نَهْجُ الصَّوَاب في مَا يَتَحَلَّى بِهِ المُصَاب!
أُلْقيت يوم الجمعة03صفر1430هـ الموافق ليوم:30جانفي2009م.
--------------------------------------------------------------------------------
كتبه سمير سمراد ( إمام خطيب بالجزائر )
بسم الله الرحمٰن الرحيم
روى الإمامُ البخاريُّ في"صحيحه" في كتاب الجنائز, عن أسامة بن زيد (رضي الله عنه)قال: أرسلت ابنةُ النبي(صلى الله عليه وسلم) إليه: إنَّ ابْنًا لي قُبِضَ]أي" يكاد أن يقبض؛ أي يموت] فَأْتِنَا, فأرسل يُقْرِئُ السلام ويقول: "إنَّ للهِ ما أخذ وله ما أعطى, وكلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّى, فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ", فأرسلت إليه تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا, فقام ومعه سعد بن عبادة, ومعاذ بن جبل, وأبي بن كعب, وزيد بن ثابت, ورجال, فَرُفِعَ إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الصبي ونَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ,...ففاضت عيناه[أي: بكى رسول الله(صلى الله عليه وسلم)؛ لأن الصبيَّ وهو في حال النَّزْعِ, وهو يَتَقَعْقَعُ, لاشكَّ أَنَّهُ أَلَمٌ شديدٌ يُدْرِكُهُ هذا الصَّبِيُّ], فقال سعد: يا رسول الله, ما هذا؟ فقال:"هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده, وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" [1].
(هذه التعزية العظيمة من الرسول(صلى الله عليه وسلم)هي التعزية المحبوبة المشروعة, يقول عليه الصلاة والسلام, "إن لله ما أخذ وله ما أعطى" وإذا كان الله تعالى هو الذي له ما أخذ, وله ما أعطى, فله أن يأخذ, ويعطي.
ثم قال:"كلُّ شَيْءٍ عنده بأجلٍ مُسَمَّى" لا يمكن أن يتأخر ولا أن يتقدم) [2]
فَعَزَّاهَا أوَّلاً: (بِكَوْنِ الملك لله عز وجل, يأخذ ما يشاء, ويُعطي ما يشاء) [3],
وَعَزَّاهَا ثانيًا: (بِكَوْنِ هذا الموت بأجلٍ مسمَّى, لا يتقدم, ولا يتأخر, وحينئذ يطمئن الإنسان) [4]. وكلُّ ما سَبَقَ تَعْزِيَةٌ لها بالأمر القَدَرِيّ؛ أيْ: أنَّ هذا الموت قَدَّرَهُ الله تعالى وقضاه على عباده, فَقَدْ كَتَبَ على كُلِّ نفسٍ أن تموت, وَقَّتَ لِذلكَ وَقْتًا, وأَعْطَاهُ أَجَلاً, لا يتأخر عنه ولا يتقدم؛ إنه قضاءُ الله في ملكه, وأَمْرُهُ القَدَرِيّ الكوْنيّ, يَمْضِي عَلَيْهم لا يملكون لَهُ دَفْعًا ولاَ تحويلاً.
(ثم أرشدها إلى الأمر الشرعي فقال:"فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ"), وهذه تعزيةٌ بأمر شرعيّ.
(وقوله:"فَلْتَصبر ولْتَحْتَسِبْ" يعني: تحتسب أَجْرَ الصَّبْرِ على قَدَرِ اللهِ عَزَّ وجلَّ) [5]
(ووظيفة المؤمن عند المصيبة أن يصبر؛ ويحتسب, ويقول ما قاله الصابرون:﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾[البقرة:155-157]."اللهم أْجُرْنِي في مُصيبتي, وأَخْلِفْ لِي خَيْرًا منها")[6] .
رَوَتْ أُمُّ المؤمنين أمُّ سَلَمَةَ(رضي الله عنها) قالت: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وسلم)يقول: "ما مِنْ مسلمٍ تُصيبه مصيبة فيقول: ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم أْجُرْنِي في مُصيبتي وأَخْلِفْ لِي خيرًا مِنْهَا" قالت: فلمَّا مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم), ثم إني قلتها, فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رسول الله(صلى الله عليه وسلم).
وهذه هي بركةُ اتِّبَاعِ ما أمر الله به, وأَمَرَ بِهِ رسولُهُ, جاءها الخيرُ, وأتاها ما هو خيرٌ مِمَّا فَقَدَتْهُ, ذلك لأنَّهَا دَعَتْ بهذا الدعاء, وقالت هذه الكلمات, التي تدلُّ على الرضا والتسليم لله, قَالَتْهَا بإيمانٍ وصِدْقٍ وتوكُّلٍ ويَقين, فَعَلَى المؤمن إذَا أُصيب بأَحَدٍ مِنْ أهله وذَوِي قَرَابَتِهِ مِنْ والدٍ أو والدةٍ أو ابنٍ أو ابنةٍ, أَنْ يَصْبِرَ, ويقولَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ, وأن يَلْزَمَ القَصْدَ في حُزْنِهِ, وذلك أَنَّ مِنَ الناس مَنْ إذا أصابته مصيبةٌ سَخِطَ
يسخطُ [هذا]الإنسان ما قضاه الله, وهذا حرامٌ, وعلامة السخط أن يقول قولا منكرًا, أو أن يفعل فعلاً مُنْكَرًا), مثاله: ما صحَّ النَّهْيُ عَنْهُ, عَنْ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُود, وشَقَّ الجُيُوب[أي قطع الثياب] ودَعَا بِدَعْوَى الجاهلية", فهذه مِنْ أعمال الجاهلية التي نُهِينَا عَنْهَا عِنْدَ المُصِيبَةِ!
والواجبٌ عند المصيبة: الصبر: وإنْ كان الإنسانُ يَتَأَلَّمُ نَفْسِيًّا(وتكونُ عليه المصيبة عظيمة...ولكنه يصبر, فلا يشقُّ ثَوْبًا, ولاَ يَلْطِمُ خَدًّا, ولا يقولُ مُنْكَرًا), فهذا رسول الله(صلى الله عليه وسلم)وهو بشر يَأْلَمُ كَمَا يَأْلَمُ البشر, ويحزن كما يحزنون, جاء نبأُ قتلِ جماعة من أَعَزِّ النَّاسِ وأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِ؛ تقول عائشة: "لما جاء النبيَّ(صلى الله عليه وسلم)قتلُ ابنِ حارثة, وجعفرٍ وابنِ رواحة, جَلَسَ[أي في المسجد]يُعْرَفُ فِيهِ الحزن...." [7], فهذا فيه (أنه لا بأس أن يحزن الإنسان عند المصيبة, وأن يظهر ذلك في وجهه) [8] (وهذه المصيبة التي وقعت للرسول(صلى الله عليه وسلم) مصيبة عظيمة, فقد قتل ابن عم رسول الله(صلى الله عليه وسلم), وقتل أيضا حِبُّهُ زيد بن حارثة, وقُتِلَ أيضًا خَطِيبُهُ عبد الله بن رواحة, فهي صعبة عليه(صلى الله عليه وسلم)). فالرسول(صلى الله عليه وسلم) أَثَّرَتْ فيه هذه المصيبة, ولا شكَّ أن الإنسان يحزن ولكن لا يفعلُ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ) [9].
وها هو رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أيضا يُصَابُ بِفَقْدِ ابْنِهِ إبراهيم؛ وقد مات صغيرًا في الثَّدْيِ[أيْ: وهو رضيع], فصحَّ مِنْ حديثِ أنس[10] أنهم دخلوا عليه(صلى الله عليه وسلم) (وإبراهيم يجود بنفسه, فجعلت عينا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) تذرفان, فقال له عبد الرحمن بن عوف: "وأنت يا رسول الله؟", فقال: "يا ابن عوف, إنها رحمة", ثم أتبعها بأخرى فقال(صلى الله عليه وسلم): "إن العين تدمع, والقلب يحزن, ولا نقول إلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنَا[وفي لفظٍ:"ولا نقول ما يسخط الربّ"], وإنَّا بِفراقك يا إبراهيم لمحزونون", وفي بعض الروايات: قال عبد الرحمن بن عوف: (فقلت: يا رسول الله: تبكي, أو لم تَُنْهَ عن البكاء؟. فقال(صلى الله عليه وسلم): (إِنِّي لَمْ أَنْهَ عَنِ البُكاء), "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين؛ صوتٍ عندَ نِعْمَةٍ؛ لهوٍ ولعبٍ ومزاميرِ الشيطان, وصوتٍ عندَ مصيبةٍ, خَمْشِ وُجُوهٍ, وشَقِّ جُيُوبٍ, ورَنَّةِ شَيْطَانٍ".
فالنبيُّ (صلى الله عليه وسلم)برأ من تلكم الأفعال والأقوال المنكرة: لأنها(عنوانٌ على عدم الصبر, والواجب على المرء أن يُصَبِّرَ نفسه على قضاء الله؛ لأنه مربوبٌ, وعبدٌ يفعل به سيده عزَّ وجلَّ ما يشاء, فلْيَصبر ولْيَحتسب) [11].
الخطبة الثانية:
ومما نُنَبِّهُ إليه في هذا المقام:
ـ أنه ينبغي للإنسان في حياته أن يُوصي أهله ويُرشدهم ويُعلمهم ما يجب عليهم عند وقوع المصيبة عليهم بفَقْدِهِ ومَوْتِهِ؛ فلا تَبْكِيَنَّ عليه باكية؛ بكاءً غيرَ مَأْذُونٍ فيه, وهو ما صاحبه صراخٌ وعويل, وخرج عن حَدِّ بكاءِ الرحمة وذَرْفِ العيون حَزَنًا, إلى نياحةٍ وَنَدْبٍ؛ يَدُلاَّنِ على السَّخَطِ وعدمِ الرضا بالمصيبة! وقد صحَّ عن النبيِّ(صلى الله عليه وسلم): "يُعَذَّبُ الميِّتُ بِبُكَاءِ أهلِهِ عَلَيْهِ", فالإنسان محاسبٌ ومؤاخذٌ حتى بعد موته بما يكون من أهله مِنْ مُخالفة وتَعَدٍّ للمأذون فيه!, مؤاخذٌ ومحاسبٌ , بل ومُعَذَّبٌ بما نِيحَ عَلَيْهِ!, فَلْيَخْشَ العبدُ على نفسِهِ, ولْيَدْفَعْ عنها العقوبة والمؤاخذة؛ بأن يُبَرِّئَ ذِمَّتَهُ, ويُخَلِّصَ عُهْدَتَهُ, وذلك بأن يجهر في أهله مُعَلِّمًا ومُوَجِّهًا ومُحذِّرًا ومُتَبَرِّئًا في الوقت نفِسِهِ, مما يَصْدُرُ عنهم من منكرات الأقوال والأفعال كالنياحة وخَمْشِ الوُجُوه وتقطيع الثياب وتمزيق الشعر, وغيرِ ذلك مِنْ قَالَةِ السوء, وفِعَالِ سوء الأدب مع الله! فَبَرِّئْ ذِمَّتَكَ الآن يا عبد الله!, وعَلِّمْ أهلَكَ ومَنْ إِلَيْكَ, كيف يَصبرون على المقدور, فلا يقولون ما يُسْخِطُ الرَّبَّ الجَلِيلَ!
ـ وكما ينهى الإنسانُ بلسانه وصريحِ مَقَالِهِ, فإنَّهُ ينبغي عليه أيضًا, بَلْ يجب أن يكتب وَصِيَّتَهُ عنده, ويحفظها لديه, بعد أن يُنَبِّئَهُمْ بها, ويُعْلِمَهُمْ بِخَبَرِهَا؛ إنها وَصِيَّتُهُ بأنه يَتَبَرَّأُ مِنْ كُلِّ ما يَتَبَرَّأُ مِنْهُ الله تعالى, ويتبرأُ منه رسوله الكريم, فَلْيَخُطَّ بِيَدِهِ, ولْيُوَقِّعْ بأنامله: أنَّهُ بَرِئَ مِنْ كُلِّ صارخة ومن كلِّ نائحة, ومن كلِّ مُتَسَخِّطَةٍ على قضاء ربها بأيِّ نَوْعٍ من الأفعال أو الأقوال, وليس ذلك مقصورًا على النساء وإنْ كُنَّ هُنَّ اللاَّئِي يَقَعُ مِنْهُنَّ ذلكَ في الغالب ويَكْثُرُ فِيهِنَّ, بَلْ هِيَ براءةٌ من كلِّ أحدٍ؛ ذكرًا كان أو أنثى, ممَّنْ يتجاوزُ الحدود!, ولا ينضَبِطُ بالقُيُود!!
أمَّا مَنْ لم يَنْهَ ولم يَأْمُرْ في حياته, ولم يُخْلِ ذِمَّتَهُ, ولم يُنَحِّ عَنْهُ مسؤوليةَ ما يكونُ مِنْ بَعْدِهِ!, فمن ذا الذي يدفع عنه! ومن الذي يُخَلِّصُهُ!! هيهات, هيهات, فإن لم تَسْعَ لِنجاتك الآن, فقد فاتَكَ الأوان, والله يرحمُ من يشاء. ويتأكَّدُ ذَلِكَ كُلَّ التأكيد في حَقِّ مَنْ يعلمُ أَنَّ أَهْلَهُ وذَوِيهِ سَيَفْعَلُونَ ذلك المنكر أو ذاك! وأنه قَدْ جرت بِهِ عادتُهُمْ, أو عَرَفَ مِنْ حالهم أنهم يرتكبون تلكمُ الأفاعيل, ويَسْلُكُونَ ذلكُمُ النَّهْجَ المَشِين؛ نَهْجَ الشيطان عند المصيبة, فهذا يُؤَكَّدُ عَلَيْهِ في التَّنْبِيهِ وإظهار البراءة, ويُشَدَّدُ عَلَيْهِ في تَرْكِ نَهْيِهِمْ, واللهُ المستعان, نسأل الله تعالى أن يجعلنا مِمَّنْ يَسْلُكُ عند المُصيبةِ مَسْلَكَ الصواب, ويُوَفَّقُ للرَّحْمَةِ والإِنَابَةِ والمَتَاب, وأنْ يجعلنا مِمَّنْ يَتَلَقَّى قَضَاءَ رَبِّهِ بتسليمٍ وانقياد, وأن لا يجعلنا ممن يُقَابِلُ أَمْرَ الله بِتَسَخُّطٍ واعتراض, أقول قولي هذا وأستغفر الله.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - "صحيح البخاري"(رقم:1248).
[2] - "شرح صحيح البخاري"للإمام محمد بن عثيمين (4/455-456)/ط.المكتبة الإسلامية-القاهرة.
[3] - المصدر نفسه.
[4] - المصدر نفسه.
[5] - "شرح صحيح البخاري"(4/455-456).
[6] - "شرح صحيح البخاري"(4/466).
[7] - "صحيح البخاري"(رقم: 1299).
[8] - "شرح صحيح البخاري"(4/475).
[9] - "شرح صحيح البخاري"(4/476).
[10] - "صحيح البخاري"(رقم:1303).
[11] - "شرح صحيح البخاري"(4/473).