الجواب :
الحمد لله
أولا :
لا شك أن هذا الزوج ـ متى كان قد فعل ذلك حقا ـ ظالمٌ لزوجته ، مضيِّع لحقوقها ، مخالفٌ لما أمره الله تعالى به من المعاشرة بالمعروف , وقد كان من الواجب عليه أن يحسن إلى زوجته وأن يوفيها حقوقها ، فإن كرهها فارقها بمعروف , امتثالا لقول الله تعالى: ( فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) الطلاق/ 2
وهذا الزوج لا بالمعروف أمسك ؛ لأنه ظالم لزوجته معتدٍ عليها مضيّع لمالها , ولا بالمعروف فارق ؛ لأنه كان من الواجب عليه إذا أراد الفراق أن يوفي زوجته حقوقها من الصداق والمتعة ، ولكنه ضارها وضيق عليها ، ومنعها حقها– دون موجب للعضل منها – حتى تفتدي منه , وقد نهى الله سبحانه عن هذا المسلك الذميم بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) النساء/ 19.
ثانيا :
هذا الطلاق الذي حصل من الزوج يسمى : (طلاق على الإبراء) وهو نوع من الخلع
فإن كان هذا الطلاق قد وقع على الإبراء بمعنى أن الزوجة قد تنازلت لك عن حقوقها مقابل طلاقها : فهذا طلاق بائن , قال الخرشي المالكي " الطلاق البائن إنما يكون بلفظ الخلع , أو الإبراء , أو الافتداء , أو الطلاق إلا أنه مع الدراهم" انتهى باختصار من "
شرح مختصر خليل للخرشي " (4 / 17).
وهو بهذا شبيه جدا بالخلع بل هو نوع منه عند بعض العلماء , قال ابن قدامة " الطلاق بعوض نوع من الخلع"
انتهى من " الكافي في فقه الإمام أحمد " (3 / 100).
ومن أحكام الطلاق على عوض : أن الزوج لا يملك في العدة ارتجاع زوجته ,
جاء في " الموسوعة الفقهية الكويتية " (22 / 108)
عند ذكر شروط الرجعة " الشرط الخامس : ألا يكون الطلاق بعوض ، فإن كان الطلاق بعوض فلا تصح الرجعة ؛ لأن الطلاق حينئذ بائن ، لافتداء المرأة نفسها من الزوج بما قدمته له من عوض مالي ينهي هذه العلاقة مثل الخلع والطلاق على مال" انتهى.
لكن إن كان الطلاق قد وقع بدون عوض , ثم إن الزوجة قد تنازلت لك عن حقوقها بعد وقوع الطلاق , فهذا طلاق رجعي تملك فيه ارتجاع زوجتك ما دامت في العدة , ولا يشترط في صحة الرجعة موافقة الزوجة ولا وليها ؛ قال تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا )البقرة/228 .
قال القرطبي رحمه الله
: " وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة ، وكانت مدخولا بها ، تطليقة أو تطليقتين : أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها ، وإن كرهت المرأة ، فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها ، وتصير أجنبية منه ، لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد، ليس على سنة المراجعة ، وهذا إجماع من العلماء "
انتهى من " تفسير القرطبي " (3 / 120).
من هنا تعلم – أيها السائل – حكم رجعتك : فإن كانت قد تنازلت لك عن حقوقها ، مقابل طلاقها : فارتجاعك لزوجتك غير صحيح ، وإن كان قد وقع بدون شرط العوض ( مقابل مالي ، أو تنازل عن حقوقها )
وقد اختلف الفقهاء في توصيف الخلع - ومثله الطلاق على الإبراء - فعند جمهور الفقهاء هو طلاق بائن , قال الخرشي المالكي " الطلاق البائن إنما يكون بلفظ الخلع , أو الإبراء , أو الافتداء , أو الطلاق إلا أنه مع الدراهم" .
انتهى باختصار من " شرح مختصر خليل للخرشي " (4 / 17).
ومن أحكام الطلاق على عوض : أن الزوج لا يملك في العدة ارتجاع زوجته , جاء في " الموسوعة الفقهية الكويتية " (22 / 108) عند ذكر شروط الرجعة " الشرط الخامس : ألا يكون الطلاق بعوض ، فإن كان الطلاق بعوض فلا تصح الرجعة ؛ لأن الطلاق حينئذ بائن ، لافتداء المرأة نفسها من الزوج بما قدمته له من عوض مالي يُنهِي هذه العلاقة مثل الخلع والطلاق على مال" انتهى.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الخلع - ومثله الطلاق على الإبراء - فسخ وليس بطلاق
الخلع لا يعتبر طلاقا ، ولو كان بلفظ الطلاق ، على الراجح .
وبيان ذلك كما يلي :
1- الخلع إذا لم يكن بلفظ الطلاق ، ولم ينو به الطلاق ، فهو فسخ عند جماعة من أهل العلم ، وهو قول الشافعي في مذهبه القديم ، والمذهب عند الحنابلة ، ويترتب على كونه فسخا أنه لا يحسب من الطلاق ، فمن خالع زوجته مرتين ، فله أن يرجع إليها بعقد جديد ، ولا يحسب عليه شيء من الطلاق .
ومثال ذلك : أن يقول الزوج : خالعت زوجتي على كذا من المال ، أو فسخت نكاحها على كذا .
2- وأما إذا كان الخلع بلفظ الطلاق ، كقوله : طلقت زوجتي على مال قدره كذا ، فإنه يكون طلاقا في قول جماهير أهل العلم .
وينظر : "الموسوعة الفقهية" (19/237).
وذهب بعضهم إلى أنه يكون فسخاً أيضاً ، ولا يحسب من الطلاق ولو كان بلفظ الطلاق ، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقال : إنه المنصوص عن الإمام أحمد وقدماء أصحابه .
وينظر : "الإنصاف" (8/393).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " ولكن القول الراجح : أنه [يعني : الخلع] ليس بطلاق وإن وقع بلفظ [الطلاق] الصريح ، ويدل لهذا القرآن الكريم ، قال الله عز وجل : ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) البقرة/229، أي : في المرتين ، إما أن تمسك وإما أن تسرح ، فالأمر بيدك ( وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) البقرة/229
إذاً هذا فراق يعتبر فداء ، ثم قال الله عز وجل : ( فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) البقرة/230، فلو أننا حسبنا الخلع طلاقا لكان قوله : ( فَإِنْ طَلَّقَهَا ) هي الطلقة الرابعة ، وهذا خلاف الإجماع ، فقوله : ( فَإِنْ طَلَّقَهَا ) أي : الثالثة ( فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) والدلالة في الآية واضحة ، ولهذا ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن كل فراق فيه عوض فهو خلع وليس بطلاق ، حتى لو وقع بلفظ الطلاق ، وهذا هو القول الراجح "
انتهى من "الشرح الممتع" (12/467- 470).
وقال رحمه الله : " فكل لفظ يدل على الفراق بالعوض فهو خلع ، حتى لو وقع بلفظ الطلاق ، بأن قال مثلا : طلقت زوجتي على عوض قدره ألف ريال ، فنقول : هذا خلع ، وهذا هو المروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أن كل ما دخل فيه العوض فليس بطلاق ، قال عبد الله ابن الإمام أحمد : كان أبي يرى في الخلع ما يراه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، أي : أنه فسخٌ بأي لفظ كان ، ولا يحسب من الطلاق .
ويترتب على هذا مسألة مهمة ، لو طلق الإنسان زوجته مرتين متفرقتين ، ثم حصل الخلع بلفظ الطلاق ، فعلى قول من يرى أن الخلع بلفظ الطلاق طلاق تكون بانت منه ، لا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجا غيره ، وعلى قول من يرى أن الخلع فسخ ولو بلفظ الطلاق ، تحل له بعقد جديد حتى في العدة ، وهذا القول هو الراجح .
لكن مع ذلك ننصح من يكتبون المخالعة أن لا يقولوا طلق زوجته على عوض قدره كذا وكذا ، بل يقولوا : خالع زوجته على عوض قدره كذا وكذا ؛ لأن أكثر الحكام (القضاة) عندنا وأظن حتى عند غيرنا يرون أن الخلع إذا وقع بلفظ الطلاق صار طلاقا ، ويكون في هذا ضرر على المرأة ، فإن كانت الطلقة الأخيرة فقد بانت ، وإن كانت غير الأخيرة حسبت عليه "
انتهى من الشرح الممتع (12/450).
وعلى هذا القول الراجح : فإن ما حدث من هذا الرجل فسخ وليس بطلاق أصلا , فلا يملك معه ارتجاع المختلعة في العدة , ولو أراد زواجها فيمكنه ذلك بعقد ومهر جديدين ، إذا قبلت هي بذلك أيضا .
ثالثا:
إذا ثبت أن هذا الذي حدث من باب الخلع : فلا يضر حصوله في الحيض ، أو في طهر جامعها فيه ؛ لأن الراجح من كلام أهل العلم أنه لا حرج في الخلع أثناء الحيض ، أو في طهر حصل فيه الجماع .
جاء في " المغني " لابن قدامة (7 / 324) : " ولا بأس بالخلع في الحيض ، والطهر الذي أصابها فيه ؛ لأن المنع من الطلاق في الحيض من أجل الضرر الذي يلحقها بطول العدة، والخلع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقام مع من تكرهه وتبغضه ، وذلك أعظم من ضرر طول العدة ، فجاز دفع أعلاهما بأدناهما ، ولذلك لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - المختلعة عن حالها ، ولأن ضرر تطويل العدة : عليها ، والخلع يحصل بسؤالها، فيكون ذلك رضاء منها به ، ودليلا على رجحان مصلحتها فيه " انتهى .
رابعا:
بخصوص المهر الذي تنازلت عنه الزوجة : فلا تملك الرجوع في ذلك , لأنها تنازلت عنه باختيارها ، بعد أن عرض عليها الزوج الطلاق مقابل التنازل عن المهر ، فوافقت , وكان بوسعها أن ترفض وترفع الأمر إلى القاضي الشرعي ليطلقها منه للضرر , وكانت ـ حينئذ ـ تستطيع الحصول على كامل حقوقها.
خامسا:
أما إنكار الزوج لهذا الحمل وقوله (ليس لي ولد منها) فهذا منكر وَزُور , ويُخشى عليه أن يدخل في الوعيد المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم : " وأيما رجل جحد ولده ، وهو ينظر إليه ، احتجب الله منه ، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين " أخرجه أبو داود (2263) ، وابن ماجه ( 2743) ، وضعفه الألباني في "
السلسلة الضعيفة " (1427) .
وقد ذكر الفقهاء - رحمهم الله تعالى - أن ما أتت به المرأة لستة أشهر فأكثر ، بعد عقد النكاح وإمكان حصول الوطء بعده : فهو لاحِقٌ بالزوج .
والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر" رواه البخاري (2053) ، ومسلم (1457) .
قال النووي رحمه الله " وأما قوله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش) فمعناه : أنه إذا كان للرجل زوجة ، أو مملوكة صارت فراشا له ، فأتت بولد لمدة الإمكان منه : لحقه الولد ، وصار ولدا يجري بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة " .
انتهى من " شرح النووي على مسلم" (10 / 37).
وأما ما كتبه ، أو حتى كتبته هي أو أولياؤها ، من أنه لا ولد له منها : فهو لاَغٍ ، لا قيمة له ، ولا أثر له ؛ وإذا قدر أنه ليس له منها ولد حين الكتابة ، ولم يتبين حملها ـ حينئذ ـ فهذا لا يمنع أن يولد له منها ولد بعد ذلك ، في زمن الإمكان ، كما سبق ، أو يتبين حملها منه ، ويلحق كل ذلك بوالده ، ولا يحل له أن ينتفي منه ، ولا يحل لها أيضا أن تكتم ما خلق الله في رحمها من زوجها ، وإن كرهته .
والله أعلم.