التطور التاريخي للنظام الدستوري الجزائري
مقدمة
ابتداء من القرن الرابع قبل الميلاد عرفت الجزائر قيام عدة ممالك أهمها مملكة نوميديا، ومع مجيء الفتح الإسلامي اعتنق الشعب الجزائري الإسلام وساهم في نشره،و خلال هذه الفترة قامت عدة دول كالدولة الزيرية،و الحمادية و دولة الموحدين وغيرها .
في بداية القرن 16 تعرضت منطقة المغرب لهجمات الإسبان فاستنجد الجزائريون بالأخوين عروج وخير الدين اللذين تقلدا الحكم في الجزائر، و بذلك دخلت هذه الأخيرة تحت حماية الدولة العثمانية، إلا أنها سرعان ما انفصلت عنها في 1671، و بقيت ترتبط معها بروابط معنوية فقط, فكانت بذلك تعتبر دولة مستقلة ذات سيادة تقيم علاقات دبلوماسية مع كثير من الدول القائمة آنذاك ، ولها نفوذ على الحوض الغربي للبحر المتوسط.
في 1830 وبعد سقوط الخلافة تعرضت الجزائر للاحتلال الفرنسي فقاومه الشعب الجزائري بأشكال عدة سواء عن طريق الثورات المستمرة بدءا من ثورة الأمير عبد القادر وانتهاء بثورة أول نوفمبر، أوعن طريق المقاومة السياسية بإنشاء جمعيات وأحزاب سياسية كجمعية العلماء المسلمين ، أصدقاء البيان و الحرية ، و حزب نجم شمال إفريقيا الذي تحول إلى حزب الشعب عام 1937 ثم إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية عام 1946 والتي انبثقت عنها المنظمة السرية في 1947،ثم جبهة التحرير الوطني التي فجرت ثورة نوفمبر.
أردنا من خلال هذه المقدمة المختصرة أن نلفت الانتباه إلى أن الدولة الجزائرية ليست وليدة اتفاقية أيفيان كما ادعى المستعمر ،بل أن جذورها ممتدة في التاريخ. وهي الفكرة التي عبرت عنها لجنة التنسيق والتنفيذ في المذكرة التي أرفقتها مع الإعلان عن الحكومة المؤقتة والتي جاء فيها: "إن الدولة والحكومة الجزائريتين اللتان يشرفنا الاعتراف بهما لا تشكلان كيانات قانونية جديدة فلا يتعلق الأمر بالاعتراف بدولة جديدة وإنما بتكريس الإحياء الشرعي لدولة سابقة الوجود"[1]
رغم ذلك فإن دراسة التاريخ الدستوري للدولة الجزائرية يستلزم الانطلاق من عام 1958 بسبب أن الوثائق المتعلقة بتنظيم السلطة لم توجد إلا من هذا التاريخ حيث كان أولها "الإعلان عن الجمهورية والحكومة المؤقتة للجمهورية"الصادر عن لجنة التنسيق والتنفيذ والذي يعتبره البعض دستورا مؤقتا.لذلك سنتناول التطور الدستوري للدولة الجزائرية وفق المراحل التالية :
الفرع الأول : مرحلة الثورة التحريرية
بعد مرور سنتين من اندلاع الثورة التحريرية انعقد مؤتمر جبهة التحرير الوطني الذي عرف بمؤتمر الصومام في 20 أوت 1956 و انبثقت عنه ما يمكن تسميتها بالمؤسسات الدستورية لمرحلة الثورة التحريرية و المتمثلة في:
1. المجلس الوطني للثورة الجزائرية (cnra) :ضم هذا المجلس 34 عضوا ثم ارتفع إلى 50 عضوا بعد انعقاد دورته الثانية بالقاهرة، وهو يعتبر بمثابة البرلمان يشرع و يراقب الحكومة إضافة إلى تمتعه مؤقتا بصفة المجلس التأسيسي (إصدار الأوامر الدستورية).وبالإضافة إلى صلاحياته التشريعية فإنه يصادق على المعاهدات التي تبرمها الحكومة كما يصادق على وقف القتال .
2. الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (gpra): أعلن عن تأسيسها في 19 سبتمبر 1958 لتحل محل لجنة التنسيق والتنفيذ التي انتخبها المجلس الوطني في 27 أوت 1957. تمارس الحكومة المؤقتة السلطة التنفيذية وتتمتع بصلاحيات واسعة سواء كانت تنفيذية أو تشريعية[2].
الفرع الثاني : المرحلة الانتقالية
بعد إبرام اتفاقيات إيفيان ،ووقف إطلاق النار في 19 مارس 1962 أنشأت إلى جانب الهيئات السابقة هيئات مؤقتة للإشراف على استفتاء تقرير المصير و نقل السلطة إلى الجزائريين وتتمثل في :
1. المحافظ السامي: يمثل الحكومة الفرنسية، ويحتفظ بالاختصاصات السيادية كالسياسة الخارجية والدفاع وغيرها، كما يشارك الهيئة التنفيذية في تسيير بعض المجالات كالتعليم والموانئ والمطارات....
2. الهيئة التنفيذية المؤقتة : تتكون من 12 عضوا ،وتلخص مهامها الأساسية في استفتاء الشعب حول موضوع تقرير المصير وتنظيم انتخاب مجلس تأسيسي وطني خلال ثلاث أسابيع من الاستفتاء.بالإضافة إلى الإشراف على الشؤون العامة للجزائر إلى أن يتم تنصيب السلطة الرسمية .
وبعد إعلان نتائج تقرير المصير في 03 جويلية 1962 أصبحت كل السلطات بيدها حيث كان من المقرر أن تنتهي من الإشراف على انتخاب المجلس الوطني التأسيسي قبل 12 أوت 1962 لكن الحوادث التي عرفتها البلاد آنذاك[3] أخرت عملها إلى 20 سبتمبر 1962 حيث انتخب الشعب الجزائري المجلس الوطني التأسيسي و بذلك انتقلت إليه كل السلطات سواء من الهيئة التنفيذية المؤقتة أو من مؤسسات الثورة.
3. المجلس الوطني التأسيسي: انتخب هذا المجلس في 20 سبتمبر 1962 ، وهو يتكون من 196 نائبا،و قد حددت مهامه كالآتي :
أ. تعيين الحكومة : في جلسته المنعقدة في 26 سبتمبر 1962 أعلن عن تأسيس أول حكومة للجمهورية الجزائرية[4] برئاسة "أحمد بن بلة" الذي كلف بتشكيل الحكومة وتقديم برنامجه للموافقة عليه من طرف المجلس.بحيث تولى كافة مهام السلطة التنفيذية كرئيس للحكومة بالإضافة إلى مهام رئيس الدولة التي كانت تعود إلى المجلس التأسيسي ، وتقررت مسؤولية الحكومة أمام الرئيس .
ب. التشريع مؤقتا باسم الشعب الجزائري: استنادا لما ورد في استفتاء 20 سبتمبر 1962 .
ت. إعداد مشروع الدستور : وهو ما لم يتم حيث شكل رئيس الحكومة لجنة خاصة بإعداد مشروع الدستور ونوقش في ندوة وطنية لإطارات الدولة والحزب وعرض فيما بعد على المجلس التأسيسي[5] الذي أقره في 28 أوت 1963، ثم قدم للاستفتاء الشعبي في 1963/09/08 و صدر في الجريدة الرسمية في 1963/09/10، و بذلك أعلن أول دستور في تاريخ الدولة الجزائرية الحديثة.
للإشارة فإن المجلس التأسيسي استمر في العمل كسلطة تشريعية تحت اسم المجس الوطني إلى غاية 20 سبتمبر 1964 بموجب نص في الدستور نفسه[6].
الفرع الثالث : مرحلة دستور 1963[7]
يقوم النظام السياسي في ظل دستور 1963 على أساس النظام الجمهوري ، و يعتمد الاشتراكية كمنهج ،و أداة ذلك الحزب الواحد المتمثل في جبهة التحرير الوطني التي تحدد سياسة الأمة و توجه و تراقب مؤسسات الدولة.
تحت عنوان ممارسة السيادة ذكر الدستور الهيئات الآتية : المجلس الوطني – السلطة التنفيذية – العدالة .
1. السلطة التشريعية(المجلس الوطني) : ينتخب لمدة 5 سنوات يتولى التصويت على القوانين ويراقب الحكومة بواسطة الاستماع إلى الوزراء داخل اللجان ، والسؤال الكتابي والشفهي بمناقشة أو بدونها.
إن أهم ما يميز هذا المجلس هو تبعيته المطلقة- من الناحية الواقعية-لرئيس الجمهورية الأمين العام للحزب الشيء الذي يجعله مضطرا للتعاون مع السلطة التنفيذية من موقع ضعف.
2. السلطة التنفيذية: يتولاها رئيس الجمهورية الذي ينتخب بالاقتراع العام لمدة 05 سنوات،وهو يتمتع بسلطات واسعة بحيث يجمع بين منصبي رئيس الجمهورية والحكومة ويتولى تعيين الوزراء(الثلثان منهم على الأقل من نواب المجلس)وهم مسؤولون أمامه فقط،في حين يبقى هو وحده المسؤول أمام المجلس الوطني الذي يمكنه أن يسحب الثقة منه
الفرع الرابع : المرحلة بين 1965و1976
بموجب أمر 10 جويلية 1962 (الذي يسمى بالدستور الصغير) الذي جاء تتويجا لحركة 19 جوان التي أطاحت بالنظام القائم .تم إنشاء أجهزة جديدة تحل محل المؤسسات السابقة وتتمثل في :
1. مجلس الثورة : يتكون من 26 عضوا و قد جمعت بيده كل الصلاحيات باعتباره مصدر السلطة المطلقة والمنشئ للمؤسسات والمحدد لاختصاصاتها، فهو يشرع و يعين ويراقب الحكومة.
2. الحكومة : و هي أداة تنفيذ بيد مجلس الثورة و يرأسها رئيس مجلس الثورة.
الفرع الخامس : مرحلة دستور 1976
بعد إجراء استفتاء شعبي تم إصدار الميثاق الوطني في 5 جويلية 1976 ، و بعدها حضّر مشروع دستور عرض على الاستفتاء الشعبي في 19/11/1976، و دخل حيّز التنفيذ من هذا التاريخ.
قسم دستور 1976 وظائف السيادة إلى ما يلي :
1. الوظيفة السياسية: و يمارسها حزب جبهة التحرير الوطني (المؤتمر، اللجنة المركزية، المكتب السياسي).
2. الوظيفة التنفيذية: و يتولاها رئيس الجمهورية بمفرده و هو يمارس بالإضافة لذلك مهام تشريعية عن طريق الأوامر.
3. الوظيفة التشريعية: و يتولاها المجلس الشعبي الوطني بالإضافة إلى الوظيفة الرقابية و القضائية و التأسيسية.
الفرع السادس : مرحلة دستور 1989
مهدت أحداث 05 أكتوبر 1988 للتغيير في طبيعة النظام السياسي الجزائري عبر مجموعة من الإصلاحات انطلقت بإجراء تعديل جزئي لدستور 1976 في استفتاء 03 نوفمبر 1988، تم بموجبه استحداث منصب رئيس الحكومة وإقرار المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان ،ثم تبعها إعداد مشروع دستور جديد عرض للاستفتاء الشعبي في 1989/02/23 ، ومن أهم المبادئ التي استحدثها الدستور 1989 :
- التخلي عن خيار الاشتراكية.
- الأخذ بالتعددية الحزبية و التراجع عن نظام الحزب الواحد .
- الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات، حيث تبنى موقفا وسطا بين النظام البرلماني والرئاسي عبر إحداث هيئات مستقلة ومتوازنة تتميز بالتعاون والتنسيق،وتبنى مبدأ ثنائية السلطة التنفيذية .
لقد اصطدمت أول تجربة تعددية حزبية في ظل دستور 1989 بصعوبات متعددة ترتب عنها استقالة رئيس الجمهورية وتوقيف المسار الانتخابي في جانفي 1992، وحيث أن الاستقالة قد تزامنت مع حل المجلس الشعبي الوطني، فقد أوجدت فراغا دستوريا عولج بإنشاء مؤسسات انتقالية ممثلة في المجلس الأعلى للدولة الذي استبدل برئيس الدولة، و المجلس الوطني الانتقالي.
________________________________________
[1] - لمين شريط : النظام السياسي الجزائري، بحث غير منشور
[2] - بواسطة الأوامر ذات الطابع التشريعي التي تصدرها بموجب تفويض من المجلس الوطني
[3] - تتلخص هذه الحوادث في الخلاف الحاد الذي ثار على هامش الدورة السادسة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية بطرابلس بين 27 ماي و7جوان 1962 ، بخصوص تشكيل السلطة السياسية لما بعد الاستقلال ومسألة تشكيل قيادة سياسية جديدة في شكل " مكتب سياسي". ما أدى إلى انسحاب الحكومة المؤقتة بقيادة "بن خده "من الاجتماع. وفي 30 جوان 1962 أصدرت الحكومة المؤقتة قرارا بعزل أعضاء قيادة الأركان بقيادة العقيد "هواري بومدين"، وفي 03 جويلية دخلت إلى العاصمة لتتولى السلطة.
في المقابل قامت مجموعة مشكلة من "بن بلة" وقيادة الأركان وأعضاء آخرون من المجلس بالاستقرار في تلمسان ضمن ما سمي "مجموعة تلمسان" وأعلنوا في 20 جويلية 1962إنشاء المكتب السياسي تنفيذا لتوصيات اجتماع طرابلس.ومن جهة أخرى تشكلت مجموعة عرفت "بمجموعة تيزي وزو" من طرف "كريم بلقاسم" و"بوضياف" و"آيت احمد" والتي رفضت الاشتراك في المكتب السياسي .
في 03 أوت 1962 دخل المكتب السياسي الجزائر العاصمة تبعه الاعتراف به وانسحاب الحكومة المؤقتة من الصراع.وتم في 03 سبتمبر الاتفاق على وقف إطلاق النار ونزع السلاح من العاصمة وتنظيم الانتخابات في اقرب الآجال.وهو ما تم في 20 سبتمبر اثر دخول الجيش الذي يقوده "بومدين" إلى العاصمة.
[4] - بموجب لائحة دستورية تسمى "لائحة المجلس الوطني التأسيسي المحدد لكيفيات تعيين الحكومة"
[5] - هذا الإجراء لم يرض رئيس المجلس "فرحات عباس" ما دفعه إلى الاستقالة من رئاسة المجلس في 02 أوت 1962 ثم استقالته من عضوية المجلس في 20 سبتمبر 1962. وقام "آيت احمد" بتأسيس جبهة القوى الاشتراكية.
[6] - حيث تنص المادة المادة 77 من دستور 1963 : "يمدد أجل النيابة التشريعية لأعضاء المجلس الوطني التأسيسي المنتخب بتاريخ 20 سبتمبر 1962، حتى تاريخ 20 سبتمبر 1964. و تجرى قبل هذا التاريخ انتخابات المجلس الوطني طبقا للدستور، و لمدة أربع سنوات".
[7] - لم يستمر العمل بهذا الدستور إلا 23 يوما حيث تم وقف العمل به في 23 سبتمبر1963 استنادا إلى المادة 59 منه، وهذا على اثر التمرد العسكري الذي قاده "ايت احمد" ثم الخلاف الحدودي مع المغرب والتمرد العسكري للعقيد" شعباني".