موضوع مميز سلسلة القصص القراني ,(((,لقد كان في قصصهم عبرة ))) - الصفحة 2 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الكتاب و السنة

قسم الكتاب و السنة تعرض فيه جميع ما يتعلق بعلوم الوحيين من أصول التفسير و مصطلح الحديث ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

سلسلة القصص القراني ,(((,لقد كان في قصصهم عبرة )))

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2015-07-28, 21:07   رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
Imen LM
عضو مشارك
 
الصورة الرمزية Imen LM
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

جزاك الله خيراً









 


رد مع اقتباس
قديم 2015-07-29, 20:01   رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
zakaria666
عضو مشارك
 
الصورة الرمزية zakaria666
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الله يبارك فيك










رد مع اقتباس
قديم 2015-07-29, 22:17   رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة imen lm مشاهدة المشاركة
جزاك الله خيراً
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة zakaria666 مشاهدة المشاركة
الله يبارك فيك
وفيكما بارك الله

شكرا









رد مع اقتباس
قديم 2015-07-30, 12:05   رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

القصة الحادية عشر ...قصة سيدنا صالح عليه السلام

قال عز وجل : ((وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف:73] أي: معجزة من عند الله عز وجل، وهي الناقة التي أخرجها الله عز وجل لهم من الصخرة.

ذكر المفسرون أن صالحاً عليه السلام كان يجادل قومه ويناظرهم، وهؤلاء القوم هم قوم ثمود، وكانوا يسكنون بالحجر، وهو في شمال جزيرة العرب بين الحجاز وبين تبوك.

وذكرنا أن عاداً وهي الأمة التي كانت قبلهم كانوا في الأحقاف بين عدن وحضرموت، فقوم ثمود أتوا بعدهم بمدة، وكانوا يسكنون في الحجر، وقد مر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ذاهب إلى تبوك، فاستقى الناس من أبيار ثمود، وعجنوا العجين، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم أن يريقوا الماء، وأن يرموا العجين، وقال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين؛ لئلا يصيبكم ما أصابهم).

فانظروا كيف يحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدخول إلى ديار المعذبين الذين عذبوا قبل ذلك.

ولما مر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بديارهم قنع رأسه، وأسرع المسير، فينبغي للمؤمن أن يعتبر عندما يمر على هؤلاء المعذبين.

كذلك لما مر بوادي محسر الذي نزلت فيه الحجارة على الفيل قبل الميلاد النبوي، أو في العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمرهم أن يسرعوا الخطى.

فهذه الأماكن عباد الله التي عذب فيها الكفرة والفجرة لم تكن للتنزه ولا للفرجة ولا للفسحة، بل هي أماكن للعبرة والعظة، فإذا مر بها المؤمن ينبغي أن يكون معتبراً متعظاً، وينبغي أن يكون باكياً لا غافلاً، قال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113].

يحذرنا الشرع من أن نتشبه بالكافرين وأن نسلك مسالكهم، ويحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من أن ندخل عليهم في مساكنهم، إلا أن نكون باكين معتبرين.

لما مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك بديار ثمود أمر أصحابه أن يريقوا الماء الذي حملوه معهم من ديار ثمود، ثم أوردهم البئر التي كانت تشرب منه الناقة، فملئوا منه أوعيتهم.

قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74].

يبدو أنه كان فيهم شبه من قوم عاد، أي: في طول الأجساد وطول الأعمار؛ بأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، وكانوا أهل زرع وأهل ماشية وأهل حرث، فذكرهم نبيهم بنعم الله عز وجل عليهم، وحذرهم من نقمة الله عز وجل، وحذرهم مما حدث للقوم الذين خلوا قبلهم من المكذبين وهم عاد قوم هود، قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ [الأعراف:74] قال العلماء: كانوا بعدهم بمدة طويلة؛ لأنه لم يقل: بعد عاد، بل قال: من بعد عاد، أي: بمدة طويلة، كما مكث نوح في قومه يدعوهم إلى الله عز وجل ألف سنة إلا خمسين عاماً، فيبدو أن المدة كانت طويلة، وأن أجسامهم كانت كذلك فارهة عظيمة، كما كان آدم عليه السلام طوله ستون ذراعاً.

ذكرهم نبيهم بنعم الله عز وجل عليهم، وأن الله عز وجل مكنهم في الأرض يبنون في الأماكن السهلة المنبسطة قصوراً يسكنون فيها في الصيف، وينحتون من الجبال بيوتاً يسكنونها في الشتاء، قال فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74].

ذكر المفسرون أن صالحاً عليه السلام كان يناظر قومه ويجادلهم، وقالوا له: لن نؤمن لك حتى تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة من صفتها كذا وكذا، وتعنتوا في وصفها، أن يكون طولها كذا، وغير ذلك، فكأن صالحاً عليه السلام وجد ذلك فرصة وأن يدخلوا في الإيمان، فقال لهم: أرأيتكم إن أجبتكم إلى ما سألتم أتؤمنون بما جئت به؟ فقالوا: نعم، فأخذ عليهم عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا الله عز وجل، فأجابه الله عز وجل، فتمخضت الصخرة عن ناقة، وهي أنثى الجمل على الصفة التي وصفوها، فآمن منهم أناس وأعرض أكثرهم عن الإيمان.

فالآية أتت على ما طلبوا وسألوا، ولكنهم استمروا على كفرهم وتكذيبهم، وكانوا في غاية الكفر والغباوة.

وحذرهم نبيهم من أن يتعرضوا لهذه الناقة، فقال لهم: هذه ناقة الله لكم آية فلا تمسوها بسوء، أي: لا تتعرضوا لها في شربها ولا في أكلها، فأمرهم أن يشربوا من البئر يوماً، وأن يدعوا الناقة تشرب اليوم الآخر، وفي اليوم الذي تشرب فيه الناقة من البئر هم يشربون من لبنها، لقد أضاف الله عز وجل الناقة إلى نفسه إضافة تشريف؛ لأنها آية من آيات الله عز وجل، ومعجزة من معجزات أنبياء الله عز وجل، ولم يخلقها بالطريقة التي خلق بها سائر النوق والجمال، هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ [الأعراف:73]ولكنهم من كفرهم وإعراضهم وتكذيبهم أرادوا أن يقتلوا هذه الناقة، إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا [الشمس:12-15].

فعقروا هذه الناقة مبالغة في كفرهم، ومبالغة في تكذيبهم.

موقف المؤمنين والكافرين من صالح عليه السلام ودعوته

يبين الله عز وجل كيف كان كفر الكافرين، وكيف كان إيمان المؤمنين، فيقول عز وجل: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف:75-76].

فكان جواب أهل الإيمان في غاية الإيمان، وكان جواب أهل الكفر في غاية الكفر، قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ [الأعراف:75] فهم يسألونهم: أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه؟ كان بالإمكان أن يقولوا: نعم ويقتصروا على ذلك، وإنما كان جواب أهل الإيمان أنهم مؤمنون به، فهم أرادوا أن يكون الجواب في غاية الإيمان، فقالوا: إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ [الأعراف:75] هذا تقرير للإيمان، وبيان لعقيدتهم الواضحة الصريحة، وإثبات له بالرسالة.

أما الكفار فقال عنهم: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف:76].

ما قالوا: إنا بما أرسل به كما قال أهل الإيمان، ولكن قالوا: (إنا بما آمنتم به كافرون) حتى لا يثبتوا له رسالة، ولو في معرض الكلام، فلهم أن يقولوا ذلك على سبيل التهكم، كما قال فرعون: قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27].

ولكن المقام ليس هنا مقام استهزاء، ولكنه مقام تقرير، وبيان عقيدة، فكان جواب أهل الإيمان في غاية الإيمان، وكان جواب أهل الكفر في غاية الكفر.

وبعد أن عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم أخذتهم الرجفة، وأهلكهم الله عز وجل.

وصالح عليه السلام بعد أن عقروا الناقة أمهلهم ثلاثة أيام يتمتعون فيها، وبعدها يأتيهم عذاب الله عز وجل، فجاءهم العذاب بعد ثلاثة أيام.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

مكر قوم صالح عليه السلام وعاقبة ذلك

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

قال تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:48-53].

لقد أنذرهم نبيهم صالح عذاب الله عز وجل فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود:65]، وكان هناك تسعة نفر من هؤلاء الكفرة الفجرة هموا بأمر هو أفظع من قتل الناقة، وأكبر جرماً من قتل الناقة، لقد هموا أن يقتلوا نبي الله صالحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كأنهم ظنوا بأن الله عز وجل غافل، كما يفعل أعداء الإسلام في كل زمان ومكان، فهم يمكرون بالدعاة وبأولياء الله عز وجل، ويكيدون لدين الله عز وجل ويحاربونه، وكأنه ليس في الكون إله، وكأن الله عز وجل لا يرى مكرهم، وكأنه لا يحيط بهم وغير مطلع على ما في قلوبهم، فهذا من غبائهم وكفرهم وإعراضهم.

فقوله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [النمل:48].

معلوم أن الكفرة كلهم مفسدون، ولكن بعض الشر أهون من بعض، فهؤلاء التسعة كانوا أعتى القوم، وأكثر القوم كفراً وفساداً، قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ [النمل:49] أي: حلفوا بالله عز وجل وتعاهدوا فيما بينهم، لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النمل:49] والتبييت هو القتل ليلاً، فقالوا: قبل أن ينزل بنا العذاب بعد ثلاثة أيام نقتل صالحاً خلال هذه الأيام فيموت قبلنا، فنكون نحن وهو في الهلاك سواء، فأردوا أن يقتلوا نبي الله صالحاً، وتعاهدوا وتعاقدوا وحلفوا على ذلك.

لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49] كما يفعل أعداء الإسلام المعروفون بالنفاق، فهم يكيدون للإسلام، ويحاربون الالتزام بدين الله عز وجل، فهم يحاربون الإسلام وأهله باسم التطرف، ويملي لهم الشيطان ويسوغ لهم الحجج على أنهم ليسوا أعداء للإسلام، وإنما هم يعملون في مصلحة الإسلام.

وقال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50].

فهم يمكرون على الأرض وهم من الأرض خلقوا، والله عز وجل يمكر بهم من فوق سبع سماوات، وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ [النمل:48-51].

فهؤلاء المفسدون بينما هم جالسون في أصل الجبل يتهيئون ويتحينون الفرصة ليفتكوا بصالح عليه السلام وأهل بيته، إذ ألقى الله عز وجل عليهم صخرة من فوق الجبل فأهلكتهم، فكانوا سلفاً ومثلاً لإخوانهم الكافرين، فماتوا قبل قومهم الذين أنذرهم نبيهم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب.

وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [النمل:50] أفما يخشى الذين يمكرون بدين الله ويمكرون بأولياء الله أما يخشون مكر الله عز وجل، (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]).

فكان عاقبة مكر قوم صالح كما أخبر الله عز وجل عنهم: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:51-53].

نهاية كل قصة من قصص أهل الإيمان، وكل قصة من قصص أنبياء الرحمن لابد أن تكون النجاة للمتقين، فلهم العاقبة في الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين.

طعن البعض في التنزيل وقال: بأن الآيات تختلف من مكان إلى مكان، فأحياناً يذكر الله عز وجل أنه أهلك ثمود بالرجفة، وأحياناً بالصيحة، وأحياناً بالزلزلة، فقيل: إنه أهلكم بصيحة من جبريل عليه السلام، أي: صاح فيهم صيحة، فقطع قلوبهم في أجوافهم، وقيل: هي زلزلة في الأرض، والزلزلة يصحبها صوت شديد.

وفي بعض الآيات أهلكوا بالطاغية: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة:5-6].

والطاغية: هي كل شيء طغى وجاوز حده.

فنقول: إنه أهلكهم بزلزلة طاغية في صوتها وفي إهلاكها، أي: أهلكوا بزلزلة معها صيحة، وهذه الصيحة أو الصوت كان طاغياً متجاوزاً الحد، فهكذا أهلك الله عز وجل هؤلاء الكافرين المكذبين.

ومن سنن الله عز وجل أنه ينوع العذاب للمكذبين، فأهلك قوم نوح المكذبين بالغرق، وأهلك عاداً قوم هود بريح صرصر عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، وأهلك الله عز وجل ثمود بالصيحة، وقيل بالزلزلة، وأهلك الله عز وجل قوم شعيب بالسحاب الممتلئ ناراً، فالله عز وجل أرسل لهم سحاباً فقالوا: هذا عارض ممطرنا، فخرجوا يستبشرون أن ينزل عليهم ماءً وغيثاً فأمطرهم ناراً تلظى.

فإذاً: من سنن الله عز وجل تنويع العذاب، فهو سبحانه يعذب كل قوم بما يناسب عتوهم وتجبرهم.

فهذه القصة عباد الله قصة نبي الله صالح مع قومه ثمود هي عبرة وعظة، وكما قلنا إن دعوة الأنبياء واحدة: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].










رد مع اقتباس
قديم 2015-07-30, 12:07   رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
Mirengui
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك










رد مع اقتباس
قديم 2015-07-30, 12:12   رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Mirengui مشاهدة المشاركة
بارك الله فيك
وفيك بارك الله









رد مع اقتباس
قديم 2015-07-31, 14:40   رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي


قصة سيدنا ابراهيم
روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى من طريق عبد الرزاق بن همام الصنعاني، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي تميمة السختياني وكثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل: أم إسماعيل -هاجر - اتخذت منطقاً وذلك لتعفيِّ أثرها على سارة، ثم هاجر بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فنزل بها قريباً من رابية -وهو مكان البيت اليوم، وكانت هذا الرابية مرتفعة عن الأرض- فلما أنزلها عليه السلام هناك، كان معها جراب من تمر وسقاء من ماء، ومعها ابنها إسماعيل، فلما أنزلهما مكان البيت أو قريباً منه، ولى وتركهما، فالتفتت إليه هاجر -وهي مولاة- وقالت: لمن تتركنا يا إبراهيم؟ فلم يجبها بشيء، ولم يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا، فلما اختفى وراء الجبل، التفت ودعا الله عز وجل ورفع يديه وقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]. ثم تولى عنهم وتركهم، فأتت المرأة الصالحة تربي ابنها، فنفذ الماء، ونفذ الطعام من التمر، فأتت ترتفع لترى في جبال مكة أين تجد الماء.

قال: ابن عباس: لكأني بها تسعى بين الجبلين -أي: بين الصفا والمروة - سبعة أشواط، وتقول وهي تكلم نفسها: صه، - تسكت نفسها لترى هل تسمع صوتاً، أو ترى ساكناً أو حياً- ولم يكن في مكة من البشر أحد، فطافت سبعة أشواط -فهو طوافنا اليوم- ثم عادت إلى مكانها، وأخذ ابنها يتلوى على الأرض من شدة العطش، فنزل ملك من السماء -قيل: جبريل وقيل غيره، وليس في رواية البخاري أنه جبريل- فبحث بجناحه فخرج الماء، فأخذت تعدل الماء وتقيم التراب حوله وتقول: زمزم -أي: تزمزم الماء- وهذه من عادة قبائلهم إذا اشتغلوا في أمر، كأنها تنشد، أو كأنها تفزع، أو تسلي نفسها وتزمزم.

قال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لصارت عيناً معيناً) أي: لو تركتها ولم تجمع عليها التراب، ولم تعدلها لصارت عيناً معيناً في مكة.. ثم نزل هناك ركب من جرهم، وجرهم قبيلة انتقلت إلى مكة، وهي من القبائل العربية التي سوف يتزوج منهم إسماعيل كما سيأتي.. نزلوا في طرف مكة، فرأوا غراباً عائفاً -وقيل: حدأة- وإذا هو فوق ماء زمزم، فقال هؤلاء الركب: إن الطائر معه الماء، فاقتربوا فلما رأوا هاجر قالوا: ننزل حول الماء؟ قالت: لا. فاصطلحوا معها على أن ينزلوا معها على حسن الجوار، فنزلوا، فأعطوها الطعام، وأعطتهم الماء، فلما شب إسماعيل عليه السلام تزوج منهم، وكان شاباً ظريفاً عاقلاً آتاه الله الحكم صبياً، فأصبح أرحامه أصهاره من جرهم.

فلما شب فيهم -عليه السلام- أتاه أبوه بعد حين يزوره.. سيد من سادات الأنبياء، وسيد الكرماء والشجعان عليه السلام.. أتى يزورهم فوجد امرأة إسماعيل عليه السلام وهي في البيت، فطرق عليها وهو شيخ حسن الهيئة، عليه هندام الوقار والسكينة، وعليه علامات التوحيد، فقال: أين زوجك؟ -وهو ابنه لكنها لم تعرفه- قالت: خرج يطلب لنا صيداً، قال: كيف أنتم؟ قالت: في حالة ضيقة، وفي شر حال، فقال: إذا أتى زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه أن يغير عتبة بابه. فأتى إسماعيل في المساء فسألها: هل أتاكم من أحد؟ قالت: أتانا شيخ حسن الهيئة، قال: هل سألكم عن شيء؟ قالت: نعم. سألنا عن هيئتنا وطعامنا، فأخبرته أنا بشر حال، قال: هل أمركِ بشيء؟ قالت: نعم. هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تغير عتبة بابك. قال: ذلك أبي، والحقي بأهلك.

ثم تزوج زوجة أخرى صالحة، وأتاهم أبوه يزورهم مرة ثانية، فدخل على امرأته وقال: أين زوجك؟ قالت: خرج يطلب لنا صيداً -وكان يطلب الصيد في جهة نعمان، والعرب كانت تصيد من نعمان، وهو من أجمل الأودية عند العرب، وقد صوروه في الشعر حتى كأنه قطعة من حديقة، أو كأنه فيحاء في بستان، وإذا أتيت إلى نعمان لم تجد فيه إلا الشوك، ولذلك قيل:

ألا أيها الركب اليمانون عرجوا علينا فقد أضحى هوانا يمانيا
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا وخب إلينا بطن نعمان واديا
وهو الوادي الذي فوق عرفات وفيه عين زَبِيْدَة.

فقالت: خرج يطلب لنا صيداً، قال: كيف حالكم؟ قالت: في أحسن حال والحمد لله، قال: إذا أتى فاقرئي عليه السلام، ومريه أن يثبت عتبة بابه؛ فأتى فسألها فأخبرته وقالت: هو يقرئك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، وهو يأمرني أن أمسككِ.

زواج إبراهيم عليه السلام من سارة
هذا الحديث من رواية ابن عباس، ولفظه قريب من هذا أو نحوه... وفي هذا الحديث مسائل، تعرض لها أهل التفسير والحديث والفقه وأهل السير والتاريخ.

أول مسألة: زواج إبراهيم عليه السلام من سارة، وقصة سارة مع الملك.. وفي ذلك فائدة: فإن القرآن يأتي بالقواعد والحقائق والأصول، ولكنه لا يتعرض للخلافيات التي لا فائدة منها، ولذلك لما ذكر قصة أهل الكهف لم يخبرنا بلون كلب أهل الكهف، ولا أين ناموا، ولا جهة الكهف، ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:22]. أي: لا تدخل نفسك إلا في مسائل علمية، وقواعد شرعية تستفيد منها، أما الجدل البارد الذي لا ينبني عليه حكم فليس هناك طائل من إيراده.

فالقرآن يأتينا بقصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في خطوط عريضة، وفي جمل باهرة.. منها بناء البيت، ومنها الدعوة إلى التوحيد، ومنها جدل إبراهيم الحق مع الملك.. وسوف يأتي.

ومنها: قصة البعث، وبعث الله عز وجل للطيور بين يدي إبراهيم عليه السلام... إلى غير ذلك من القصص.

أما سارة فهي امرأة حرة، تزوجها إبراهيم عليه السلام، وعلمها التوحيد، وأرضعها لبن (لا إله إلا الله) منذ الصغر، وكانت من أجمل نساء زمانها، قال ابن كثير: أجمل النساء في العالمين سارة ومريم، وقيل: عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها.

هجرة إبراهيم عليه السلام من حران
ثم هاجر إبراهيم من حران.. وحران هذه هي بلد شيخ الإسلام ابن تيمية.

بنفسي تلك الدار ما أحسن الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا
وهي حران قريبة من دمشق في بلاد الشام، هاجر منها ابن تيمية إلى دمشق بعد أن ترعرع وشب فيها..

هاجر إبراهيم عليه السلام بـسارة، فمر بملك من ملوك الدنيا، جبار عنيد، كان كلما سمع بفتاة جميلة اغتصبها من أهلها.. فلما وصل إبراهيم بزوجته، سمع به الملك فأرسل جنوده فأخذوا هذه المرأة الصالحة العابدة القوامة الزاهدة.. ولكن من يعتمد ويتوكل ويحفظ الله يحفظه سبحانه وتعالى.

التجأ إبراهيم إلى الله عز وجل ودعا الله أن يحفظ عليه زوجته، فأخذوها من بين يديه، وكان قد قال لها: إذا قدمت على الملك وسألك عن نسبك فقولي: أنا أخت إبراهيم. وصدق؛ فإنها أخته في العقيدة والدين، وأخته في النسب الأول، فكلهم من آدم وحواء.

وصلت إلى هذا الجبار، ودخلت عليه، واقترب منها وهي متوضئة طاهرة، فدعت الله عليه؛ فجفت يده ورجله، فقال لها: ادعي الله لي أن يطلق يدي ورجلي، فدعت له فانطلق، ثم أتى يقترب منها، فدعت عليه، فجفت يده ورجله، فاقترب ثالثة، فدعت عليه بعد أن أطلق، فجفت يده ورجله، فقال: أتيتموني بشيطانة! اذهبوا بها.. فخرجت من عنده وأخدمها هاجر التي هي أم إسماعيل، جعلها مولاة وهدية لها، فقال لها إبراهيم: كيف كان الأمر؟ قالت: منع الله الفاجر وأخدم هاجر. وقد قال بعض أرباب التفسير: إن الله سبحانه وتعالى أطلع إبراهيم عليه السلام بمسيرة سارة، إلى أن وصلت إلى الملك، وبموقفها مع الملك، حتى عادت ليطمئن قلبه ويسكن، فقال لها إبراهيم لما عادت: والله لقد رأيتك منذ ذهبت إلى الآن.

هجرة إبراهيم إلى مكة
فلما أخذ هاجر أتت بإسماعيل، فاغتاضت منها سارة، والغيرة مركوزة في طبيعة النساء، وكأن الغيرة ولدت مع النساء منذ أن خلق الله المرأة إلى اليوم.. ولما أتت بإسماعيل لم يكن عند سارة ولد ولا بنت، فاغتاضت منها وغارت، فأخذ إبراهيم عليه السلام هاجر إلى مكة.

وسبحان الله! كيف اختار الله مكة من بين بلاد الأرض، لتكون مهبط الوحي، وليكون منها الإشعاع الرباني، والرسالة الخالدة، وليتخرج منا أساتذة التوحيد الذين رفعوا علم (لا إله إلا الله) فهي بحق جبال تصهر الرجال بحرارتها وبشظف عيشها، فتخرجهم رجالاً يقودون عجلة التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فـمكة مسقط رأس رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وهي التي ولد فيها أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخالد، والصنف المختار من أصحاب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

وصل إبراهيم عليه السلام إلى مكة، وقبل أن يأمره الله بالبناء اختار ذلك الموقع، قال بعض أهل العلم: لأنها وسط الدنيا، وقد أثبت العلم الحديث فيما سمعنا وقرأنا أن من صعد على سطح القمر رأوا أن وسط الدنيا هو الجزيرة العربية أو ما يقاربها، ووسطها هي الكعبة المشرفة، ولذلك سماها الله تعالى أم القرى، فهي تثبت الإشعاع في كل مدينة، ومنها لا بد أن تبعث الرسالة ويهبط الوحي على رسول الهداية صلى الله عليه وسلم.

ولما وصل إبراهيم إلى هناك، وضع لهم جراباً من تمر وسقاءً من ماء وتولى إلى الله عز وجل، واختفى وراء الجبل، وابتهل إلى الله يقول في دعائه الحبيب إلى القلوب: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37] وصدق عليه السلام، فإن مكة من أقحل بلاد الأرض، حتى يقول أحد المفكرين: يا سبحان الله! عناية الله، ونور الله، وهدايته تأتي من السماء بوحي خالد على رسول عظيم شريف، في بلاد ليس فيها حدائق ولا قصور ولا أنهار ولا دور، ولا فيها معطيات الحياة، ليس فيها إلا شجر من الشوك طلعه كأنه رءوس الشياطين، وحجارتها تتلظى بالنار وتتوقد، فبعثه الله عز وجل ليقول: إن الآخرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

لم يبعثه في بغداد دار السلام، ولما وجدت بعد، وسميت بدار السلام؛ لأنها ذات حدائق غناء، ولم يبعثه في دمشق، ولم يكن هناك دمشق التي فيها البساتين الفيحاء ونهر بردا.

ولم يبعثه كذلك في أنطاكيا، ذات القصور الشاهقة، والحدائق الوارفة.. ولم يبعثه في بلاد أخرى ذكرت في التاريخ بجمالها وروعتها، بل بعثه هنا، ليقول: إن دعوتك للآخرة لا للدنيا.

فلما أتى عليه السلام قال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37].

وكأنه علم أنه سوف يقوم هناك بيت محرم.. رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].

وقد رأينا ورأى التاريخ وسمعت الدنيا الملايين المملينة في كل حج تهوي بأفئدتها، ملوكاً ومملوكين، علماء وعامة، رؤساء ومرءوسين، أغنياء وفقراء.. يهوون بأفئدتهم إلى البيت العتيق.

فلما ولى إبراهيم عليه السلام، وبقي الحال على ماكان، تزوج إسماعيل -كما مر- من جرهم، وجرهم هؤلاء ذكرهم زهير بن أبي سلمى يوم يقول:

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
يميناً لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
يمدح هرم بن سنان وقيس بن زهير لما تداركا عبساً وذبيان.

أمر الله لإبراهيم أن يذبح إسماعيل
ولما درج وبلغ إسماعيل زاره أبوه، وكانت هذه هي أول زيارة يزوره فيها، وذلك لما درج وبلغ السعي، وأصبح حبيباً إليه عليه السلام، وتخلل مسلك الروح منه، وكان أحب الناس إليه..

قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً
فأراد الله أن يخلص قلب إبراهيم من هذا الحب لهذا الابن له سبحانه وتعالى، لأنه خليل الرحمن.. فلما وصل إلى مكة رأى فيما يرى النائم أن قائلاً يقول: اذبح ابنك! فتعوذ بالله من الشيطان، وتوضأ وصلى، ثم رأى الرؤيا مرة ثانية وثالثة، وعلم أنها رؤيا حق.. ولذلك قال الإمام البخاري: باب رؤيا الأنبياء حق، وقال إبراهيم: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102].

وخرج في الصباح فعرض الرؤيا على الابن الصالح.. وانظر إلى التربية الصالحة والهدي المستقيم، فلما عرض عليه الرؤيا لم يقل له: إني أفارقك، أو إني أتركك برهة من الزمن، لا. بل قال: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] ولم يقل آمر غيري بذبحك، لكن أنا أذبحك.. ويا لها من مصيبة! ويا لها من مسألة شاقة على الأنفس! ومثل لنفسك أن تؤمر أنت أن تذبح بيدك وسكينك أحسن أبنائك إليك.. ولو ابتليت ببلاء غير هذا لتحملت؛ كأن يسقط ابنك من على السطح، أو يزلق فيموت، أو يذهب أدراج الرياح، أما أن تؤمر أنت فتأخذ سكيناً وتأخذ ابنك فتبطحه على الأرض، وتجلس على صدره فتذبحه.. إنه لبلاء عظيم! بل من أعظم الابتلاء في تاريخ البشرية، لكن هكذا يثبت العظماء.

ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
وأتى في الصباح واستدعى ابنه: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102].

فلم يشاوره، ولم يقل له: ادرس الموضوع واعطني النتيجة.. ولم يقل انظر: إما أن تكون طائعاً وإما عاصياً، فأنا أقوى منك، والله أمرني، وأنت طفل صغير، سأذبحك سواء رضيت أم لم ترضَ، لا. بل قال له: ما هو ردك؟ فقال في هدوء وفي حياء وفي صبر، ويا لها من تربية! قال: يا أبتِ افعل ما تؤمر. قال أهل التفسير: خاطبه بالأبوة في مقام الحنان، حتى وهو يعتدي على روحه بأمر الله عز وجل، قال: يا أبتي، من الحنان والشفقة وحق الأبوة.. وما قال: افعل ما تأمر أنت، وإنما تؤمر من الله، لأنه صدق بوحي من الله.. افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] قالوا: ما أحسن هذا الاعتراض! فلم يقل: ستجدني من الصابرين، وإنما قال: إن شاء الله، فصبري بالله، واتكالي على الله، وحفظي على الله فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] الضمير يعود إلى إبراهيم وإسماعيل، فقد أسلم إبراهيم نفسه إلى الواحد الأحد، فإنه قد أمر بمشقة، ووده لو أنه هو المقتول، وأنه ما رأى هذا المنظر، وأسلم إسماعيل نفسه إلى الله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] قال أهل التفسير: ما استطاع أن يذبحه على ظهره، فجعله على وجهه ليذبحه من قفاه؛ لأنه يخشى أن ترسل العينين شعاعاً من المحبة إليه، وأن يرى وجه ابنه فتدركه الرأفة والرحمة فيعصي أمر الله، ولكنه تلَّه على وجهه ساجداً لله عز وجل، لئلا يرى وجهه أبداً حتى يذبحه.. إن هذا بلاء عظيم، ولا تستطيعه النفوس إلا من أسلم وجهه لله، وعلم أن ابتلاء الله عز وجل معه الخلود والبقاء والحياة.. فأتى بالسكين وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] قال أهل العلم: لم يقل: أجلسه أو أقعده، وإنما تلَّه بقوة، لُيري الله أنه ينفذ الأمر بحماس وقوة.

وإبراهيم صاحب مواقف خالدة في القرآن، فقد قال الله تعالى حاكياً عنه: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26].. فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93].. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] كلها مواقف تشهد له بالقوة، لأن المسلم ينبغي عليه أن يأخذ أحكام الله وتنفيذ أوامر الله بالقوة، أما البرود والكسل والخنوع فليس في دين الله، ولذلك يقول الله ليحيى عليه السلام: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] خذه بقوة، ولا تأخذه ببرودة.. ويقول الله عن المنافقين: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ [النساء:142].

ولذلك باستطاعتك أن تميز بين المؤمن والمنافق بمقامهم في مقامات الولاية والعبودية، فالمؤمن يأتي إلى الصلاة بحرارة، ويقرأ القرآن بحرارة، ويستمع إلى الخطب والمواعظ وحلق الذكر بحب وشوق وحرارة، والمنافق يأتي ببرودة، سواء صلى مع الجماعة أو لم يصل، وإن فاته فلس واحد من ماله جزع وهلع عليه، ولكن إن فاته دينه وصلاته فلا يهمه ذلك ولا يشعر بأن النفاق قد خرق قلبه..

أما إبراهيم فأسلم وتلَّه للجبين، فلما أخذ السكين ليذبحه أتى لطف الله عز وجل، وأتت رحمته سبحانه وتعالى، فلم تذبح السكين، ومن عادة السكين أنها تذبح، ولكن حكمة الله عز وجل أن يمنعها من الذبح.. والبحر يغرق، ولكن قدرة الله تمنعه أن يغرق موسى عليه السلام.. والنار تحرق -وهذه من سنن الله الكونية- ولكنها لا تحرق إبراهيم عليه السلام.. والسكين تذبح ولكن بقدرة الله جعلها لا تذبح أبداً، فمنعها من عنق إسماعيل لأنه بريء طاهر عفيف.. والاغتيالات تتوجه إلى الناس لتفتك بهم، لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم سلم حصل أكثر من عشر محاولات اغتيال.

عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
قال الله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107] نزل عليه من الجنة، فأخذ السكين وذبح الذبح العظيم وهو الكبش ورد السكين إلى مكانها. ومدحه الله أبد الدهر وأثنى عليه وقال: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات:106]. فهو بلاء خالد، لكن خلَّد الله ذكره يوم أن قال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء:84] فرفع الله ذكره أبد الدهر.

بناء إبراهيم وإسماعيل البيت العتيق
وعاد العودة الثانية، وإذا إسماعيل قد أصبح فتىً قوياً يصارع الرجال، ويستطيع أن يقوم بمهام الرسالة، ويستطيع أن يبني معه، فيوحي الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام، ويقول: يا إبراهيم! ابن هنا بيتاً. فيأتي إبراهيم ليبني بيت الله سبحانه وتعالى الذي من عفر وجهه في تلك العرصات صادقاً رزقه الله الصدق والإخلاص.

ولما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ثورة القرامطة عندما ثاروا في الكعبة، وقتلوا ما يقارب ثلاثين ألف حاج، قتلوهم في الحرم، قال: وقتلوا بعض العلماء، فلما أتوا إلى عالم من العلماء بالسكين ليقتلوه حول الحجر قال:

ترى المحبين صرعى في بيوتهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
ثم سقط قتيلاً، قال ابن كثير: فهنيئاً لك ذلك المضجع، وهنيئاً لك ذلك المرقد، فإنها من أحسن البقاع، شرفها الله وأزال عنا كل رجس.. فمن ذهب لعمرة أو حج فليغتنم تربية روحه في تلك البقاع، وليمرغ وجهه في تلك العرصات، وليدع الله بصدق وهو يطوف ويسعى أن يرزقه الإنابة والهداية، فإنها من أعظم الوقفات في الحياة الدنيا.

فلما أتى إبراهيم عليه السلام، قال: يا إسماعيل! إن الله يأمرني أن أبني البيت، قال: أو أمرك ربك؟ قال: نعم. وهل تعينني على ذلك؟ قال: نعم أعينك عليه. قال ابن عباس: كأني بإبراهيم عليه السلام وقد ارتفع على الجدار وإسماعيل يناوله الحجارة وهو يضعها ويبني. أتدرون ماذا كان هزيجهم؟ وماذا كان نشيدهم الخالد؟ كانوا يقولون: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]. يحسنون ويبنون لوجه الله، ويجاهدون ويدعون، ومع ذلك يقولون: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.. والفاجر يفجر ويعصي ويزني ويكذب ويغتاب، ومع ذلك يقول: ورحمة الله وسعت كل شيء.

فإبراهيم عليه السلام كان يقول: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127] لئلا يكون في العمل رياء.. وأتوا يبنون حتى وصل إلى مكان الحجر الأسود، فأمره الله عز وجل أن يبقي مكانه، فلما انتهى من البناء وقف والتفت إلى الحي القيوم، ودعا الله أن يبارك في هذا البناء، وأتاه جبريل بالحجر الأسود، وهو أبيض كاللبن، كالجوهرة البيضاء، أنزله من الجنة، فسلمه إلى إبراهيم وقال: ضع هذا الحجر في هذا المكان، ليستلمه الناس.

قال ابن عباس: [[والذي نفسي بيده، لقد نزل الحجر أبيض كاللبن، فسودته خطايا بني آدم، حتى أصبح أسود]] وصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أنه قال: {من استلم الحجر الأسود بصدق كان للحجر الأسود لسانان يوم القيامة يشهدان لمن استلمه بصدق في الحياة الدنيا} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

فمن استلم الحجر الأسود أو قبله وهو صادق ومشتاق ومخلص؛ أنطق الله الحجر الأسود يوم القيامة بلسانين ناطقين، يشهد لمن استلمه بحق في الحياة الدنيا.

والحجر الأسود له قصة مسيرة في التاريخ، فإنه اعتدي على عرضه وعلى كرامته في عهد القرامطة، يوم أن وفدوا من الأحساء إلى البيت العتيق، ووفد معهم الفاجر أبو طاهر الجنابي، وأخذ بسيفه على جمله يقتل الحجيج، وهو يقول:

أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا
ثم تقدم أحدهم بدبوس من حديد بيده، فقال: يا معشر المسلمين! يا أيها الحمير! تقولون: إن الله يقول: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97] نحن دخلناه الآن فأين الأمن؟ فقال له بعض العلماء: هذا من باب الأمر لا من باب الخبر. أي: أن الله يأمرنا أن نؤمن البيت، وأنت قد أخفته، فتقدم بخنجر فطعن العالم فقتله، ثم أتى إلى الحجر الأسود فضربه ثلاث ضربات بهذه الدبوس فانفلق منه ثلاث فلق، وهذا هو ما تجدونه فيه من التكسير، لأنه قد وقع عليه ثلاث ضربات، وإلا فإنه كان أملس كالثوب الأملس.. فاجتمع بعض الملوك، فجمعوا بعض المسك والغارية، وخلطوا بعضها ببعض، وألصقوه في الحجر.

وأخذوا الحجر وأركبوه على سبعمائة جمل، كلما مشى جمل أصابه الجرب وأهلكه الله فسقط الحجر من عليه، فيركبونه على جمل آخر، فيموت الجمل الآخر، حتى مات سبعمائة جمل، ووصل إلى الأحساء، وبقي معهم حتى اجتمع سلاطين الدولة الإسلامية ودفعوا مبلغاً هائلاً من الدارهم والدنانير والذهب حتى أعيد الحجر إلى مكانه.. ولله حكمة في ترك هؤلاء الغوغاء يأخذون الحجر، وله حكم في الأحداث التي وقعت في التاريخ، فهو الحكيم: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

بنى إبراهيم عليه السلام البيت، ونزل ووقف عند المقام الذي نحن نصلي فيه اليوم، وفيه يقول الله عز وجل: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125] فوقف هناك، ودعا الله كثيراً، فأمره الله أن ينادي في الناس جميعاً أن يحجوا إلى هذا البيت، وأن يأتوا إليه، فإنه بيت الرحمن جل جلاله، وفيه الهداية والنور.. وفي السماء الدنيا بيت آخر كالكعبة، يطوف به كل يوم -كما في رواية المفسرين- سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه أبد الدهر.. فلما انتهى أمره الله أن ينادي في الناس بالحج، فارتفع على جبل من جبال مكة، فنادى في الناس، قال ابن عباس أو غيره من المفسرين: فسمعه الناس في أصلابهم، فقال: من أراد الله به الخير فليأت إلى البيت، لبيك اللهم لبيك.

قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27-28] يأتوك رجالاً، أي: مترجلين يمشون على أقدمهم وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] على كل بعير ضامر أي: ضعف من شدة السفر.

دخل رجل على ابن سيرين العلامة الكبير، وكان ابن سيرين يعبر الرؤيا، ويئولها، وكان عنده تأييد إلهي في الرؤيا كما يقول الذهبي، ولذلك ذكروا عنه أموراً عجيبة، ولشدة تقواه لله عز وجل وزهده وإخلاصه رزقه الله تعبير الرؤيا.. أتاه رجل فقال: رأيت حمامة أخذت جوهرة في المنام فأخرجتها أصغر مما كانت، ثم أخذتها فأخرجتها مثلها، ثم أخذتها فابتلعتها فأخرجتها أكبر منها، فما تعبيرها؟ وكان ابن سيرين فيه خفة روح ودعابة، مع تقواه واتصاله بالله عز وجل، فكان يضفي على جلاسه وسماره شيئاً من المزاح ومن الدعابة السلمية العفيفة.. فقال: هذا مثلي ومثل الحسن البصري وقتادة بن دعامة السدوسي -وهم كانوا علماء في عهده- أما أنا فأسمع الحديث فآتي به كما هو، فهذا معنى أن الحمامة أتت بالجوهرة كما هي، وأما قتادة فإنه ينقص من الحديث فنقصت الجوهرة، وأما الحسن البصري فإنه يدبج ويوشح الحديث فيأتي أكثر مما هو.

وبينما هو جالس أتاه رجل عليه ملامح التقوى والزهد والعبادة، فقال: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فنظر إلى السائل قليلاً ثم قال: أنت تحج هذه العام ويتقبل الله منك. فقال الجلاس: ولماذا؟ قال: لأن الله يقول: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] وبينما هم جلوس إذ دخل فاجر من الفجار -نسأل الله العافية- فقال: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فقال: أنت تسرق وتقطع يدك. قال: ولماذا؟ قال: يقول الله عز وجل: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70].

قال الراوي: فو الله ما مرت فترة إلا وحج هذا، وسرق هذا ورأينا يده على باب الإمارة قد قطعت.

ومن أراد أن يتثبت من هذه القصص فليرجع إلى سير أعلام النبلاء، في ترجمة ابن سيرين، وحلية الأولياء لـأبي نعيم، والبداية والنهاية لـابن كثير، وغيرها من الكتب.

الشاهد: أن إبراهيم عليه السلام نادى فاستجاب له من استجاب، وأما إسماعيل فأقام هناك وتزوج من جرهم، فهو جد رسولنا عليه الصلاة والسلام، وفي حديث ضعيف في سنده كلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {أنا ابن الذبيحين} فالذبيح الأول إسماعيل، الذي عرضه إبراهيم عليه السلام للذبح، والذبيح الآخر هو عبد الله أبو الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة؛ فإن عبد المطلب لما جفت بئر زمزم نذر نذراً أن إذا أخرج الله الماء أن يذبح أحد أبنائه، وكانوا عشرة، منهم: عبد الله والحارث، وحمزة، وأبو طالب، والعباس، وأبو لهب... فلما خرج الماء أقرع بين العشرة أيهم يخرج نصيبه ليتقرب بذبحه إلى الله -وهذا في الجاهلية- فخرج السهم على عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففداه بعشر من النوق، فأتى السهم الآخر، فوقع عليه، ففداه بعشرين، حتى وصلت إلى مائة، ففداه بها.. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم ابن الذبيحين.

وهل الذبيح الأول إسماعيل أم إسحاق؟ فيه خلاف، لكن الصحيح أنه: إسماعيل، وعليه كلام ابن كثير وابن القيم والذهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية.

ولذلك يقول كعب الأحبار لأحد الخلفاء: [[والله الذي لا إله إلا هو، لقد علم اليهود أن الذبيح إسماعيل، لكنهم حسدوكم فقالوا: إنه إسحاق..]] وذلك لأنه شرف لنا أن يكون جدنا إسماعيل، فهو جد الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عدناني لا قحطاني، والعرب قحطان وعدنان، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث من عدنان وأنصاره من قحطان، وهم الأوس والخزرج رضي الله عنهم.










رد مع اقتباس
قديم 2015-07-31, 14:42   رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

مواقف إبراهيم عليه السلام في القرآن ......................2
المسألة الثانية: مواقف إبراهيم عليه السلام في القرآن.




موقف إبراهيم مع النمرود
أما مواقف إبراهيم في القرآن فهي كثيرة، وسأذكر لكم هذه المواقف لنتعلم عقيدة أهل السنة والجماعة من هذه المواقف، يقول بعض العلماء: حق على من أراد أن يتعلم العقيدة أن يتعلمها من مواقف الأنبياء في القرآن مع قومهم.

يقول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]. هذا النمرود بن كنعان الذي ملك الدنيا، يقول ابن عباس رضي الله عنهما، وقد ذكره ابن كثير في سيرة إبراهيم عليه السلام، قال: ملك الدنيا أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمن الأول فهو سليمان عليه السلام، قال الله عنه: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] الآخر: ذو القرنين عليه السلام.

وأما الكافران: فـالنمرود بن كنعان، وبختنصر، وقد أحسن الأخير؛ لأنه أباد اليهود من الأرض أول مرة، وهتلر أبادهم المرة الثانية، وينبغي لهم أن يبادوا مرة ثالثة؛ لأن الوتر مطلوب في الإسلام.. فـبختنصر قطع دابرهم وتتبعهم حتى قتلهم قتل عاد وثمود، وأتى هتلر -سود الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه- فأدخلهم وهم أحياء في الأفران، ولذلك إذا سمعوا بالنازية يغشى عليهم من الخوف والهلع.. وبقي لهم ثالث موحد يدوسهم على التراب أحفاد القردة الخنازير، وهذا قريب إن شاء الله.

فأتى إبراهيم عليه السلام ودخل على هذا الملك.. والله عز وجل أخبر عن الأنبياء أنهم يدخلون على السلاطين، وأنهم يتحدثون مع الطغاة، فقد أخبرنا أن إبراهيم دخل على النمرود، وأخبرنا أن موسى دخل على فرعون وسنقف مع القصتين لنرى ما هو الاختلاف بين الحوار والجدل، وما هي المناظرة التي وقعت، وما هي البينونة بين هذه القصة وبين تلك.. إبراهيم عليه السلام دخل على هذا الفاجر، فدعاه إلى الله عز وجل، قال الله عز وجل عنه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258] أي: أعطاه الله الملك، ثم حاج إبراهيم في ربه سبحانه وتعالى! كأن تقول لابنك -ولله المثل الأعلى-: أعطيتك، وشريت لك سيارة، ثم ما كان منك إلا أن تترك الفرائض وتترك مجالس الخير، وتذهب تعصي الله عز وجل وتضيع وقتك!

إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258] دخل إبراهيم وأراد أن يفحمه، فقال الملك: ما هي علامات ربك؟ قال: يحيي ويميت.. ولذلك موسى لم يقل هذا لفرعون؛ لأن فرعون درس في هذه المدرسة، فلو قال له ذلك لقال: أنا أحيي وأميت. فموسى عليه السلام تجنب هذا، لأنه ضيع الوقت مع فرعون.. فقال النمرود: أنا أحيي وأميت. قال: كيف تحيي وتميت؟ قال: تعالوا بأسيرين، فأخرجوا محبوسين من السجن، فقال: هذا سوف أحييه وأعتقه، فقد عفوت عنك، وهذا سوف أميته، فضربه بالسيف.. وهذا ليس في اللغة ولا في العقل ولا في النقل أنه إحياء وإماتة، لكنه فاجر مجاهر بالفجور، فما موقف إبراهيم عليه السلام؟ هل من الحكمة أن يقول: لا والله ليس هذا بإحياء وإماتة، ويضيع الوقت معه، ثم يحلف ذلك أن هذا إحياء وإماتة، ثم يقول: قدم شاهدين وأعطني بينة؟ لا. بل قال له: مادام أنك تحيي وتميت فما شاء الله تبارك الله عليك: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] ولذلك يسمى هذا في الجدل (الإفحام) ومن أحسن من كتب فيه: الدكتور زاهر بن عوض الألمعي، في كتاب: الجدل في القرآن.. قال: مادام أن عندك هذه الإمكانيات والقدرات التي ما اكتشفناها إلا اليوم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] ولو كان يستطيع أن يواصل في هذه القضية لواصل، لكنه ما استطاع أن يرد: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].

مقارنة موقف إبراهيم مع النمرود وموقف موسى مع فرعون
هذه هي المناظرة التي نجح فيها إبراهيم عليه السلام، أما موسى عليه السلام فأتى من نوع آخر، دخل على فرعون، ولما أصبح على العتبات، ماذا أوصاه الله عز وجل؟ هل قال له: ارفع صوتك، أو ثبت جنانك، أو هيئ خاطرك؟ لا.. إنما قال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] ما ألطف الله بعباده! وما أحسن دعوة الرسل وما أحسن أسلوبهم في القرآن! فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]. من يدري؟ لعل الله أن يفتح عليه، ولذلك على الداعية ألا ييأس من الناس، فلو رأيت الإنسان يشرب الخمر ويزني ويسرق سبعين مرة، فلا تيأس منه، لأن مفاتيح القلوب بيد الله، قال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] قيل: يتذكر النعم، أو يخشى من العذاب.

فدخل موسى عليه السلام، فلما أصبح في الإيوان، ورأى الوزراء والأبهة والأمراء والسيوف والدولة والملك؛ خاف، قال الله: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45].

يخاطب ربه مع أخيه هارون، ويقولان: يا رب نخاف من هذا الفاجر أن يفرط، أي: يستعجل علينا، ولا يتركنا نُسلم عليه، ويمكن أن يحبسنا أو يضربنا ضرباً مبرحاً أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45]: يتجاوز في العقوبة، فإذا كان استحقاقنا خمسين جلدة، يجلد كل واحد منا مائة جلدة، فيقول سبحانه وتعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] أي: أنا معكم فلا تخافا، إنما تكلم والله معك.. فدخل عليه، وهو رجل شاب، وكان قد قتل واحداً منهم، ثم ذهب يرعى الغنم، وإذا به يأتي بإزار من صوف، ومعه عصا كان يرعى ويهش بها على الغنم، أتى من الصحراء ويدخل على هذا الطاغية، الذي ما يرى الشمس إلا من السنة إلى السنة من الرفاهية والكبر، فيأتي وإذا هو منتفش كالطاوس على كرسيه.

يقول الحسن البصري: قاتل الله فرعون! كان طياشاً -سفيهاً- لأن العاقل ولو كان كافراً فإنه يترك الإنسان المتحدث الوافد عليه حتى يتحدث، ولذلك ملوك العرب كانوا يتركون الوافد حتى يلقي ما عنده، ويشرح غرضه، ويلقي رسالته.. أما هذا فلما رأى موسى وهارون جلس وقال: من ربكما يا موسى؟ كان الواجب أن يتركهم حتى يتكلموا، لكنه قاطعهم فقال: من ربكما يا موسى؟ قال الزمخشري: فلله در جواب موسى من جواب. لم يقل: ربي الذي يحيي ويميت؛ لأنه سوف يضيع عليه الوقت كما ضيعه النمرود بن كنعان، وموسى عليه السلام قد درس رسالة إبراهيم، وعرف مجريات حياته ودقائقها، فإن الله يعلم كل رسول برسالة الآخر، فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] قال الزمخشري: لله درك من مجيب! ولله در جوابك ما أحسنه! فإن هذا هو الإفحام.

ذاك يدعي الألوهية، وعنده نهر صغير فقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] ولم يقل: ربنا سميع وبصير... لأن أهل السنة والجماعة يقرون بصفات الله عز وجل، ويقرون كذلك بأن للمخلوق صفات، فهم يقولون: الله عالم، له علم يليق بجلاله، والإنسان عالم له علم يليق به، ويقولون: الله حليم، له حلم يليق بجلاله، والإنسان قد يكون حليماً له حلم يليق به... فلو أتى موسى عليه السلام، لكان ذلك مدخل لفرعون إلى قياس الاشتراك، فلو قال: ربي سميع، لقال فرعون: وأنا سميع، والناس سوف يصدقونه، ولو قال: ربي عليم، لقال فرعون: وأنا عليم، ولو قال: ربي حي، لقال فرعون وأنا حي... لكنه أتى بصفتين ليست في فرعون -لأنه يدعي الألوهية-فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] فعرف الكذاب أنه لا يعطي كل شيء خلقه ثم يهديه. وما فائدة قوله: ثُمَّ هَدَى [طه:50]؟ قالوا: هدى كل شيء إلى خلقه. يقول سبحانه وتعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3] ولما قرأ سيد قطب هذه الآية سال قلمه في سورة الأعلى فنسي نفسه، فأتى بصفحات في هداية الله للحيوانات، وأتى بأعاجيب يحسن بنا أن نعود إلى الظلال لنقرأ هذه القصص وهذه الأعاجيب، يقول: من هدى الأسماك حتى تهاجر من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي في وقت البيض، فتبيض هناك لأن ذلك، المحيط يتجمد، فإذا فقست بيضها هاجرت هذه المواليد والزواحف لتعود إلى أمهاتها! ومن هدى الجراد أن يأتي في موسم الصيف، فيفر من بلد إلى بلد؟ ومن هدى النحلة حتى يقول كريسي موريسون، ينقل عنه سيد قطب يقول: لعل راداراً يوحي إلى هذه النحلة بمكانها، كيف تهاجر وتترك خليتها ثم تقطع آلاف الأميال وتعود إلى الخلية! قال سيد قطب: نعم. إن الله عز وجل يقول: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً [النحل:68-69].

الشاهد: أن موسى عليه السلام دمغه، فلما اندمغ احتار، ثم بعدها: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى [طه:51] يقول: إن كان الله عز وجل سوف يبعث الناس يوم القيامة، فأين تذهب القرون الأولى عندما تموت ولا تعود؟ فبإمكان موسى أن يقول له: ما دخلك يا حقير في هذه المسائل، لكنه تأدب في الخطاب؛ لأن الله أوصاه: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]

ولكن: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] ولله دره من جواب! فإنه لم يقل: لا يضل وسكت، لأنه لو قال: يضل وسكت؛ لقال الناس: إذاً ينسى، ولم يقل: لا ينسى وسكت؛ لأنه لو قال: لا ينسى وسكت، لقالوا: إذاً يضل، فنفى عنه الأمرين، نفى عن نفسه أن إذ وضع شيئاً في مكان فيضل عليه مكانها، أو ينسى أين وضعها.. بل هي في سجلات محفوظة عنده سبحانه وتعالى.

إبراهيم عليه السلام ومسألة إحياء الموتى
وهذا موقف ثان في القرآن يتحدث الله عنه باستفاضة..ففي آخر سورة البقرة يعرض الله عز وجل مشهد البعث والنشور للناس.. ويحسن بالداعية أن يستلهم هذه المواقف لعرض الدعوة على الناس؛ لأن مسألة البعث والنشور من أخطر المسائل في حياة الإسلام، فهما قضيتان: قضية توحيد الله عز وجل، وقضية الإيمان باليوم الآخر، يذكرهما الله عز وجل دائماً.

ولذلك يقول الله تعالى بعد قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [البقرة:259] وفي قراءة: (نُنشرها) أو (نَنشرها) ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] قال بعض أهل العلم: إنه عزير، النبي الصالح من بني إسرائيل، خرج فمر بقرية كانت جميلة، ذات رواء، فيها أطيارها، وأشجارها وأنهارها، وفيها سكانها، ثم مر بها بعد فترة وإذا هي قد تهدمت، فلا أنيس فيها، ولا صائح ولا مجيب ولا حبيب ولا قريب، فالتفت إليها وقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259].

وكان معه حماره، وعليه طعامه وشرابه -ولا يهمنا طعامه وشرابه من أي شيء يكون- فأراد الله عز وجل أن يعلمه، وكما يقول أحد الأساتذة الكبار الخطباء، قال: أدخل الله عزيراً في المختبر هو وحماره، فأخرجه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر.. فأجرى عليه عملية الموت والإحياء.. مات الرجل ثم مات الحمار، والطعام والشراب في الخرج ما تغير بشيء.. وبعد مائة سنة أيقظ الله عز وجل هذا الرجل الصالح، فقال له: كم لثبت؟ فنظر إلى الشمس وكان الوقت بعد العصر، وكان قد توفي في الصباح -كما يقول أهل التفسير- ولما بعثه الله بعثه بعد العصر، فقال: لبثت يوماً أو بعض يوم. إما يوماً كاملاً، ولكن أخاف أني ما أكملت اليوم؛ لأن الشمس لم تغرب بعد، إذاً بعض يوم، وهذا من الورع والاحتياط في الحساب. فقال سبحانه وتعالى: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259].

هذا الطعام موجود منذ مائة سنة، لم تتغير رائحته ولا طعمه، ولا لونه، ففتح فوجد اللحم كما هو، ووجد الماء والعصير كما هو لم يتغير، لكن الحمار غير موجود، لأنه لو كان الحمار موجوداً أمامه لشك كذلك في أنه بقي مائة سنة، فالتفت فلم يجد الحمار، ووجد العظام أمامه.. قال سبحانه تعالى: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً [البقرة:259] قالوا: أعاد الله عز وجل الحمار أمامه، فركب العظام وهو ينظر -بعد أن علم أن الحمار غير موجود- ثم كساه الله لحماً -كما ذكر سبحانه وتعالى في الخلق- فلما كسي لحماً ركب أعصابه فيه، ثم أعطاه دماً، ثم أعطاه جلده وشعره، ثم خلق فيه الروح؛ فانتفض الحمار، فإذا هو حي أمامه.. هل في ذلك شك؟!

.. وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [البقرة:259] قيل: ننشزها: نركب بعضها في بعض، أو نحييها، وقيل: ننشرها بعد أن ماتت.. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].

ثم قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة:260] قال المفسرون: مر إبراهيم عليه السلام بجيفة ميت، قيل: إنه حيوان ميت على ساحل البحر، وإذا بالغراب ينهش منه ويذهب، والحدأة تأكل منه، والنسور والطيور وغيرها، فقال إبراهيم: سبحان الله! الله عز وجل يحيي الأموات بعد أن تموت، ولحوم هذه تذهب في بطون هذه كيف ذلك؟

.. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [البقرة:260] أنت أستاذ التوحيد، الذي تربي الناس على التوحيد والعقيدة وتتكلم بهذا الكلام؟! أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].

ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {ليس الخبر كالمعاينة} وقال كما في صحيح البخاري: {نحن أولى بالشك من إبراهيم} أي: لو كان إبراهيم شاكاً لشككنا نحن، وهذا من تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه يقول: إبرهيم أقوى منا إيماناً، وأعرف منا بالتوحيد، وأقوى يقيناً، فلو شك لشككنا، فنحن أولى بالشك منه.

قال الله عز وجل: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260] قد آمنت لكن أريد يقيناً عندما أرى الأمر مباشرة.. فأجرى الله سبحانه وتعالى عملية البعث بين يديه، ولم يقل له: إني سوف أحيي فلاناً أو فلاناً، لكن: قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة:260] وقد اختلف أهل التفسير في الطير، وقد ذكره صاحب فتح القدير، فقال بعضهم: هي بط ووزة وحمام ودجاج، وقال بعضهم: ليس فيها أوز، فيها حمام زاجل، وقال بعضهم: بل فيها نسر، وقال بعضهم: بل حدأة وغراب.. وهذا ليس فيه طائل، وإنما هي أربعة أصناف من الطيور.. قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260] الصر: هو القطع، وقيل: هو الضم.. وما أحسن أسلوب القرآن! فإن الله عز وجل لا يتكلم في القرآن إلا بالجملة الراقية العظيمة التي تملأ الأذنين جلالة وتملأ القلب محبة ورهبة.. ولذلك انظر كيف يتحدث القرآن بكلام لو تحدث عنه الناس بهذا الأسلوب، لتبدل الكلام، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10]. فلو تحدثنا عنه لقلنا: والنخل طويلات، لها ثمر طيب.. لكن الله سبحانه وتعالى قال: باسقات، جمع باسقة، في بلاغة وإبداع! وقال: لها طلع، ولم يقل: ثمر، لأن الطلع فيه حياء ورواء وإجماع للذهن، وإحياء للقلب، وقال: نضيد؛ كأنه حب منضود، أو كأنه عقد نقض بعضه على بعض.. فسبحان من أنزل هذا القرآن!

فأخذ إبراهيم عليه السلام الطيور الأربعة، فقطعها، ثم جمع جثثها، شعرها ولحمها ودمها وعظامها، جمعها وخلطها، ثم وزعها على رءوس الجبال، وكانت رءوسها عنده، ثم نزل إلى الوادي والجبال حوله، ثم دعا وقال: تعالي باسم الله؛ فأخذ كل عضو يأتي إلى مكانه.. الجناح يأتي حتى يرجع إلى مكانه، ويأتي الشعر إلى مكانه... وهكذا حتى رفرفت ثم خرجت من بين يديه فإذا هي أحياء بإذن الله.

قال الله: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً [البقرة:260] ولم يقل: يأتينك على مهل، أو يأتينك يتدحرجن؛ وذلك لأن السعي فيه معنى الحياة.. قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:82-83]. ثم قال الله تعالى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] لماذا قال الله في هذه الآية: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] وقال عند عزير: قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]؟

الآيتان وراء بعض، والقدرة والحكمة وجدت هنا وهناك، فلماذا هذا الاختلاف؟

الجواب: عزير كان عنده شك في إحياء القرية، فناسب أن يقول: أعلم أن الله على كل شيء قدير، ليقرر له حقيقة القدرة، وإبراهيم عليه السلام لما قال الله عز وجل له: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260] فهو قد نفى عن نفسه الشك، فما يناسب أن يقول: أعلم أن الله على كل شيء قدير؛ لأنه قد علم، لكنه قال له: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] فهو صاحب عزة وحكمة، فناسب أن يختم هذه بهذه، وهذه بهذه.. ولذلك أنا أنصح نفسي وإياكم بالاعتناء بخواتم الآيات؛ لأنها ما تأتي إلا لحكمة، فالله عز وجل إذا ذكر المغفرة والتوبة في سياق الآيات قال: والله غفور رحيم، وإذا ذكر الحدود والعزة والحكمة قال: والله عزيز حكيم، وإذا ذكر الرزق والعلم والعطية والإذن قال: الفتاح العليم الوهاب، سبحانه وتعالى.

سمع أعرابي قارئاً يقرأ من حفظه قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] إلى قوله تعالى وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]. فقال القارئ: والله غفور رحيم. فقال الأعرابي: لا يكون هذا أبداً، قال القارئ: ولم؟ قال: لأنه لا تأتي المغفرة والرحمة بعد هذا، إنما الذي يناسب هو العزة والحكمة. فرجع إلى المصحف فوجدها كما قال الأعرابي وهذا من حكمة الله عز وجل في كتابه الكريم.

الكلمات التي ابتلى إبراهيمَ ربُهُ بها
يقول الله سبحانه في موقف آخر مع إبراهيم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124].

إبراهيم هنا هو المفعول فهو الذي ابتلاه الله سبحانه وتعالى بكلمات.. وبماذا ابتلاه سبحانه وتعالى؟ وما هي هذه الكلمات؟

قيل: هي قوله تعالى: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124].

القول الثاني: أنها أوائل سورة المؤمنون، قال ابن عباس: [[ابتلاه الله عز وجل بثلاثين آية، من أول سورة المؤمنون، - ترفع على الحكاية- وعشر من سورة الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35]... والبقية، وعشر من سورة المعارج وسورة التوبة]]

وقيل: ابتلاه بخصال الفطرة، وهي: قص الشارب، وتقليم الأظافر، والوضوء.

والأحسن أن يقال: ابتلاه عز وجل بالتكاليف الشرعية، فقام بها على أحسن قيام؛ فجعله الله للناس إماماً، ومن قام بالتكاليف الشرعية جعله الله للناس إماماً... وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أي: واجعل من ذريتي أئمة؛ فأجابه الله: قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] أي أن كل ظالم ولو كان من ذريتك لا يناله العهد، ولا يناله التوفيق ولا الهداية ولا السداد.. هذه من مواقف إبراهيم في القرآن.

إبراهيم وإلقاؤه في النار
ومن مواقفه: إلقاؤه في النار.. وهو من أعظم المواقف التي تعرض لها في حياته، والتي أظهرت فضله ومنزلته، والعجيب أنه لما ألقي في النار تخلى عنه كل أحد إلا الله عز وجل، فأتاه جبريل وقال له: هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم. فلما ألقي قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، ولو جعلها برداً فقط لمزقته بالبرودة والزمهرير.. ولو جعلها سلاماً فقط لاقتضى أن يكون فيها حرارة، ولكن جعلها برداً وسلاماً؛ فخرج بإذن الله، وسلمه الله عز وجل، وكرر الله هذه القصة لأوليائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

خصائص إبراهيم عليه السلام وصفاته في القرآن
يتميز إبراهيم عليه السلام في القرآن عن الأنبياء بثلاث ميز:

الأولى: أن الله ذكر بعض صفاته كثيراً أكثر من غيره من الأنبياء.

الثانية: أنه عرض دعوته بالآيات والتفكر في مخلوقات الله أكثر من غيره.

الثالثة: أنه واجه صعوبات مع أبيه ومع بيته قبل أن يذهب إلى الناس.. ولذلك يذكره الله عز وجل كثيراً، يقول الله عز وجل عنه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75] أواه: أي: كثير التأوه من الذنوب، وقيل: كثير الاستغفار، وقيل: كثير التوبة.. حليم: أي: أنه شفيق رحيم.. فإن الله تعالى ذكر هذه الآية بعد قصة ذهاب الملائكة إلى قوم لوط ليدمروهم، فأشفق عليهم إبراهيم عليه السلام، وأخذ يجادل فيهم... القوم مهلكون، وإبراهيم عليه السلام قام وترك الغداء معهم وقام يجادلهم في قوم بلغوا من إجرامهم كل مبلغ، فهذه علامة الحلم.

وقد ذكره الله في الشجاعة فقال: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93]. وذلك عندما ذهبوا إلى عيدهم، فأتى بفأس فمال على الأصنام فضربها حتى كسرها، وكانت من زبرجد ومن زجاج ومن ذهب وفضة، وأخذ الفأس فعلقه على الكبير الأبله، فأتوا إليه، ومن حقارتهم أنهم يهونون من شأن مخالفيهم: قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60].

لأن أهل الضلال الآن إذا سمعوا بأهل الإصلاح وأهل الخير قالوا: هناك أناس يدعون أنهم سوف يدعون إلى الله عز وجل وينشرون العلم، والصهيونية العالمية تفعل هذا مع الدول الإسلامية، وتهون من شأنها، وأما نحن إذا أخبرنا عنهم فنقول: الإرهابيون، القتلة، حتى نخوف نساءنا وأطفالنا منهم، فنتصورهم في المنام، وهم يهونون من شأننا.

وإبراهيم عليه السلام له روغتان: روغة شجاعة، وروغة كرم.. قال تعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] أي: من روغته وسرعته أتى بعجل.

إذاً: من صفاته: الكرم والشجاعة والحلم.. وهذه ميزة القيادي، وقد كانت موجودة في أبي بكر، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {يا أبا بكر! إن فيك شبه من إبراهيم عليه السلام} أو نحواً من هذا.

أثر بركة إبراهيم عليه السلام في مكة
ولما أتى إبراهيم عليه السلام إلى مكة ترك الأثر العجيب المبارك إلى قيام الساعة، ولا بد أن أستعرض معكم في هذه العجالة بعض المسائل:

أولاً: ما جاء في ماء زمزم وفضلها: فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم شفاء سقم، وطعام طُعم) فهو يشفي -بإذن الله- السقيم لمن تعالج به وعرف قدره، قال ابن القيم: وأتاني مرض أعيا الأطباء، فنزلت وأخذت من ماء زمزم، ورقيت نفسي فتشافيت بإذن الله.. فمن أحسن ما يستشفى به الاستشفاء بماء زمزم، ومن استشفى به شفاه الله عز وجل بإذنه سبحانه.

وطعام طعم، أي: أنه يكفيك عن الطعام، وأنك لو بقيت على ماء زمزم لشبعت بإذن الله، إن كنت تقصد الإشباع، فقد جاء في الحديث: (ماء زمزم لما شرب له) وقد بقي عليه أبو ذر أربعين ليلة، يقول: حتى تكسرت عكن بطني من السمن.

ومن المسائل: هل يجوز أن يتوضأ بماء زمزم أم لا يجوز؟

المسألة خلافية بين أهل العلم: فبعضهم كره أن تتوضأ منه؛ لأنه ماء طاهر مبارك، فلا يمتهن بالوضوء.. والصحيح أنه يتوضأ منه، فقد جاء في مسند الإمام أحمد من حديث علي وأسامة بن زيد (أن الرسول عليه الصلاة والسلام توضأ وشرب من ماء زمزم) وقد ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أدخل أصابعه في الصحفة فبارك الله في الماء الذي خرج من أصابعه، فتوضأ الناس من هذا الماء، وهو أشرف من ماء زمزم، فمن باب أولى أن يتوضأ منه، وكذلك يجوز أن يغتسل به من الجنابة، وهذا هو الصحيح إن شاء الله.

وكيف شرب الرسول صلى الله عليه وسلم منه؟ ثبت أنه شرب منه واقفاً.. قيل: لكثرة الزحام، وقيل: لعجلته صلى الله عليه وسلم، وقيل: ليبين الجواز، وهذا كله وارد، فمن شرب مرة واقفاً فقد خالف الأولى، والأحسن أن يشرب جالساً، ومن كان في زحام أو مشقة أو عجلة فله ذلك.

المسالة الثانية: تحريم مكة على لسان إبراهيم ودعوته لها بالبركة، فإنه حرمها ودعا لأهلها بالبركة، فبارك الله فيها، ولذلك عندما قال إبراهيم لزوجة إسماعيل: ما طعامكم؟ قالت: اللحم والماء. قال: هل لكم طعام غيره؟ قالت: لا. ليس لنا إلا اللحم والماء. فدعا لهم بالبركة فيه قال ابن عباس: فما ينفرد أحد من الناس في غير مكة باللحم والماء إلا لم يوافقاه، إلا في مكة فيوافق العبد اللحم والماء. فلا يستطيع الإنسان أن يعيش دائماً على لحم وماء إلا في مكة.

المسألة الثالثة: فضل الزوجة الصالحة، وأنها علامة الخير.. وإذا آنست المرأة زوجها بالصلاح وأظهرت له الخير والبركة، بارك الله في البيت، ولذلك إبراهيم عليه السلام أمر إسماعيل عليه السلام أن يطلق امرأته الأولى؛ لأنها دائماً تتشاءم، فالخير موجود ومبذول، والماء كثير، والبيت واسع، ولكنها دائماً تقول: بيتنا ضيق، وسيارتنا لا تصلح، وأثاثنا من أخس الأثاث، ونحن في شدة وفي ضنك، والناس مرتاحون إلا نحن... فهذه ليس فيها خير ولا بركة.. فإن المرأة الصالحة ولو كانت تأكل خبز الشعير فإنها تحمد الله، وتقول: نحن في نعمة وارفة، وفي ظل ممدود، ونحن في بركة وخير، وهذه هي علامة الخير والبركة.

ومن المسائل: فضل التوكل على الله عز وجل، فإن إبراهيم ترك أهله وترك زوجته وطفله وذهب متوكلاً على الله فحفظهم الله.










رد مع اقتباس
قديم 2015-07-31, 21:30   رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
أم فاطمة السلفية
مراقبة المنتدى الاسلامي للنساء
 
الصورة الرمزية أم فاطمة السلفية
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز 
إحصائية العضو










افتراضي

-ماشاء الله موضوع قيم ومميز جعله الله في ميزان حسناتك .









رد مع اقتباس
قديم 2015-08-01, 14:41   رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ام فاطمة 79 مشاهدة المشاركة
-ماشاء الله موضوع قيم ومميز جعله الله في ميزان حسناتك .
شكرا لك اختي ام فاطمة وجعل الله ايضا ما تقدمينه في ميزان حسناتك









رد مع اقتباس
قديم 2015-08-01, 19:21   رقم المشاركة : 26
معلومات العضو
dragown
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك










رد مع اقتباس
قديم 2015-08-01, 23:12   رقم المشاركة : 27
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة dragown مشاهدة المشاركة
بارك الله فيك
وفيك بارك الله









رد مع اقتباس
قديم 2015-08-02, 11:37   رقم المشاركة : 28
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

القصة الثالثة عشر

قصة اصحاب الكهف تفريغ نصي لنبيل العوضي

قصة من قصص القرآن، ذكرها الله عز وجل في كتابه، واستحب رسوله صلى الله عليه وسلم قراءتها في كل أسبوع، وقد سمى الله تعالى السورة بها .. إنها قصة من أعظم القصص، فيها عبر وفوائد، وفيها ثمرات لمن أيقن بها يجدها في قلبه، فاسمعها يا رعاك الله .. إنها قصة أصحاب الكهف، هذه القصة العظيمة التي ذكرها الله عز وجل من أجل سؤال سأله النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، فلم يجبهم إلا بعد أن أنزلها الله عز وجل، فاسمعها ولنقرأها عليك، وتصور -يا عبد الله- هذه القصة، وتخيل أنك أحد هؤلاء الفتية الذين قص الله عز وجل علينا قصتهم!

قال الله عز وجل في بداية هذه القصة، مادحاً نفسه، ومثنياً عليها بأنه يقص هذه القصة بالحق، وليس بالهزل، أو الكذب، أو الافتراء؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13] وقد ابتدأت هذه القصة بالثناء على أصحابها وأبطالها: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13] لم يكونوا شيوخاً - كباراً في السن- إنما كانوا فتية صغاراً في السن، ولكن الله عز وجل خلد ذكرهم.

ما شأنهم يا رب! وما قصتهم؟ إنهم آمنوا بالله جل وعلا .. رأوا قومهم يعبدون الأصنام والكواكب .. يعبدون غير الله جل وعلا، ويشركون به سبحانه وتعالى، لكنهم آمنوا بالله، فاستجابوا لهذه الفطرة، واستجابوا لله جل وعلا؛ فكانت أعظم فضيلة لهم أنهم آمنوا بالله: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13] هل تركهم الله لوحدهم؟ لا .. وَزِدْنَاهُمْ هُدىً [الكهف:13] ولكن الله عز وجل زادهم إيماناً وتقوى وهدى، ولم يكن هذا فقط؛ بل قال: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14] ثبتهم الله جل وعلا، وزادهم إيماناً وثباتاً.

إنكار أصحاب الكهف لما عليه قومهم من الشرك بالله
هل جلسوا بين قومهم؟

هل رضوا بهذا الشرك؟

هل رضوا بهذه الأصنام التي تعبد من دون الله؟ لا. بل قاموا من مكانهم، ولم يتحمل أحدهم أن يجلس بين قومه .. إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً [الكهف:14].

نظروا إلى قومهم فأنكروا، ونظروا إلى شركهم فاستنكروا: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الكهف:15] ليس الأمر بالادعاء ولا بالكلام، من يصف الله عز وجل بأنه يشرك به شيئاً .. يشرك به في الألوهية، أو في أسمائه وصفاته، أو بالربوبية، أو يشرك به في الحكم الذي تفرد الله عز وجل به؛ فليأت بسلطان بين .. فليأت بدليل يثبت ما ادعاه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [العنكبوت:68].

لم يتحملوا الوضع، ولم يتحملوا الشرك، وتلك الأصنام، ولا هذه الطواغيت، فقاموا من مكانهم، وهربوا من مجتمعهم، واعتزلوا الناس .. إلى أين؟ ذهبوا كلهم إلى أحد الكهوف المظلمة .. خرجوا من القصور إلى أحد الكهوف .. خرجوا من الترف والنعيم وزينة الدنيا إلى كهفٍ من الكهوف، يجتمعون فيه.

نعم! إنه الإيمان الذي لا يسمح لذلك المؤمن أن يجلس بين الشرك، إنه الإيمان الذي لا يرضى لصاحبه أن يرضى بهذا المنكر، وتلك المنكرات .. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:16] إنه الكهف المظلم .. إنه المكان الموحش، لكن الله عز وجل جعله مفاجأة لهم؛ إن الكهف المظلم قد أصبح كهفاً فسيحاً، ذلك الكهف المظلم ألقى الله سبحانه وتعالى فيه النور، فأصبح من الإيمان جنة من الجنان .. فأصبح من الإيمان الذي دخل في القلوب جنة يعيشون ويتقلبون فيها، أخرجهم الله من القصور ليدخلوا تلك الكهوف، ومن رحمته سبحانه وتعالى أن جعل هذه الكهوف أفضل وأجمل وأسعد لهم من تلك القصور .. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً [الكهف:16].

وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود
دخلوا ذلك الكهف، فجلسوا، وإذا بالتعب يصيبهم، والنعاس يرهقهم، فاضطجعوا في ذلك الكهف، فأرسل الله عز وجل عليهم النعاس والنوم، وتخيل هذا المنظر! هل ينامون يوماً أو يومين أو ثلاثة؟ تطلع عليهم الشمس فتبدي عليهم من نورها، ثم تغرب عليهم وينتهي ذلك اليوم وهم نيام .. وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ [الكهف:18].

الأعين مفتوحة وهم نيام، ليسوا بثابتين ولا ساكنين، بل يتقلبون يمنة ويسرة، والشمس تطلع عليهم وتغرب، ولهم كلب نائم عند الباب بالوصيد، حتى يرعب من يدخل عليهم؛ حماية من الله جل وعلا، وإذا رأيت منظرهم أصابك الخوف، ولو اطلعت عليهم لملئت منهم رعباً.. ما هذا المنظر العجيب؟ وما هذا الموقف الرهيب؟ الشمس تطلع عليهم وتغرب، وإذا رأيت إلى منظرهم كأنهم أيقاظ لكنهم رقود، قال الله جل وعلا واصفاً ذلك المنظر: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً [الكهف:17-18].

ظهور أمر أصحاب الكهف واختلاف الناس فيهم
إنها آية من آيات الله، وعلامة من علامات قدرة الله جل وعلا؛ أن ترى رجلاً نائماً وليس بنائم، وتراه يقظاناً وليس بيقظان، والكلب عند الباب، والشمس تطلع عليهم وتغرب، وفي لحظة من اللحظات يأذن الله جل وعلا، للأرواح أن ترجع، فإذا الأجساد تتحرك مرة أخرى، فتهتز من بعد موتها: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف:19].

فإذا بهم يقومون يتساءلون بينهم! يقول أحدهم: كم يوماً نمنا؟ وكم ساعة لبثنا؟ فيرد عليه الآخر فيقول: نمنا يوماً كاملاً .. نمنا يوماً طويلاً، فرد الآخر فقال: لا. بل نمنا بضع يوم .. عشية أو ضحاها، قال لله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] فإذا الجدال عقيم، وإذا النقاش لا ينفع، وإذا الكلام لا يفيد، فردوا أمرهم إلى الله قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [الكهف:19] هذا أمر لا ينفعنا، لقد أهلكنا الجوع والعطش، ونريد طعاماً؛ فأخرجوا قطعاً من فضة ليشتروا بها طعاماً، وقالوا لأحدهم: اذهب بهذا المال إلى أسواق المدينة، وادخل مخفياً متلطفاً برفق لكي لا يشعر بك أحد؛ فإنهم إن شعروا بك وقبضوا عليك فسوف يرجموننا ويقتلوننا، إلا أن تعود في دينهم.

وهذه هي حال الطغاة، وتلك هي أحوال الظلمة، وهذه هي المجتمعات الظالمة، لا ترضى أن يبقى على دينهم، ولا ترضى أن يبقى الصالحون على منهجهم، بل إما الرجم أو أن يعودوا في ملتهم .. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20].

واسمع إلى سياق القرآن كيف يصف الله جل وعلا خبره، ويقص علينا قصصه! وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً [الكهف:19] إياكم إياكم أن يظهروا عليكم! إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الكهف:20] أتعرف ما هو الرجم يا عبد الله؟ إنه الرمي بالحجارة؛ أن تحفر لهم الحفر، فيرموا بالحجارة حتى الموت، لماذا؟ لأنهم آمنوا بالله .. يُسجنون ويُقتلون ويُعذبون؛ لأنهم آمنوا بالله جل وعلا، لأنهم ما رضوا إلا عبادة الله، ولأنهم أبوا إلا توحيد الله، ولأنهم رفضوا كل شيء إلا عبادة الله جل وعلا، وحكمه سبحانه وتعالى.

لكن الذي خرج منهم ما كان يعلم أنهم قد ناموا في كهفهم أكثر من ثلاثمائة سنة .. إنها آية من آيات الله! فخرج وإذا بالمدينة قد تغيرت، والناس قد تبدلوا، والقصور قد اختلفت، وإذا بالناس يقصون هذه القصة عبر الأجيال والأزمان .. يقصون قصة فتية خرجوا من قصورهم إلى كهف من الكهوف، فما علم الناس عنهم وما شعروا بهم، وإذا بهذا الرجل يخرج بينهم، شكله يختلف عنهم، وهيئته كأنها هيئة أصحاب الكهف، وإذا به يأتي بمالٍ من العصور القديمة والأجيال السالفة، فيخرجها ليشتري بها طعاماً، فقال له البائع: من أين لك هذه النقود؟ قال: إنها نقودي. قال: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: أين أنتم؟ فإذا بهم يكتشفون الخبر ويعرفون القصة، فقدموا عليهم، وقد آمن القوم بالله، ورضوا به جل وعلا، فرأوا هؤلاء الفتية الذين قص الناس قصتهم، وذكروا روايات عنهم، فعظموهم، وأعلوا شأنهم وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف:21].

تبعه أهل المدينة فإذا به يهرب ويدخل الكهف، فقبض الله أرواحهم جميعاً .. يموت أصحاب الكهف كما كانوا آية من آيات الله أطلعها الله للناس، فإذا بهم يختلفون ويتنازعون ويتجادلون بينهم، فإذا بالضعفة المساكين يقولون: لنتخذن عليهم مسجداً .. (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) إنهم أولياء وصالحون ومتقون، لنجعلن عليهم مسجداً، نأتي ونصلي ونعبد الله جل وعلا في هذا المكان .. قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21].

وهكذا حال السذج والضعفة من الناس، يشركون بالله جل وعلا؛ لأنهم وجدوا قبراً من قبور الأولياء، أو مكاناً من أماكن الصالحين، وإذا رأوا صالحاً تمسحوا به وتقربوا به إلى الله عز وجل، وإذا رأوا قبراً لأحد الأولياء، قالوا: نعبد الله عز وجل عنده، وندعوه عز وجل بجواره، ونتوسل إلى الله عز وجل بهذا الولي وبذلك الصالح .. غلبوا على أمرهم، وتسلطوا على رقابهم أبناء السلاطين، فقالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21].

وقد اختلف الناس في عددهم، فقال البعض: ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، وقال الآخرون: سبعة وثامنهم كلبهم، ولا يعلم عدتهم إلا الله جل وعلا، وقد نهى الله عز وجل نبيه أن يجادل في أمرهم أو يخوض في شأنهم.


عبر ومواعظ من قصة أصحاب الكهف
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون: لم يخبر الله عز وجل بهذه القصص للتسلية ولا لقضاء الوقت والفراغ، إنما هي للعبرة، فما قص الله عز وجل علينا قصة في القرآن إلا وفيها عبر وفوائد، فاسمعها حفظك الله:

أول ما بدأ الله عز وجل القصة أنه أخبر أنهم فتية .. شباب صغار في السن، كما أخبر الله عن إبراهيم بقوله: قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60] إن هذا الدين لا فرق فيه بين الصغار والكبار، ولا بين الشباب والشيوخ، أو الرجال والنساء، لكن يحمل لواءه الشباب في عز قوتهم، وعنفوان شبابهم -يحملون هذا الدين- فلا يأتي الرجل في وقت الشباب ويستغله في الفتن والشهوات والملهيات، ثم إذا اقتربت وفاته قال: آمنت بالله .. آمنت أنه لا إله إلا الله.

إن هذا الدين يرفع لواءه الشباب قبل الشيوخ، والشيوخ يجلسون في بيوت الله يرفعون أياديهم يدعون الله جل وعلا أن يعز دينه، ويعلي كلمته.

إن الشباب في هذه الأمة مطالبون أن يقوموا كما قام أصحاب الكهف، وألا يجلسوا في بيوتهم وقصورهم، ولا يرضوا بهذا الترف وبذلك النعيم، بل يقومون من ذلك الترف، ويدعون إلى الله جل وعلا، وينكرون تلك المنكرات، ولا يرضوا للناس أن يجلسوا بين هذه المنكرات، أو يأتونها.

إن الشباب في هذا الزمان مطالبون بأن يصدعوا بالحق، ويجهروا به، وينكروا المنكرات، كما قال الله جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

عبد الله: هل رأيت أولئك الفتية وقد هجروا القصور والنعيم، والدنيا بأكملها .. إلى أين يا عبد الله؟

إنهم جلسوا في كهف من الكهوف المظلمة، ورضوا بهذا الكهف بديلاً عن تلك القصور، لإرضاء الله وعبادته جل وعلا، خرجوا من هذه الدنيا والواحد منهم لا يرضى أن يجلس في هذا النعيم بين المنكرات، أو يأخذ الأموال، أو يرضى بهذه الفتنة وذلك الترف وهو يأتي المنكرات.

أسمعت -يا عبد الله- ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنه خباب بن الأرت رضي الله عنه، كان عمره عشرين سنة، فجلد وضرب وافتتن في دينه، حتى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟).

أسمعت بـحبيب الزيات عليه رحمة الله، حين استدعاه الحجاج ذلك الظالم الطاغية، فقال له: سمعنا أنك تتكلم فيّ؟ فقال: نعم! أنت أحد الظلمة الطواغيت، وسوف تلقى الله بكل نفس قتلتها ظلماً.

قال: فما تقول في مروان بن عبد الملك؟ قال: أنت خطيئة من خطاياه، هو أظلم منك وأطغى، وأفجر منك وأعتى. قال: أتقول هذا؟ قال: نعم. فصلبه وأمر الجلاد أن يقطع لحمه قطعة قطعة، ويسفك دمه، حتى اقتربت روحه على الوفاة، فقال: لا تقتلوه، اذهبوا به إلى الأسواق لتزهق نفسه والناس ينظرون إليه وهو يعذب: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20]. فصلب أمام الناس والدم يسيل، واللحم يتقطع، والنفس تخرج، فأتاه أحد الناس الصالحين، وقال: أتريد شيئاً؟ فقال: أما دنياكم فلا، لا أريد شيئاً من الدنيا إلا شربة من ماء -يريد أن يشرب شربة من الماء لتخرج نفسه- فشرب شربة من ماء، ثم خرجت روحه إلى الله جل وعلا.

أتعرف كم كان عمر حبيب في ذلك الوقت؟ لقد كان عمره سبعة عشر سنة، ومع ذلك يواجه أكبر ظالم وطاغية على وجه الأرض.

إن الفتية الذين خلد الله ذكرهم لم ينقطع تاريخهم، بل إن في هذه الأمة من الفتية والشباب الذين يقفون في وجه الظلم والطغيان، وفي وجه الشرك والكفر بالله جل وعلا: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).










رد مع اقتباس
قديم 2015-08-02, 11:51   رقم المشاركة : 29
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي


القصة الرابعة عشر

نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام

قال الله تبارك وتعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا}سورة مريم، وقال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ}سورة الأنبياء.

نسب إبراهيم عليه الصلاة والسلام:

هو إبراهيم بن تارخ (وهو ءازر) بن ناخور بن ساروغ بن ارغو بن فالغ بن غابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ ابن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام

كان أهل بابل في العراق يتنعمون برغد العيش ويتفيئون ظلال النعم الكثيرة التي أنعمها الله عليهم، ولكنهم كانوا يتخبطون في دياجير الظلام، ويتردّون في وهاد الضلال والكفر، فقد نحتوا بأيديهم الأصنام واتخذوها من دون الله ءالهةً وعكفوا على عبادتها، وكان عليهم حاكم ظالم مستبد يقال له نمرود بن كنعان بن كوش، قيل هو الضحاك وقيل غيره، وكان أحد الملوك الذين ملكوا الارض وأحاط ملكه مشارق الأرض ومغاربها، فلما رأى ما هو عليه من الزعامة وما يتمتع به من سطوة الملك وقوة السلطان، ورأى ما أطبق على قومه من الجهل والفساد ادعى الألوهية ودعا قومه إلى عبادته، وقيل: كان قوم إبراهيم يعبدون الكواكب السبعة وكان لهم أصنام بشكل الشمس والقمر وأصنام بشكل الكواكب.

مولد إبراهيم عليه السلام:

في وسط هذه البيئة المنحرفة وفي زمن وعهد هذا الملك الجبار الكافر النمرود كان مولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفي موضع ولادته عليه السلام خلاف قيل: ولد بالسوس من أرض الأهواز، وقيل: ولد ببابل وهي أرض الكلدانيين، وقيل: بحران، وقيل: بغوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل يقال له قاسيون، والمشهور عند أهل السير والتواريخ أنه ولد ببابل.

قال أهل التواريخ والسير: إنه لما أراد الله عز وجل أن يبعث إبراهيم عليه السلام وأن يجعله حجة على قومه ونبيًا رسولًا إليهم، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام من نبي قبله إلا هود وصالح عليهما السلام.

ولما تقارب زمان ابراهيم أتى المنجمون إلى هذا الملك نمرود وقالوا له: اعلم أنا نجد في علمنا أنَّ غلاماً يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم، يفارق دينكم ويكسر أوثانكم في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا.

فلما دخلت السنة التي وصف أصحاب النجوم لنمرود، بعث نمرود هذا إلى كل امرأة حبلى بقريته، فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم زوجة ءازر والد ابراهيم عليه السلام فإنه لم يعلم بحبلها، وذلك أنها كانت جارية لم يعرف الحبل في بطنها، فجعل هذا الملك الطاغية لا تلد امرأة غلامًا في ذلك الشهر من تلك السنة إلا أمر به فذبح، فلما وجدت أم إبراهيم عليه السلام الطلق، خرجت ليلًا إلى مغارة كانت قريبة منها، فولدت فيها إبراهيم عليه السلام وأصلحت من شأنه ما يُصنع بالمولود، ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها، كانت تزوره وتطالعه في المغارة لتنظر ما فعل.

فكان يشِب في اليوم ما يشِب غيره في الشهر وكانت تأتي فتجده حيًا يمص إبهامه، فقد جعل رزق إبراهيم عليه السلام في إبهامه فيما يجيئه من مصه، ولم يمكث إبراهيم عليه السلام في المغارة إلا خمسة عشر شهرًا، ثم ترعرع وكبر واصطفاه الله لحمل رسالته وإبانة الحق ودعاء قومه إلى عبادة الله وحده وإلى العقيدة الصافية من الدنس والشرك، وإلى ترك عبادة الكواكب والأصنام وإلى الدخول في دين الاسلام الذي هو دين جميع الأنبياء.

عدد المرات الذي ذكر فيها إبراهيم عليه السلام في القرءان:

ذكرت قصة إبراهيم في عدة مواضع من القرءان، تارة باختصار وتارة بالتطويل وتارة بذكر شأن من شئونه في سورة أخرى.

وقصة إبراهيم عليه السلام ترتبط بها قصص أخرى كقصة لوط، لأن إبراهيم ولوطاً كانا متعاصرين، ونبي الله لوط هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وقد ءامن لوط بعمه إبراهيم كما قال تعالى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}سورة العنكبوت.

نبوة إبراهيم ورسالته ونشأته على الإيمان وعدم شكه بالله تعالى وبقدرته

اختار الله تبارك وتعالى ابراهيم عليه السلام وجعله نبيًا ورسولًا واصطفاه لهداية قومه، ودعوتهم إلى دين الإسلام، وتوحيد الله وترك عبادة الكواكب والأصنام التي لا تخلق شيئًا ولا تستحق العبادة، لأن الذي يستحق العبادة وحده هو الله تبارك وتعالى خالق كل شيء.

وقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام كغيره من الأنبياء منذ صغره ونشأته مسلمًا مؤمنًا عارفًا بربه معتقدًا عقيدة التوحيد منزهًا ربه عن مشابهة المخلوقات، ومدركًا أن هذه الأصنام التي يعبدها قومه لا تغني عنهم من الله شيئًا، وأنها لا تضر ولا تنفع لأن الضار والنافع على الحقيقة هو الله تعالى وحده. يقول الله تبارك وتعالى في حق إبراهيم:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}سورة ءال عمران، وقال الله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ}سورة الأنبياء.

ولقد كان نبي الله إبراهيم عليه السلام مفعم النفس بالإيمان بربه وعارفًا به، ممتلىء الثقة بقدرة الله وأن الله تعالى قادر على كل شيء لا يعجزه شيء، وكان غير شاك ولا مرتاب بوجود الله سبحانه مؤمنًا بما أوحي إليه من بعث الناس بعد موتهم يوم القيامة، وحسابهم في الحياة الأخرى على أعمالهم وما قدموا في هذه الحياة الدنيا.

فائدة:

قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}سورة البقرة.

ومعناه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مؤمنًا ومصدقًا بقلبه تصديقًا جازمًا لا ريب فيه أن الله تبارك وتعالى قادر على إحياء الموتى، وإعادة الخلق يوم القيامة، ولكنه أراد أن يزداد بصيرةً ويقينًا، فسأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى بعد موتهم، وقول الله تعالى:{قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}سورة البقرة، أي أنا مؤمن غير شاك ولا مرتاب ولكن تاقت نفسي لأن أرى بعينيَّ ليطمئن قلبي ويزداد يقيني، فمعنى قول ابراهيم" لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" أي ليطمئن قلبي بإجابة طلبي، لأنه من الجائز أن يعطي الله تعالى بعض الأنبياء جميع ما طلب أو أن يعطيه بعض ما طلب ولا يعطيه بعضًا.

فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف خلق الله وأكرمهم على الله ما أعطي جميع ما طلب، بل أعطي بعض ما طلب ومنع بعض ما طلب، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام ما كان جازمًا وقاطعًا في نفسه بأنَّ الله يعطيه ما سأل، لكنه كان مؤمنًا بأن الله تبارك وتعالى قادر على ذلك، لكن كان عنده إحتمال أن الله يريه كيف يحيي الموتى وإحتمال أنه لا يريه.

فأجاب الله تبارك وتعالى سؤال إبراهيم عليه السلام، وأمره أن يأخذ أربعة من الطير، ويتعرف على أجزائها، ثم يفرقها أشلاء وأجزاء، ويجعل على كل جبل منهن جزءًا، ثم يدعوهن إليه فيأتينه سعيًا بإذن الله، فلمّا فعل إبراهيم خليل الرحمن ما أمره الله تعالى، صار كل جزء ينضم إلى مثله، وعادت الأشلاء والأجزاء كما كانت وعادت الروح إلى كل طير، ورجعت الطيور الأربعة بقدرة الله ومشيئته إلى إبراهيم عليه السلام، وهو يرى ءايات الله البينات وءاثار قدرته العظيمة التي تدل أنه تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السموات فتبارك الله أحسن الخالقين أي أحسن المقدرين.

دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه ءازر إلى دين الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة

ذكر أهل التواريخ أن إبراهيم انطلق بزوجته سارة وابن أخيه لوط، فخرج بهم من أرض الكلدانيين الى أرض الكنعانيين، وهي بلاد بيت المقدس، فنزلوا حران وكان أهلها يعبدون الكواكب السبعة، فقام الخليل إبراهيم عليه السلام يدعو قومه إلى دين الله وترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وكان أول دعوته لأبيه ءازر الذي كان مشركًا يصنع الأصنام ويعبدها ويبيعها للناس ليعبدوها، فدعاه إلى عبادة الله وحده وإلى دين الحق الإسلام بألطف عبارة وبأحسن بيان، وبالحكمة والموعظة الحسنة، قال الله تبارك وتعالى في محكم تنزيله:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا {41} إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا {42} يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا{43} يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا {44} يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}سورة مريم، وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}سورة الأنعام.

ذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات ما كان جرى بين إبراهيم وأبيه من المحاورة والجدال إلى عبادة الله وحده، وكيف دعا أباه إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، وبيَّن له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها ولا تبصر مكانه، فكيف تغني عنه شيئًا أو تفعل به خيرًا من رزق أو نصر فهي لا تضر ولا تنفع، وأعلمه بأن الله قد أعطاه من الهدى والعلم النافع، فدعاه إلى اتباعه وإن كان أصغر سنًا من أبيه لأن اتباعه ودخوله إلى الاسلام وعبادة الله وحده هو الطريق المستقيم السويّ الذي يفضي به إلى الخير في الدنيا والآخرة.

ثم بيَّن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه أنه بعبادته للأصنام يكون منقادًا للشيطان الخبيث الفاجر الذي لا يحب للناس الخير، بل يريد لهم الهلاك والضلال، ولا يستطيع أن يدفع عنه عذاب الله ولا يردّ عنه عقوبته وسخطه يقول الله تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}سورة فاطر.

لم يقبل ءازر نصيحة نبي الله إبراهيم ولم يستجب لدعوته بل استكبر وعاند وتوعد، وهدد ابنه إبراهيم بالشر والرجم والقتل، وقال له ما أخبرنا الله تعالى عنه في القرءان:{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}سورة مريم، فعندها قال له إبراهيم ما حكاه الله عنه:{ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً}سورة مريم، أي سلام عليك لا يصلك مني مكروه ولا ينالك مني أذى، وزاده بأن دعا له بالخير فقال:{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}سورة مريم.

ومعنى قوله:{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} أي سأطلب من الله أن يغفر لك كفرك بالدخول في الإسلام، وليس معناه أني أطلب لك باللفظ كما يستغفر المسلم للمسلم بقوله: الله يغفر لك أو استغفر الله لك، ومعنى قوله:{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} أي لطيفًا يعني في أن هداني لعبادته والإخلاص له، ولهذا قال ما حكاه الله عنه في كتابه العزيز:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا}سورة مريم.

وقد استغفر إبراهيم لأبيه ءازر على المعنى الذي ذكرناه سابقًا كما وعده إبراهيم في أدعيته فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ }سورة التوبة، أي لما علم أنه لا يسلم بل يموت على الكفر تبرأ منه.

دعوة إبراهيم عليه السلام قومه إلى عبادة الله وحده وإقامة الحجة على قومه في أن الكواكب والأصنام التي يعبدونها لا تصلح للعبادة وبيان أن إبراهيم لم يكن يعبد الكواكب

هذه الغلظة والاستكبار من والد إبراهيم عليه السلام لم تقعده وتمنعه من متابعة دعوته إلى الله سبحانه وتعالى، ولم تُثنه عدم استجابة أبيه لنصحه ودعوته إلى عبادة الله وحده عن متابعة دعوته لقومه إلى هذا الدين الحق وترك عبادة الكواكب والأصنام.

وأراد إبراهيم عليه السلام أن يبين لقومه أنّ عبادة الكواكب باطلة، وأنها لا تصلح للعبادة أبدًا لأنها مخلوقة مسخرة متغيرة تطلع تارة وتغيب تارة أخرى، وأنها تتغير من حال إلى حال، وما كان كذلك لا يكون إلهًا، لأنها بحاجة إلى من يغيرها وهو الله تبارك وتعالى الدائم الباقي الذي لا يتغير ولا يزول ولا يفنى ولا يموت، لا إله إلا هو ولا رب سواه.

فبين إبراهيم لقومه أولًا أن الكوكب لا يصلح للعبادة ثم انتقل إلى القمر الذي هو أقوى ضوءًا منه وأبهى حسنًا، ثم انتقل إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياء ونورًا، فبين أنها ذات حجم وحدود وأنها متغيرة تشرق وتغرب وإذا كانت متغيرة فلا تصلح للألوهية، لأنها بحاجة إلى من يغيرها ويحفظ عليها وجودها وهو الله تبارك وتعالى خالق كل شيء ومدبر أمر هذا العالم.

قال الله تبارك وتعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ {75}فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ {76} فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ {77} فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ {78}إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {79}وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}سورة الأنعام.

وأما معنى قول سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الكوكب حين رءاه{هذا ربي} فهو على تقدير الاستفهام الانكاري فكأنه قال: أهذا ربي كما تزعمون، لذلك لما غاب قال:{ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} أي لا يصلح أن يكون هذا الكوكب ربًا لأنه يأفل ويتغير، فكيف تعتقدون ذلك، ولما لم يفهموا مقصوده وظلوا على ما كانوا عليه، قال حين رأى القمر مثل ذلك فلمّا لم يجد منهم بغيته، أظهر لهم أنه بريء من عبادته أي من عبادة القمر لأنه لا يصلح للعبادة ولا يصلح للربوبية، ثم لما أشرقت الشمس وظهرت قال لهم مثل ذلك، فلما لم ير منهم بغيته أيضًا، وأنهم أصحاب عقول سقيمة وقلوب مظلمة مستكبرة أيس منهم وأظهر براءته من هذا الإشراك الذي وقعوا به وهو عبادة غير الله تعالى.

وأما إبراهيم عليه السلام فهو رسول الله ونبيه، فقد كان مؤمنًا عارفًا بربه كجميع الأنبياء لا يشك بوجود الله طرفة عين، وكان يعلم أن الربوبية لا تكون إلا لله وأنه لا خالق إلا الله ولا معبود بحق إلا الله.

ولم يكن كما يفتري عليه بعض أهل الجهل والضلال من قولهم إنه مر بفترات وأوقات شك فيها بوجود الله، لأن الأنبياء والرسل جميعهم يستحيل عليهم الكفر والضلال قبل النبوة وبعدها، لأنهم بعثوا هداة مهتدين ليعلموا الناس الخير، وما أمرهم الله بتبليغه، فقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام قبل مناظرته لقومه وإقامة الحجة عليهم، وقبل دعوتهم إلى الاسلام والإيمان يعلم علمًا يقينًا لا شك فيه أن له ربًا وهو الله تبارك وتعالى الذي لا يشبه شيئًا وخالق كل شيء، وأن الأولوهية والربوبية لا تكون إلا لله خالق السموات والأرض وما فيهما، وهو مالك كل شيء وقادر على كل شيء وعالم بكل شيء ونافذ المشيئة في كل شيء، والدليل على ذلك من القرءان قوله تعالى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ}سورة الأنبياء، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}سورة الأنعام، وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم بعد أن أقام إبراهيم الحجة على قومه وأفحمهم:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}سورة الأنعام.

والظاهر أن موعظة إبراهيم هذه في الكواكب لأهل حران فإنهم كانوا يعبدونها، أما أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام، وهم الذين ناظرهم في عبادتها، وكسرها وأهانها وبيّن بطلان عبادتها كما قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ{52} قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ {53}قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{54} قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ {55}قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}سورة الأنبياء.

ولقد سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام قومه ليقيم الحجة عليهم أيضًا مستنكرًا إن كانت الأصنام تسمع دعاءهم أو تنفع أو تضر، فقالوا له ما حكاه الله تعالى عنهم:{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}سورة الشعراء.

فقد سلموا له أن هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله لا تسمع داعيًا، ولا تنفع ولا تضر شيئًا، ثم أخذ يبين لهم بديع صنع الله تعالى، وعظيم قدرته ليلمسوا الفرق الواضح بين عبادة إبراهيم لله الحقة وبين عبادتهم للأصنام الباطلة يقول الله تبارك وتعالى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ {69} إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ {70} قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ{71}قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ{72}أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ{73}قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ{74}قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ{75}أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ{76}فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ {77}الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ{78}وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ{79}وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ{80}وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}سورة الشعراء.

قصة إبراهيم عليه السلام في تكسيره للأصنام التي يعبدها قومه وإظهاره الحجة عليهم

ولما رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنهم ما زالوا متعلقين بأوهامهم متمسكين بعبادة أصنامهم عَقَد النية على أن يكيد أصنامهم ويفعل بها أمرًا يقيم الحجة به عليهم لعلهم يفيقون من غفلتهم ويصحون من كبوتهم، وكان من عادة قومه أن يقيموا لهم عيدًا، فلمَّا حلَّ عليهم عيدهم وهموا بالخروج إلى خارج بلدهم دعوه ليخرج معهم فأخبرهم أنه سقيم لأنه أراد التخلف عنهم ليكسر أصنامهم ويقيم الحجة عليهم، قال تعالى:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ}سورة الصافات90-89-88

فلما مضى قومه ليحتفلوا بعيدهم نادى في ءاخرهم:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}سورة الأنبياء57، قيل: سمعه بعضهم وقيل: خفية في نفسه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الأصنام الذي كان فيه قومه يعبدون هذه الأصنام، فإذا هو في بهو عظيم واسع مستقبل باب البهو صنم كبير إلى جانبه أصنام صغيرة بعضها إلى جنب بعض، وإذا هم قد صنعوا لها طعامًا وضعوه أمام هذه الأصنام، فلما نظر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى ما بين أيدي هذه الأصنام من الطعام الذي وضعه قومه قربانًا لها ورأى سخافة عقولهم، خاطب هذه الأصنام وقال لها على سبيل التهكم والازدراء:{ أَلَا تَأْكُلُونَ} سورة الصافات 91، فلما لم تجبه قال لها أيضًا على سبيل الاحتقار{مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}سورة الصافات92-93.

أمسك بيده اليمنى فأسًا وأخذ يهوي على الأصنام يكسرها ويحطم حجارتها قال تعالى:{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا}سورة الأنبياء58، وما زال كذلك حتى جعلها كلها حطامًا إلا كبير هذه الأصنام فقد أبقى عليه وعلق الفأس في عنقه ليرجعوا إليه فيظهر لهم أنها لا تنطق ولا تعقل ولا تدفع عن نفسها ضررًا، وبذلك يقيم سيدنا إبراهيم عليه السلام الحجة على قومه الكافرين الذين يعبدونها على غير برهان ولا هدى تقليدًا لآباءهم، قال تعالى:{ إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}سورة الأنبياء58.

ولما رجع قومه من عيدهم ووجدوا ما حل بأصنامهم بهتوا واندهشوا وراعهم ما رأوا في أصنامهم، قال الله تعالى: {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }سورة الأنبياء59-60، يعنون فتى يسبها ويعيبها ويستهزىء بها وهو الذي نظن أنه صنع هذا وكسرها، وبلغ ذلك الخبر الملك نمرود الجبار ملك البلاد وحاكمها وأشراف قومه{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}سورة الأنبياء61، وأجمعوا على أن يحضروا إبراهيم ويجمعوا الناس ليشهدوا عليه ويسمعوا كلامه وكان اجتماع الناس في هذا المكان الواحد مقصد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليقيم على قومه الحجة على بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وتقاطرت الوفود وتكاثرت جموع الكافرين كلّ يريد الاقتصاص من إبراهيم نبي الله الذي أهان أصنامهم واحتقرها، ثم جاءوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى هذا الجمع الزاخر من الكافرين أمام ملكهم الجبار نمرود {قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}سورة الأنبياء62، وهنا وجد نبي الله إبراهيم الفرصة سانحة ليقيم الحجة عليهم وليظهر لهم سخف معتقدهم وبطلان دينهم {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}سورة الأنبياء63، وهذا إلزام للحجة عليهم بأن الأصنام جماد لا تقدر على النطق، وأنَّ هذه الأصنام لا تستحق العبادة فهي لا تضر ولا تنفع، ولا تملك لهم نفعًا ولا ضرًا ولا تغني عنهم شيئًا.

فعادوا إلى أنفسهم فيما بينهم بالملامة لأنهم تركوها من غير حافظ لها ولا حارس عندها، ثم عادوا فقالوا لإبراهيم عليه السلام ما أخبر الله تعالى:{ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ }سورة الأنبياء65، أي لقد علمت يا إبراهيم أن هذه الأصنام التي نعبدها لا تنطق فكيف تطلب منا أن نسألها.

فلما أقروا على أنفسهم بأن أصنامهم التي اتخذوها ءالهة من دون الله عاجزة عن الإصغاء والنطق واعترفوا أنها عاجزة لا تدرك ولا تشعر ولا تقدر ولا حياة لها، عند ذلك أقام إبراهيم عليه السلام الحجة عليهم وأفحمهم قال الله تعالى:{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَايَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}سورة الأنبياء66-67، وقال لهم:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}سورة الصافات96، عند ذلك غلبوا على أمرهم وألزمهم نبي الله إبراهيم الحجة عليهم فلم يجدوا حجة يحتجون عليه، يقول تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}سورة الأنعام83.

قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ {51} إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ {52} قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ {53} قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {54} قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ {55} قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ {56} وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ {57} فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ {58} قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ {59} قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ {60} قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ {61} قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62} قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ {63} فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ {64} ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ {65} قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَايَضُرُّكُمْ {66} أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ {67} قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ {68} قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ {69} وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}سورة الأنبياء.

فائدة: ليعلم أن قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} "بل فعله كبيرهم هذا" ليس كذبًا حقيقيًا بل هو صدق من حيث الباطن والحقيقة، لأن كبير الأصنام هو الذي حمله على الفتك بالأصنام الأخرى من شدة اغتياظه من هذا الصنم الكبير لمبالغتهم في تعظيمه بتجميل هيأته وصورته، فحمله ذلك على أن يكسر صغار الأصنام ويهين كبيرها، فيكون إسناد الفعل إلى الكبير إسنادًا مجازيًا فلا كذب في ذلك، لأن الأنبياء يستحيل عليهم الكذب لأن من صفاتهم الواجبة لهم الصدق فهم لا يكذبون.

ولما قال إبراهيم عليه السلام لقومه عندما سألوه:{قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}سورة الأنبياء62-63، أراد بذلك أن يبادروا الى القول بأنها لا تنطق قال تعالى:{فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ}سورة الأنبياء64-65.

ذكر مناظرة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع الملك الجبار نمرود الذي ادعى الألوهية

أقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام الحجة على قومه بعد أن حطّم أصنامهم، فاغتاظوا منه وأحضروه أمام ملكهم النمرود وأشراف قومه. فأخذ النمرود ينكر على إبراهيم عليه السلام دعوته إلى دين الإسلام، وأن الله تعالى هو ربُّ العالمين لا ربَّ سواه، وأخذ يدّعي عنادًا وتكبرًا أنه هو الإله وقال لإبراهيم: أخبِرْني الذي تعبده وتدعو إلى عبادته ما هو، فقال له إبراهيم عليه السلام:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ}سورة البقرة، وبيَّن له أن الله تعالى هو خالق كل شيء، واستدل على وجود الخالق بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وإماتتها، وأنه لا بُدَّ لهذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر من خالق مُسَخِّرٍ لها ومُدَبِّر.

فقال النمرود الجبار المستكبر: أنا أحيي وأميت أي أنا أحيي من أشاء بالعفو عنه بعد أن يكون صدر الحكم عليه بالقتل فينعم بالحياة، وأنا أميت من أشاء بأمري وأقضي عليه بحكمي، وقال: ءاخذ رجلين قد استوجبا القتل فأقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن الآخر فأكون قد أحييته.

ظن نمرود بمقالته هذه البعيدة عن الحقيقة أنه على صواب وأراد المراوغة والاستكبار والعناد، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يفحمه بالحجة القوية ويضيق عليه الخناق ويظهر له جهله وسخف عقله أمام قومه، فأعطاه دليلًا قويًا على أن الله تعالى هو الخالق المدبر لهذا العالم، وأن ما ادعاه عنادًا واستكبارًا باطل فقال له:{قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} أي أن هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها الله الذي هو خالقها وخالق كل شيء، فان كنت كما زعمت باطلًا أنك تحيي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يُمانَع ولا يُغالَب.

وأمام هذه الحجة الساطعة وقف النمرود مبهوتًا مبغوتًا أمام قومه، قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}سورة البقرة.

وأمام عناد واستكبار هذا الملك الطاغية واستمراره على غيّه وضلاله، يقال: إن الله بعث إلى ذلك الملك الجبار العنيد ملَكًا يأمره بالإيمان بالله والدخول في دين الإسلام، فأبى عليه ثم دعاه ثانية فأبى عليه ثم دعاه الثالثة فأبى عليه وقال له: اجمعْ جموعَك وأجمع جمُوعي، فجمع النمرودُ جيشَه وجنودَه وقت طلوع الشمس وأرسل اللهُ عليه ذبابًا من البعوض بحيث لم يرَوْا عين الشمس وسلط الله هذه الحشرات عليهم فأكلت لحومَهُم ودماءَهُم وتركتهم عِظامًا، ودخلت ذبابةٌ في منخرِ النمرود فمكثت فيه أربعمائة سنة عَذّبه اللهُ بها، فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلِّها حتى أهلكه الله عز وجل بها.

مُعجزةُ إبراهيم عليه الصلاة والسلام في عدم احتراقه بالنار

أراد قومُ إبراهيم عليه السلام أن ينتقموا من إبراهيم عليه السلام لما كسّر أصنامهم وحطمها وأهانها، فلمَّا غلبهم بحجتِه القوية الساطعة أرادوا مع مَلِكهم هذا أن ينتقموا منه فيحرقوه في نار عظيمة فيتخلصوا منه، قال تعالى مخبرًا عن قولهم:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}سورة الصافات، وقال:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}سورة الأنبياء. فشرعوا يجمعون الحطب من جميع ما يمكنهم من الأماكن ليلقوه بها وجعلوا ذلك قربانًا لآلهتهم - على زعمهم- حتى قيل إنَّ المرأةَ منهم كانت إذا مَرضتْ تنذر لئن عوفيت لَتحملنَّ حطبًا لحريق إبراهيم، وهذا يدل على عُظْمِ الحقدِ المتأجج في صدورهم ضد إبراهيم عليه السلام.

ثم عمدوا إلى حفرة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب وأضرموا النار فيها فتأججت والتهبت، وعلا لها شرر عظيم لم يُر مثله، وكانوا لا يستطيعون لقوة لهبها أن يتقدموا منها، ثم لما كانوا لا يستطيعون أن يمسكوا إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام بأيديهم ويرموه في هذه النار العظيمة لشدة وهجها، صَنعوا المنْجنيق ليرموه من مكان بعيد، فأخذوا يُقيدون إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو عليه الصلاة والسلام متوكل على الله حق توكله، فلما وضعوه عليه السلام في كفة هذا المنجنيق مقيدًا مكتوفًا وألقوه منه إلى وسط النار قال: "حَسْبُنا الله ونعم الوكيل" كما روى ذلك البخاري عن ابن عباس.

فلما ألقي إبراهيم لم تحرقه النار ولم تصبه بإذى ولا ثيابه، لأن النار لا تُحرِقُ بذاتها وطبعها وإنما اللهُ يَخلُقُ الإحراق فيها، قال الله:{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}سورة الأنبياء.

فكانت هذه النار الهائلة العظيمة بَردًا وسلامًا على إبراهيم فلم تحرقه ولم تحرق ثيابه، وقيل: لم تحرق سوى وثاقَه الذي وثقوا وربطوا به إبراهيم عليه السلام. ويروى عن بعض السلف أن جبريل عليه السلام عَرَض له في الهواء فقال: يا إبراهيمُ ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.

ولما خبا سَعِير هذه النار العظيمة وانقشع دخانها وجدوا إبراهيم سليمًا معافى لم يصبه أيُّ أذى فتعجبوا لأمره ونجاته، ومع أنهم رأوا هذه المعجزة الباهرة ظلوا على كُفرهم وعنادهم ولم يُؤمنوا بنبيّ الله إبراهيم عليه السلام، لقد أرادوا أن ينتصروا لكفرهم فخُذِلوا، يقولُ الله تبارك وتعالى:{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}سورة الانبياء، وقال:{ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}سورة الصافات.












رد مع اقتباس
قديم 2015-08-02, 11:59   رقم المشاركة : 30
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

قصة سيدنا ابراهيم وزوجته سارة والجبار

هذه القصة رواها البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين منها في ذات الله، قوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63]، وواحدةً في شأن سارة، فإنه قد قَدِم أرض جبارٍ ومعه سارة ، وكانت أحسن النساء، فقال لها -إبراهيم يقول لزوجته سارة -: إن هذا الجبار -هذا الملك الكافر الطاغية في هذا البلد- إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، أتاه -هذا القريب للجبار أتى الجبار- فقال له: لقد قدم أرضَك امرأةٌ لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأُتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبِضت يده قبضةً شديدة، فقال: ادْعِي الله أن يُطْلِق يدي ولا أضرك، ففعلت، فعاد، فقبِضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقُبِضت أشد من القبضتين الأولَيَين، فقال: ادعِي الله أن يطلق يدي، فلكِ الله ألا أضرك، ففعلت وأُطْلِقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخْرِجْها من أرضي وأعطها هاجر ، قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف، فقال: مَهْيَمْ؟ قالت: خيراً، كف الله يد الفاجر، وأخدم خادماً قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء).

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا ثلاث كذبات ...).

قال في الحديث عن الكذبة الأولى حين دُعِي إلى آلهتهم: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] وذلك أنه لم تكن به علة ولا مرض؛ ولكنه كان سقيم النفس، كاسف البال، حزيناً على شرك قومه؛ لأنهم لم يلبوا نداءه، ولم يطيعوه في دعوته.

فإذاً عندما قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] لم يكن في الحقيقة كذاباً، وإنما استخدم التورية، ويقصد بالمرض (المرض النفسي) أنه مريض النفس، اعتلت نفسه من إصرارهم على الشرك والكفر، قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] لما دعوه للخروج معهم إلى عيدهم، وكانوا يخرجون إلى عيد خارج البلد، قال لهم: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، وقبل أن يقول لهم: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] نظر نظرة في النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] وكان هؤلاء القوم كفاراً عبادَ الكواكب والنجوم، ويعتقدون أن النجوم لها تأثير في الحوادث الأرضية، وفي مرض الناس، والإنجاب، والرزق.. ونحو ذلك، فأراد إبراهيم الخليل أن يقيم عليهم الحجة، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89] عاملهم من حيث كانوا؛ لئلا يُنْكِروا عليه فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات:90] تركوه وذهبوا إلى عيدهم خارج البلد.

لما خلت البلد وصار معبد الأصنام فارغاً دخل إبراهيم على الأصنام، فكسَّرها، ثم وضع القدوم (الفأس) في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار غِيْرةً لنفسه، وأنف أن تُعبد معه الأصنام الصغار، فقام عليها وكسرها.

فلما رجعوا من عيدهم وجدوا أصنامهم مكسَّرة، قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:62] لأنه لم يتخلف عن حضور العيد غيره، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] وأشار بإصبعه قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] أي: غضب من أن يعبد معه الصغار وهو أكبر منها فكسرها.

ماذا أراد إبراهيم من هذا الكلام؟

أن يقيم عليهم الحجة، ولذلك قـال لهم: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] حتى يخبروا من فعل ذلك بهم، اسألوا الأصنام المكسرة، حتى يخبروكم من كسرها، إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] .

فلما قال لهم ذلك رجعوا إلى أنفسهم، وعرفوا أنها لا تنطق، نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ [الأنبياء:65] رُدُّوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم.

لما قال لهم: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] رجعوا إلى أنفسهم، قالوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء:64] كيف تعبدون أشياء لا تسمع ولا تبصر.

لكن لما كان القوم على فسادٍ في الطريقة أجيالاً استمرءوا الكفر، وأصروا على الباطل، وعاندوا وتعصبوا لمبدئهم، ورفضوا الحق ورجعوا مرة أخرى، ثُمَّ نُكِسُوا [الأنبياء:65] هذا معنى: ثُمَّ نُكِسُوا [الأنبياء:65] رجعوا إلى الكفر مرةً أخرى بعد أن لاح لهم الحق، وأقنعهم إبراهيم، وتبينت لهم القضية بالحجة؛ لكنهم رجعوا، نكسوا على أنفسهم، مثل المريض إذا صارت له صحوة ثم انتكس مرة أخرى ورجع إلى المرض، لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [الأنبياء:65] كيف نسألهم وهم لا ينطقون؟

فانتهز إبراهيم الخليل الفرصة، وقال لهم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ [الأنبياء:66-67] تباً لكم وهلاكاً لكم، وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:67] .

قصة حرق إبراهيم
فلما غلبوا على أمرهم وخافوا الفضيحة ولم تبق لهم حجة اجتمعوا هم وملكهم النمرود على إحراق إبراهيم الخليل عليه السلام، وجعلوا له بنياناً قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات:97] بنوا له بنياناً كالحظيرة، وجعلوه في هذا البنيان، وجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب، حتى قيل: إن الرجل منهم كان إذا مرض يقول: لئن عوفيت لأجمعن حطباً لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر إن أصابت ما تريد وحصل لها ما تبتغي لتحتطبن في نار إبراهيم، وقيل: إن المرأة منهم كانت تغزل وتشتري الحطب بغزلها، فتلقيه في البنيان إعداداً لحرق إبراهيم، تحتسب الدفاع عن الأصنام والانتصار لها.

وجمعوا الحطب -فيما قيل- شهراً، ولما جمعوا ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب النار، واشتدت النار، وعلت في السماء حتى أن الطير ليمر بها فيحترق من شدة وهجها، فأوقدوا عليها سبعة أيام، حتى إذا اشتدت لم يعلموا كيف يلقوا إبراهيم فيها، فأتاهم إبليس بفكرة المنجنيق على ما ذكر بعض أهل التفسير، فوضعوه مقيداً مغلولاً، وأطلقوه بالمنجنيق مِن بُعد على هذه النار؛ لأنهم لا يستطيعون الاقتراب منها من شدتها، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] والله تعالى له الأمر من قبل ومن بعد، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] وهو الذي خلق النار فسلب منها خاصية الإحراق، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً [الأنبياء:69] لو لم يقل: سَلاماً [الأنبياء:69] لربما مات إبراهيم من شدة البرد وتجمد، كُونِي بَرْداً وَسَلاماً [الأنبياء:69] حتى لا تؤذيه بالبرد.

وقال إبراهيم كلمة واحدة فقط وهو في الهواء، يلقى بالمنجنيق إلى النار، في اتجاه النار، ذاهبٌ في الهواء، قال: حسبي الله ونعم الوكيل؟

قال ابن عباس كما في صحيح البخاري : [حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار] .

وقال محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما قيل لهم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] بعد غزوة أحد، قيل لهم: لقد عاد المشركون مرةً أخرى لاستئصالكم، إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] .

كل الدواب كانت تنفخ -بأمر الله- النار عن إبراهيم إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم، ولذلك أمرنا بقتل الأوزاغ إحياءً لذكرى أبينا إبراهيم، وإظهاراً للكراهية لهذا الحيوان الدابة الذي كان تنفخ النار على إبراهيم، كما جاء في الحديث الصحيح: (وقالت سائبة مولاة الفاكه بن المغيرة : دخلتُ على عائشة، فرأيتُ في بيتها رمحاً موضوعاً، قلت: يا أم المؤمنين! ماذا تصنعون بهذا الرمح؟ قالت: هذا لهذه الأوزاغ نقتلهن بالرمح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حدثنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار لم تكن في الأرض دابةٌ إلا تطفئ النار عنه غير الوزغ، كان ينفخ عليه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله) .

وأخبرنا في الحديث الصحيح: (أن من قتل وزغاً من أول ضربة فله مائة حسنة، ومن قتلها من الضربة الثانية فله خمسون حسنة نصفها) .

وورد في بعض الآثار: [أنه لم يبق يومئذٍ نار في الأرض إلا طفئت، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنارٍ في العالَم].

كذب إبراهيم في ذات الله
وهذه قصة الكذبتين الأوليتين: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، و بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] .

وقيل: إنه استخدم التورية أيضاً، قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء:63] وأشار إلى إصبعه.

وعلى أية حالٍ كانت من إبراهيم الخليل عليه السلام طريقة لإقناع قومه ومحاجتهم.

نعود إلى قصتنا:

- بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] .

- إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] .

- وكذلك عندما قال عن زوجته: إنها أخته.

قال النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الثلاث الكذبات: (ثنتين منهن في ذات الله) ما معنى في ذات الله؟ مع أن قول إبراهيم عن زوجته: هذه أختي، أيضاً فيها معنى من جهة الدفاع عن عرض زوجته وتخليص زوجته في سبيل الله أيضاً؛ لكن خص هاتين بقوله: ( في ذات الله ) مع أن الثالثة في ذات الله أيضاً؛ لكن الثنتين الأوليتين ما تضمنتا حظاً لنفسه، بخلاف الثالثة، فإن فيها حظاً له وهي: نجاته ونجاة زوجته.

الثالثة التي هي في ذات الله؛ لكن فيها فائدة له أو حظاً له، وسعيه لتخليص زوجته، وهو مقصد شرعي مباح لا غبار عليه على الإطلاق؛ لكن امتدح الثنتين الأوليتين؛ لأنها لله محضة ما فيها حظ لنفس إبراهيم وشخصه أبداً.

دخول أرض الجبار .. وطمع الجبار بزوجة إبراهيم
قال: (بينما هو ذات يومٍ وسارة قدم أرض جبارٍ ومعه سارة) قيل: إنه ملك مصر في ذلك الوقت هذا الجبار الكافر الطاغية، وأن إبراهيم لما خرج من أرض العراق بعدما أحرق الله النمرود وقومه اتجه إلى بلاد الشام وبلاد مصر ، فلما دخل بلاد مصر وكان عليها هذا الرجل الجبار قيل له: إن هنا رجلٌ -لما دخل أرض مصر وكان فيها هذا الجبار- قيل للجبار: إن هنا رجل -وهو إبراهيم- ومعه امرأة، هناك رجل معه امرأة دخلوا مملكتك، المرأة جميلة جداً في غاية الجمال، لا تصلح إلا لك.

وإبراهيم تزوجها لَمَّا هاجر من بلاد قومه إلى حران، قيل: إنه تزوجها في ذلك الوقت، ولما دخل بها مصر وكان على مصر ذلك الملك الطاغية بعض أقرباء الملك، كما ورد في الحديث رأى إبراهيم ورأى معه سارة ، وكانت قد أوتيت من الحسن شيئاً عظيماً، وقال له: إني رأيتها تطحن، وإنها في غاية الجمال، فالملك كان لا يدع شيئاً مثل هذا يفوته من ظلمه وعسفه وبغيه، فأرسل إلى إبراهيم وإلى سارة وجيء بها، وجيء معه، فسأله عنها، فقال: من هذه المرأة التي معك؟ قال: أختي، ظاهر الحديث أنه أتي بإبراهيم أولاً وسأله من هذه؟ قال: هذه أختي، رجع إبراهيم إلى زوجته، قال: يا سارة ! ليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيركِ، ثم طلب منها، إذا سألها الملك عن قرابتها منه مَن تكون بالنسبة له أن تقول له: إنها أخته؛ حتى لا يتناقض كلامه مع كلامها؛ ولئلا يظهر بمظهر الكاذب، فقال: فصدقيه إذا سألك عني، فقولي: هذا أخي؛ لأنني قلت له: إنك أختي، يقصد إبراهيم أختي في الإسلام.

فلعل إبراهيم أحس مسبقاً أن الملك سيطلبها، فأوصاها بما أوصاها به، ولما وقع ما كان يظنه أعاد عليها الوصية لما استدعاه الملك، وقال: من هذه المرأة التي معك؟ قال: أختي، رجع إليها، وقال: إذا سألك فاصدقيني إذا سألك فقولي له: أنك أختي، ولا تكذبيني.

ما هو السبب؟ لماذا لم يقل: إنها زوجتي؟ ولماذا لم يخبر بالحقيقة؟

قيل: إن الملك إذا عرف أنها زوجته لا يمكن أن يصل إليها إلا بالتخلص من زوجها، فيَقْتُل إبراهيم للوصول إلى المرأة؛ لكن لو عرف أنها أخته ربما وصل إليها بطريقة أخرى كالزواج أو غيره، وإن كان رجلاً رَكَّاباً للحرام، كما يتبين من القصة؛ لكنه كان ظالماً يريد اغتصابها، فلعله كان إذا عرف أن المرأة متزوجة قتل الزوج أولاً، فأراد إبراهيم أن يدفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما، بين أن يكذب أو يخبر بالحقيقة، ويُقْتل، فارتكب أدنى المفسدتين، وأخبر بتلك الكلمة، وقال لها: (ليس على وجه الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك).

لو قال قائل: ولوط عليه السلام؟!

فيمكن أن يقال: إن إبراهيم يقصد الأرض التي هو فيها الآن، دخلنا بلد مصر، لا يوجد مؤمن غيري وغيرك، أما الأرض الأخرى ففيها لوط، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] وقال إبراهيم: إِنِّي مُهَاجِرٌ [العنكبوت:26] وهاجر إبراهيم، إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت:26].

لما أُخِذَت سارة من إبراهيم قام إبراهيم يصلي، ولما أدخلت سارة على الملك لم يتمالك أن بسط يده إليها من شدة جمالها، لأنه لم يستطع أن يقاوم نفسه فقبِضَت يده قبضة شديدة، وفي رواية: (فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي -أي: تدعو- فغُـطَّ) وفي روايـة: (رُكِض برجله) يعني: اختنق، كأنه مصروع، والغط: صوت النائم، من شدة النفخ، غطيط.

فمجموع الروايات يؤخذ منها:

أنه عوقب أولاً بقبض يده؛ أي: شُلَّت يده ولم يستطيع أن يحركها، وثانياً: أنه صُرِع.

جاء في رواية الأعرج : أن سارة توضأت ودعت الله عز وجل قائلةً: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي الكافر) هي تعلم أنها آمنت به لكن تواضعاً قالت هذا الدعاء.

ولما شلت يد هذا الملك وصرع قال: (ادعي الله لي ولا أضرك) وفي رواية مسلم : (ادعي الله أن يطلق ففعلتْ) قال أبو سلمة : قال أبو هريرة : قالت: (اللهم إن يمت يقال: هي التي قتلته) إن يمت الآن من هذه الصرعة يقول قومه: هي التي قتلته، فربما قتلوها، فدعت الله له فأرسلها، لما تحرر الرجل ورجع إلى حاله الأولى هل توقف؟ أبداً.

تناولها الثانية، ثم قام إليها فقامت تتوضأ وتصلي ودعت الله عز وجل فأخذ مثلها أو أشد، أشد من القبضة الأولى.

وفي المرة الثالثة دعا الرجل الذي جاء له بـسارة وقال له: إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان، ما أرسلتم إلي إلا شيطانة أرجعوها، ولعله لما صُرع ظن أن الشيطان هو الذي تدخل، وكانوا قبل الإسلام في الجاهلية يعظمون أمر الجن جداً، ويرون كل ما وقع من الخوارق من فعل الجن؛ لما رأى الملك نفسه مصروعاً مشلولاً قال: هذا من فعل الجن، هذا شيطان، هذا ليس بإنسان.

أطلق سراح سارة وقال: أعيدوها إلى إبراهيم، وزيادة على ذلك: أعطاها خادمة وهي هاجر وهبها لها لتخدمها، لأنه سمع أنها كانت تعجن العجين أو تخدم نفسها، قال: هذه لا يليق أن تخدم نفسها، فأعطاها خادمة وهي: هاجر .

فلما أطلق سراحها ومعها هاجر أتت سارة إلى إبراهيم وكان يصلي، فقال إبراهيم بعدما انصرف من صلاته: (مَهْيَمْ-أي: ما الخبر؟- فقالت سارة ملخصةً ما حصل: رد الله كيد الكافر وأخدم هاجر) رد الله كيد الكافر في نحره، أَشَعَرْتَ أن الله كبت الكافر وأخدم وليدةً؟ وهي الجارية.

أبو هريرة ماذا قال عن هاجر في آخر القصة؟

قال: [ تلك أمكم يا بني ماء السماء ] يخاطب أبو هريرة العرب يقول لهم: [تلك أمكم ...] هذه هاجر الـتي كانت خادمة وأُعْطِيَت خادمةًَ وجاريةً لـسارة ، ثم وهبتها لزوجها إبراهيم، قال: [فتلك أمكم يا بني ماء السماء] لماذا يطلق على العرب (بني ماء السماء)؟

لكثرة ملازمتهم للفلوات والصحاري؛ لأن فيها مواقع القطر وهو الماء النازل من السماء، يغشون البراري لأجل رعي أغنامهم، ولذلك سُمُّوا ببني ماء السماء؛ لأن عيشهم على ماء السماء.

وقوله: [تلك أمكم يا بني ماء السماء] قيل: إن العرب كانوا من ولد إسماعيل، وهناك عرب قبلهم؛ لكن هؤلاء العرب المتأخرون كانوا من ولد إسماعيل.

فوائد من قصة إبراهيم وسارة والجبار
هذا الحديث فيه فوائد كثيرة ومتعددة :-

فمن الفوائد:

مشروعية أخوة الإسلام
أولاً: مشروعية أخوة الإسلام، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [حجرات:10] وأن رابطة الدين رابطة عظيمة، وأن أخوة الإسلام أقوى من أخوة النسب، والدليل على ذلك: أن الأخوين إذا كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً جاز للمسلم أن يقتل أخاه في سبيل الله، إذا التقيا في صفين يمكن أن يعمد إليه فيقتله، فهذا دليل على أن أخوة الدين أقوى من أخوة النسب.

الرخصة في الانقياد للظالم وقبول هديته
ثانياً: الرخصة في الانقياد للظالم والغاصب، فيمكن أن يقال: لماذا لم تقاوم؟

قد تقاوم وتقتل وتذل وتهان، وهنا رخصة في أن المرأة إذا أجبرت بالقوة على الانقياد إلى ظالم، فإنها إذا لم تجد طريقة للهرب ولا للتخلص، وقِيْدت بالقوة، فإنها تكون معذورة بهذا.

ثالثاً: يؤخذ من الحديث: قبول هدية المشرك؛ فإنه لما أعطاها هاجر قَبِلَت الهدية وأقرها إبراهيم، وهو نبي يأتيه الوحي، فأُخِذَت هدية المشرك.

إجابة دعاء المخلص
ومن أعظم الفوائد: إجابة الدعاء بإخلاص النية؛ فإنها دعت الله تعالى، ففرج الله عنها، والله تعالى مع المكروب، ومع الملهوف، ومع المظلوم، يجيب دعوة المظلوم، والمضطر، ولا شك أن سارة في ذلك الموقف كانت في اضطرار عظيم، فلما دعت الله وقالت: ( اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك ) فكانت صادقة مؤمنة فاستجاب الله دعاءها.

وهكذا المرأة المسلمة والرجل المسلم إذا وقع في ضرورة.. في ورطة.. في أزمة فتوجه إلى الله بالدعاء فإن الله سبحانه وتعالى يخلصه إذا كانت نيته حسنة.

مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة
خامساً: مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة، وهذا سبق لنا في قصة أصحاب الغار الثلاثة.

وهذا دليل آخر، فإنها قالت: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر) فتوسلت إلى الله تعالى بالإيمان وبالعفة، (وأحصنت فرجي إلا على زوجي) وهذه من الأعمال الصالحة، امرأة عفيفة تقول: ما مسني أحد من الأجانب أبداً ( أحصنت فرجي إلا على زوجي ) التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة، وأن الله سبحانه وتعالى يقبل الدعاء بالأعمال الصالحة، وأنه عز وجل يستجيب.

الحكمة من ابتلاء الصالحين
سادساً: يؤخذ من هذه القصة أيضاً: ابتلاء الصالحين لرفع درجاتهم؛ فإن الله ابتلى إبراهيم بأخذ زوجته منه.. ابتلى إبراهيم بهذا الملك الظالم.. ابتلاه باستدعائه له.. ابتلاه بالموقف الصعب الذي مر به.. ابتلاه بالشدة، وهذا ليرفع درجته ويزيد أجره وحسناته.

أهمية الفزع إلى الصلاة ومشروعية الوضوء لمن قبلنا
سابعاً: أن الإنسان إذا نابه كرب أو وقع في شدة فإن عليه أن يفزع إلى الصلاة؛ فإن إبراهيم الخليل لما أُخِذت منه زوجته ماذا فعل؟ اشتكى إلى مَن؟ إلى ملك الملوك.

ويلجأ إلى من؟

الذي خصمه الآن أكبر سلطان في البلد وهو الملك، أخذ زوجته، يشتكيه إلى مَن؟

لا يوجد حل إلا من الله سبحانه وتعالى، فتوجه إلى الله تعالى وقام يصلي.

وهكذا كـان النـبي عليه الصـلاة والسـلام إذا فزعـه أمر صلى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153] .

ولما أخبر ابن عباس أن أخاه قد توفي وهو في طريق السفر، نزل عن دابته إلى جانب الطريق فصلى ركعتين وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153] .

فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أو كربه أمر صلى، وهكذا إبراهيم الخليل لما حصل له ما حصل فزع إلى الصلاة، قام إبراهيم يصلي، طيلة فترة غياب الزوجة عنه وهو في صلاته، هذه من أسوأ الفترات التي يمكن أن تمر بالإنسان، الزوج إذا أُخِذَت زوجته إلى مكان مجهول، ولا يدري ماذا يُفعل بها، وليس عنده قوةً ليس عنده جيشٌ يحارب به، ولا قوة يستطيع أن يقتحم قصر الظالم ويستخرج زوجته، أو أنه يهرب بها، لا يستطيع، دخل في سلطان هذا الفاجر.

فإذاً كان يأوي إلى ركنٍ شديد وهو الله عز وجل.

ثامناً: من فوائد هذه القصة أيضاً: أن الوضوء كان مشروعاً للأمم من قبلنا، وليس خاصاً بهذه الأمة ولا بالأنبياء؛ لأن ذلك ثبت عن سارة أنها قامت تتوضأ، وجمهور العلماء على أن سارة ليست بنبية وإنما هي من أولياء الله.

إثبات كرامات الأولياء
تاسعاً: من فوائد القصة: إثبات كرامات أولياء الله تعالى؛ لأن سارة أكرمها الله بأن فكها من يد الظالم وكرامة لها، ثم إن هذا الظالم لما شلت يده وصرع قال: ادعي الله لي ولا أضرك، دعت الله وفُك ورجع إلى ما كان عليه، فمن كرامات أولياء الله أن يستجيب الله دعاءهم، والاعتقاد بكرامات أولياء الله من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله قد يخرق العادة لبعض أوليائه.

وقد اختلف في هذا الشيء أصناف من الناس:

- فذهب الأشاعرة إلى أن كلما كان معجزةً لنبي جاز أن يكون كرامةً لولي، فسوَّوا بين الكرامة والمعجزة.

- وذهبت المعتزلة إلى النقيض من ذلك، فأنكروا كرامات الأولياء، وقالوا: ليست هناك كرامات، لأنهم عقلانيون، فالقضايا الغيبية لا يؤمنون بها.

- وتوسط أهل السنة والجماعة فقالوا بإثبات كرامات الأولياء؛ ولكن كرامة الولي لا يمكن أن ترقى إلى درجة معجزة النبي، فمعجزة النبي أعظم لا شك في ذلك؛ لأنه مؤيد من الله بمعجزات لبيان صدقه وإقامة الحجة على قومه، أما الولي فقد تقع له الكرامة وهو في الصحراء فمفرده، فيعطش مثلاً وليس عنده زاد، فالله سبحانه وتعالى ينزل عليه شيئاً أو طعاماً أو شراباً، أما معجزة النبي فيراها الناس؛ لأنه مؤيد من الله والمعجزة تكون لأجل أن يؤمن الناس ليقيم الله الحجة عليهم.

فإذاً عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كرامات الأولياء إذا ثبتت، وإلا فإن الصوفية وغيرهم ادَّعوا كرامات كثيرة، وكذب كثيرٌ من الناس في الكرامات، كل أحد يدعي كرامة من جهة، لكن إذا ثبتت الكرامة فإن عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كرامات الأولياء، ولكنها مقام دون مقام معجزات الأنبياء ولا شك.

فـأهل السنة والجماعة وسطٌ بين الأشاعرة والمعتزلة في هذا المقام.

تاسعاً: من الفوائد: أن الكذب في ذات الله تعالى لإعلاء شأن الدين جائزٌ ولا حرج فيه.

عاشراً: أن على الإنسان أن يكون حكيماً يحسب للأمر حسابه، فهذا إبراهيم عليه السلام يقول لزوجته: (إذا سألك فأخبريه أنك أختي) حتى لا أكون كذاباً عنده، ولا تتناقض الأقوال.

تحذير النساء من الفجرة
حادي عشر: أن بعض الفجرة لا يتورعون عند رؤية المرأة أن يمدوا أيديهم إليها مباشرةً؛ ولذلك فإن على المرأة المسلمة أن تحتشم ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] .

فالمرأة إذا تبرجت صارت نهباً وعُرضة لكل فاسق وفاجر؛ لأنها تصبح مجالاً للإغراء والفتنة، ويطمع فيها الطامعون، وأما إذا احتشمت وتحجبت ولم يظهر منها شيء فلا يطمع فيها أحد؛ لأنها ليست مغرية -عند الحجاب ليست مغرية- لكن المتبرجة تغري بنفسها، هذه المتبرجة سفيهة؛ لأنه لسان حالها يقول للناس في الشوارع: تعالوا ورائي، الذي يريد أن يلمسني، يلمسني؛ والذي يريد أن يعطيني رقماً، يعطيني؛ والذي يريد أن يجيء ورائي، يجيء، هذه الفاجرة، المرأة التي تتبرج ما معناها الآن؟

إذا تبرجت امرأة في الشارع؛ مكياج، وزينة، وحسرت عن وجهها وشعرها، وخرجت تمشي في السوق بين الرجال الأجانب، ما معناها؟

معناها دعوة للفحشاء، تلم الناس تقول: تعالوا ورائي، الذي يريد أن يجيء، هذا معناه أن تلفت إليها الأنظار، فهي المجرمة الأولى، والفاجر الذي وراءها المجرم الثاني.

ولذلك النساء اللاتي يتبرجن في الأسواق لا يعلم الإثم الذي عليهن إلا الله عز وجل، لأنها لا تفتن واحداً ولا اثنين ولا عشرة، طيلة مشيها في الشارع تفتن الناس، والناس أكثرهم فيهم ظلمٌ وفجور، ينظرون ولا يتورعون، يطلقون البصر ويلحقونها؛ ولذلك تجد أحياناً امرأة في الشارع يسير وراءها ثلة من الفجرة؛ لأنها كلما تبرجت تبرجاً ملفتاً للنظر مثيراً، كلما زاد عدد الأتباع الذين يتبعونها، وبعض النساء تريد هذا أن يتبعها أكبر عدد من الشباب.

ولذلك يا إخوان، الله سبحانه وتعالى حكيم عندما قال: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] ، ويَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31] .

ولما قال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31] .

ولما قال: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] .

ولما قال: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] .

ولما قال: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] .

ولما قال: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31] .

كل هذه إجراءات للعفاف وتطهير المجتمع المسلم، ولما خالفت النساء هذا، انتشرت الفاحشة في المجتمع، ورأيتَ الآن رمي الأرقام وهذا شيء مشاهَد، لا يحتاج إلى زيادة تدقيق وأصبح شيئاً عادياً، وتجد المسألة عادية، والعياذ بالله، وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى لا يسامح فيه، الله يغضب لحرماته، وإذا أصبح المجتمع فاجراً فإن الله عز وجل ينزل بأسه وسطوته وعذابه انتقاماً من هذا المجتمع.

ولذلك لا بد من الحذر الشديد في هذه القضية، وأن يقوم كل إنسان على زوجته، وبنته، وأمه، وأخته، بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجار ينصح جاره في زوجته، والقريب ينصح أقرباءه في زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم، لا نترك أحداً؛ لأن المسألة عامة، والعذاب عام؛ إذا نزل عمَّ الجميع، ثم يبعثون على نياتهم، لا ينجو من العذاب إلا الذي كان ينهى عن السوء أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ [الأعراف:165] .

ثاني عشر: من فوائـد هذه القـصة: تواضع سارة لما قالت: (كف الله يد الفاجر) ما قالت: بصلاحي.. بدعائي! لا، قالت: (كف الله يد الفاجر) الفرج من عند الله (وأخدم خادماً) .

مشروعية المعاريض والتورية
ثالث عشر: قضية مشروعية المعاريض، استخدام التورية:-

وعند هذا سنقف وقفةً أخيرة في هذه القصة بين الكذب والتورية.

عقوبة الكذاب ومراتب الكذب
أما الكذب: فإنه من الكبائر، قال الله تعالى: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]، وقال سبحانه: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والكذب، فإن الكذاب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار -فالكذب طريق مباشر إلى جهنم- ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً) .

وكذلك من صفات المنافق أنه (إذا حدث كذب) فالكذاب فيه صفة من صفات المنافقين.

وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت كأن رجلاً جاءني فقال لي: قم، فقمتُ معه، فإذا أنا برجلين: أحدهما قائم والآخر جالس، بيد القائم كلُّوب من حديد يلقمه في شدق الجالس فيجذبه حتى يبلغ كاهله) يشرشره من الجنب إلى القفا، ويرجع يأخذ الجنب الثاني إلى القفا، يعود إلى الجنب الأول سليماً، يشرشره إلى القفا، كلاليب من حديد، (فقلت للذي أقامني: ما هذا؟ قال: هذا رجلٌ كذاب، يعذب في قبره إلى يوم القيامة)، وفي رواية: (هذا رجل يكذب فتبلغ كذبته الآفاق) يكذب كذبة وتنتشر، كأن تنتشر الآن عبر القنوات الفضائية، كذبة تنتشر في الآفاق في المشرق والمغرب، فهؤلاء هذا عذابهم في القبر، غير عذاب النار، وسيأتي عذاب جهنم بعد عذاب القبر.

إذاً: الكذب لا شك أنه كبيرة من الكبائر، ومُتَوعد عليها باللعن، أما الكذب على الله وعلى رسوله فهذا أسوأ أنواع الكذب، لأن الكذب درجات، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم مَن فعله فإنه يتبوأ مقعده من النار مباشرةً، ومن استحل الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يكفر ولا شك.

والكذب على الله مثل أن تخبر عن الشيء الحرام أنه حلال، كما يفعل بعض المفتين، ينتقد البنوك الربوية؛ لأنها تفتح فروعاً إسلامية، يقول: لماذا تفتحوا فروعاً إسلامية، أنتم إذا فتحتم فروعاً إسلامية معناها كأنكم تقولون للناس: إن شغلكم الآخر حرام، فأنتم لا يجب أن تفتحوا فروعاً إسلامية؛ لأنه أصلاً كله حلال جائز؛ لماذا تفتح فرعاً إسلامياً، ألا لعنة الله على الكاذبين، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13].. وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25] والعامة الذين يتبعونهم كلهم أوزارهم فوق ظهر هذا الكذاب.

فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم أخوف ما خاف على أمته: (الأئمة المضلين الذين يضلون بأهوائهم) ، وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116] .

فيأتي يقول على الربا: إنها حلال، لعنة الله على مَن قال ذلك، وهذا غيض من فيض.

المهم: الكذب على الله وعلى رسوله أسوأ أنواع الكذب، والكذب العام الذي يبلغ الآفاق هذا، أو الشائعة التي تنشر، أو الخبر الكذب الذي ينشر هذا عقوبته في القبر مرت معنا وعرفناها.

والكذب على أفراد الناس لا شك أنه محرمٌ أيضاً، الكذب مراتب ودرجات.

هل يباح الكذب أو يجب؟
هل هناك كذب مباح؟

نعم، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول: خيراً وينمِي خيراً) ولم أسمعه يُرَخَّص في شيء مما يقول الناس (رخص النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الكذب في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها).

فإذاً: الكذب في الحرب جائز؛ لأجل مخادعة العدو، والحرب خدعة، مثل أن يقول: إن جيش المسلمين كثير، عشرة آلاف، وربما هم لا يتجاوزون الألفين أو الثلاثة، فيكذب على العدو بإعطائهم أخباراً عن جيش المسلمين أنه كثير لأجل إخافة العدو، هذا ماذا؟ كذب مشروع، ولا حرج فيه، ويُتَقَرَّب به إلى الله.

كذلك الكذب للإصلاح بين متخاصمَين، كأن يقول: يا فلان! لم لا تكلم فلاناً، فيقول: هذا عدوي يتكلم علي، هذا بلغني أنه تكلم علي في المجلس الفلاني، فيقول: أنا كنت حاضراً ولم أسمعه يتكلم، وهذه إشاعة، ولا تصدق هذا الكلام؛ لأجل الإصلاح بينهما.

أو يقول: إنني سمعته يثني عليك وهو لم يسمعه يثني عليه، ولكن لأجل الإصلاح بين المتخاصمَين، فهذا لا حرج فيه.

أما حديث الرجل لزوجته: لو قال إنسان لزوجته: أنتِ أجمل امرأة رأيتها في حياتي، ومن المؤكد أنها ليست أجمل امرأة؛ لكن من باب التحبب إليها.

أو يقول: هذه الطبخة أحسن طبخة أكلتها في حياتي، ما أكلت ألذ منها، من باب التلطف مع الزوجة وحسن المداعبة والمعاشرة، مع أنه ربما أكل في مطعم أحسن منها، لكنه يقصد التقرب إلى الزوجة، والحديث معها ليس حديثاً يأكل به حقها ولا مهرها ولا يعتدي عليها أو يهضم شيئاً من حقوقها، لا يقول مثلاً: أنا ما أخذت ذهبك وهو الذي أخذه، كذاب.

وكذلك المرأة لا تقول: إنني ما أخذت مالك، وهي التي أخذت ماله، وإنما الكذب الذي يكون من نوع المِلْح الذي تُحَسَّن به المعيشة.

وكذلك من الكذب الواجب: ما لو قصد إنسان ظالم قتل رجلٍ مختفٍ عندك وجب عليك أن تكذب؛ لئلا يعلم أين هو، فلو قال: هو عندك؟

تقول: لم أره جاز ذلك.

مثلاً لو أن ظالماً يريد أن يأخذ مال واحد قال: هل مال فلان عندك؟

قال: لا. لم يضع عندي ولا قرشاً، بالعكس أنا لي عنده فلوس، فالكذب لإنقاذ روح إنسان معصوم الدم، أو لتخليص مال مسلم من الهلاك، هذا مشروع.

ونَظَم أحد الشعراء المسلمين أقسام الكذب فقال:

لِخَمْسَةٍ ينقسم الكذب فما لا نفع شرعاً فيه قطعاً حُرِما
وما لوالدٍ لجبر خاطرهْ أو خاطر الزوجة دعه فكُرِهْ
وهو لإرهاب العدو يندبُ للمسلمين إن هم تأهبوا
وإن تخلص مسلماً أو مالَهُ به فعلت واجباً تجزى لََهُ
ولصلاحٍ بين ناسٍ قد أبيحْ وقيل: إن الكذب كله قبيحْ
فإذا كان الكذب لتخليص مسلم أو ماله من الهلاك فإنه يكون واجباً.

وإذا كان لإرهاب أعداء الدين كأن يخبرهم بكثرة عدد المسلمين، وأنهم آتون، وأنهم قريبو المجيء، فهذا أيضاً مشروع ومستحب.

قيل: إن الإصلاح بين الناس من قسم المباح، ولا يبعد أن يكون من قسم المشروع.

وقيل: ما كان جبراً لخاطر، فإنه مكروه، وما لا نفع فيه شرعاً فإنه محرم.

ولا شك أنه إذا كان مضراً فهو محرم، مثلك أن يكذب ويقول: سآتيك بالمال، وهو كذاب لن يأتيه به، مالك عندي وجاهز متى تريد أعطيك حقك، وهو كذاب ما عنده المال.. ونحو ذلك، فهذا الكذب أكثره محرم، وقسم قليل هو الذي يكون جائزاً.

التورية مخرج من الكذب
وهناك مخرجٌ مهم يمكن أن يلجأ إليه الإنسان ألا وهو التورية:

إذا احتاج إلى الكذب استخدم التورية، فما هي التورية؟

بعد أن عرفنا أن الكذب حرام ومرت معنا قصة إبراهيم الخليل، وأن الأنبياء لا يحوز الكذب في حقهم مطلقاً في قضية تبليغ الشريعة والوحي، وأنهم معصومون من الكذب في تبليغ الشريعة قطعاً، والكذب في غير ذلك من الصغائر، المسألة فيها قولان مشهوران للسلف والخلف:

- أما منصب النبوة فلا يمكن أن يكذبوا فيه مطلقاً، والله سبحانه وتعالى يبعث الصادق، حتى في الجاهلية كان النبي صلى الله عليه وسلم معروفاً بالصدق.

ينبغي على الإنسان إذا احتاج للوقوع ليخبر عن شيء بخلاف الحقيقة أن لا يكذب وإنما يستخدم التورية فما هي التورية؟

التورية: أن تأتي بكلامٍ له معنيان؛ معنى قريب، ومعنى بعيد، فالسامع يتوهم أنك تقصد المعنى القريب، وفي الحقيقة أنك تقصد المعنى البعيد، هذه قضية المعاريض.

والأصل في مشروعيتها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب) .

وهذه المعاريض لا تجوز مطلقاً في ظلم الناس أو إسقاط حقوق الخلق أبداً.

لنأخذ شيئاً من معاريض النبوة حتى يتبين لنا ما هي المعاريض:

النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله، بعض العرب في غزوة ما، ولم يتعرفوا من هو، وأرادوا أن يعرفوا شـخصيـته، فقالوا: (من أنتم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نحن من ماء) ويقصد بذلك الماء الذي خلق منه الإنسان؟

وقال أيضاً: (لا يدخل الجنة عجوز!) ما المعنى القريب الذي فهمته المرأة وبكت؟

أن العجائز لا يدخلن الجنة.

لكن المعنى الآخر: أن الله عز وجل لا يُدخل العجوز على هيئة عجوز، وإنما يغير هيئتها وتعود شابة إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً [الواقعة:35-36] وليس المعنى أن العجوز التي في الدنيا عجوز لا تدخل الجنة، وإنما المقصود أنها عند دخولها الجنة لا تكون عجوزاً؛ بل تنقلب إلى بكرٍ شابة في سن الثالثة والثلاثين.

لما قال للمرأة: (زوجك الذي في عينه بياض) والبياض يفهمون أنه العمى، لكن كل واحد منا في عينه بياض وسواد.

فالمعرِّض يقصد معنىً بعيداً، اللفظ يحتمله، ولو أن اللفظ لا يحتمله يكون كذباً، والسامع يفهم المعنى القريب لهذا اللفظ.

ولا يجوز استعمال التورية مطلقاً في إسقاط حق.

مثال: يقول القاضي لرجل: أنت أخذت مال فلان؟

فيقول: لم آخذ ماله، وهو يقصد مال رجل آخر، فهذا لا يمكن؛ لأن معنى ذلك: أن يسقط حقاً، وهذا حرام ولا يجوز.

أمثلة في التورية
من الأمثلة مثلاً: لما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته، وعنده زوجة شديدة الغيرة، فلما وطئ جاريته رأته امرأته فأخذت السكين وجاءته، فوجدته قد قضى حاجته، فقالت: لو رأيتك حيث كنت لَوَجأتُ بها في عنقك، فقال: ما فعلت! فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن تعرف أن الجنب لا يقرأ القرآن- فقال:

شهدتُ بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا
فقالت: آمنت بكتاب الله وكذَّبتُ بصري، وهذه طبعاً القصة في إسنادها شيء، ولها طرق لكنها لا تخلوا من ضعف، وهذه المرأة يمكن أن يكون فيها غفلة، لأنها لم تعرف أن تميز بين الشعر والقرآن.

لكن نأخذ أمثلة أخرى:

دُعِي أبو هريرة إلى طعام فقال: (إني صائم -ما أراد أن يأكل من هذا الطعام- فرأوه يأكل بعد ذلك، فقالوا: ألم تقل إنك صائم؟ قال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، فأنا أصوم ثلاثة أيام من كل شهر) .

وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شيء معه، مثلاً: أعطاه رجل مالاً وجاء يريد المال، وهو مسكين ليس عنده شيء، وهو لا يريد أن يُذهب أموال الناس، يقول: [أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله] فالسامع يفهم؟ أنه يطيه المال غداً أو بعده، وهو يقصد يومي الدنيا والآخرة، أحد اليومين، إما في الدنيا أعطيك، أو في الآخرة تأخذه.

وكذلك أبو بكر الصديق لما هاجر مع النبي عليه الصلاة والسلام وسئل: (من هذا الذي معك؟ -كانت خطورة أن يخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه معه- فقال: هذا رجلٌ يهديني الطريق) ماذا يقصد؟ ماذا يفهم العربي والبدوي في الصحراء؟

أي: هذا دليل، أنا مسافر وهذا دليل في السفر، بينما هو قصد (هذا رجلٌ يهديني الطريق) يعني: طريق الإسلام.. طريق الخير؛ حِفاظاً على حياة النبي عليه الصلاة والسلام، هذه تورية واضحة ومشروعة، ما أراد أن يكذب لم يقل: هذا فلان الفلاني، جاء بأي اسم كذب، قال: (هذا رجلٌ يهديني الطريق) .

وقال حماد عن إبراهيم أنه سئل عن رجل أخذه رجل فقال: إن لي عندك حقاً، فقال: لا. فقال: احلف بالمشي إلى بيت الله فقال له إبراهيم : احلف بالمشي إلى بيت الله واعنِ مسجد حيك؛ لأن المساجد كلها بيوت الله، وذاك سيفهم بيت الله أي: بيت الله الحرام.

وذكر هشام بن حسان، عن ابن سيرين، أن رجلاً كان يُصِيْب بالعين فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها، كان شريح ذكي رحمه الله وكان عنده بغله حسنه، فرأها أحد العيانين الحساد الذي كان إذا أصاب شيئاً بالعين لا يخطئ كأشعة الليزر، وهذه نوعية موجودة في البشر، فلما رأى بغلة شريح أراد أن يعينها، ففطن له شريح قبل أن يعينها فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تُقَام -قال: هذه إذا جلست لا تقوم حتى تقام- قال الرجل: أفٍ أفٍ. فزهد العائن فيها فما حسدها، وإنما أراد أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها، أي: لا تقوم حتى يقيمها الله سبحانه وتعالى، كما يأمر كل شيء فيكون.

وكذلك قال أبو عوانة، عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جارية له - إبراهيم النخعي كان عنده جارية والمرأة تغار من الجارية جداً- وكان بيد إبراهيم مروحة يروح بها في الصيف ... فلما جاءت المرأة، وأكثرت عليه الكلام عند الناس والضيوف، قال: أشهدكم أنها لها -لتسكيت المرأة- فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟

قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها، قال: لا، أما رأيتموني أشير إلى المروحة، إنما قلت: اشهدوا أنها لها، وأنا أعني المروحة.

وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به من بعض مضيعي الأوقات كان يضع يده على ضرسه، ويقول: ضرسي.. ضرسي.. ويمشي، ضرسي.. ضرسي.. وهو لا يكذب؛ لأن كل واحد عنده ضرس.

وأُحْضِر الثوري إلى مجلس المهدي، فأراد أن يقوم، وكان المهدي متمسكاً به يريد أن يجلس عنده، والثوري رحمه الله يريد الذهاب، فمُنع من القيام فحلف بالله أنه يعود، وعلى هذا الأساس تركه الخليفة يمشي، فترك نعله ومشى ثم رجع فلبس نعله وأخذها ولم يعد، فقال المهدي : ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله.

وكان المروزي من أذكى أصحاب الإمام أحمد وأنجبهم، فجاء واحد يسأل عن المروزي يريد أن يأخذه من مجلس أحمد فأراد الإمام أحمد ألا تفوت المروزي الفائدة من الدرس، فقال الرجل: المروزي موجود عندك؟

فوضع أحمد إصبعه في كفه وقال للسائل ينظر إليه: ليس المروزي هاهنا، وما يفعل المروزي هاهنا؟ يقصد أحمد رحمه الله في كفه ليس المروزي هاهنا، ما يفعل المروزي هاهنا؟ وهذا كله من أجل التوقي من الكذب وعدم الوقوع فيه.

فهذه أمثلة على التورية نلاحظ منها أن الذين فعلوها كانوا يقصدون إما جبر خاطر، أو تحقيق مصلحة مثلاً، أو تخلصاً من موقف محرج، وحفاظاً على وقتهم.

ولذلك فإن هذه التورية مباحة وتغني عن الكذب، إذا احتاج الإنسان أن يتكلم بكلام لا يكذب يمكن أن يستخدم التورية ويحصل على مقصودة.

أما استخدام التورية لبيان المهارة وخداع الناس، لكي يثبت الإنسان أنه أذكى من الآخرين، فهذا مزلق شيطاني، وتجد بعض الناس يفعلون التورية بحاجة وبغير حاجة، ولذلك يقعون في الكذب.

وكذلك فإن كثرة استخدام التورية تؤدي إلى الوقوع في الكذب في النهاية، ولذلك فإننا عندما نتكلم عن التورية لا نقصد التوسع بها وأن يجرب الإنسان مهاراته على الآخرين، إنما نقصد أنك إذا احتجت أن تتكلم بكلام تتخلص به من موقف فهناك مجالات أخرى غير الكذب وهي التورية.










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
القصص القراني


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 16:28

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc