|
في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
اشْكَالاتُ الدَّلالَةِ النَّقْدِيَّةِ لِمصطلح القصيدة الطويلة في شعر التفعيلة المعاصر
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
2013-11-05, 20:45 | رقم المشاركة : 16 | ||||
|
و من نماذج هذا الشكل نقف على قصيدة "لاعب النرد" للشاعر محمود درويش من ديوانه الأخير "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي" ، فهذه القصيدة من الناحية الشكلية تحتوي على حدّ أدنى من الطول، قد يثير حولها خلافا في ما يتصل بهذا الأمر، وهو من مثل ما لمسه عز الدين إسماعيل في حديثه عن قصيدة "الملك لك" لصلاح عبد الصبور فرأى أنها "و إن لم تكن من حيث الطول الحرفي طويلة، فإن معماريتها تمثل صورة لمعمارية القصيدة الطويلة " (1)،وقصيدة محمود درويش لا تنتمي للمعمارية الدرامية التي ألحّ عليها كثير من النقاد ،بل إنها تمازج بين الغنائية والسردية والدرامية، وتتجلى فيها العاطفة الفردية الجياشة بصورة لا تطغى على الفكرة أو الرؤية التي يحملها النص،وبقدر ما فاض النص بالعاطفة الفردية، فإنه قد انتظمته فكرة موحدة، تحولت بالنص من الذاتية إلى الموضوعية من خلال ضمير المفرد المتكلم وعبّر عنها الشاعر من خلال امتلاكه التقنيات الفنية الحديثة للقصيدة المعاصرة،تمثل بعضها في التناص،والسرد،والحلم،والتذكر،والتداعي،والحوار،وشيء من الصراع، وتوظيف الرموز،والأساطير وغيرها، يقول محمود درويش:
أنا لاعب النرد ، أربح حينا و أخسر حينا أنا مثلكمْ أو أقل قليلا... ولدتُ إلى جانب البئر و الشجرات الثلاث الوحيدات كالراهباتْ ولدت بلا زفّةٍ و بلا قابلهْ وسُميتُ باسمي مصادفةً و انتميت إلى عائلهْ مصادفةً، وورثت ملامحها و الصفاتْ (2) إن العاطفة الفردية التي تظهر في المقطع السابق ببنائها الغنائي ذات أهمية كبرى في التأسيس لفكرة موحدة تشكل الهاجس الذي يؤرق الشاعر ، و سؤال الأنا الذي يلح على الشاعر لا ينفصل أبدا عن القضية المركزية التي يعشها، فأنا الشاعر التي تبرز على طول النص هي الأداة التي يعبّر من خلالها عن قضية الوطن ومعنى الوجود الذاتي الذي لا يكون إلا بوجود الوطن ، يقول : من أنا لأقول لكم و ما أقول لكم عن باب الكنيسة ولست سوى رمية نرد مابين مفترس وفريسة ربحت مزيدا من الصحو لا لأكون سعيدا بليلتي المقمرة بل لكي أشهد المجزرة (3) والمكاشفة التي يضع الشاعر نفسه أمامها تكشف عن الحقيقة القاسية، التي تمثل حقيقة وجود الشاعر،فيعترف بالتحول الحاد الذي يعيشه عبر التحول من لاعب إلى لعبة ،بل إلى رمية تجعل منه رقما يحدد قيمته الحظ فقط ،فالواقع الذي يحياه ، و النجاة ، و كل ما هو عليه كان مقدرا له، ولم يكن هو الذي يصنعه، والذاتية هنا تعبّر عن تحولالإنسان بصورة عامة عند الشاعر من خلال الإنسان الفلسطيني لا إلى لاعب نرد ،بل فيالواقع إلى حجر نرد يُرمى به، فلا يستطيع أن يعرف إلا مكان سقوطه. وهذا المكان ليسمكانا ثابتا. فكل إلقاء جديد لحجر النرد قد يقذف به إلى مكان آخر ، يقول : و مصادفة صارت الأرض أرضا