معنى غَضِّ البَصَرِ و حُكمِهُ :
أمَّا معنى الغضِّ: فَمادَّةُ الغضِّ تُفيدُ مَعنَى الخفضِ والنَّقصِ، فغَضُّ البَصَرِ ِ:هُو عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ التَّحْدِيقِ وَاسْتِيفَاءِ النَّظَرِ، فَتَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ لانَّ فِي الطَّرْفِ كَسْراً وَفُتُوراً خِلْقِيَّيْنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَولِ كَعْبٍ بنِ زُهيرٍ:
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ البينِ إذ رَحَلُوا إلا أغنُّ غَضِيضُ الطَّرفِ مَكحُولُ
كما أنه َيكونُ تَارةً من مَذَلَّةٍ كَمَا قَالَ جَريرٌ :
فَغُضَّ الطَّرفَ إنَّكَ مِن نُمَيرٍفَلا كَعبَاً بَلغتَ وَلا كِلابَاً
ويَكُونُ َتَارَةً لِقَصْدِ الْكَفِّ عَنْ التَّأَمُّلِ حَيَاءً أو خجلاً مِنْ الخَلقِ كما قال عَنتَرَةُ:
وَأغُضُّ طَرفِي حِينَ تَبدُو جَارَتِيحَتى يُوَارِي جَارَتِي مَأواهَا
وهَذِه المَعانِي كُلُّهَا غُيرُ مَقصُودَةٍ هنَُا، وإنمَّا المقصُودُ: غَضُّ البَصَرِ خَوفَاً مِنَ اللهِ تَعَالى وَعِقَابِهِ، وَامتِثَالاً لأمرِِهِِ .
فَمِن المَعلُومِ مِن الدِّينِ ضَرُورةً أنَّ الشَرعَ أمَرَ بِحفظِ الفُروجِ وَحرَّم الزنا، بَل إنَّ ذَلكَ مِن أعظَمِ مَقَاصِدِهِ، وَالأمرُ بحفظِ الفُروجِ يَتضمَّنُ الأمرَ بحفظِ الأبصَارِ لأنَّ النظرَ بَريدُ الزنا وَرَائِدُه، فَيكُونُ غَضُّ البَصَرِ مِن بَابِ سدِّ الذريعِةِ، وَلكِنَّ اللهَ تَعَالى أمرَ بِغَضِّ البَصَر تصريحاً زيادةً في الاهتمَامِ والزَّجرِ .
وَقد دَلَّ الكِتابُ وَالسُنَّةُ وَالإجمَاعُ عَلى ذَلكَ، أمَّا الكِتَابُ فَقولُه تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُم إنَّ اللهَ خبيرُ بمَِا يَصنَعُونَ﴾ الآية [النور: 30].
ومن السُنَّة : فقد أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عن أَبي سعيد الخُدري رضي الله عنه ، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : "إيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ في الطُّرُقَاتِ ! " فقالوا: يَا رَسُول الله، مَا لنا مِنْ مجالِسِنا بُدٌّ، نتحدث فِيهَا . فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم :" فَإذَا أبَيْتُمْ إلاَّ المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّريقَ حَقَّهُ ". قالوا : وما حَقُّ الطَّريقِ يَا رسولَ الله ؟ قَالَ :"غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأمْرُ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهيُ عن المُنْكَرِ" .
ومن الإجمَاعُ فَقَد حَكَاهُ غيرُ واحدٍ مِن أهلِ العلم، قال الإمام أبو مُحَمَّدٍ ابنُ حَزمٍ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في «مراتب الإجماع»: "واتَّفَقُوا على وُجُوب غَضِّ البَصَرِ عَن غَيرِ الحَريمَةِ والزَّوجَةِ والأمَةِ، إلا من أراد نِكاحَ امرأةٍ حلَّ لهُ أنْ ينظُرَهَا" .
وقال الإمَامُ أبو بكرٍ بنُ عَبدِ اللهِ العَامِريُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في «رِسَالتِه في أحكَامِ النَّظر»: "إنَّ الذي أجمعتْ عليه الأُمَّةُ، واتَّفَقَ عليهِ عُلماءُ السَّلفِ وَالخلفِ مِن الفُقَهاءِ والأئمَّةِ: هُو نَظَرُ الأجانِبِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بَعضُهُم إلى بَعضٍ ، وَهُم مَن لَيسَ بينَهُم رَحِمٌ مِن النَّسبِ، ولا مَحرَمٌ مِن سَببٍ كالرِّضَاعِ وَغيرهِ، فََهؤلاءِ حرامٌ نَظَرُ بعضِهم إلى بَعضٍ" .