سؤال للأعضاء الكرام : ما هي الحكمة التي يمكنك إستخلاصها من قصة : نهر الجنون لــ توفيق الحكيم
و هل ستشرب كأس ماء من نهر الجنون ، لو كنت مكان الملك ؟
قصة " نهــــر الجنــــــــون " للكاتب : توفيق الحكيم
يحكى أن طاعون الجنون نزل في نهر يسري في مدينة ، فصار الناس كلما شرب منهم أحد من النهر يصاب بالجنون ، وكان المجانين يجتمعون ويتحدثون بلغة لا يفهمها العقلاء ، واجه الملك الطاعون وحارب الجنون .
حتى إذا ما أتى صباح يوم استيقظ الملك وإذا الملكة قد جنت ، وصارت الملكة تجتمع مع ثلة من المجانين تشتكي من جنون الملك !!
نادى الملك الوزير
(في بهو في قصر ملك من ملوك العصور الغابرة. الملك ووزيره منفردان)
الملك : ما تقص علىَّ مريع!
الوزير : قضاء وقع يا مولاي.
الملك : (في دهش وذهول) الملكة أيضاً؟
الوزير : (مطرقاً) واحزناه!
الملك : هي أيضاً شربت من ماء النهر؟
الوزير :كما شرب أهل المملكة أجمعين .
الملك : أين رأيت لملكة؟
الوزير : في حديقة القصر.
الملك : ما كان ينقص الخطب إلا هذا!
الوزير : لقد حذرها مولاي أن تقرب ماء النهر وأوصاها أن تشرب من نبيذ الكروم. لكنه القدر!
الملك : قل لي كيف علمت أنها شربت من ماء النهر؟
الوزير : سيماؤها ، حركاتها.
الملك : أحادثتك؟
الوزير : لم أكد أقبل عليها حتى ازورت عني في شبه روع.
كذلك فعلت وصائفها وجواريها وطفقن يتهامسن وينظرن إلىَّ نظرات الممروريين.
الملك : ( كالمخاطب نفسه) كل هذا بدا لعيني في تلك الرؤيا!
الوزير : رحمة بنا أيتها السماء!
الملك : نعم كل هذا رأته عيناى من قبل.
(صمت)
الوزير : متى يذهب غضب السماء عن هذا النهر؟
الملك : من يدري؟
الوزير : ألم ير مولاى في تلك الرؤية الهائلة ما ينبئ بالخلاص؟
الملك : (يحاول أن يتذكر) لست أذكر..
الوزير : تذكر يا مولاي؟
الملك : (يحاول التذكر) لست أذكر أكثر مما قصصت عليك .. رأيت النهر أول الأمر في لون الفجر
ثم أبصرت أفاعي سوداء قد هبطت فجأة من السماء وفي أنيابها سم تسكبه في النهر فإذا هو في لون
الليل. وهتف بي من يقول
<حذار أن تشرب بعد الآن من نهر الجنون> ..
الوزير : ويلاه!
الملك : وقد رأيت الناس كلهم يشربون..
الوزير : إلا إثنان..
الملك : أنا وأنت..
الوزير : وافرحتاه
الملك : علام الفرح أيها الرجل!
الوزير : (يستدرك) عفو مولاي. إن حزني لعظيم. ليتني كنت فداء الملكة.
الملك : شد ما أبغض هذا الكلام. ليتك تستطيع على الأقل أن تجد لها دواء ... يحزنني أن يذهب مثل
عقلها الراجح ويخبو هذا الذهن اللامع في سماء هذه المملكة!
الوزير : حقاً ، إنها كالشمس في سماء هذه المملكة!
الملك : نعم. أنت دائماً تردد ما أقول ولا تفعل شيئاً. على برأس الأطباء!
الوزير : رأس الأطباء؟
الملك : نعم رأس الأطباء. لعله يستطيع لها شفاء..
الوزير : مولاى نسى أن رأس الأطباء كذلك قد ذهب..
الملك : ذهب أين؟
الوزير : هو أيضاً من الشاربين.
الملك : يا للمصيبة..
الوزير : لقد رأيته كذلك بين يدي الملكة وقد تغيرت نظراته وحركاته وكلما لمحني هز رأسه هزاً لا
أدرك له معنى.
الملك : رأس الأطباء قد جن؟!
الوزير : نعم..
الملك : لقد كان نابغة زمانه. أية خسارة أن يصاب مثل هذا الرجل بالجنون..
الوزير : وفي وقت نحن أحوج ما نكون إلى علمه وطبه.
الملك : ليس في هذه المملكة الآن غير واحد يستطيع إنقاذنا مما نحن فيه.
الوزير : من يا مولاي؟
الملك : كبير الكهان.
الوزير : واحسرتاه!
الملك : ماذا؟
الوزير : منهم يا مولاي.
الملك : ما تقول؟ من الشاربين؟
الوزير : أجل منهم.
الملك : هذا ولاريب ما يسمى بالخطب الجلل. حتى كبير الكهان أصيب بالجنون وهو أحسن الناس
رأياً وأبعدهم نظراً وأثبتهم إيماناً وأطهرهم قلباً وأدناهم إلى السماء!
الوزير : هو القضاء يا مولاي ، ألم أقل أنه قضاء وقع؟!
الملك : أجل إنها لكارثة شاملة. ليس لها من نظير لا في التواريخ ولا في الأساطير. مملكة بأسرها قد
أصابها الجنون دفعة واحدة ولم يبق بها ناعم بعقله غير الملك و الوزير!
الوزير : (يرفع رأسه إلى أعلى) رحمة السماء!
الملك : اصغ أيها الوزير . إن السماء التى حبتنا باستثناء وحفظت علينا نعمة العقل لا ريب ترانا
خليقين أن تستجيب منا الدعاء. هلم بنا إلى معبد القصر نصلى وندعو أن ترد إلى لملكة والناس
عقولهم. هذا آخر ملجأ نستطيع أن نلتجئ إليه.
الوزير : أجل يامولاي. آخر ملجأ لنا وخير ملجأ: السماء.
(يخرجان من أحد الأبواب)
----
(تدخل من باب آخر
الملكة و
رأس الأطباء و
كبير الكهان)
----
الملكة : إنه لخطب فادح!
رأس الأطباء : (معاً)
كبير الكهان : أجل إنها لطامة الكبرى!
الملكة : (لرأس الأطباء) أما من حيلة للطب في رد نور العقل إلى هذين البائسين!
رأس الأطباء : يشق على هذا العجز مني أيتها الملكة.
الملكة : تفكر يا رأس الأطباء.
رأس الأطباء: لقد تفكرت ملياً يا مولاتي ، إن ما أصابهما لا يسعه علمي.
الملكة : أأقنط إذن من شفاء زوجي.
رأس الأطباء : لا تقنطي يا مولاتي. هنالك معجزات تهبط أحياناً من السماء هي فوق طب الأطباء .
الملكة : ومتى تهبط تلك المعجزات؟
رأس الأطباء: من يدري يا مولاتي!
الملكة : يا كبير الكهان استنزل لي واحدة منها الآن .. الآن .. الآن..
كبير الكهان : من قال يا مولاتي إني استطيع أن استنزل شيئاً من السماء.
الملكة : أليس هذا من عملك؟
كبير الكهان : إن السماء يا مولاتي ليست كالنخيل يستطيع الإنسان أن يستنزل منها ما شاء من ثمار!
الملكة : ألا تستطيع إذن أن تصنع شيئاً. إني زوج تحب زوجها. إني امرأة تريد إنقاذ رجلها. إنقذوا
زوجي. إنقذوا زوجي!
رأس الأطباء : بعض الصبر يا مولاتي.
كبير الكهان : دع لملكة تقول! إنها على حق. هي تبكي زوجاً كريماً. الناس كذلك لو عرفوا الحقيقة
لبكوا ملكاً كان حازم الرأي راجح العقل.
الملكة : احذروا أن يعرف الناس الخبر .
كبير الكهان : نحن أصمت من قبر يا مولاتي غير أني أخشى عاقبة الأمر. إنا مهما أخفينا الخبر لابد
أن يظهر يوماً من الأيام. وأيُ مصيبة أفدح من علم الناس بأن الملك و لوزير ...
الملكة : صه! إن هذا مريع.
كبير الكهان : حقاً أن هذا مريع وعظيم الخطر.
الملكة : ما المخرج؟ لا تقفا من الأمر موقف اليائس. افعلا شيئاً. إني أفقد عقلي أيضاً ولا ريب إن
طال أمد هذا الحال.
كبير الكهان : لو أن في مقدوري فهم ما يدور برأسه .
الملكة : إنه يذكر النهر في فزع ويزعم أن ماءه مسموم.
كبير الكهان : وماذا يشرب إذن؟
الملكة : نبيذ الكروم. ولا شيء غير نبيذ الكروم.
رأس الأطباء : نعم نبيذ الكروم. يغلب على ظني أن الإدمان قد أثر بعقله.
الملكة : إن كان الداء فيما تقول فما أيسر الدواء: نمنع عنه الخمر.
رأس الأطباء : وماذا يشرب؟
الملكة : ماء النهر.
رأس الأطباء: أتحسبينه يرضى يا مولاتي؟
الملكة : أنا أحمله على ذلك.
رأس الأطباء : (يلتفت إلى صوت قريب) ها هو ذا
الملك قادم.
الملكة : (تشير إلى رأس الأطباء وكبير الكهان) اتركانا وحدنا.
(يخرجان ويتركان الملكة تتأهب لملاقاة الملك .)
الملك : (يراها فيقف بغتة في مكانه) أنت هنا؟
الملكة : (تنظر إليه ملياً) نعم.
الملك : لماذا تنظرين إليّ هذه النظرات؟
الملكة : (تنظر إليه وتهمس متوسلة) أيتها المعجزات!
الملك : (يتأملها في حزن) ويلى! إن قلبي يتمزق. لو تعلمين مقدار ألمي أيتها العزيزة.
الملكة : (تحدق في وجهه) لماذا؟
الملك : لماذا؟ نعم أنت لا تعرفين. هذا الرأس الجميل لا يمكن الآن أن يعرف .
الملكة : ما الذي يؤلمك أنت؟
الملك : (ينظر إليها ملياً) يؤلمني ... هل استطيع أن أقول؟ هذا فوق ما احتمل.
الملكة : ( كالدهشة) إنك تشعر بالنازلة؟
الملك : أتسأليني؟! وأى شعور!
الملكة : (في استغراب) هذا غريب.
الملك : واحزناه!
الملكة : (تتأمله لحظة في إشفاق ثم تجذبه) تعال أيها الوزير اجلس إلى جانبي على هذا الفراش ولا
تحزن كل هذا الحزن. لقد آن لهذا الشر أن يزول عنا.
الملك : ماذا تقولين؟!
الملكة : نعم ثق أنه سيزول.
الملك : (يتأملها __________بدهشاً) إنك تحسين ما حدث؟!
الملكة : كيف لا أحس أيها العزيز وهو يملأ نفسي أسى.
الملك : (ينظر إليها ملياً) هذا عجيب!
الملكة : لماذا تنظر إليّ هذه النظرات!
الملك : (متوسلاً في إشفاق) أيتها السماء!
الملكة : تدعو السماء؟ لقد استجابت السماء!
الملك : ماذا أسمع ..؟
الملكة : (في فرح) لقد وجدنا الدواء.
الملك : وجدتم الدواء؟ متى؟!
الملكة : (في فرح) اليوم.
الملك : (في حرارة) وافرحتاه..!
الملكة : نعم وافرحتاه! إنما ينبغي لك أن تصغى إلى ما أقول وأن تعمل بما أنصح لك به. يجب عليك
أن تقلع من فورك عن شرب النبيذ وأن تشرب من ماء النهر.
الملك : (ينظر إليها وقد عاد إلى يأسه وحزنه) ماء النهر!
الملكة : (بقوة) نعم.
الملك : (آالمخاطب نفسه) ويحي أنا الذي حسب السماء قد استجابت !!
الملكة : (في قوة) اصغ إليّ واعملِ بما أقول.
الملك : (ينظر إليها ملياً في يأس) إني لأرى الأمر يزداد في كل يوم شراً .وهل يخطر لي على بال
أنها تتكلم مثل هذا الكلام وأن ما بها يبلغ هذا ..ويلاه! لابد من إنقاذها... لابد من إنقاذها. كاد يذهب
من رأسي العقل (يخرج سريعاً): أيها [ لوزير ! عليّ بالوزير !
الملكة : (كالمخاطبة لنفسها في حزن وإطراق) صدق رأس الأطباء. أن الأمر لأعسر مما .. (تتنهد
وتخرج)
الوزير : (يدخل من باب آخر متغير الوجه) مولاي! مولاي!
الملك : (يعود أدراجه) أيها
الوزير!
الوزير : جئتك بخبر هائل.
الملك : (في رجفة) ماذا أيضاً؟
الوزير : أتدري ما يقول الناس عنا؟
الملك : أي ناس؟
الوزير : المجانين.
الملك : ماذا يقولون؟
الوزير : يزعمون أنهم هم العقلاء وأن لملك و الوزير هما المصابان...
الملك : صه! من قال هذا الهراء؟
الوزير : تلك عقيدتهم الآن.
الملك : (في تهكم حزين) نحن المصابان وهم العقلاء..!
أيتها السماء رحماك! إنهم لا يشعرون أنهم قد جنوا.
الوزير : صدقت
الملك : يخيل إليّ أن المجنون لا يشعر أنه مجنون.
الوزير : هذا ما أرى.
الملك : إن الملكة واحسرتاه كانت تحادثني الآن وكأنها تعقل ما تقول. بل لقد كانت تبدي لي الحزن
وتسدي إليّ النصح.
الوزير : نعم، نعم. كذلك صنع بي كل من قابلت من رجال القصر وأهل المدينة.
الملك : أيتها السماء رفقاً بهم!
الوزير : (في تردد) وبنا.
الملك : (متسائلاً في دهش) وبنا؟ !
الوزير : مولاي! إني أريد أن أقول شيئاً.
الملك : (في خوف) تقول ماذا؟
الوزير : إني آدت أرى..
الملك : (في خوف) ترى ماذا؟
الوزير : أنهم ... شيء.
الملك : من هم؟!
الوزير : الناس ، المجانين ، إنهم يرموننا بالجنون. ويتهامسون علينا ويتآمرون بنا ، ومهما يكن من
أمرهم وأمر عقلهم فإن الغلبة لهم ، بل إنهم هم وحدهم الذين يملكون الفصل بين العقل والجنون. لأنهم
هم البحر وما نحن إلا حبتان من رمل. أتسمع مني نصحاً يا مولاي؟
الملك : أعرف ما تريد أن تقول.
الوزير : نعم ، هلم نصنع مثلهم ونشرب من ماء النهر!
الملك : (ينظر إلى الوزير ملياً) أيها المسكين! إنك قد شربت! أرى شعاعاً من الجنون يلمع في
عينيك .
الوزير : آلا لم أفعل بعد.
الملك : أصدقني القول.
الوزير : (في قوة) أصدقك القول، إني سأشرب وقد أزمعت أن أصير مجنوناً مثل بقية الناس. إني
أضيق ذرعاً بهذا العقل بينهم .
الملك : تطفىء من رأسك نور العقل بيديك!
الوزير : نور العقل! ما قيمة نور العقل في وسط مملكة من المجانين! ثق أنا لو أصررنا على ما
نحن فيه لا نأمن أن يثبت علينا هؤلاء القوم. إني لأرى في عيونهم فتنة تضطرم ، وأرى أنهم لن
يلبثوا حتى يصيحوا في الطرقات < : لملك ووزيره قد جنا ، فلنخلع المجنونين >!
الملك : ولكنا لسنا بمجنونين!
الوزير : كيف نعلم؟!
الملك : ويحك! أتقول جداً؟
الوزير : إنك قد قلتها الساعة يا مولاى! أن المجنون لا يشعر أنه مجنون.
الملك : (صائحاً) ولكني عاقل وهؤلاء الناس مجانين!
الوزير : هم أيضاً يزعمون هذا الزعم .
الملك : وأنت، ألا تعتقد في صحة عقلي؟
الوزير : عقيدتي فيك وحدها ما نفعها؟ إن شهادة مجنون لمجنون لاتغني شيئاً.
الملك : ولكنك تعرف أني لم أشرب قط من ماء النهر.
الوزير : أعرف.
الملك : وأني قد سلمت من الجنون لأني لم أشرب، وأصيب الناس لأنهم شربوا .
الوزير : هم يقولون بأنهم إنما سلموا هم من الجنون لأنهم شربوا وأن الملك إنما جُنّ لأنه لم يشرب.
الملك : عجباً! إنها لصفاقة وجه.
الوزير : هذا قولهم وهم المصدقون، وأما أنت فلن تجد واحداً يصدقك!
الملك : أهكذا يستطيعون أيضاً أن يجترئوا على الحق؟!
الوزير : الحق؟! (يخفي ضحكة)
الملك : أتضحك؟!
الوزير : إن هذه الكلمة منا في هذا الموقف غريبة .
الملك : (في رجفة) لماذا؟
الوزير : الحق والعقل والفضيلة ، كلمات أصبحت ملكاً لهؤلاء الناس أيضاً. وهم وحدهم أصحابها
الآن.
الملك : وأنا؟
الوزير : أنت بمفردك لا تملك منها شيئاً.
(
الملك يطرق في تفكير وصمت)
الملك : (يرفع رأسه أخيراً) صدقت إني أرى حياتي لا يمكن أن تدوم على هذا النحو.
الوزير : أجل يا مولاي. وأنه لمن الخير لك أن تعيش مع
الملكة والناس في تفاهم وصفاء ، ولو
منحت عقلك من أجل ذلك ثمناً!
الملك : (في تفكير) نعم إن في هذا كل الخير لي. إن الجنون يعطيني رغد العيش مع لملكة والناس
آما تقول. وأما العقل فماذا يعطيني!
الوزير : لاشيء. إنه يجعلك منبوذا من الجميع، مجنوناً في نظر الجميع!
الملك : إذن فمن الجنون أن لا أختار الجنون .
الوزير : هذا عين ما أقول.
الملك : بل إنه لمن العقل أن أوثر الجنون.
الوزير : هذا لا ريب عندي فيه.
الملك : ما الفرق إذن بين العقل والجنون!
الوزير : (وقد بوغت) انتظر... (يفكر لحظة) لست أتبين فرقاً!
الملك : (في عجلة) عليّ بكأس من ماء النهر ، إن الجنون أن تظل عاقلا في دنيا المجانين !!