مقدسة و مصادفة صار منحدر الحقل في بلدٍ متحفا للهباء... و مصادفة عاش بعض الرواة و قالوا : لو انتصر الآخرون على الآخرين لكانت لتاريخنا البشري عناوين أخرى (4) فالفكرة الموحدة موجودة في النص على الرغم من الغنائية التي يعج بها ،و قد استطاع الشاعر أن يخفف من حدة هذه الغنائية من خلال البناء السردي و توظيف بعض التقنيات الشعرية المعاصرة ، كاستخدام المنولوج في كثير من المقاطع ،و تقنيات الحلم و التذكر، والإشارة إلى بعض الأساطير كنرسيس وأولمب،وتوظيف بعض الرموز كأمرئ القيس،والتناص مع القرآن الكريم من خلال الإشارة إلى حادثة الإسراء والمعراج،وميلاد عيسى،وخبر موسى في جبل الطور، وغيرها،وهذه التقنيات والرموز والأساطير تتطلب من الشاعر مساحة أكبر للتعبير بها على نحو تام ومترابط . (1)المصدر نفسه ،ص 268. (2)درويش،محمود :لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي: لاعب النرد، رياض الريس للكتب والنشر،2009 ،ص35-36. (3)المصدر نفسه ، ص40. (4)درويش، المصدر السابق ، ص52-53.
|
||||
2013-11-05, 20:47 | رقم المشاركة : 17 | |||
|
القصيدة الطويلة
و هي القصيدة التي يبرز فيها طول نَفَس الشاعر، و قد تمتد لتشكل جزءا كبيرا من ديوان الشعر، وفيها تظهر قدرة الشاعر الحقيقية على إبداع بناء فني مركب ومتكامل ،قادر على حمل أبعاد التجربة الشعرية كافة ، من خلال التنويع و التكثيف في استخدام التقنيات الشعرية المعاصرة على نحو متنام ومترابط، يخدم الفكرة ،ويوصل الخطاب من غير تكلف أو تعسف ، وتتحول القصيدة بين يدي الشاعر إلى عمل فني يتطلب جهدا كبيرا و مقدرة متميزة، وتجعله كالبناء الكبير الذي يفقد قيمته الجمالية والتكوينية إذا نقص منه حجر، أو زيد فيه آخر. ومن النماذج الريادية التي تعدّ من بدايات القصيدة الطويلة المعاصرة قصيدة المومس العمياء للسياب، و هذه القصيدة التي تمتد عبر مئات الأسطر الشعرية و عشرات الصفحات، نالت حظا كبيرا من الدراسات النقدية، التي خلصت إلى أن السياب في المومس العمياء كان يسعى إلى إنتاج عمل يضاهي النماذج الشعرية الغربية المعاصرة التي قام بناؤها الفني في أحيان كثيرة على الإطالة وحشد الرموز و الأساطير، ويبدو أن إغراق السياب لقصيدته بهذه الرموز والأساطير جاء على حساب القيمة الفنية للقصيدة في بعض النواحي،أي أن هذا التوظيف المكثف لم يكن توظيفا مترابطا على نحو يحقق للقصيدة النمو الفني ،فتحولت كثير من الرموز والأساطير إلى عامل مرهق للمتلقي، أثر سلبا في تحقيق التواصل المطلوب مع القصيدة ،إلى جانب إغراق القصيدة في بعض مقاطعها بالغنائية المفرطة على حساب الأنماط البنائية الأخر كالبناء الدرامي أو السردي، يقول السياب في المومس العمياء: سرب من البط المهاجر ،يستحثّ إلى الجنوب أعناقه الجذلى .. تكاد تزيد من صمت الغروب صيحاته المتقطعات ،وتضمحل على السهوب بين الضباب ،و يهمس البردي بالرجوع الكئيب ويرج وشوشة السكون طلقٌ ..فيصمت كل شيء ..ثم يغلط في جنون هي بطة فلم انتفضتِ ؟ وما عساها أن تكون ؟ ولعل صائدها أبوك ،فإن يكن فستشبعون (1) و كما كان الشاعر مغرقا في غنائيته ،حريصا على القافية ، كان حريصا كذلك على حشد الرموز و الأساطير ،ونكتفي في هذا السياق بذكر أبرز الرموز و الأساطير التي وردت في القصيدة مرتبة حسب ورودها فيها،و منها: ميدوزا ، بابل، قابيل، أوديب، جوكست، مدينة طيبة وأبو الهول، المعري، أفروديت، فاوست و الشيطان، هيلين ، الإله أبولو، دفني ابنة إله أحد الأنهار، كيوبيد، هابيل ، يأجوج و مأجوج، أغنية شعبية، ..إلخ ، و لا مشاحة في أن هذا الحشد من الرموز و الأساطير يحتاج إلى مساحة كبيرة للتعبير به على الوجه التام ، لكن السياب ذاته شعر بثقل هذا الرموز و الأساطير فعمد إلى وضع إحالات هامشية تعين المتلقي على التواصل مع القصيدة ، و اكتفي في بعض المواضع بتوظيف عابر لبعض الرموز أو الأساطير ، و مع ذلك فإن هذه القصيدة و قصيدة "حفار القبور" للسياب " تعدان " المقدمتان الجادتان للقصيدة الطويلة الحديثة" (2) ، و من التجارب التي أسهمت في التأسيس لمرحلة أكثر نضجا في مسيرة القصيدة الطويلة . (1)السياب، المصدر السابق (2)شكري ، مصدر سابق ، ص 98. |
|||
2013-11-05, 20:50 | رقم المشاركة : 18 | |||
|
القصيدة الديوان و هذا الشكل من أشكال القصيدة الطويلة هو الأطول على الإطلاق ، و فيه تمتد القصيدة لتشكل ديوانا كاملا ، وتصبح عملا فنيا مستقلا ،يعبر فيه الشاعر عن تجربة متكاملة ، ويقدم من خلاله رؤية شاملة لحدث أو تجربة إنسانية ، وهذا الطول يعطي الشاعر مساحة كبيرة جدا للتعبير عن أبعاد التجربة بتفاصيلها كافة ، وحرية في التنويع و التلوين في استخدام التقنيات الشعرية المعاصرة كحشد الرموز و الأساطير و الانفتاح على الجناس الأدبية الأخرى و التنويع في أنماط البناء الفني و غيرها ، و أمثال هذا العمل الضخم ليس الأساس فيها مناقشة الوقت الذي تستغرقه ، أو الحالة الشعورية الموحدة التي تنتاب الشاعر لحظة إبداعها بقدر ما هو السؤال عن مدى الاتساق و الترابط الذي يتحقق بين أجزاء القصيدة ، و الفكرة الموحدة التي تنتظم أجزاءها كافة على نحو معماري متسلسل متناسق ، إضافة إلى تكامل الخطاب الذي تحمله و الرؤية التي يعاينها الشاعر . و نعتقد أن هذا النمط من القصائد الطويلة ظهر في الإبداعات الشعرية العربية بعد مروره بالشكلين السابقين ، وكان ثمرة لتلك التجارب التي قدمها الشعراء الرواد و الجيل الذي تلاهم من خلال الاطلاع عليها، وتمثلها،وأخذ مزاياها،و تجنب مزالقها ، و لا يعني هذا أن قصائد هذا النوع كانت كلها تجارب ناجحة و متكاملة ، بل إن منها أعمالا اعتورها الضعف و القصور ، وفشلت في تحقيق النجاح الذي حققته إبداعات مماثلة لها في الطول . و من نماذج القصيدة الديوان نقف على قصيدة "طرفة في مدار السرطان "للشاعر علي الجندي الذي وجد في تجربة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد معادلا موضوعيا لتجربته الخاصة، فاحتاج إلى مساحة كبيرة جدا للتعبير عن تفاصيل تجربته، فاستعار قناع طرفة، و مهد للقصيدة بدافع اختياره لهذا القناع ، إذ يقول" نختلف في كثير من صفاتنا ، فقد مات