرؤ القيس: أَلا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِي بصُبْحٍ، وما الإِصباحُ منك بِأَمْثَلِ ويقول الطرمّاح بن حكيم الطائي: أَلا أَيُّها اللَّيْلُ الطويلُ ألا أصْبِحِ بِبَمَّ، وما الإْصْباحُ مِنْكَ بِأَروحِ (13) ويقول امرؤ القيس: أغرّكِ منّي أنّ حُبَّكِ قاتِلي وأَنَّكَ مَهْما تَأْمُرِي القَلبَ، يَفْعَلِ ويقول جرير: أغرّك مِنّي أَنَّما قاَدَني الْهَوَى إليك، وما عَهْدٌ، لَكُنَّ، بِدَائِم(14)؟ ويقول امرؤ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسِقْطِ اللِوّى بين الدَّخولِ فَحَوْمَلِ ويقول عمرو بن الأهتم التميمي: قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ وأطْلالِ بذي الرَّضْمِ، فَالرُّمَّانَتَيْنِ فأَوْعَالِ(15) ويقول امرؤ القيس: *فَمِثْلِكِ حُبْلَى قدْ طَرقْتُ ومُرْضِعٍ* ويقول قيس بن الخطيم: *ومِثْلكِ قَدْ أَصَبْتُ لَيْسَتْ بِكَنَّةٍ* (16) ويقول امرؤ القيس: *كأنّي غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلُوا* ويقول بشر بن أبي خازم: *وكَأَنَّ ظَعْنَهُمُ غَداةَ تَحَمَّلُوا* (17) ويقول امرؤ القيس: فيالَكَ من لَيْلٍ كَأَنَّ نُجومَه بأَمراسِ كتّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ (رواية الزوزني). ويقول الأعشى: كأن نُجومَها رُبِطَتْ بِصَخْرٍ وأَمْراسٍ تَدُورُ وتَسْتَزِيدُ(18) ويقول امرؤ القيس: *فَمِثْلِكِ حُبلْى قد طَرقْت ومُرْضِعٍ ويقول الأعشى: *فَمِثْلِكِ قَدْ لَهَوْتُ بَها، وَأَرْضٍ*(19). ذلك، وأنه استرعى انبتاهَنا جملةٌ من الظواهر في هذا التناصِّ الذي قصَصْنا أثرَه في نصوص المعلّقات السبعِ قصاً لطيفاً حتَّى وقع لنا منه طائفةٌ صالحة، ومقادِيرُ وافِرَةٌ: فَوَفَر لنا منه ما نطلق عليه اللّغة المشتركة، أو التناصّ اللفظيّ؛ وما نطلق عليها التناصّ النسجي؛ وما قد نطلق عليه التناصّ الذاتي؛ وما قد نطلق عليه التناصّ المضمونيّ. ونعالج في هذه المقالّة كلّ هذه المستويات من التناصّ الذي يَحْكُمُ علاقاتِ التفاعُلِ بين المعلّقات السبع. المستوى الأول: التناصّ اللفظيّ ونحن نقرأُ نصوص المعلّقات، ونعيد قراءَتَها مُرُوراً كِثَاراً -لم نتمكّن من تَعدادها- :اسْتُبَان لنا أنّ هنَّاك ألفاظاً كثيرةً وردَتْ لدى ناصِيّنَ فتداوَلَها آخرون متناصِيّنَ معها، معجبين بها، مُحاكِين لها، وقد لا يعود ذلك، في رأينا، إلى قصور في المخزون اللغويّ لدى هؤلاء، أو لدى أولئك؛ ولا إلى ضيقٍ في الأفق الخياليّ، ولكن إلى انضواء المعلقّاتيّين من حول مسائَل متقاربَةٍ، حتّى إنهم كانوا يتعمّدون التقارب فيها، أو التناصّ من حولها. وعلينا، أثناء ذلك، أن نعترف بأنّ الشعراء السبعة كانوا يعيشون في بيئة واحدة، متشابهة ومتناظرة، وفي عصر واحد لم يكد يجاوز قرناً واحداً: قيلت فيه هذه الروائع السبع التي ظلّت نموذجاً رفيعاً تحتذيه الشعراء طوال عمر الأدب العربي البالغ، الآن، ستّة عشر قرناً... ولكن لماذا التناصّ اللفظي؟ لقد عقدنا له هذه الفقرة من البحث لأنّنا نعتقد أنّه يمثل المادّة الأولى التي كان المعلقّاتيّون يغترفون منها، ويبنون قصائدهم عليها. وإنّ مثل هذا السعي الذي ينهض على الملاحظة، ثم الإحصاء، سيسمح بتمثّل الاهتمامات المشتركة التي كانت تجمعهم، كما تجسّد ما يمكن تسميتُه بوحدة التصورّ للأشياء والعالَم. فتشابُه اللغة وتماثُلُها يَدُلاَّنِ على تشابه الخيال وتماثله. وبمقدار ما تتشاكل اللغة وتتماثل لديهم، بمقدار ما سيسمح ذلك بإعطائنا فكرة عن منشغلاتهم، وصورة عن منطلقاتهم الشعريّة. إننا نتمثّل اللغة التي يبني منها، أو بها، الشعراء قصائدهم، في كلّ عصر وفي كلّ مصر، بمثابة الألوان الزيتيّة التي يبني منها الفنّان المُلْهَمُ لوحَته بريشته السَّخِيَّة. ولكن علينا، وهو ما سنفعله، محاولة تأويل طغيان مادّة لغويّة بعينها على مادّة أخراةٍ، وذلك بعد استعراض أهم الموادّ اللغويّة بين معلّقاتيَّيْنِ اثنَتيْن أو أكثر(20). وإنَّا نتحلّـل، سلفاً، من عدم متابعتنا، بدقّة دقيقة، واستقراء شامل، لكلّ ما هو مشترك من اللغة بين المعلّقاتيين. ولعلّ ما سنقدّمه، في هذه المقالة، أن يكون مجرّد انتقاء، لا إحصاء شامل. فذلك، إذن، ذلك. الحقل الأوّل للتناصّ اللّفظيّ: الطَللُ والرسم والدار والمنزل وما في حكمها مق:
ط:
ل:
ز:
ع:
ح.ح :
إنّنا، من خلال عرْض لبعض هذه التناصّات الماثلةِ في مستوى اللغة-وقل إن شئت في مستوى اللفظ- أن أكثر المعلّقاتيّين تمسُّكاً بالديار، وبكاءً على الآثارِ، هما: لبيد وعنترة بستّة تَواتُرَاتٍ، لكلّ منهما. بينما نلفي زُهيراً يستبدّ بالمنزلة الثالثة بخمسٍ مراتٍ، من حيث يتبوَّأُ امرؤُ القيس المنزلة الرابعة بأربعة تَواتُراتٍ. ويأتي الحارث بن حلّزة في المرتبة الخامسة بتناصَّتيْنِ اثنتين فحسب. واجتزأ طرفة بتناصَّةٍ واحدة في المرتبة الأخيرة. وقد جاء التَّناصُّ المنصِرفُ إلى ذِكْرِ الديار، والبكاء على الآثار، انعكاساً طبيعياً للخيال الجاهليّ الذي كان مقصوراً على التفكير، لدى الشعراء بعامّة، والمعلقاتيّين بخاصّة، في تلك الديار المقفرة، والرسوم البالية، والربوع الخالية؛ بعد أن تحمّلت عنها الحبيبة وَيَمَّمَتْ إلى حيث لا يكاد يَدْرِي إِلاَّ أَهْلُ حَيِّها. وكانت العلاقات الاجتماعيّة من الانغلاق، ووسائل النقل من البدائيّة، ما كان يجعل من العسير متابعة الحبيبة، والتمكّن من رؤيتها تارة أخراةً، بلْة الاستمتاعَ بجمالها، والتَّمِلّيَ بِبَهَائها. لقد كان مثل ذلك الوضع الراكض في نَفَقٍ ضيّق، وفي حيز محدود الآفاق، على السِّعَةِ الجغرافيّة، عاملاً قويّاً على شيوع البُكائيات، وظهور ما يعرف بالطَليّات، تقليداً شعرياً في بناء القصيدة العربية الأولى، كما بلغَتْنا على الأقل. وإلاّ فماذا كان على الشاعر أن يأتي من الأمر وَقَدْ فَقَدَ الحبيبة، وأَضاعُ مُتَّجَهَ حَيِّها: غَيْرَ هذا البكاءِ، وغيرَ الوقوفِ على ديَارها، وغيرَ تأمُّلِ رسْم طُلولِ حيّها، وتشبيهه بوشم اليد البالي طوراً، وبالكتابة الشاحبة طوراً آخر: وقد عَرَّتَّهْا السيول الجارفة، أو عرّتّها الرياح العاصفة من رمالها التي كانت تغمرها...؟ إنّ طغيان هذه التناصّات يَسْتَبِينُ لنا كيف كان المعلّقاتيّون متمسّكين بهذه البِنْيَةِ الفنيَّة التي أسّسها، غالباً، شعراء قبل امرئ القيس، من بينهم امرؤ القيس بن حُمام؛ ولكنّ أشعارهم ضاعت وبادت؛ فإذا القصيدةُ الجاهليّة تتأسَّسُ على عهد الْمُهَلْهِلِ وامرئ القيس(21)، كما سلفت الإشارة إلى بعض ذلك، في مطلع هذه المقالة. وإذا معلقةُ امرِئِ القيس تصادف رواجاً عجيباً بحيث اغتدت القصيدة العربيّة الأولى، وأساس الأدب العربيّ لدى الناشئة والجامعيّين معاً؛ بحيث يكون أكثرَ الشعراءِ العرب محفوظيّةٍ على وجه الإطلاق؛ وإذا كلُّ عربيّ، في المشرق والمغرب، يردّد مع صدى الدهر، وصوت الزمن: *قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكرْى حَبيبٍ ومَنْزِلِ* وإذا المتنبيّ، وعلى الرغم من أنّه تنبَّأ بأنّ الدهر لن يكون شيئاً غيرَ رُواةِ قصائِدِه، قد يكون آتِياً في المرتبة الثانية بعد أبي الشعراء العرب امرئ القيس. والذي يعنينا، هو أنّ امرأ القيس لم يكن في بُكائه الأطلالَ ناصَّاً، ولكنه، هو أيضاً كان مُتناصاً مع ابن حُمام الذي، فيما يَبْدُو، كان متناصَّاً هو أيضاً، مع شعراء بَادُوا؛ ولم يكن لهم من الحِظَةِ ما جعل الدهر يحتفظ لنا بأسمائهم وأشعارهم؛ فضاع وجه كبير من التاريخ في ظلام الأميّة والتخلّف والبَّداوة والفِتَنِ والإِحْنِ والحرُوب والكوارث الطبيعيّة المُدْلَهِمَة... أمّا وقد ضاع تاريخُ الشعر الجاهليّ، مما كان قبل عهد امرئ القيس، فليس لنا إلاّ الإذْعانُ للأمر الواقع، واعتبار هذا الشاعر العظيم أبَّاً للشعر العربيّ؛ وإذن فكل التناصّات التي عرضْناها لديه، ثمّ لدى المعلّقاتيّين ممّن عاصروه أو تعقبّوه زَمَناً: جاءت من تأثيره فيهم، وكانت من وقوعهم تحت سلطان إعجابهم به، واعترافهم له. وإذا كنّا ألفينا معلّقة عمرو بن كلثوم تخلو من هذه التناصّات التي اشترك فيها زملاؤه، والمنصرف إلى الديار المقفرة، والأطلال الخالية؛ فلأنّه، في رأينا، ليس شاعراً بالمعنى الاحترافيّ؛ ولكن المناسبة اقتضت أن يقول شعراً يدافع فيه عن شرفه، ويصّور فيه غضبته الْقَبَلِّيّة لَمَّا أحسّ أنّ كرامته قد أُهينتْ، في شخص أمّه، فقال ما قال. ولم يقل، من بعد ذلك، غير ما قال. فشعر ابن كلثوم تنقصه الاحترافيّة، والتصويرُ البديع الذي نجده لدى معظم المعلّقاتيّين الآخرين، فكأنّ قصيدتَه خُطْبَةٌ من الشعر، أو كأنّها مجرد قصيدة خطابيّة (ولا يعجبني مصطلح غنائيّة الذي لا معنى لغنائيّته الغائبة بالفعل، وربما بالقّوة، أيضاً) صبّ فيها جام غَضَبِه على عَمْرِو بْنِ هند، وأنحى عليه باللَّوائِم إذْ تعصّب لبَكْرٍ على تغلب، بل أَصْلَت السيف عليه فقتله به... ولمَّا كانت المعلَّقاتُ السِّتُّ البواقِي مشتملاتٍ على هذه التناصّات اللفظيّة فقد اقتضى ذلك أن يكون بمثابة قاعدة كانت تتّبع، وبنية كانت تُبْنَى، وتقليدٍ كان يُقْتَفَى؛ فكان اللاَّحق يتناصُّ مع السابق ويستلهمه في بناء مطلع معلّقته؛ مع اعتراف اثنين من المعلّقاتيّين بذلك: امرئ القيس(الذي اعترف ببعض ذلك في شعره خارج المعلّقة)(22)، وعنترة الذي افتتح معلّقته بالمُساءلة عن جَدْوَى نَسْجِ الشِّعْرِ وقد كان الشعراء من قبله جاءوا على كلّ معنىً، وتناولوا كلّ فكرة، وصوّروا ما عرضوا له ما استقام لهم التصوير: *هلْ غادر الشعراءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ؟* وإِنَّمَا عُنِيَ المعلقّاتيون بُبكاء الديار، والوقوف لدى الآثار؛ لأنّ علاقة الحبيبة كانت بتلك الديار حميمة؛ ولأن الشاعر كان كلّما مرّ بديار هذه الحبيبة وهو يشاهدها وقد بَلِيَتْ ودَرَسَتْ، وَأَقْفَرَتْ من أهلها وَخَلَتْ: كان يقف ليذكر في نفسه ذكرياتٍ جميلاتٍ حَييَتْ ثُمَّ بادَت، وعهود من اللَّذاذة والسعادة كانت. ثمّ ذهبت واضْمَحَلَّتْ ، فلَمْ تَعُدْ إلاّ تُوهُّماً في الذاكرة كأنّه لم يكن، على الرغم من أنّه كان، وإلا تصوّرا في المُخَيِّلَةِ كأنه لم يُوجَد في سالِفِ الأزْمان. فأيّ موقف كان أدعى إلى البكاء من موقفه ذاك، في مقامه ذاك؟ فكأن تلك الديارَ المُقْفرة، على إِقفارها وَخُلُوِّهِا من أهلها، هي التي كانت مَصَدراً لإلهام أولئك المعلّقاتييّن. وكأنّ الْقَفْر كان وراءَ وجودِ الشعر. وكأنّ الجمال الفنّيّ البديع الذي تطفح به هذه المعلقات، في معظمها، كان مصدرُه تلك الديارَ المقفرة، والربوع البالية، والرسوم الدارسة. وكأنّ الحياة التي ينبض بها ذلك الشعر نشأت عن الموت الذي كان أصاب تلك الديار. بل كأنّ ذلك الضجيج الطافح الذي كانت تجلجل به أصواتُ المعلقّاتيّين إنما كان مصدَرُه ذلك الصمتُ المطبقُ على تلك الديار. لكن ماذا نقول؟ وهل يُعْقَلُ أن يكون الموتُ مصدراً للحياة، لولا أنّ الحياة التي كانت من قبل في تلك الديار هي التي ظلّت تمدّ المعلقاتيّين بينابيع الإلهام، وَتُزَيِّنُ في أنفسهم ملذّات الذكرى: فتتفجّر أشعاراً لم يعرف تاريخ الشعر العربيّ لها مثيلاً في جمالها...؟ لقد كانت الدار، إذن، وما في حكمها، مصدراً من مصادر الإلهام للشاعر الجاهليّ لأنها هي التي كانت تُؤْوِي الحبيبةَ الظاعنة عنها، ثمّ لأنّ الشاعر نَفْسَه، رُبَّما، كان ثَوَى بها زَمَناً ما، أو أَوَى إليها عَهْداً ما؛ ثم، لأنها كانتْ مجتمعَ العشيرةِ، ومُلْتَقى الأحبَّة، وَمَوْطِنَ الأفراح، وَمَسْقِطَ السَّعادة واللَّذَّات، فاستأثرَتْ بالاهتمام، واستبدَّتْ بالحبّ والحنين العارم. الحقل الثاني للتناص اللفظي: الماء والمطر وما حكمها وقد لاحظنا أنّ هناك حقلاً آخرَ مشتركاً بين المعلّقاتيّين في المعجم الفنّي لديهم تناصُّوا فيه، وتداولوا عليه، وهو الماء والمطر والرَّعد وما في حكم هذه المعاني حيث نلفيهم إمَّا أَنْ يَتَمَاثلُوا، وإمَّا أن يتقاربوا، وإمَّا أن يتشابَهُوا في استعمال ألفاظ هذه المعاني مثل استعمال امرئِ القيس للوَبْل، والسيل، والغَرَق (من آثار الأمطار)، والصَّوْبِ (المطر)، والسَّحِّ، والمَاءِ والنَّفْيَانِ(تطاير قطرات المطر): 1. كأَنَّ ثَبِيراً في عَرانِينِ وَبْلِهِ 2. من السَّيْلِ والأَغثْاء فَلْكَةُ مِغْزَلٍ 3. وألْقَى(المطر) بصحراءِ الغَبيطِ بَعَاعَهُ 4. كأنَّ السِّباعَ فيه غَرْقى عَشِيَةً 5. فأضحى يَسُحُّ الماءَ حَوْلَ كُتَيْفَةٍ 6. على قَطَنِ بالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ من حيث نلفي لبيداً يصطنع ألفاظاً تركض هذا المَرْكَضِ، وتتناول هذا الحقل؛ وذلك مثل الوَدَق، والجَوْد، والرِّهَام، والغَادِ، والمَدافِع، و(القَطْر) المُتَواتِر: 1. وَصَابها ودْقُ الرَّواعدِ جَوْدُها فَرِهامُها 2. مِنْ كُلِّ ساريَةٍ وغَادٍ مُدْجِنٍ 3. وَعَشيَّةٍ متجاوِبٍ إرّزامُها 4. فَمَدافِعُ الرَّيّانِ عُرّيَ رَسْمُها 5. يَعْلُو طريقَةَ مَتْنِها مُتَواتِرٌ بينما ألفينا عنترة يستعمل ألفاظاً قريبة من هذه، وذلك مثل العين(أو البِكْر: السحابة الممطرة)، والسَّحّ (ويلتقي في استعمال هذا اللفظ مع امرئ القيس)، والتَّسْكاب، والماء الذي لم يتصرّم (والذي يلتقي في استعماله مع امرئ القيس، وطرفة، وزهير)، والغيث: 1. تضمّن نَبْتَها غَيْثٌ قِليلُ الدِمْنِ ليس بمُعْلَمَِ 2. جادَتْ عليْها كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ 3. سَحّاً وتَسْكاباً... 4. فكُلُّ عَشِيَّةٍ يَجْري عليها الماءُ لم يتصرَّمِ على حين أننا نجد زهيراً وطرفَةَ يجتزئانِ باستعمال لفظ الماء: * فلمّا ورَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه *يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حَيْزومُها بِها. تقوم التناصّات، هنا، بين المعلقّاتيّين السبعة على مادّة لغوية تركض في سياق المادّة اللغويّة الأولى التي كنّا جئنا على تحليلها؛ والتي كانت تضطرب حَوالَ الديار الخالية، والطلول البالية، والرسوم الدارسة التي لم يكن القصدُ من ذكرها وتردادها، على نقيض ما قد يتصور بعض الناس، التقبيحَ أو التهجينَ؛ ولكن كان من باب الحنين إلى ذكريات مَضَتْ فيها، وإلى سعادة ارْتُشِفَ رحيقُها-بين أحيائها- في مَأَمَنٍ من غوائل الدهر، وفي غفلة من الحُسّاد والعُذّال. فذكر الطلول يندرج ضمن جماليّة الشعر الجاهلي بعامّة، ومطالع المعلّقات السبع بخاصة. ولم يكن ذِكْرُ الدّيار إلاّ مدرجةً لساكنات الديار. ولم يكن تَأَوُّبُ الطلولِ إلا استئناساً بِمَنْ كُنَّ فيها من حبيباتٍ أَيْمَا شعورُهن فسودٌ طويلاتٌ، وأيْمَا شِفاهُهُنَّ فحُمْرٌ رقيقات، وأيْما قدودهُنَّ فرشيقاتٌ ممشوقاتٌ... تقوم التناصات، هنا، إذن على الماء الذي هو أحد مقوّمات جماليّة الحيز الذي كان يَمْثُلُ في تلك الرسوم والطلول، وفي تلك الديار والآثار. فإنما تكتَمِلُ جمالِيَّةُ الحيز بوفور الماء، وتَهتان الغيث، وَجَرَيانِ السيول. لقد كانت الأحياء من العرب لا تفتأ تبحث عن مدافع الماء، وتتوخّى منابعه، وترتاد الكلأ الذي هو ثمرة من ثمراته: فتُقيمُ هنالك ولا تَرِيمُ. كانت الحياة الصحراويّة الجافّة تفرض على قَطِيْنها تَسَقُّط هذه المادِّة الحيويّة واعتبارها أَحَدَ مصادر الإِلهام للشعراء، وإحدى دعائم الحياة للرِّعِاءِ والأَبَّالِينَ. من أجل كل ذلك كانت العرب تدعو لمن تُحبُّه بالسَّقيا: لِمَا في ذلك من مظاهر الحياة الرخيّة، السخيّة، والسعيدة الرغيدة. وإنما يقيم الناس الدَّورَ والخِيام، والمُدَن والعُمْران، من حول الماء، ولايمكن أن يقيموا ذلك بعيداً عنه، إذا البُعْد عن الماء لا يعني إلاّ الموت. فكلّ جمال، إذن، لا يمكن تصوّره خارج عطاءات الماء. ولعلّ الدّيارَ المَبْكِيَّ عليها لم تُقْفِرْ من أهلها إلاّ حين نُضِبَ ماؤُها، وَجفَّتْ ينابيعُها، وغارت عيونها، فاضْطُرَّ من كانوا يَثْوُونَها، أو يَثْوون حَوَالَها، إلى التَّظعان عنها التماساً لغدران وعيون أخراة، فزعمنا أنّها مرتبطة بجماليّة الحنين، إنما ينهض على اعتبار ماكانت عليه، لا على اعتبار ماهي عليه كائنة.... ولعلّ ذلك أنْ يُفْضِيَ بنا إلى ربط الماء بالطّلَلِ، على أساس أنّ الطلل حين كان بناءً معموراً، وَسَقْفَاً مرفوعاً، لم يكن ممكِناً نهوضُه إلاَّ على وفور الماء، فكأنّ الطلل إحالَهُ على ماضِ من الماء. وكأنّ جماليّة الحيز في المعلّقات لا تَمْثُلُ إلاّ في ماضِيَّةِ الماء. فليس الماءُ مصدراً للحياة فحسب، ولكنه مصدر للجمال أيضاً. فلا عجب أن ألفينا ألفاظ الماء تتكاثر في المعلّقات وتتغافص في نسْجها؛ فإذا كُلُّ معلّقاتِيّ لا يَعْدَمُ استعمالاً لها ، وإذا شبكةٌ من التناصَّاتِ اللفظيّة تنشأ عن ذلك السلوك اللغويّ بحيث نصادف، كما رأينا، ألفاظاً مائيَّة في هذه المعلّقة، وأُخْرَاةً في تلك.... الحقل الثالث للتناصّ اللفظيّ الإيلاع باستعمال "كأنّ" لقد كنا عَرَضْنا لتحليل جمالِيَّةِ التشبيهِ في مقالة أخراة، من هذه الدراسة، غير هذه. وهنا إنما نُعْرِضُ لأداة التشبيه المركَّبة "كأنّ" ليس من باب وظيفتها التشبيهيّة، ولكن من حيث وظيفتُها التناصِيَّةُ. ولكن لما كَلِفَ المعلقّاتِيُّون بهذه الأداة التشبيهيّة من دون سَوَائِها؟ لَعَلَّ ذلك أنْ يَرْجِع إلى جمالها المتمثّل في رصانة إيقاعها، بالإضافة إلى ذلك، مركّبة من عنصرين اثنين: أداة التشبيه (الكاف)، وأداة التوكيد (أنّ): فكأنّ، كَأَنَّ: ليست أداةً للتشبيه فحسب، ولا أداة للتوكيد فحسب، ولكنها إيّاهُما جميعاً. ولمّا جئنا نتابع التناصّات التي وقعت في المعلّقات بهذه الأداة (كأنّ - كأنّها- كأنّما- كأنّي- كأنّه- كأنّهما- كأنّا - كأنّهم) لاحظنا: 1- أنّ "كأنّ" هي التي تستبدّ بالتواتُر أكثر من صنواتها اللواتي يلحقن بالضمائر أو بـ "ما" الكافّة، وذلكَ بتردادٍ بلغ تِسْعَ عَشْرَةَ مرَّةً من بين زهاء اثنتيْن وأربعينَ حالَ تشبيهٍ. 2- إنّ امرّأَ القيس يصطنع "كأنّ" تسع مرات -من بين ثلاثَ عَشْرَةَ "كأنّةً". بطريقِ الحياد النسجيّ: 1- كَأنّهُ حَبُّ فُلْفُلِ (بعر الآرام). 2- كأَنِّي غَداةَ البَيْنِ (الشاعرُ نفسه). 3- كأنّه أسارِيعُ ظَبْي (بنان صاحبته). 4- كأنّها مَنارَةُ مُمْسَى راهبِ (صاحبته). 5- كأنّ نُجومُه بأمراس كَتَّانِ (الليل). 6- على الذبل جيّاش كأنّ اهتزامَه (تَكَسُّرَه) (الفرس). 7- كأنّ على المتنيْن منه إذا انتحى) مَدَاكَ عَرُوسٍ... (الفرس). 8- كأنَّ دِماءَ الهادياتِ بنَحْرِهِ (الفرس). 9- كأنَّ نِعَاجَه عَذَارَى دَوَارٍ (سِرْبَ بَقَرِ الوَحْشِ). 10- كأنّ ثبيراً في عَرانينِ وَبْلِهِ (المطر). 11- كأنّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِر غُدْوةً (الأكمَة). 12- كأنّ مَكَاكِيَّ الجِوَاءِ غُدَيَّةً (الطير). 13- كأنَّ السِباعَ فيه غَرْقَى عَشِيَّةَ (السباع). 3- لعلّ الناقة هي التي تستأثر بـ "كأنّ" التشبيهيّة التوكيديّة، وذلك بتواتر بلغ زهاء ثَلاثَ عَشْرَة مَرَّةً. وقد أُوْلِعَ طرفَةُ بذلك فاستعملَها في تشبيهِ ناقتِهِ، تسْع مرّاتٍ وحْدَها: 1- كأنّه ظَهْرُ بُرْجُدِ (أصل التشبيه للناقة). 2- كأنّها سَفَنْجَةٌ (الناقة). 3- كأنّ جَناحيْ مَضْرَحيٍ (نسر أبيض) (وأصل التشبيه للناقة). 4- كأنّهما بَابَا مُنيفٍ ( أصل التشبيه للناقة). 5- كأنَّ كِنَاسَيْ ضَالَةٍ (الناقة). 6- كأنَّها تَمُرَّ بِسَلْمَيْ دالِجٍ (الناقة). 7- كأنَّ عُلوبَ (آثار) النِّسْعِ (الناقة). 8- كأنَّها بَنائِقُ (الناقة). 9- كأنَّمَا وعَى المُلْتَقَى (الناقة). 10- كأنّ حُدوجَ المَالِكيَّةِ (المرأة). 11- كأنَّ الشمس (وجه المرأة). 12- كأنّ البُرِينَ (المرأة حالَ كونها حالِيَةً). 13-كأنّا وضعْناه (يتحدّث عن ابن عمّه). بينما شبّه بها لبيد ناقته مرتين اثنتين، واصطنعها في معلّقته سِتّ مراتٍ: 1- كأنّها صَهْبَاءُ (الناقة). 2- كأنّها جِنُّ البَدِيّ (الناقة). 3- كأنّها زُبرٌ (الطلول). 4- كأنّها أجزاعُ بيشَةَ (المرأة). 5- كأنّ نعاجِ تُوضِحَ (المرأة). 6- كأنّما هَبَطا تبالَةَ (حيوان). على حين أنّ الحارث بن حلّزة اصطنع كأنّ أربع مرات في معلّقته، ومنها مرة واحدة للناقة: 1- كأنّها هَقْلَةٌ (الناقة). 2- وكأنّ المنون تَرْدِي بِنَا (البشر). 3- كأنّهم أَلْقَاهُ (اللصوص). 4- كأنّها دَفْوَاءُ (كتيبة). من حيث اصطنعها عمرو بن كلثوم ثلاثَ مراتٍ، في غير الناقة في المّرات الثلاثِ: 1- كأنّ ثيابَنَا مِنَّا ومنهم (القبيلة). 2- كأنّ غضونَهُنَّ متونُ غَدْرٍ (الدروع). 3- كأنّا والسيوفَ مُسَلَّلات (القبيلة والسيوف). واصطنعها عنترة مرتين، أحداهما للناقة: 1- وكأنّها فَدَنٌ (الناقة). 2- وكأنَّ فارةَ تاجرِ بقَسيمَةٍ (المرأة). بينما لم يصطنعها زهير، هو أيضاً، الاّمرتين اثنتين، وفي غير الناقة: 1- كأنّها مراجيعُ وشْمٍ (الطلول). 2- كأنّ فُتاتَ العِهْنِ في كلّ منزل (النساء). بينما لم تنل المرأة إلاّ تسع مرّات من هذه التناصات الكَأَنِيَّةِ كلّها: توزّعت على ثلاثِ مراتٍ لطرفة، ومرّتين اثنتيْن لامِرْئِ القيس، ومثلهما للبيد، ومرّة واحدة لكل من عنترة وزهير. ونجد هذه الأداة الكَأَنَّية، من بعد ذلك، تتوزّع على طائفة من الموضوعات كالفَرَس بثلاث مرات لدى امرئ القيس، ثم الكتيبة، والسيوف، والدروع، والقبيلة، والإنسان، لدى معلّقاتيّين آخرين. 4- إنَّ امْرَأَ القيس وطرفة هما اللذان يستأثران بالمنزلة الأولى باستعمال كلّ منهما ثلاث عشرة "كَأنَّه". وقد توزّعْت كأنَّاتٌ امِرئِ القيسِ على تسعةِ مواضيعَ هي: الفرس، والمرأة، والأرآم، والشاعر نفسه، وَبنان المرأة، والليل، والمطر، وسِرْب بقر الوحش، والأَكَمَة، والطير، والسباع، ومثل هذا الأمر يجعلنا نقرّر أنّه هو أكثر المعلقّاتيّين توظيفاً لكأنَّ بحيث وزّعها توزيعاً أُسلوبيّاً، متوازِناً، قائماً على تجديد الموضوع في كلّ تشبيه، وإِغناء نسْجِه بالتصوير الفنّي البديع: كلّما اقتضى ذلك مقتضيات الكلام. بيننما ألفينا الباقين إيمَا أنَّهُمْ كانوا يقفِونها على موضوعين اثنيْن أو ثلاثةٍ غالِباً: طرفة: الناقة والمرأة فقط، وعنترة: الناقة والمرأة أيضاً، فقط، ولبيد الناقة والمرأة، والطلول والحيوان (خارج إطار الناقة)؛ وزهير: الطلول والمرأة فقط؛ والحارث بن حلّزة: الناقة، والإنسان، والكتيبة، واللصوص، وعمرو بن كلثوم: القبيلة، والسيوف، والدروع، وإيمَا أنَّهُم كانوا يصطنعونها في موضوعاتٍ غير مظنونةٍ بالجمال الشعريّ مثل اللصوص والكتيبة، والدروع والحيوان.. وتنهض جماليُّة التناصِّ الكَأنِّي، هنا خصوصاً على موضوعين اثنيْن كانا ذَوَيْ علاقةٍ حميميةٍ بحياة المعلّقاتيّين وعواطِفِهِم وبيئتهم، وهما: الناقة التي كانوا يسافرون عليها، وَيَطعَمُونَ لَحْمَها، ويتاجرون فيها، ويَتَّدُون بها لدى سَفْكِ الدماء... والمرأة التي كانوا يستمدّون سعادتهم من حبّها، والاستمتاع بجَمال جَسدها، فكأَنَّ هذيْن الموضوعين يشكّلان محور هذه النشاط التناصّيّ القائم على توظيف أداة /كَأَنَّ/ في التشبيهات، التي كانوا يُحَلُّون بها نسج الكلام في معلّقاتهم السبعِ. أمَّا لماذا وظّف المعلّقاتيّون هذه الأداة، وكيف تناصّ بعضهم مع بعض بها، أو قل: كيف تناصّ اللاّحقون بها مع السابقين، بل قل: كيف تناصّ الستة المعلّقاتيّون مع الواحد الذي هو امرؤ القيس: فلعلّ ذلك أن يكوّن لحميميّة علاقة هذه الأداة برسم جماليّة الحيز، ورسم جمالية الحبيبة وما يَحْدَوْدِقُ بها، أو يضطرب من حولها. فما كان تكرارُها لديهم إلاّ تعزيزاً لمظهر جماليّة الحيز الشعريّ، وحرص المعلّقاتيين على الإصرار على وصْفِهِ بهذه الجماليّة، وادّعائها فيه، وإثباتّها له، ووقفها عليه. وربّما كانت البنية الصوتيّة لأداة كَأَنَّ هي التي حَمَّلتِ المعلّقاتيين على الإكثار من استعمالها دُونَ سَوائِها من أدوات التشبيه مثل الكاف، ومِثْل؛ فقول القائل منهم: كأنّها، أو: كأنّما، أو كأنَّني، أو:كأنّهُ.. يظاهر على إقامة الشعر بشكلٍ جميل؛ بينما الكاف وحدها، ومِثْل، أيضاً، لا يستطيعان النهوض بما تنهض به كأنّ: حيث إنّ، "كأنّها"، مثلاً تأتي على ميزان: "فَعَلْنَها"، بينما الكاف ومثل لا تتعلّقان بشيء من رصانة ذلك الإيقاع، وغَنائِهِ.. الحقل الرابع للتناصّ اللفظّي: لفظ الحيّ لقد ورد ذكر لفظ الحيّ لدى المعلّقاتيين زهاء إحدى عشرة مرة، واستأثر بهذا التناصّ اللفظّيّ خمسة منهم، هم: امرؤ القيس، وطرفة، وزهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم. بينما غاب من معلّقتي عنترة والحارث بن حلّزة: مق: 1. لَدَى سَمُراتِ الحَيّ ناقِفُ حَنْظَلِ 2. فلّما أجَزْنَا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى... ط: 1. وإِنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الجميعُ تُلاقِني 2. كما لامَني الحَيِّ قرطُ بْنُ مَعْبَدِ ز: 1. لَعَمْري لَنِعْمَ الحَيُّ جَرَّ عليهم 2. لِحَيٍّ حِلاَلٍ يَعْصُم الناسَ أمْرُهُم ل: 1. ولقد حميت الحَيَّ تَحْمِلُ شَكَّتِي 2. شاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيِّ حينَ تَحَمَّلوا ع.ك: 1. ونحن إذا عمادُ الحَيِّ خَرَّتْ 2. ترانا بارزين وكُلُّ حَيٍّ 3. وقد هَرَّتْ كِلابُ الحَيِّ منّا. ولقد نلاحظ أنّ لفظ الحيّ ذُكِرَ غالباً في معرض تصوير جماليّة الحيز الشعريّ المرتبط إمّا بالحبيبة، وإما بِطَلَلِهِا، وإمّا بديار القبيلة التي تنتمي إليها. وعلى الرغم من اختلاف توظيف هذا اللفظ حين نُذِيبُه في سياقهِ، ونصبّه في مرجعيّته الاجتماعيّة؛ فإنّه، مع ذلك ظلّ محافظاً على الدلالة العامة المرتبطة إمّا بالقبيلة وشرفها، وإمّا بالحبيبة وهواها. وقد وظّف كلّ معلّقاتِيٍّ، هذا اللفظَ الجميلَ، الدّال على الحياة والحركة والعمران والتلاقي والتعاون و التضافر، فيما يلائم روحه ويُوائِم نفْسَه، ويتفق مع نظرته إلى الحياة، وتجربته فيها: فامرؤ القيس يوظّفه في حَيْرَته السامدة الناشئة عن تحمّل الحبيبة وأهلها عن الحيّ الذي كان يشهد ساعات النعيم لديه تارة، وفي تخلّصّه وحبيبته من الرقباء والمترّبصين به إلى حيث يصادف اللذة والمتاع تارة أخراة، فلفظ الأوّل، لديه يشهد على مأساة حبّه، وعذاب بَيْنِه، وَنَكَدِ سَعْدِهِ. على حين أنّ لفظ الحيّ الآخرَ يدلّ على تخلّصه من حيزه، ليُلْفِيَ، خارجه، نعيماً وسعادة مع تلك المرأة الحسناء التي يصفها بأبدع الأوصاف وأرّقها وألطفها وألذّها غزليّةً في الشعر الجاهليّ. فالحَيُّ الأوّل لديه مواطن للحَيرة والبكاء والعذاب، بينما الحيّ الآخرُ كان مَدْرَجَةً إلى حيز آخر يظفَرُ فيه النّاصُّ بأجمل اللحظات، وألذِّ السعادات. بينما لا يكاد يخرج لفظ الحيّ لدى المعلّقاتيّين الآخرين عن معنى العَشِيرة، أو قَطِيِنِ الحيّ ورجالاتِه، كما يَمْثُلُ ذلك لدى طرفة وزُهيرُ ولبيد وابن كلثوم، فالحيّ لدى الناصّ الأوّل يجسد جماليّةً طافحة، ولدى المتناصّين معه يمثل مجرد بَشَرٍ يَحْرَنْجِمُوَن في صعيد واحدٍ من أجل الحياة. فالحي لدى النَّاصّ الأوّل -امرئِ القيس- حيز شعريّ طافح بالحركة والجمال، بَيْنَمَا هُوَ لدى الآخرين لا يكاد يجسد ألاّ أحْياءً لا خصوصيّة لهم، ولا جمال في حياتهم.. فكأنّ الحيز مُجسّداً في لفظ الحيّ يَمْثُل لدى امرئِ القيس الشعريّة، ويمثّل لدى أضرابه الاجتماعيَّةَ. وإذا تأمَّلْنا، في الحاليْن الاثنتيْن، المَواطن التي وُظِفَ فيها لفظ الحيَّ استبان لنا أنّ هذا المعنى ينضوي تحت جماليّة الحيز، حيز الحبيبة لدى امرئ القيس ولبيد، وأحياز القبيلة لدى المعلّقّاتيّين الآخرين. الحقل الخامس للتناصّ اللّفظيّ. البكاء والدمع ومافي حكمهما لقد لاحظَنا أنّ أيّاً من المعلّقاتيّين لم يَكْلَفْ بتَرداد لفظ البكاء، ومايدلّ عليه، مثل ماجاء ذلك امرُؤُ القيس الذي تواتَرَ لديهِ زهاءَ سَبْعِ مرّاتٍ، بينما لم يتناصَّ معه في هذا البُكى إلاّ الحارِثُ بِذْكْرِ البكاءِ مرتيّن اثنتيْن فَقَطْ. وكأنّ امرأَ القيس كان يجسّد القصيدة العربيّة الأولى بامتياز، وكأنّ سلوك البكاء الذي كان يجيئه قبلَهُ امرؤ القيس بن حُمام، كان عالقاً بذاكرتهِ مترسّباً في نفسه، جارياً على لسانهِ، فلمّا جاء يُنشئ هذه المعلّقة العجيبة لم يستطع التخلّص من تلك الترسّبات التناصّية التي كانت تُفْعِمُ نفْسَه، وتملأُ قلبَه؛ فكان من أمره ماكان. إنّ الأمّر المحيّر في هذه المسألة أنَّ امرأ القيس هو الذي يُولِي العناية الفائقة للبكاءِ فيردّده صراحة في مطلع معلّقتهِ، بينما الآخرون، ماعدا لبيد، يقفون على الطلول والديار، ولكنهم لا يبكونَّها. أجاؤوا ذلك لأنّهم لم يكونوا يُحِبّون؟ أم جاءوه لأنّهم رفضوا تَذرف الدموع وهم الرجالُ الأشداءُ الأَقْويَاءُ، وإنما كان البكاء للنساء والأطفال؟ لكن، البكاء لا يدلّ في كلّ الأطوار على ضعف النفْس، بل قد يدلّ على قوتها وصفائها وقدرتها على إفراز الأحزان الراسبة، وتذويبها بماء الدمع... ثمّ لِمَ تناصَّ مع امرئ القيس الحارِثُ وَحْدَهُ من بين جميع المعلّقاتيّين الآخرين؟ أم يعني ذلك أنّ كلباً مُحِقّةٌ فيما زعمتْ من أنّ الأبيات الخمسة الأولى ليست لامرئ القيس، ولكنها لاِبْنَ حُمام (23)؟ وإلاّ فما بال امرئِ القيس يبكي وحده، ولا يتابعه المعلّقاتيّون الآخرون إلاّ واحداً منهم بكى مرتيْن، من حيثُ نُلفي المَلِكِ الضليّل يبكي سبْعاً، أو قل: أنّه يبكي خمْسَاً، ويُبْكِي صَبيّاً مرّة، وحبيبتهِ مرّة أخراة... مق: 1. قفا نَبْكِ من ذِكْرَى حبيبٍ ومنزل. 2. إذا مابكى من خلْفِها انصرَفتْ له. 3. لدى سَمُراتِ الحيّ ناقِفُ حَنْظَلِ (كناية هنا عن تَذْرافِ الدموع). 4. وإنّ شفائي عَبْرَةٌ مُهرّاقَةٌ. 5. ففاضت دموعُ العَيْنِ منّي صَبابَةً 6. وما ذَرَفتْ عيناكِ إلا لِتَضْرِبي... ح.ح: 1. فأَبْكِي دَلَهاً. 2. وما يُحيرُ البُكَاءُ. إنّ أوّل مانلاحظ أَنّ هذا البكاء استبدّ به امرؤ القيس بِسَبْعِ مرّات، ولم يتناص، معه، كما أسلَفْنَا الْقَّالَ، إلاّ الحارث بن حلّزة في حاليْن اثنتين فحسب، أو قل: في حالٍ واحدة عبّر عنها بتعبيريْن أحدهما يتّصّل بالآخر. فكأنّ البكاء، إذن، معجم وَقْفٌ على لغة امرئ القيس الذي اصطنع البكاء في مواطن مختلفة ليس للدلالة على حبّة هو وحده، ولكن للدلالة على حب، صاحبته إيّاه أيضاً فكأنّ دَيْدَنُهُ البكاء، الشاعر وصاحبته في ذلك سَواءٌ، ولم يَبْكِ امرؤ القيس الطُّلولَ وحْدَها، كما كان بكاها من قبله ابن حمام، ولكنه بكى من جَرَّاءِ مُزايلة الحبيبة: فهو إِذن بكاء وفاء، وذلك على الرغم من أنّ النقاد الأقدمين يزعمون أنّ امرأ القيس كان زِيرَ نساءٍ (24)، وعلى الرغم من أنه يناقض نفْسَه، عَبْرَ هذا البكاء، وذلك بذكر نساء كثيرات في معلّقته، فهل كان قادراً على حبّهنّ جميعاً في وقت واحد؟ أم كان يحبّ هذه؛ فلمَّا يُقْضِّي معها من الزمن مايقضّي، يَتَّرِكُها ويلتمس غيرها...؟ أم هي احترافية الشعر ومتطلبّاته الرفيعة؟... ذلك، وقد صادفتنا تناصّات لفظية أخراة أقل تواتُراً مما ذكرنا، وأقل أَهمّيَّة ممَّا عالجنا، مثل الغزال الذي ورد ذكره في المعلّقات السبع- امرؤ القيس سبق إلى ذكره أكثر من مرة في معلّقته -إحدى عشرة مرّة- والوقوف الذي وقع التناصُّ به ثماني مَراتٍ، والثياب التي تواترتْ خمسَ مراتٍ، والبياض، والمتْن، والتحمُّل، والوشم التي تواتر كلّ منها أربع مرّات، والرسم والغبيط والحَب (بفتح الحاء) التي ورد كلّ منها ثلاث مرّات في المعلّقات. ونستخلص من بعض ما سبق أنّ الشعراء كثيراً ماكانوا يشتركون في اصطناع ألفاظ بعينها، وخصوصاً حين كانوا يتناولون موضوعات متشابهة، أو متماثلة، وقد ألفينا عامّة تلك الألفاظ المشتركة تصّب في مصب واحد: هو جماليّة الحبيبة، وجماليّة حيزها. فكأنّ المادّة اللغوية المشتركة الأولى التي بَنَى منها المعلقّاتيّون معلّقاتهم تَمْثُل في الديار والرسوم، والربوع والطلول، والوقوف عليها، والبكاءِ من أجلها حَوْلِهَا، ثمّ في الغيوث والسيول التي كانت تُعَرِّي أثافِيَّها، وتجري في نُؤَيِّها، ثم في الآرام التي كانت تَجْثُمُ في قِيعَانها، وترتع في عَرَصَاَتها، بعد أن أقْوَتِ الديار، وأقفرت الأطلال... وتجسّد هذه المادّة اللغويّة المشتركة بين المعلقّاتيّين، خصوصاً، مطالع هذه المعلّقات أو مقدّماتها الطليّة. |
|||
الكلمات الدلالية (Tags) |
*«•¨*•.¸¸.»منتدى, اللغة, العربية, «•¨*•.¸¸.»*, طلبة |
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc