فائدةُ عِلْمِ الأصول، وخصوصيتُه ظاهرةٌ، وإِنْ راجَتْ شُبَهٌ أُثيرَتْ حولَه تقضي بذَمِّ هذا العلمِ(٢) وتُحقِّرُهُ في نفوسِ طُلَّابه، بدعوى أنَّ هذا العِلْمَ لم يكن موجودًا في العهد النبويِّ ولا عند السلفِ الصالح مِنَ القرون المفضَّلة؛ لذلك كان عِلْمًا مُبْتَدَعًا ينتفي فيه النفعُ.
ولا تخفى على كُلِّ ذي لُبٍّ هذه المُغالَطةُ؛ لأنَّ الصحابة رضي الله عنهم عاصَرُوا التنزيلَ وعَلِموا أسبابَ ورودِ الأحاديث، وقد كانوا أَقْرَبَ عهدًا بنورِ النبوَّةِ وأَقْرَبَ تلقِّيًا مِنْ مِشْكاتها، ومع ذلك دَعَاهُمُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الاجتهاد فقال: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»(٣).
وقد تَمَرَّنوا على الاجتهاد والاستنباط، وتَرَبَّوْا على مُواجَهةِ القضايا والمَسائِل، وكانو يحتجُّون بأدلَّةِ التشريع مِنَ الكتاب والسنَّة، فإِنِ اتَّفقوا على أمرٍ كان إجماعًا وهو الدليل الثالثُ مِنْ أدلَّةِ التشريع، وإِنْ لم يَتَّفِقوا بَقِيَ الأمرُ في حَيِّزِ القياس والنظرِ وهو الدليل الرابعُ مِنْ أدلَّةِ التشريع، وكانوا في عَهْدِهم قد طبَّقوا القواعدَ الأصولية بجوهرها وإِنْ لم يُسَمُّوا ذلك بالمُصْطَلحات الحالية؛ فقَدْ كان الصحابةُ مِنْ أَفْقَهِ الناسِ بدلالات الألفاظ وصِيَغِها لكونهم أهلَ الفصاحةِ واللسان: فالعربيةُ طبيعتُهم وسليقتُهم، والمَعاني الصحيحةُ مغروسةٌ في فِطَرِهم وعقولهم؛ فلم يكونوا بحاجةٍ إلى قواعدِ النحوِ وميزانِ الصرف؛ لأنهم كانوا ينطقون بالفُصْحى ويُراعُونَ الإعرابَ قبل أَنْ يُوضَعَ عِلْمُ النحوِ والصرف.
كذلك لم يكونوا بحاجةٍ إلى النظر في الإسناد وأحوالِ الرُّوَاة وعِلَلِ الحديث والجرحِ والتعديل لعدالتهم وتزكيةِ النصِّ القرآنيِّ والحديثيِّ لهم؛ فكانوا ـ أيضًا ـ في غِنًى عن النظر إلى قواعد الأصول وأوضاعِ الأصوليِّين؛ لكونهم أَعْلَمَ بالتأويل وأَعْرَفَ بمَقاصِدِ الشريعة، لِمَا تَميَّزوا به مِنْ صفاءِ الخاطر، وحِدَّةِ الذِّهن في إدراك المَرامي والأبعاد والغايات؛ الأمرُ الذي أَكْسَبَهم قُوَّةً تُؤهِّلُهم لفَهْمِ مُرادِ الشارع وتتبُّعِ النصوص والاستنباط منها والاجتهادِ فيما لم يَرِدْ فيه نصٌّ.
وقد وَجَّه عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه رسالةً إلى أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه يقول فيها: «الفَهْمَ الفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، ثُمَّ اعْرِفِ الأَشْبَاهَ وَالأَمْثَالَ، فَقِسِ الأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْمِدْ إِلَى أَقْرَبِهَا إِلَى اللهِ وَأَشْبَهِهَا بِالحَقِّ»(٤)؛ فقَدْ أَرْسى عُمَرُ رضي الله عنه ـ بمَقالتِه هذه ـ أصلين:
يتمثَّل الأوَّلُ في قاعدةِ: «لَا اجْتِهَادَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ».
والثاني: في تقريرِ مبدإ القياس ومعرفةِ عِلَلِ الأحكام.
وكذلك قولُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه في عِدَّةِ الحاملِ المتوفَّى عنها زوجُها وأنَّ نزول قولِه تعالى في سورة الطلاق: ﴿وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ﴾ [الطلاق: ٤] كان بعد نزولِ قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ﴾ [البقرة: ٢٣٤]، قال: «وَاللهِ، لَمَنْ شَاءَ لَاعَنَّاهُ، لَأُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ القُصْرَى بَعْدَ ﴿أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ﴾ [البقرة: ٢٣٤]»(٥).
وهذا يدلُّ على الأخذِ بالمبدإ الأصوليِّ المعروف بأنَّ «النَّصَّ المُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ أَوْ يُخَصِّصُ النَّصَّ المُتَقَدِّمَ»، وفي ذلك آثارٌ أخرى تُبيِّنُ مَسْلَكَهم الواضحَ في الاجتهاد والقضاءِ وبيانِ الأحكام، واعتمادَهم في ذلك على موضوعاتِ أصولِ الفقه وإِنْ لم يَنُصُّوا عليها.
ثمَّ تَتَلْمَذَ التابعون على أَيْدِيهم ونَهَجوا طريقَهم وتَتبَّعوا خُطَاهُمْ، وتَبَلْوَرَ في اجتهادهم ظهورُ بعضِ المَبادئ الأصولية: كمُراعاةِ المصلحةِ في الاستنباط عند فَقْدِ النصِّ، وأنَّ خَبَرَ الواحدِ يُسْتَدَلُّ به على إثبات حكمٍ شرعيٍّ، وأنَّ هذا قولُ صحابيٍّ في مسألةٍ مِنَ المسائل، ونحو ذلك.
لكِنْ بعد ذهابِهم، واتِّساعِ الرقعةِ الإسلامية، واختلاطِ العربِ بالعجم، ضَعُفَتِ اللغةُ العربية، وتسرَّبَتِ العُجْمةُ إلى مَجالِسِ العلم والعُلَماء، ولم تَبْقَ الفُصْحَى لغةَ التخاطب.
وبفسادِ الأَلْسُنِ اضطربَتِ الفهومُ وتَغيَّرَتْ، واستجدَّتْ حوادثُ وقضايَا ونظريَّاتٌ، وظهرَتْ فِرَقٌ مُخْتلِفَةٌ كالروافض والخوارج والمعتزلة، ولم يَعُدِ الاجتهادُ ميسورًا كما كان عليه في عهدِ الصحابةِ والتابعين، وكان مِنْ جَرَّاءِ ذلك تميُّزُ مَناهِجِ الاجتهاد عند العُلَماءِ والأئمَّة، واحتاجَتِ الأحكامُ إلى قواعدَ يَسْتَنِدُ إليها المجتهدُ ليكون أَخْذُه منها صحيحًا؛ فتلك القواعدُ المُبَعْثَرةُ لم تكن ـ بتَنَاثُرِها ـ لِتُشَكِّلَ علمًا مُسْتَقِلًّا؛ لعدَمِ انتظامِها في سلكٍ مُعيَّنٍ أو وَضْعِها ضِمْنَ قالبٍ خاصٍّ أو وِعاءٍ يَحْوِيها، إلى أَنْ جاء الإمامُ الشافعيُّ ـ رَحِمَه الله تعالى ـ(٦) فوضَعَ هذه القواعدَ وجَمَعَ شَتاتَها في علمٍ مُسْتَقِلٍّ، ودَوَّن قواعدَه وأحكامَه في مُصنَّفِه الموسومِ ﺑ «الرسالة»(٧).
موقع العلامة فركوس حفظه الله