هو يافعا ، و ما أزال أهرم .. إلا أننا نتفق في شيء أساسي هو أننا معا عرضة للانهيار في أي لحظة،وأن "السرطان" يقرض حياتينا أبدا"(1)،و يرى الدكتور خالد الكركي في طرفة رمزا للحيرة واستشراف المستقبل ، و أزمته تكاد تكون وجودية ، فهو " لم يتحول إلى رفض الجماعة ، بل ارتد نحو الأسئلة الكبرى عن الحياة و الظلم ، وتراجع نحو العبث و الإسراف " (2) ، ويلجأ علي الجندي إلى بعض المغايرة و الافتراق في صورة طرفة بن العبد، ليتحدث عن واقعه الخاص، فيقول على لسان طرفة : إلى خدرك يا خولة أمضي جائعا طالبا بعض الحنان حالما أن ألتقي دفئك الموعود بالراحة أو " تقصير يوم الدجن " أو نسيان يوم الحرب أيام تمرست بذاتي و الطعان و إذا قالوا جهارا :" من فتى ؟ خلت أنا" .. لكنني اليوم جبان عرفت أوردتي طعم الهوان .. (3) لكنه يلتقي مع طرفة في الشعور بالاغتراب في أرضه و بين قومه، مفيدا من الحالة الشعورية التي عبر عنها طرفة في معلقته ، يقول علي الجندي: " إنني أعرف أني صرت وحدي ، إنني أفردت إفراد البعير صرت كالمجذوم في أهلي فمن دنياي .. غوري " (4) و هو في شعوره السابق يلجأ إلى التناص مع أبيات طرفة التي يقول فيها : فمازال تشرابي الخمور و لذتي و بيعي و إنفاقي طريفي ومتلدي إلى أن تحامتني العشيرة كلها و أفردت إفراد البعير المعبّد ( 5 ) و في هذه القصيدة الديوان ،لجأ الشاعر إلى تقنيات معاصرة متنوعة، أبرزها :القناع ، والتناص، ومزج بين البناء الغنائي و السردي، فوظف تقنيات التداعي و الحلم و التذكر والمشهد و الوصف واستخدم الحوار ،و المونولوج و نوّع في القافية و الأوزان على نحو حقق للقصيدة ترابطا واتساقا، أسهم في الرقي بمعماريتها. (1)الجندي ، علي :طرفة في مدار السرطان ، دمشق ، منشورات اتحاد الكتاب العرب،1975 ، ص 5. (2)الكركي،خالد: توظيف الرموز التراثية في الشعر العربي الحديث ، ط1، بيروت ،دار الجيل ،عمان ،مكتبة الرائد ، 1989، ص 112 . (3)الجندي ، المصدر السابق ، ص 35. (4)المصدر نفسه ، ص 15. (5)طرفة بن العبد،الديوان،شرح:الأعلم الشنتمري ،تحقيق:درية الخطيب و لطفي السقال ، دمشق ،مجمع اللغة العربية، 1980، ص 43. |
|||
2013-11-05, 20:52 | رقم المشاركة : 19 | |||
|
إن محاولة التقسيم السابقة للقصيدة الطويلة على أساس الطول الشكلي تنبثق من الإقرار بأهميته بوصفه مظهرا خارجيا لا بد من تحققه في القصيدة الطويلة دون أن ينفصل ذلك عن ارتباط الطول بالبنية التي تتكوّن القصيدة الطويلة منها، وتفصيل القول ببنية القصيدة الطويلة أمر يختلف عن البحث في الأنماط الممكنة لها. القصيدة الطويلة من حيث البنية حين تحقق القصيدة الطويلة شرطها الشكلي –الطول- فلا بد أن يقترن ذلك بالنظر إلى مضمونها و بنائها ، ولا نقصد في هذا المقام تحليل الرؤية التي تحملها ،و لا الكيفية التي يعبر بها الشاعر عن تجربته و الأدوات التي يستخدمها - على أهمية ذلك في كل قصيدة - بقدر ما نقصد الحكم العام على تلك القصيدة من حيث قدرتها على تحقيق الغاية منها، وتبرير الطول الحاصل فيها ، و نقدر أن بيان مضامين القصيدة الطويلة ، و أنماط بنائها وتشكيلاتها ، و تقنياتها الفنية تحتاج إلى دراسة مستقلة ، وعليه فإننا نرى أنه يمكن أن تقسم القصيدة الطويلة من حيث البنية العامة إلى قسمين :قصيدة طويلة مسطحة ،وقصيدة طويلة نامية ،و نحاول بهذا التقسيم الابتعاد عن أي تأطير فني للبنى التركيبية التي تقوم عليها القصيدة المعاصرة ، وعلى نحو خاص البناء الدرامي الذي استندت إليه كثير من التقسيمات كما في تقسيم بعض النقاد القصيدة الطويلة إلى :قصيدة طويلة وقصيدة مطولة ، وكذلك في تقسيم آخر يرى أن القصيدة الطويلة تقسم حسب البنية إلى قسمين : البنية الدرامية البسيطة ، و البنية الدرامية المعقدة (1)،وعلى الرغم من أن التقسيم الأخير يستحق النظر إلا أننا نرى أنه يمكن أن يكون تقسيما خاصا بالقصيدة الدرامية لا القصيدة الطويلة،والقصيدة الدرامية تقع ضمن نطاق القصيدة الطويلة لا العكس. القصيدة الطويلة السطحية و هي تلك القصيدة التي تفشل في التعامل مع الطول، واستثمار المساحة التي تستغرقها للتعبير عن رؤيتها ، فيتحول الطول فيها إلى عبء يثقلها ، ويفقدها كثيرا من فنيتها ، ويعود هذا الفشل إلى عدم مقدرة الشاعر على التحكم ببناء القصيدة الطويلة و معماريتها ، فتتحول القصيدة إلى حشد من الكلمات والجمل، تفتقر إلى الاتساق و الترابط ، ويعجز الشاعر فيها أن يوظف التقنيات الشعرية المعاصرة على النحو الذي يتطلبه الطول ،أو قد يصعب عليه التنويع في أنماط البناء المتاحة له، فيقوده قصور أدواته الفنية ،و عدم اكتمال رؤيته إلى الصنعة الممجوجة، أو التكرار الممل،أو الإسقاطات غير الواعية،وعندها يقع المتلقي فريسة للملل والتكرار، ويعود من القصيدة بخيبة أمل عندما يرتاد هذه المساحة الطويلة من التعبير، و لا يصل إلى شيء مميز، أو حتى مبرِر للإطالة. وهذا النمط من القصائد الطويلة ظهر في جزء من المحاولات الريادية ،ومحاولات بعض الشعراء الذين تتصف القدرة التعبيرية لهم بالقِصر ، فاستعصت عليهم الإطالة الفنية،ولم يكن لقصائدهم الطويلة نصيب من الطول سوى الاسم ، ومن نماذج هذا النوع من القصائد الطويلة قصيدة "الذي يأتي و لا يأتي " لعبد الوهاب البياتي. فالقصيدة التي أرادها الشاعر سيرة ذاتية لحياة عمر الخيام الباطنية عجزت عن تقديم سيرة الخيام على النحو الذي أراده الشاعر، فوقع نهبا للكلمات الثورية التي راحت تتكرر في جميع مقاطع القصيدة، وتحولت في بعض الأحيان إلى سباب وشتم ،وأسلمته دون وعي–أو ربما بوعي- إلى أسر القافية التي أثقلت القصيدة في كثير من المقاطع ، يقول البياتي : لسانها الثرثار يقطع فيه خشب التابوتْ خيوط العنكبوتْ تلتف حول هذه الذبابةْ أيتها السحابةْ لتغسلي ذوائب المدينة الثرثارةْ وهذه القذارةْ كل الغزاة ،من هنا، مروا بنيسابورْ على ظهور الصافنات و على أجنحة الطيورْ البشر الفانونْ يحطمون بيضة النسر،ويولدونْ من زبد البحر و من قرارة الأمواجْ من وجع الأرض و من تكسر الزجاجْ (2) و غالبية مقاطع القصيدة مثقلة بأمثال هذه القوافي المرهقة، أما سيرة الخيام التي قصد البياتي إلى إعادة صياغتها، فإنها اختفت تماما ، و لم يستطع أن يستثمرها بصورة فنية وافية ، و لم تستطع المقاطع الشعرية –على كثرتها –أن تحقق فيما بينها ذلك الترابط و الانسجام، الذي تتطلبه بنية القصيدة الطويلة إلى الحد الذي يمكن للقارئ أن يحذف منها، أو يبدل ترتيبها دون أن يؤثر ذلك شيئا في بنائها ، كما أن كثيرا من الصور و الرموز و الأساطير التي احتوتها القصيدة لم تؤد إضافة فنية حقيقية ، وإنما جاءت في كثير من الأحيان على صورة "إشارة عابرة ذات دلالة سطحية جافة محدودة الفاعلية "(3) كشفت أن الشاعر كان يسعى إلى أن" يحشر موضوعات مستمدة من التراث في شعره حشرا ، و يرهق قصيدته بهذا التصوير التأريخي المباشر ، ...، دون أن يمنح طاقة فنية تبرز روعتها و أهميتها في حاضرنا " (4) ، وكثير من صور القصيدة "التي كانت رؤيا عذراء ذات يوم أضحت مألوفة و عادية وممضوغة،...، بل إن طول (الذي يأتي و لا يأتي) يفقد حتميته وتبريره منذ اللحظة الأولى التي يبتعد فيها عن التركيب البانورامي المعقد للقصيدة الحديثة " (5) . (1)عبد الفتاح ، كاميليا :القصيدة العربية المعاصرة ، الإسكندرية ، دار المطبوعات الجامعية،2007،ص 739. (2)البياتي،عبد الوهاب: الأعمال الشعرية-الذي يأتي ولا يأتي،ج2،بيروت،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1995، ص65-66. (3)رحاحلة ، أحمد :توظيف الموروث الجاهلي في الشعر العربي المعاصر،عمان ،دار البيروني للنشر،2008 والتوزيع ، ص56. (4)حداد، علي :أثر التراث في الشعر العراقي الحديث ، بغداد ، دار الشؤون الثقافية،1986 ، ص 112. (5)شكري ، المصدر السابق ، ص 98. |
|||
2013-11-05, 20:55 | رقم المشاركة : 20 | |||
|
القصيدة الطويلة النامية و هي تلك القصيدة التي يبرز فيها وعي الشاعر بالقيمة الحقيقية التي تعطيها الكلمة للقصيدة ، فلا يظهر فيها إقحام للصور و التراكيب و الرموز و الأساطير ، و تنأى بنفسها عن التكرار الممجوج للصور و التعابير ، أو الإسقاطات المستهلكة للرموز و الأقنعة ، ويبدو الطول فيها مبررا ، بل مطلبا أساسيا لاستيعاب جوانبها كافة ، وتتحول القصيدة بين يدي الشاعر إلى لوحة فسيفسائية، لا تكتمل إلا مع آخر قطعة تتطلبها اللوحة، فلا مجال فيها للزيادة أو النقصان، أو تغيير قطعة مكان أخرى . و هذا العمل الفني النامي و المتكامل لا يتحقق إلا بين يدي شاعر يمتلك الأدوات الفنية اللازمة لإتمام معمارية هذا العمل ، ويعي وعيا تاما بنمط البناء الفني الذي تتطلبه القصيدة ، ويُقدِّر أن الوصول إلى الرؤيا المتكاملة -لا إلى الطول- هو المنطلق الذي يجب أن يبدأ منه لإنجاز عمله الفني . و في شعرنا العربي المعاصر نماذج عديدة لقصائد طويلة متكاملة نقف على نموذج منها للشاعر محمود درويش في قصيدته "الجدارية"، تلك القصيدة الديوان التي يعاين فيها الشاعر معنى الوجود و فلسفة الموت بعد تجربة خاصة له معه ، و يبحث في أسرار الحياة ليخلص إلى فلسفة خاصة للكون ترقى بالذاتية إلى الموضوعية، يقول : سأصير يوما ما أريد سأصير يوما فكرة .لا سيف يحملها إلى الأرض اليباب،ولا كتاب .. كأنها مطرٌ على جبل تصدع من تفتُّح عشبةٍ، لا القوة انتصرت ولا العدل الشريد سأصير يوما ما أريدُ (1) و استطاع الشاعر على الرغم من الطول الواضح للقصيدة أن يحافظ على جماليات القصيدة الطويلة من خلال البعد عن التكرار ، و ابتداع الصور الفنية الخاصة ، و التجديد في التعامل مع الرموز و الأساطير ، و التنويع في أنماط البناء الفني ، فنجده مثلا يلجأ إلى البناء السردي من خلال تقنيات التذكر و التداعي و الحلم و الارتداد و المشهد ، و الزمان و المكان وغيرها، ومن ذلك أيضا استخدام المنولوج الداخلي، كما في المقطع الذي يقول فيه : أنا من يحدث نفسه : يا بنت : ما فعلت بك الأشواق ؟ إن الريح تصقلنا و تحملنا كرائحة الخريف ، نضجتِ يا امرأتي على عكازتيَّ، بوسعك الآن الذهاب على "طريق دمشق" واثقة من الرؤيا .ملاك حارسٌ وحمامتان ترفرفان على بقية عمرنا ، و الأرض عيدُ... (2) ومن التنويع في الأساليب الشعرية التي تظهر في الجدارية استخدام الشاعر الحوار الذي لا يخلو من بعد درامي – على الرغم من الصراع المحدود في الأحداث – يسهم في رفع القيمة الفنية لبناء القصيدة، و يخفف من وقع الغنائية فيها، يقول محمود درويش: قلت للسجان عند الشاطئ الغربي: -هل أنت ابن سجاني القديم ؟ -نعم! -فأين أبوك ؟ قال: أبي توفي من سنين أصيب بالإحباط من سأم الحراسة . ثم أورثني مهمّته و مهنته ، و أوصاني بان أحمي المدينة من نشيدك... قلت:منذ متى تراقبني و تسجن في نفسك ؟ قال: منذ كتبت أولى أغنياتك. قلت : لم تكن قد وُلدتَ فقال : لي زمن ولي أزلية، و أريد أن أحيا على إيقاع أمريكا و حائط أورشليم فقلت : كن من أنتَ.لكني ذهبتُ. و من تراه الآن ليس أنا ،أنا شبحي فقال : كفى ! ألست اسم الصدى الحجري ؟ لم تذهب و لم ترجع إذا . ما زلت داخل هذه الزنزانة الصفراء فاتركني و شأني ! قلت : هل ما زلت موجودا هنا ؟ أأنا طليق أو سجين دون أن أدري .وهذا البحر خلف السور بحري ؟ قال لي : أنت السجينُ ، سجينُ نفسك و الحنين .ومن تراه الآن ليس أنا . أنا شبحي فقلت محدثا نفسي : أنا حيٌّ. (3) وفي القصيدة أساليب وتقنيات أخرى لا يتسع المقام للوقوف عليها لكثرتها و لطول القصيدة، لكنها تكشف عن القدرة الفنية ، و الوعي الذي بلغته قصائد محمود درويش المتأخرة إذا ما قورنت بتلك التي أشرنا إلى إحداها في المراحل الأولى من تجربته الشعرية. (1)درويش ، محمود: جدارية محمود درويش ، بيروت ، رياض الريس للكتب و النشر ،2000، ص 12. (2)درويش، المصدر السابق ، ص 38. (3)درويش،المصدر السابق ، ص 94-96. |
|||
2013-11-05, 20:56 | رقم المشاركة : 21 | |||
|
وقد بينت لنا هذه الوقفة أن مصطلح (القصيدة الطويلة) من المصطلحات التي لفّ دلالتها شيء من الغموض الذي احتاج إلى بعض التوضيح لبيان حقيقته وتجليته، و تأتت الإشكالية الكبرى لدلالة هذا المصطلح عبر الموقف النقدي لثنائية التشكيل و الرؤية ، ذلك أن لفظة (القصيدة) ترتبط ارتباطا أوليا بالرؤية أوثق من لفظة (الطويلة) التي تفتح أفقا أرحب باتجاه التشكيل، فيتطلب الأمر التوفيق بين اللفظتين للوصول إلى دلالة جامعة مانعة للمصطلح تراعي الرؤية و التشكيل . و كثير من المعالجات الدلالية للمصطلح في الدراسات النقدية -الغربية أو العربية - لم تحفل كثيرا بالأسس أو المسوغات التي قام عليها استدعاء النماذج الشعرية التي تم الاستشهاد بها عند الوقوف على القصيدة الطويلة ،وهذا مزلق خطير أدى بدوره إلى الإسهام في زيادة الإشكالية ، كما أن نقادنا العرب الرواد –و كثير منهم يعدون من كبار النقاد - تابعوا النقاد الغربيين– في كثير من الأحيان دون مناقشة - في جلّ ما صدروا عنه في تنظيراتهم النقدية التي دارت حول القصيدة الطويلة، وهذا انسحب بدوره على النقاد العرب الذين جاءوا بعد النقاد العرب الرواد إلا في مواقف محدودة وأنظار جزئية . وارتبط بإشكالات القصيدة الطويلة محاور عدة، من أبرزها : ثنائية الغنائية و الدرامية ، وثنائية العاطفة والفكرة ، وبقيت هذه المحاور تشكل الفلك الأوحد الذي تدور حوله جل الدراسات التي ارتبطت بالقصيدة الطويلة ،حتى كادت القصيدة الطويلة تعادل القصيدة الدرامية، كما صرح أو ألمح بعض النقاد العرب، وهو ما نفيناه ، ووجدنا أن في الأمر سَعة لمحاولة تقسيم القصيدة الطويلة من حيث التشكيل والبنية، تسهم في لم كثير من التساؤلات التي قد يثيرها الطول بوصفه مظهرا خارجيا غير ثابت أو محدد ، والبنية التي قد تعبر عن رؤية نامية و أخرى سطحية . وقد أتاح تشكيل القصيدة المعاصرة للشاعر أن يتخير الطول و الحدود التي تكفي للتعبير عن تجربته الشعرية ، فظهرت تشكيلات شعرية ذات طول محدود، يمثل الحدّ الأدنى من الطول ، ووقفنا على تشكيلات شعرية طويلة لا مراء في طولها ، وكذلك وقفنا على القصيدة التي امتدت لتشكل ديوانا مستقلا أو عملا قائما بذاته ، و هذه التشكيلات الخارجية لا تنفك تتحد بالبنية التي تكون القصيدة الطويلة، و هي إما أن تكون بنية مسطحة تعبر عن تجربة غير متكاملة دون أن يكون للطول فيها ذلك التأثير المطلق ، أو أن تكون ذات بنية نامية بصرف النظر عن حدود الطول التي وُجِدت بها . و هذا البحث يفتح لدينا الأفق إلى سؤال آخر يرتبط بالقصيدة الطويلة ،ونرى أنه يحتاج إلى دراسة مستقلة واعية قادرة على الوصول إلى نتائج دقيقة حوله، و السؤال هو : ما العوامل التي جعلت الشاعر / القصيدة يميل إلى الطول ؟ و ما صلة هذه العوامل بتشكيل القصيدة ؟ و ما صلتها برؤاها ؟ |
|||
2013-11-05, 20:58 | رقم المشاركة : 22 | |||
|
الخاتمة ومن غير المسلم به ربط القصيدة الطويلة بالبنية الدرامية ، أو التعقيد، أو الفكرة على حساب أنماط أخرى كالسردية أو الغنائية أو على حساب العاطفة ودون الالتفات إلى الطول بوصفه مظهرا خارجيا ملازما للقصيدة الطويلة. |
|||
2015-10-10, 16:28 | رقم المشاركة : 23 | |||
|
الله يعطيك الصحة |
|||
2016-04-04, 21:29 | رقم المشاركة : 24 | |||
|
شكرا على الموضوع القيم |
|||
الكلمات الدلالية (Tags) |
لِمصطلح, المعاصر, التفعيلة, الدَّلالَةِ, النَّقْدِيَّةِ, الطويلة, القصيدة |
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc