فيها نوع من الشبه
هل غرض الديمقراطية تحقيق الحرية السياسية أم المساواة الاجتماعية
ـ إذا سلمنا بمقولة إبن خلدون :* إن الإنسان إجتماعي بطبعه*. فإن هذه الطبيعة الاجتماعية نجدها أكثر تجسيدا في إنتقال الإنسان من المجتمع الطبيعي (البدائي) إلى المجتمع السياسي ، حيث يكوّن ما يعرف بالدولة . وتعرّف في الإصطلاح السياسي بأنها : مجموعة بشرية تحتل رقعة جغرافية تخضع لنظام سياسي وتتمتع بالسيادة . وبذلك يعد النظام السياسي أحد أهم أركان الدولة ، و ينقسم إلى قسمين : نظام حكم فردي ، ويكون فيه مصدر السلطة الفرد . ونظام حكم جماعي ويكون فيه الشعب هو مصدر كل السلطة ويعرف بالديمقراطي. ولقد اختلف الناس في تفسيراتهم للديمقراطية ، وتضاربت تصوراتهم حولها ، إلى حد صار كل فريق منهم يؤمن بنوع معين من تلك التفسيرات ،وكل فئة تدعوا إلى تصور خاص.فهي في لغة الرأسماليين حرية في مختلف أبعادها خاصة السياسية . وفي لغة الاشتراكيين مساواة اجتماعية مطلقة.وهنا نتساءل : هل غرض الديمقراطية تحقيق الحرية السياسية أم المساواة الاجتماعية ؟
ـ يرى أنصار النظام الليبرالي وعلى رأسهم *هنري ميشال* .أن غرض الديمقراطية الحقة هو تحقيق الحرية السياسية ، والحرية تعني أن يكون الشخص مستقلا عن كل شيء ما عدا القانون ، وقد ظهر هذا النوع من الديمقراطية في العصر الحديث، إستخلص مبادئه من نظرية العقد الإجتماعي ونظرية الإقتصاد الحر ، وهو إمتداد للنزعة الفردية ، وقد تبلور الحكم الليبرالي في نظرية سياسية قائمة بداتها تجمع الديمقراطية والليبرالية . ولهذا يقول علي الدين الهلال في كتابه – مفاهيم الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث – يقول : * فالديمقراطية الليبرالية تزاوج بين فلسفتين مختلفتين ... هاتان الفلسفتان هما الديمقراطية و الليبرالية *. و يقوم هذا النظام على أساس: الديمقراطية السياسية التي تهدف إلى تجسيد حرية الأفراد في المجتمع ، وهذا ما أكده هنري ميشال في قوله : * الغاية الأولى من الديمقراطيةهي الحرية * فالليبرالية تطالب بالحرية وعدم الخضوع ما عدا لسلطة القانون ، وتقوم على أسس منها :
ـ الحرية الفكرية : تمجد الفرد في مجال الفكر وتعطي له الحرية والحق في أن يعبر عن آراءه و أفكاره ، ويتدين بالديــن الذي يــريد ، وأن لا تعيقه الحكومة في الدفاع عن إجتهاداته الفكرية لأنه في النهاية مسئول عن نتائج أعماله.
ـ الحرية الإقتصادية : فالدولة الليبرالية تعترف بحرية الأفراد في المجال الإقتصادي مثل حرية التملك . حرية المنافسة ...إلخ .
ـ الحرية السياسية : حيث يقول أحد المفكرين : * كلما تصورت نظاما إقتصاديا يقوم على المنافسة كلما تصورت نظاما سياسيا يقوم على حرية الإختيار بين الأحزاب و الإتجاهات السياسية *. وتتمثل هذه الحريات السياسية في حرية تكوين الأحزاب لتسمع كلمة الفرد من خلالها و يشارك في توجيه الحياة العامة عن طريق الإنتخابات ، ويختار الفرد بمحض إرادته من يمثله في الحكم ، وإن دل على شيء إنما يدل على أن سلطة الدولة إنبثقت من إرادة الأفراد الذين يكوّنون إرادة الشعب . وقد عبر كلسون عن هذا بقوله : * إن فكرة الحرية هي التي تحتل الصدارة في الإيديولوجية الديمقراطية * . وقد طبق هذا النظام في دول أروبا الغربية وإشتهرت مجتمعاته بالتعددية الحزبية و حرية ممارساته .
ـ لكن هذا النوع من الديمقراطية ركز على الحريات السياسية و أهمل المساواة الإجتماعية ، لأن عدم التساوي في المجال الإجتماعي يؤدي بالضرورة إلى عدم التساوي في المجال السياسي ، لهذا فهذه الحريات السياسية كانت في صالح الطبقة الرأسمالية الغنية التي تملك رؤوس الأموال و توظفها في الإنتخابات .وبالتالي فالحرية الليبرالية هي حرية نصوص قانونية لا حرية واقع . فهي ديمقراطية صورية ، حيث يقول عنها لينين : *إن مساواة المستغلين للمستغلين كمساواة الجائع للشبعان*
ـ وهذا ما أدى إلى ظهور موقف معارض و هم أنصار الديمقراطية الإشتراكية . وعلى رأسهم * كـــارل مــاركس* الذين يرون أن غرض الديمقراطية هو المســاواة الإجتماعية . وذلك بتبني الديمقراطية الإجتماعية التي ترمي إلى تحقيق العدالة الإجتماعية بين المواطنين ، وهي نظرية تعبر عن إرادة الشعب . وهي تخلص المجتمع من الطبقية و تخلق مجتمع متوازن متعاون ، وهذا عن طريق المساواة بين أفراد المجتمع . ولهذا نجد ماركس ينادي بالديمقراطية الإجتماعية لأن الديمقراطية من غير مساواة تؤذي إلى هيمنة الرأسماليين و إستغلالهم لأغلبية أفراد الشــعب و بالتالي ظهور الطبقية . فالمساواة هي بوابة الديمقراطية . ولتحقيق ذلك لابد من الإعتماد على أســس هــي :
ـ تكافؤ الفرص : أي المساواة بين جميع الأفراد من خلال ديمقراطية التعليم و العلاج المجاني ونظام الحزب الواحد الذي يعبر عن إرادة الجماهير وليس هناك مجال للمنافسة السياسية .
ـ محاربة الإستغلال : وذلك بتدخل الدولة في الحياة الإقتصادية من أجل تأميم وسائل الإنتاج و مختلف المرافق المالية و الإقتصادية للقضاء على التفاوت الطبقي ، أي أن المهم للدولة الاشتراكية ليس تسجيل حقوق المواطنين السياسية في دســاتــير ، وإنما رفع المستوى المادي و الفكري لهم ، لأن الجماهير تعبر عن إرادتها و طموحاتها السياسية داخل جهاز الحزب الواحد وليــس هناك مجال للمنافسة السياسية ، لأن فكرة التعددية غير واردة ، فالأفراد متساوون و الشعب يشكل وحدة متجانسة .
ـ لكن تطبيق هذه الديمقراطية الإجتماعية أدى إلى نتائج سلبية لأن نظام الحكم الإشتراكي ركز على المساواة الإجتماعية و أهمل الحريات السياسية )الصحافة . المعارضة . الإعلام ..إلخ ( مما أثر سلبا على الهدف الذي جاءت من أجله الإشتراكية وهو تحقيق العدالة ، حيث تحولت الانظمة الإشتراكية إلى أنظمة إستبدادية مارست الظلم و الإستغلال على شعوبها ، مما أدى إلى ظهور حروب أهلية وصراعات قومية ، وثورات على هذه الأنظمة نتيجة قمع الحريات و خير دليــل ما يــحدث اليوم في العــالم العـربي بما يعرف بـ*الربيع العربي* .
ـ إن سلبيات الموقفين السابقين هي التي أدت إلى ظهور موقف آخر يوفـق بينهما ، و هو الموقف التركـيبي الذي يـرى أنصاره أن الديمقراطية الحقة تقوم على أســاس الحرية السياسية والمساواة الإجتماعية معـا ، لوجود تكامل بينهما و عدم القدرة عن الإستغناء عن أي منهما . لهذا يقول المفكر الفرنسي موريس دوفيرجي :* الديمقراطية السياسية و الديمقراطية الإجتماعية ليستا متعارضتان في جوهرهما بل هما على العكس متكاملتان ويمكن الإعتقاد بأن الديمقراطية الحقة لن تتحقق إلا بإقترانهما *.
و أصح الآراء أن الديمقراطية ليست رأسمالية و لا إشتراكية ، ومن الخطأ الفادح و الضرر المؤلم الذي نلصقه بالديمقراطية محاولة تحقيق الحرية ونبذ المساواة ، أو تحقيق المساواة ونبذ الحرية ، فالديمقراطية الحقة لا تفرض على المرء كــيف يعيش أو كيف يجب أن يرى الحياة ، وإنما عليها أن تدفع عنه العقبات و توفر له شروط الحياة ، وان تتيح له فرصة العمل في جو كـريـم يستطيع أن يعيش منه قبل أن يستطيع الإدلاء بصوته ، فالديمقراطية إذن نضال الدولـة لتحقيق التوفيق بين المبدأين السياسي و الإجتماعي ، حيث يقول أحد المفكرين : * يمكن أن تكون الإختلافات فيما تظهر متكاملة كمراحل أو أطوار مختلفة في تطور مبادئ الديمقراطية *.
ـ إذن نستنتج أن غرض الديمقراطية لا يكتفي بتحقــيق الحرية السياسية وحدها ، و لا المساواة الإجتماعية وحدها ، بل بهما معا . لأن مبدأ الحرية و المساواة متداخلان فيما بينهما متكاملان يصعب الفصل بينهما . حيث يقول أحد المفكرين :* إن الحرية و المساواة كلاهما وجهان لشيء واحد لا يمكن أن يكون أحدهما دون الآخر و هذا الشيء هو الديمقراطية الخيرة *